رواية قلب السلطة الفصل السادس والثلاثون
كانت لا تزال تلتقط أنفاسها بعد المواجهة العاصفة مع أبيها، حين انفتح الباب الخلفي بخفّةٍ غريبة، كأنّ الريح فقط هي من طرقه.
التفتت نيرفانا بحدسٍ غامض… لم ترَ أحدًا في البداية، لكن شيئًا ما تغيّر في هواء المكان.
رائحة غريبة، تشبه المعدن الساخن، امتزجت برائحة الخوف القديم الذي يملأ البيت منذ الأزل.
ثم رأته.
رجلٌ أنيق يقف عند عتبة الردهة، يحمل ملفًّا بنّيًّا، ونظراته — رغم النظّارة السوداء — تخترق المسافة كأنها تزنها وزنًا دقيقًا.
لم تعرفه، لكن قلبها انقبض.
لم يكن من طاقم العمل، ولا من معارف العائلة.
في عينيه شيءٌ من «النظام»… وشيءٌ أكثر من «الخطر».
تجمّدت لحظة، ثم تماسكت، رفعت ذقنها في كبرياءٍ مكتوم وسألته بصوتٍ منخفض:
– حضرتك مهاب اخو مس ليلي صح ؟ بتدور علىها ؟
أدار الرجل رأسه نحوها ببطء، كأن السؤال لم يُفاجئه.
ابتسم ابتسامة قصيرة، محسوبة، لا تصل إلى عينيه، وقال بنبرةٍ هادئة لكنها مشبعة بالمعنى:
– ممكن نقول... إني بدوّر على الحقيقة.
كادت تسأله: "أي حقيقة؟"
لكنّ شيئًا في نبرته جعلها تتراجع خطوة، وكأنها لم تعد تثق في أي إجابة.
في تلك اللحظة، ظهر "رائد" من نهاية الممرّ، وجهه مشدود، نظراته مريبة، وصوته حادّ:
– إنت دخلت هنا إزاي؟ مين سمحلك؟
اقترب الرجل بخطواتٍ محسوبة، ثم مدّ يده بالملفّ إليه، وقال ببرودٍ تامّ:
– الموضوع يخصّ حضرتك يا رائد بيه... وبنتك.
التفتت نيرفانا نحوهما بسرعة، قلبها انقبض، وارتسمت على وجهها علامات حيرةٍ وخوفٍ متداخلين.
شعرت فجأة أنّ تلك العودة لم تكن صدفة... وأنّ "ملفًّا" واحدًا قد يكون كافيًا ليقلب حياتها من جديد، ويفتح أبواب الجحيم التي بالكاد أغلقتها خلفها.
---
قلب السلطة 💜 بقلم مروه البطراوي
---
رائد يتناول الملف البني بيد متصلبة. يحاول جاهداً أن يخفي الارتعاش في أصابعه، لكنه فشل.
نيرفانا تقترب خطوة، عيناها مثبتتان على الملف، كأنه قنبلة موقوتة.
مهاب يقف بهدوء كامل، كأنه يراقب فأراً وقع في مصيدة. يبتسم ببرود.
رائد
(بنبرة منخفضة، يطغى عليها الغضب المكبوت) و إيه ده؟
مُهاب
(يرفع كتفيه بخفة) أنا مجرد ساعي. ودي... البداية.
رائد يفتح الملف سريعاً. تظهر على وجهه علامات الصدمة والذهول تدريجياً. محتوى الملف ليس مالياً بالضرورة، بل حياة.
نيرفانا تقفز متسائلة.
نيرفانا
(بصوت حاد وخائف) بابا! إيه ده؟ قلّي!
رائد لا يرد. يشدّ قبضة يده على الورق. الدم يندفع إلى وجهه.
مُهاب
(موجّهاً كلامه لرائد، بلهجة تحذيرية) الملف ده، يا رائد بيه، يثبت إن "نيرفانا" بتكذب . كل تفصيلة في حياتها. كذب .. كل تحرّكاتها، من الرسالة اللي بعتتها لأمها الأسبوع اللي قبل ما تقتل لغاية آخر زيارة لها للعيادة الطبية
رائد يرفع عينيه عن الملف لينظر إلى مُهاب النظرة الآن لم تعد غضباً، بل خوفاً ممزوجاً بالإدراك.
رائد
(صوت متقطع) أنتم بتراقبوا بنتي؟ إيه اللي خلاكم تعملوا كده؟
مُهاب
(يصمت لحظة، ثم يميل للأمام قليلاً. نبرته تصبح أكثر حدة) اللي خلانا نعمل كده... هو إن السلطة مش دايماً فلوس. السلطة أحياناً بتكون معلومات. ومعلومات بنتك بالذات، يا رائد بيه، هي اللي هتضمن لينا إكمال برائتنا
تستدير نيرفانا بسرعة نحو أبيها، وهي تدرك فداحة الموقف.
نيرفانا
براءة إيه؟ أنا مش طرف في أي حاجة!
مُهاب
(ينظر إليها بابتسامة باردة ومحسوبة) العكس تماماً يا نيرفانا هانم. إنتِ دلوقتي كل الأطراف. إنتِ اللي هتدفعي رائد بيه إنه يقتل مس ليلي و اخوكي او اختك اللي جايين علي الطريق . وإنتِ اللي هدمرى مستقبلنا في "قلب السلطة".
رائد يغلق الملف بحدة.
رائد
(يتهدج صوته) مش مصدق .. مستحيل.
مُهاب
(يمد يده نحو جيب سترته ويخرج منه بطاقة عمل بسيطة) وقت حضرتك يا رائد بيه ضيق جداً. عندك ٢٤ ساعة. لو مطلقتش ليلي .. الملفات اللي عندى مش هتوصل للجهات القانونية بس... هتوصل للشارع. و وقتها الحقيقة مش هتكون ملكك.و طبعا وضعك في المجلس هينهار
يضع البطاقة على طاولة الردهة الزجاجية، ثم يدير ظهره بكل ثقة ويغادر من حيث أتى. الباب الخلفي يغلق هذه المرة بصوت محسوب ومُدَوٍّ.
نيرفانا ورائد يتبادلان نظرة يمتزج فيها الخوف، الغضب، والإحساس بأن الحياة كلها انقلبت رأساً على عقب بسبب "ملف" و "كلمة".
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
رائد في غرفة مكتبه الفخمة، يتجول بعصبية أمام مكتب ضخم من خشب الماهوجني. الملف البني ملقى على المكتب كأنه جسم غريب. نيرفانا تقف أمامه، التوتر بينهما يكاد يكون مرئياً.
نيرفانا
(بصوت يرتجف غضباً) قُلت لك! إيه اللي جوه الملف ده؟! كلام مهاب ده مش هيمر... مين اللي سمحله يتجسس عليّا؟
رائد يتوقف فجأة. يضرب سطح المكتب بقبضته.
رائد
(بصراخ مكتوم) ما انتي اللي اتهمتي ليلي بس ... أنا هتصرف!
نيرفانا
اتهامي لليلي ؟ الراجل اللي خطفني قال اسمها ! قال اللي عاملة فيها امك ! أنا غبية؟ فيه حقيقة مدفونة بس مش عارفه هي ايه
تقترب نيرفانا من المكتب وتمد يدها نحو الملف. يمد رائد يده بسرعة ليمنعها، لكنها سبَقته. تسحب نيرفانا الملف وتفتح غلافه البني بعنف.
تتساقط بعض الأوراق والصور على المكتب. نيرفانا تجمدت. الصور ليست لصفقات أو عقود... بل صور قديمة.
صورة لـ (رائد) أصغر سناً، يقف بجوار امرأة أخرى غير والدتها. صورة أخرى لتلك المرأة وهي حامل.
نيرفانا
(بهمس غير مصدّق) مين دي؟ إيه ده... مين الست دي يا بابا؟
رائد يسند ظهره إلى الحائط، الهزيمة تظهر في عينيه بوضوح لأول مرة.
رائد
(بتعب شديد) دي... دي كانت غلطة. قبل ما أتجوّز أمك. وانتهت خلاص.
نيرفانا
(تتجاهله، تنظر إلى ورقة أخرى. تجد شهادة ميلاد غير رسمية، الاسم فارغ، لكن تاريخ الميلاد يثير رعشتها.) دي مش "غلطة"! دي... (تتوقف، ترفع عينيها المرعوبتين نحو والدها) ... دي ليها طفل. ليها طفل غيري؟ مين الطفل ده؟!
رائد يغمض عينيه بقوة، يتنفس بعمق وكأنه يحاول ابتلاع حقيقة مؤلمة.
رائد
(يتحدث أخيراً، بصوت أجش) ابني... ابني الوحيد اللي معرفش عنه حاجة من زمان.
تلقي نيرفانا الأوراق جانباً. تتراجع خطوتين. الخوف تحوّل إلى صدمة خانقة.
نيرفانا
الولد ده... هو "الحقيقة" اللي الكل بيدوّر عليها؟ عشان يقلب حياتك؟ أنت بتحمي نفسك من أخويا؟!
رائد
(يمشي نحوها، محاولاً لمس ذراعها) إسمعيني يا نيرفانا... أنا بحميكي إنتِ! لو عرفوا بوجوده، لو عرفوا إنه... (يتوقف)
نيرفانا
(تبتعد عنه بحدة) لو عرفوا إيه؟ إنه ممكن يكون شريكك في كل اللي بتعمله؟ ولا إيه؟ قول الحقيقة كاملة! ايه علاقه مهاب اخو مس ليلي بكل ده
رائد ينظر إلى البطاقة المتروكة على المكتب. يتناولها.
رائد
(ينظر إلى البطاقة ثم إلى نيرفانا ببطء قاتل) ده مش مجرد مندوب... دي بطاقة عمل من مكتب محاماة ضخم. والاسم اللي تحته... (يرفع عينه) ... هو اسم أخوكي. الوريث الثاني. اللي ممكن ياخد كل حاجة... ويعرّضك للخطر إنتِ و ليلي و اللي في بطنها
الهدوء يعود للمكان ببطء، ولكنه هدوء أقسى من أي صراخ. نيرفانا تشعر وكأن الأرض تميد من تحت قدميها. "الملف البني" لم يكشف عن فساد مالي، بل كشف عن كيان عائلي سري يهدد وجودها ومكانتها.
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
الجو ثقيل بالحقائق المكتشفة. رائد (الأب) يجلس خلف مكتبه الآن، منهكاً، وكأن سنوات طويلة مرت في الدقائق الأخيرة. نيرفانا تقف، تمسك بإحدى صور المرأة الغريبة في الملف.
نيرفانا
(بهدوء مرعب، لا يتناسب مع عمرها) إيه حكايته؟ مش عايز صراخ ولا غضب. عايزة حقايق. مين هو؟ وإيه علاقته بـ"مكتب المحاماة الضخم" ده؟
رائد يتنهد بعمق، يمرر يده على شعره.
رائد
اسمه... حازم. كان المفروض مفيش أي حد يعرف بوجوده. أمه (يشير إلى الصورة) كانت... (يتوقف للحظة) كانت قصة قديمة وعدت. لما اتجوزت أمك، اضطريت أمضي على أوراق تضمن لي عدم المطالبة بيه أو نسبه لي.
نيرفانا
(بسخرية مريرة) ومضيت. ومضيت على إنك تتخلى عن ابنك. عشان تحافظ على "السلطة" دي؟
رائد
(بغضب لحظي) عشان أحافظ على كل حاجة! حازم مولود في ظروف ما تسمحش إنه يدخل حياتنا بالشكل ده. لكن دلوقتي... الموضوع اختلف. هو مش جاي عشان يطلب أب. هو جاي عشان يهدّ البيت.
نيرفانا
(تترك الصورة، تواجهه) هو إيه اللي "غير" الموضوع يا بابا؟ إنت بتخبّي إيه بالضبط؟ انت كمان هتمضي لمهاب انك متناول عن اللي في بطن مس ليلي ؟
رائد يتردد. يتناول كوب ماء ويشربه ببطء، وكأنه يكسب وقتاً.
رائد
مكتب المحاماة اللي بيمثله ده... بيحاول يطعن في صحة الوصاية على أملاك العيلة اللي بتخص... أمك. لأن انك نظير تناولها عنك عطتها جزء من املاكب الأوراق اللي كانت معاه دي تثبت إن فيه طرف آخر له حق في الميراث. طرف تم إخفاؤه.
نيرفانا
(بفهم متزايد للعبة) يعني مش بس ميراث؟ يعني لو حازم ده دخل الصورة... إنت بتفقد السيطرة على الشركة، وبتخسر كل نفوذك.
رائد
(يهز رأسه ببطء) الأسوأ من كده... نفوذي مش مجرد شركة. فيه أسرار، يا نيرفانا. أسرار ممكن لو اتكشفت... (يشير بيده إلى نفسها) تخليكي إنتِ وليلي ... في الشارع.و ده مش هيقبله مهاب
نيرفانا
(تتحول نبرتها من الغضب إلى الخوف الحقيقي) يعني الموضوع مش مجرد فلوس، دي حرب وجود؟ وإيه المطلوب مني أنا؟ مهاب قال "بنتك اللي هتدفع التمن يا اما تمضي علي وثيقه طلاق مي ليلي
رائد يفتح درج المكتب. يخرج منه مستنداً آخر، قديماً ومصفراً، لكن عليه توقيع.
رائد
(بصوت يائس) الصفقة الوحيدة اللي ممكن توقفهم هي إني أضمن حقه في نصف كل حاجة. مقابل إنه يتنازل عن اسم عيلتنا للأبد. لكن لو ممضتش... همّا هيمضوني بطريقتهم. باستخدام كل الأسرار دي... وبـ حازم.
نيرفانا تنظر إلى المستند، ثم إلى وجه والدها المنكسر. لم تعد ترى فيه الأب المتسلط الذي واجهته منذ قليل، بل رجلاً محاصراً يرى مملكته تنهار.
نيرفانا
(بجدية وتركيز) طيب... طالما مهاب جاي عشان أخته ، إديله اخته ! ليه الخطر ده كله؟ إيه اللي يخليك تتحمل تهديدهم لحد ما الموضوع يوصل لحازم؟
رائد يرفع عينيه إليها، ويأتي رده صادماً.
رائد
سيبك من مهاب دلوقتي خلينا في حازم
أنا خايف أسلمه الورث يا نيرفانا... أنا خايف أسلمه السلطة. لو حازم دخل عالمنا، هيدمره. هو مش زينا... هو أشرس.
نيرفانا تتجمد في مكانها. الأخ المفقود ليس ضحية... إنه خطر قادم.
-------
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
انتهي الحديث بين نيرفانا و رائد بينما كانت يقين تنتظره بفارغ الصبر لتتحدث معه
يقين تقف، مشحونة بالحدة بعدما سمعت حديثاً مبهماً عن ليلى.
يقين
سوّاق التاكسي قالك إيه يا رائد؟
رائد يستدير نحوها ببطء، شرارة خافتة من الضيق تتوهج في عينيه. يستعيد بروده المصطنع.
رائد
ماطلعتش منه بحاجة مفيدة... قالّي إنه لاقا نيرفانا على أول طريق المنصورية... وصفلي المكان، وعرفت إنه شبه مهجور، أرض فاضية تبع مشاريع التعمير. وما أظنش إن ليلى ليها علاقة بحاجة هناك... مافيش ما يدل على إنها كانت بتخطط لحاجة في المكان ده.
يقين
(ترفع حاجبيها، تلتقط المعنى الخفي) يعني... يعني هي بريئة؟ كده خلاص؟
رائد
(يزفر بامتعاض، يهز رأسه ساخراً) بريئة إيه بس؟! إنتِ ماسمعتيش نيرفانا قالت إيه؟!
يقين
(مندفعة، بنفاد صبر) أومال إنتَ قصدك إيه؟
رائد
(بابتسامة خالية من الدفء، يُجمّد نبرته) ولا حاجة... بس أنا واثق إنها كانت وزّت عليهم... انتي بس اللي مستهونة بيها، ماتعرفيش إنها كانت بتقرب من البنت من قبل ما اتحوزها علشان المواضيع القديمة . ماتعرفيش إن أبوها كان شريك لعمّي، وإنهم الاتنين دمّروا أبوكي... حطمونا... يتّمونا... وقتلوا إخواتنا... وسابونا نتحسّر على أمّنا، بسبب حضرة العمدة... صابر الذهبي.
تتجمّد يقين في مكانها. الدم يتلاشى من وجهها، وعيناها تتسعان بذهول، كأنها سمعت صاعقة.
رائد يبتسم ابتسامة ساخرة، تشبه وخز الخناجر، ويومئ برأسه مؤكداً.
في هذه اللحظة، نيرفانا تتابع الحديث بنظرات مريبة، تحاول فهم العالم الخفي الذي يُبنى أمامها. تشعر بشيء يشبه الاطمئنان؛ فوالدها، بعقله الذي لا ينضب، يخطط دائماً. كانت كذبتها قد أصبحت وقوداً له لاتخاذ قراراته بثبات أكبر.
لكن... هل كانت على صواب؟ الواقع أنّ الأمر لم يعُد يهم. لقد مات قلبها اليوم، وها هي تشبهه تمامًا... باردة، حاسبة، قاسية.
أحس رائد بخمود حركة نيرفانا. يستدير إليها، يجدها توقفت عن تناول طعامها. يقترب منها وابتسم بلطف.
رائد
هنيّا يا حبيبتي... دلوقتي.
نيرفانا
(تبتلع ما تبقى في فمها، بهدوء مصطنع) دادي... أنا بقيت كويسة أوي دلوقتي.
رائد
(بحماسة، يميل بجذعه للأمام) طيب حلو... قوليلي الأول، إنتِ كويسة؟ محدّش اتعرضلك بأي أذى؟
نيرفانا
(تومئ برأسها) ماتقلقش...
رائد
(يُطرق رأسه ثم يرفعه مستوضحاً) الحمد لله... طيب احكيلي بقى، كانوا بيعاملوكي إزاي؟ وكانوا كام واحد؟ ولو تعرفي أساميهم، قوليلي.
نيرفانا
(تؤدّي دورها بإتقان) كانوا كتير يا دادي... بس في واحد دايمًا كان بيحرُسني، ماكانش بيكلّمني، ولا حد غيره... مافيش حد نطق اسمه قدّامي.
رائد
(يزمّ شفتيه، يعضّ على باطن خدّه بتفكير، يزفر بحرارة) طيب، كانوا بيعاملوكي إزاي؟
نيرفانا
(تتكلم بالحقيقة هذه المرة، تخفض عينيها) كانوا مكتفيني... إيديا ورجليا على طول، وعنيا عليهم ماسك أسود... ماكانش مسموحلي غير بثلاث حاجات بس: الأكل... والشرب... والحمّام.
رائد
(يرمقها بنظرة طويلة، بشكٍّ خافت) طيب غيرتي هدومك إزاي؟ وهربتي منهم إزاي؟
نيرفانا
(تواصل تمثيل دور الضحية) أنا طلبت هدوم... الدنيا كانت برد عليا أووي، وجابولي اللي طلبته بصراحة... والهروب! كنت بدخل حمام صغير، فيه شباك، صحيح كان متقفل بحديد، بس مش عارفة إيه اللي خلاني أجرب أزقه... وقع فجأة. نطّيت منه، واتسحبت بهدوء، لحد ما شُفت سلّم ورا سور، طلعته، ونطّيت على الطريق... جريت جري مجنونة... لحد ما وقفت تاكسي، وطلبت منه يجيبني هنا.
رائد
(يبتلع ريقه ببطء، يحاول تتبّع خيوط الرواية) طيب... تفتكري تقدرِ توصفيلي المكان؟ لو خدتِك هناك، ممكن تدليني عليه؟
نيرفانا
(تهزّ رأسها بأسفٍ مصطنع) لأ، يا دادي... أنا مشيت كتير على رجلي، والمكان كان صحراء... مافيش علامات، ولا مباني حوالين المكان.
رائد
(يبتسم ابتسامة خفيفة، يمرّر يده على خدها بحنان) ولا يهمك يا حبيبتي... أهم حاجة إنك رجعتيلي بالسلامة. إنتِ ماتعرفيش أنا كنت عامل إزاي في غيابك... كنت هتجنن.
نيرفانا
(تبادلْه ابتسامة صغيرة، تُغمغم) إنت اللي وحشتني جدًا... وكنت خايفة... خايفة ما أشوفكش تاني.
رائد يسحب كرسيه بمحاذاتها ويطوّقها بذراعيه.
رائد
أنا آسف... آسف جدًا إني مقدرتش أحميكي المرة دي... بس بوعدك... بوعدك إني هاخدلك حقك تالت ومتلت. أنا ماعنديش أغلى منك، للمرة المليون... أنا عايش عشانك يا نيرفانا.
نيرفانا
(تضع خدها على صدره، تشهق شهقة حنونة) وأنا من غيرك مسواش ... ربنا يخليك ليا.
تقبّل نيرفانا أسفل فكه بحنان مصطنع.
يقين
(بنبرة مرحة) زمان شامل على وصول... أنا لاقيتك ناسيه، فكلّمته من شوية صغيرين.
رائد
(مهتماً) وقالك إيه؟
يقين
مش مصدق نفسه طبعًا... قلتله: تعالَ وشوف بعينك!
رائد يضحك بخفة، .
وفجأة، يُقطع شرودها بصوت جهوري.
لطفي (الخادم)
(صوت قادم من خارج الغرفة) رائد بيه!
يلتفت الأب والابنة معاً نحو مصدر الصوت. لطفي يقف عند الباب، محنيّ الرأس.
رائد
في حاجة يا لطفي؟
لطفي
(يتفادى النظر إليه مباشرة) الست نيفين... والدة ليلى هانم... وصلت حضرتك.
صمت لوهلة. يُسمع صوت دقات قلب رائد وحدها. تقلص وجه نيرفانا بامتعاض، واتسعت عينا يقين في ترقب.
الساعة على وشك أن تدق لحظة مواجهة جديدة... لحظة لن تشبه ما سبقها.
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
استفاق "شامل" بعد مغيب الشمس بقليل، حين كان الليل يزحف على المدينة بخطواتٍ متثاقلة، والهواء ساكنٌ إلا من همساتٍ خافتة تتسلل من بين الأشجار.
كان العرق يغمر وجهه وجسده رغم برودة الجو، ورأسه يئنّ كأن مطرقةً هوت عليه، فيما عيناه تتفتحان ببطء كعدستي كاميرا متعبة لا تحتمل الضوء.
جلس متكئًا إلى الحائط، يحاول أن يستعيد أنفاسه، لكن العطش كان ينهش كيانه كذئبٍ جائع، ولسانه التصق بسقف فمه من شدته. تمتم بصوتٍ مبحوح، بالكاد يسمع نفسه:
– إيه دا؟ أنا كنت نايم؟ ولا كنت في قلب النار؟!
نهض بتثاقل، يجرّ قدميه كأن الأرض تميد تحته. بحث بعينيه عن الجرة التي اعتاد أن يجدها في الركن، فلم يجد سوى فراغٍ ترابيٍّ جاف، فزمجر بارتباك:
– فين الجرة؟! كانت هنا... أنا متأكد إنها كانت هنا!
رفع يده إلى جبينه، يتحسس أثر الصداع الذي يطرق جمجمته بإلحاح، ثم جلس مجددًا على الأرض، مسندًا ظهره إلى الجدار، يتنفس ببطء، وعيناه معلقتان في السقف المشقق.
وفي تلك السكون، تدفقت إلى ذاكرته صور غائمة، كأنها شريط مهترئ من حلمٍ لم يكتمل:
صرخات... ظلال... رياح تعصف بالتراب... وشيء ضخم، بلا ملامح، يبتلع النور ويقترب منه ببطء.
شهق بصوتٍ مبحوح، وعيناه تتسعان في ذعرٍ طفولي:
– دا كان حلم؟ ولا... دا حصل بجد؟!
ضغط على رأسه بكفيه، يحاول أن يعصر ذاكرته ليستخرج منها الحقيقة، لكن الصور كانت تزداد اضطرابًا كلما حاول الإمساك بها.
وفجأة، سمع وقع أقدام خفيفة تقترب من الباب الخشبي القديم، وصوت صبي ينادي من الخارج، مترددًا:
– يا أستاذ شامل! أستاذ شامل! إنت كويس؟!
ردّ شامل بصوتٍ خافت:
– تعالى يا رزق... بسرعة... أنا عطشان موت.
دخل "رزق" —ابن الجارة العجوز— يحمل كوزًا من الماء البارد، وقد تصبب العرق على وجهه الصغير. ناوله الماء بسرعة قائلاً:
– ماما قالتلي إنك كنت بتصرّخ بالليل... خفت يكون جرالك حاجة.
تناول شامل الكوز بلهفة، شربه دفعة واحدة حتى ارتجّ صدره، ثم تنهد بعمق، ومسح فمه بظاهر كفه، وقال وهو يحدق في الفراغ:
– أنا مش فاكر أنا كنت بقول إيه... بس كنت شايف حاجات... مرعبة. زي ما أكون في جهنم.
رزق، بعينين متسعتين، همس بخوف:
– كنت بتحلم يا أستاذ؟
ضحك شامل ضحكة واهنة، أقرب إلى السخرية:
– لو دا كان حلم... يبقى النوم بقى لعنة مش راحة.
ثم جلس إلى جوار الصبي وقال بصوتٍ منخفض:
– كان فيه إعصار، والدنيا سودة، والهواء بيصرخ، ووسط الضلمة كان في ظلّ ماشي... من غير رجلين... وعيونه نار. وأنا واقف، عايز أزعق، بس صوتي اتحبس... كأن في إيد ماسكة حنجرتي.
ارتجف رزق وقال بتوجس:
– دا جن يا أستاذ! يمكن حد عملك عمل!
ابتسم شامل ابتسامة مشقوقة على وجعه:
– لو عمل، يبقى معمول بحقد سنين... مش بحب.
ثم وقف ببطء، اتجه إلى الباب، وفتح شقًّا ضيقًا ينفذ منه ضوء القمر، وهمس وهو ينظر إلى الأفق:
– في حاجات يا رزق، مش بتختفي لما نصحى... بتفضل جوانا... ساكتة، لحد ما إحنا نضعف.
التفت إليه فجأة، بعينين يملؤهما الشك:
– إنت سمعت حاجة عن حد كان بيسأل عني؟ أو حد غريب لف حوالين البيت؟
هزّ رزق رأسه نافيًا:
– لا والله يا أستاذ، إحنا كنا فاكرينك تعبان بس.
أغلق شامل الباب ببطء، واستند إليه، يغمره إحساس ثقيل بأن ما رآه لم يكن مجرد حلم، بل إنذارٌ من ماضٍ يعود بخطواتٍ ثابتة... وأن تلك الظلال التي طاردته في المنام، لن تبقى هناك طويلًا.
الليل كان ساكنًا، لكنه شعر به يترقبه، كأن كل شيء في القرية ينتظر شيئًا لا يُقال... شيئًا اقترب بالفعل.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
ليلى منهكة، محتجزة. جدران الغرفة تضيق حولها. الضوء الخافت ينسل من شباك صغير.
رائد يقترب منها بخطوات محسوبة، حذاءه يصدر طنينًا خافتاً كصفعة. يقف أمامها، يسند كفيه على الحائط خلفها، يحاصرها بين ذراعيه.
رائد
(صوت خفيض كالسُمّ المنساب، ابتسامة ملغومة) إديني سبب واحد يخليني أسيبك عايشة وبتتنفسي لحد دلوقتي؟!
ليلى
(بثباتٍ وجسارة، عيناها جامدتان) مافيش أسباب. تقدر تخلص عليّا دلوقتي حالًا... وساعتها، يمكن جدًا ترتاح.
رائد
(اتسعت ابتسامته، لكنها لم تبلغ عينيه، بخبثٍ بارد) وإنتي ترتاحي؟ لأ يا حبيبتي... أنا لا يمكن أنولك الراحة أبدًا... أبدًا.
ملامح رائد تتبدل فجأة. ينقبض وجهه كقناع انكشف عنه القهر، ينبثق صوته ممتلئاً بالغضب.
رائد
عرفتي تخدعيني كويس المرّة دي. عرفتي تمسكيني من إيدي اللي بتوجعني، صح يا ليلى؟! كنتي عايزة تحرميني من بنتي؟! أديها رجعت لحضني غصب عنك... طلعت بنت أبوها فعلاً، وعرفت تهرب من الـ (××××××) اللي جبتيهم يخطفوها!
يحدّق في عينيها بوعيد.
رائد
ماتقلقيش... أوعدك، في أقرب وقت هاعرفهم، وهاجيبهم هنا، وهاخلّص عليهم قدامك واحد واحد.
ليلى
(ترفع حاجبها باستخفافٍ ساخر، تبتسم ببرود) إنت لِسّه متخيّل إني دبرت لحكاية خطف بنتك؟! إنت حر. بس أرجع وأقولك تاني... أنا لو فضلت حية ، مش هتسلَم من أذايا. إخلّص مني أحسن لك، قبل ما يكون أحسن لي.
رائد
(يقهقه بمرحٍ شرير) إنتي مستعجلة قوي على الفُراق! بس أحب أطمنّك... إنه قرّب جدًا. بمجرد ما تولدي، أوعدك... هاريّحك على الآخر.
ليلى
(رمقته بنظرة تنضح كراهية، صوت مكتوم يشتعل حقداً) أنا واثقة إنك هتندم قريب قوي. هتندم لدرجة إنك هتتمنّى لو إنك ماجتش الدنيا دي أصلًا، عشان ماتشوفش حق كل الناس اللي افتريت عليهم، وهو بيخلّص منك... كله، مرة واحدة!
رائد
(يضحك بخفة، ساخراً) وماله... مايضرّش. أنا طول عمري حمّال قسيّة.
يصفع جبينه بكفّه فجأة، كأنما تذكّر أمراً مهماً.
رائد
يآاااه! شُفتي كنتي هتنسّيني إزاي؟! أنا أصلاً كنت جاي أقولك... مامتك جت تحت.
ليلى
(تفزع، صوتها يندفع من صدرها المرتجف) ماما؟! ماما جت؟!
رائد
(يومئ برأسه، ابتسامة شيطانية) أيوه جت. يقين راحت تستقبلها، وبتأخّرها شوية لحد ما أنزلهم. وطبعًا مش محتاج أنبّه عليكي... مافيش داعي مامتك تعرف حاجة عن الطلقة اللي خدتيها في رجلك، عشان لو حصل... وحياة بنتي يا ليلى، همسحك من على وشّ الأرض... اتفقنا يا روحي؟ اه و لاول مرة بقولك أصل مامتك دى النقطة النضيفه اللي في حياتك و في حياة اخوكي القذر مهاب .
ليلى يغمرها وجع حاد. تهزّ رأسها ببطء.
ليلى
(بمرارة موجعة) ماتخافش... إنت مش محتاج تهددني المرّة دي. أنا مش ممكن أخليها تحس بالحسرة على بنتها بدري كده. خليها عايشة في وهم إني مبسوطة ومتهنّية في بيت جوزي.
رائد يقترب أكثر، يطبع قبلة مُغتصبة على خدها.
رائد
(همس) كده... إنتي شاطرة.
يتراجع ببطء، ويبتعد عنها.
رائد
يلا... أنا نازل، وهبعتلك ماما. إوعي تروحي في النوم بقى... أحسن عينيكي نايمانين خالص.
يضحك وهو يدير ظهره، مغادراً الغرفة بخطى ثابتة.
ليلى تظل تنظر إلى الباب المغلق، وشفتيها تتمتمان بكلمة واحدة، خرجت منها كالشتيمة، كالدعاء، كالنقمة.
ليلى
شيطان...
-------
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت رائحة القلق لا تزال عالقة في الممرّ منذ مغادرة مهاب . كل شيء في البيت أصبح متوتّرًا، حتى الهواء صار أثقل.
في الطابق العلوي، كانت ليلى تحاول أن تتنفس دون أن تُصدر صوتًا. ركّنت ظهرها إلى الحائط، وسحبت نفسًا عميقًا وهي تكتم شهقةً خرساء. مدت يدها المرتجفة إلى ساقها، تلمس موضع الطلقة التي غطاها الجبس، وكأنها تُذكّر نفسها بثمن الحقيقة.
همست بصوتٍ خافتٍ يكاد لا يُسمع:
– مش هسكت... حتى لو موتي قرب... مش هسكت.
صوت مقبض الباب قطع صمتها. انفتح ببطءٍ محسوب، وظهرت "يقين" بخطواتٍ حذرة، يتبعها وجهٌ مألوف، لكنه هذه المرة يحمل قلقًا أكبر من أي وقتٍ مضى.
والدتها ، شعرها مصفّف بعناية رغم ارتباك ملامحها، وعينيها تبحثان في المكان كأنها تخشى أن تكتشف شيئًا لا تريد رؤيته.
– ليلى! يا بنتي... قلبي كان حاسس! إنتي خَسّيتي ليه كده؟!
قالتها الأم بصوتٍ مبحوح، وهي تُسرع نحوها لتحتضنها. بين ذراعيها، غابت "ليلى" لحظة، كأنها تحاول أن تتذكر طعم الأمان، لكنها لم تستطع.
نظرت إلى "يقين" بامتنانٍ عميقٍ لم تُفصح عنه الكلمات،
– خبي عليها يا يقين... خبي عليها كل حاجة. خليه مايربحش في المعركة دي.
تبادلتا نظرةً سريعة، حذرة، محمّلة بأكثر مما يُقال.
ابتسمت "يقين" بخفةٍ مصطنعة، وأجابت وهي تضع يدها على كتف الأم:
– طبعًا يا طنط... ليلى كانت بتشتاقلك جدًا، بس الحمل عامل شغله معاها.
ضحكت الأم بارتباكٍ لطيف، وجلست إلى جوار ابنتها، تقبّل رأسها بحنانٍ غافل. لم تكن تدري أنّ ابنتها لا تحمل سوى ألمٍ مغلّفٍ بالصمت... وأنها تصمد فقط، لأجلها.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
رائد يدخل الصالون بخطوات واثقة، يستعيد قناعه البارد بعد مغادرته غرفه ليلى. يرى نيرفانا .......