رواية عروس لم تدفن ( جميع فضول الرواية كاملة ) بقلم اوكسيم

رواية عروس لم تدفن الفصل الاول بقلم اوكسيم



الليلة كانت حالكة السواد في قرية "الغرابوة"، حيث تتراص البيوت الطينية على جانبي الطريق الضيق، وتتدلى المصابيح الزيتية الخافتة من الأبواب والنوافذ، تلقي ظلالًا راقصة على الجدران المتشققة. لم يكن هناك ما يميز هذه الليلة عن غيرها، سوى شيء واحد... صوت بكاء حاد ومخنوق، ينساب بين البيوت كأن الريح تحمله، لكنه لم يكن ريحًا.

في كل مرة كانت القرية تغرق في ظلام الليل، كان صوت النحيب يعلو، يتردد بين الأزقة، فتُغلق الأبواب، وتُسحب الأطفال من الشوارع، وتُطفأ الأنوار، بينما يجلس الكبار في مجالسهم صامتين، يتبادلون النظرات المرتعبة، متذكرين تلك الليلة المشؤومة قبل شهرين... يوم زفاف "فريدة".

كانت أجمل فتيات القرية، ابنة "حسان العطار"، تاجر التوابل الثري، الذي لم يكن يُحب سوى المال والسلطة. أراد أن يزوجها لـ"ربيع" ابن الشيخ "عتمان"، كبير البلد، رغم أنها كانت تحب شابًا آخر يُدعى "إسماعيل"، فقير، لكنه كان يعشقها بجنون. لم يكن لحبها وزن أمام رغبة أبيها، فأجبرها على الزواج برجل لا تحبه، ورغم توسلاتها وبكائها، أُقيم العرس.

في تلك الليلة، كانت "فريدة" بثوبها الأبيض المطرز بالذهب، ووجهها الشاحب المغطى بالكحل، تجلس بجوار عريسها وهي ترتجف، وعيناها تبحثان عن مهرب. لكن الهرب لم يكن خيارًا... فالليل لم يمر حتى وُجدت جثتها ممدة في مخدعها، عيناها مفتوحتان على اتساعهما، شفتيها جافتان، وملامحها تحمل رعبًا لا يوصف.

قالوا إنها ماتت خوفًا، قالوا إنها انتحرت، لكن أمها، التي عانقتها قبل أن تدخل غرفتها، أقسمت أن ابنتها لم تكن على قيد الحياة عندما أُغلِق عليها الباب.

لم يكن هناك جرح على جسدها، لا دماء، لا دليل على أي مقاومة. ومع ذلك، وُجدت أصابعها مشدودة كأنها حاولت الإمساك بشيء لم يكن هناك، وأظافرها منغرزة في راحتيها حتى نزف الدم.

حاول أهل القرية دفنها في اليوم التالي، لكن ما حدث كان يفوق قدرة الجميع على الاستيعاب.

في صباح اليوم التالي، بعد أن دفنها الرجال في المقبرة، خرج حارس المقابر يجري كالمجنون، يقول إن القبر مفتوح، والكفن ممزق، والجثة... مفقودة.

لم يُصدقوه حتى ذهبوا بأنفسهم، وعندما رأوا القبر مفتوحًا دون أن تكون هناك أي آثار لنبش أو حفر، أصابتهم رعشة رعب. كانت التربة مضغوطة كما لو أن شيئًا خرج من الداخل... بنفسه.

منذ ذلك اليوم، لم يعرف أهل "الغرابوة" النوم.

كل ليلة يُسمع صوت بكاء "فريدة"، وكل ليلة، يختفي شخص.

كانوا يختفون دون أثر، لا جثة، لا دماء، لا صراخ، فقط يختفون، وكأنهم لم يكونوا هنا من الأساس.

لكن هناك نمطًا... كل من اختفى، كان شخصًا على صلة بما حدث لها.

الخالة "زهيرة"، التي شاركت في الضغط عليها حتى تقبل الزواج، اختفت وهي عائدة من زيارة ابنها في الناحية الثانية من القرية. وجدوها في اليوم التالي جالسة على عتبة بيتها، لكن عيناها كانتا فارغتين، تحدقان في الفراغ، وفمها مفتوح كأنها صرخت حتى انقطع صوتها. لم تكن ميتة، لكنها لم تتحرك بعدها أبدًا.

الشيخ "عتمان"، الذي أصر على زواجها بابنه، عُثر عليه بعد أسبوع داخل بئر جاف في الحقل، رأسه مائل بزوايا غير طبيعية، وفمه مملوء بالطين.

أما "ربيع"، العريس، فقد اختفى قبل أن يراه أحد بعد الليلة الثالثة، ولم يعثروا له على أثر، لكن البعض قالوا إنهم رأوا ظلًا أبيض يتحرك بين الحقول، كأنه طيف يراقبهم من بعيد.

كانت القرية كلها تعيش في خوف، لا أحد يتكلم عن ما يحدث، لا أحد يجرؤ على محاولة المغادرة، كأن شيئًا غير مرئي يُبقيهم هناك.

لكن "إسماعيل"... لم يكن خائفًا.

في إحدى الليالي، خرج إلى الساحة حيث يسمع الناس البكاء، ووقف هناك، ينادي اسمها.

— "فريدة؟!"

هدأ البكاء للحظة، ثم سمع همسًا خلفه.

— "لماذا تركتني؟"

تجمد في مكانه، كان الصوت ناعمًا، مألوفًا، لكنه خرج من الفراغ. استدار ببطء، ولم يرَ سوى الظلام.

— "فريدة... أنا لم أتركك، أقسم لكِ..."

— "لماذا لم تأخذني معك؟"

في تلك اللحظة، شعر بيد باردة تلمس وجهه، ثم حل الظلام.

عندما استيقظ، وجد نفسه داخل المقبرة. كان مستلقيًا فوق قبرها المفتوح، وعلى صدره كان هناك شيء صغير...

حلق ذهبي كانت ترتديه في يوم زفافها.

عاد إلى القرية يصرخ بأن "فريدة" لم تمت، أو على الأقل لم ترحل، لكنها لم تكن غاضبة منه... كانت تطلب منه شيئًا.

لكن ما لم يعرفه، هو أن "فريدة" لم تتركه حيًا لأنه بريء، بل لأنها تريد منه أن يُكمل ما بدأته.

ولأنه، منذ تلك الليلة، صار يسمع بكاءها... داخله.

منذ تلك الليلة، لم يكن "إسماعيل" كما كان.

لم يعد ينام، لم يعد يأكل، لم يعد يتحدث كثيرًا، فقط يجلس في غرفته، محدقًا في الفراغ، وأحيانًا، كان يتمتم بكلمات غير مفهومة، كأنه يكلم شخصًا لا يراه أحد سواه.

كانت أمه تبكي عليه، تحاول إقناعه بأن ما رآه لم يكن حقيقيًا، لكنه كان يعرف الحقيقة... "فريدة" لم ترحل.

كلما أغمض عينيه، كان يرى وجهها، بثوبها الأبيض الملطخ بالتراب، وعينيها الواسعتين الممتلئتين بالحزن... والغضب.

كانت تهمس له كل ليلة:

— "أكمل ما بدأته، إسماعيل... أكمل ما بدأته..."

لكنه لم يكن يعرف كيف.

في تلك الليلة، كان يجلس في غرفته عندما سمع الطرق على بابه، طرقًا هادئًا، متتابعًا.

نهض ببطء، وعندما فتح الباب، لم يكن هناك أحد... فقط الهواء البارد ينساب من الخارج.

لكن عندما نظر للأسفل، وجد شيئًا جعله يتراجع متجمدًا...

على الأرض، كان هناك فستان زفافها، نظيفًا، مرتبًا، كأن يدًا خفية وضعته هناك بعناية.

---

في اليوم التالي، استيقظت القرية على خبر جديد...

"حسان العطار"، والد فريدة، اختفى.

كان آخر من رآه حارس المقهى، يقول إنه خرج بعد العشاء ليتمشى قليلًا، لكنه لم يعد.

لم تكن هناك آثار لأقدام، لا علامات مقاومة، كأنه ذاب في العدم مثل الآخرين.

لكن الغريب هذه المرة... أن باب بيته كان مفتوحًا، وداخل البيت، في غرفته الخاصة، كان هناك شيء واحد فقط يوحي بما حدث...

مرآته الكبيرة، التي كان يعتني بها دائمًا، تحطمت بالكامل.

وكُتب على الحائط خلفها، بأحرف دامية:

"أبي، هل تذكرني؟"

---

كان "إسماعيل" يعرف أن الوقت قد حان.

ارتدى ملابسه بسرعة، حمل الفستان الأبيض معه، وخرج باتجاه المقبرة.

كان المكان صامتًا، الهواء ثقيلًا، والرائحة خانقة.

وقف أمام قبرها، الذي لم يُغلق أبدًا منذ الليلة الأولى.

وضع الفستان فوق القبر، ثم همس بصوت مرتجف:

— "أنا هنا، فريدة... ماذا تريدين؟"

لم يكن هناك رد، لكن شيئًا ما تغيّر...

الأرض اهتزت تحته، والهواء صار باردًا كالجليد.

وفجأة... سمع صوتًا خلفه.

صوت خطوات خفيفة... قادمة من القبر المفتوح.

استدار ببطء، وقبل أن يرى شيئًا، انطفأت المصابيح في القرية كلها، وغرق المكان في ظلام دامس.

---

في صباح اليوم التالي، وجدت القرية إسماعيل جالسًا عند المقبرة، عاري القدمين، محدقًا في الأرض، وعيناه ممتلئتان بالدموع.

عندما حاولوا سؤاله عما حدث، لم يجب.

لكنه، بعد ساعة من الصمت، رفع رأسه أخيرًا، وهمس بجملة واحدة:

— "لقد أخذتهم جميعًا..."

منذ ذلك اليوم، لم يُشاهد أحد من المختفين مرة أخرى.

لكن في الليالي المظلمة، عندما تمر الريح بين البيوت، لا يزال البعض يسمع صوت بكاء ناعم، بعيد...

بكاء لم يعد يحمل الحزن، بل... الرضا.

لأن "العروس التي لم تُدفن" أخيرًا... وجدت السلام.

(النهاية... أو ربما لا.)

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1