رواية ظل البراق ( جميع فصول الرواية كاملة ) بقلم مريم دياب

رواية ظل البراق الفصل الاول بقلم مريمة





"الصوت اللي ما بيسكتش"


_________________________________


في الحارات القديمة، لا شيء يبقى صامتًا طويلًا.
الجدران تتنفس، الأبواب تتنهّد، والنوافذ تُراقب كل شيء دون أن تبوح بشيء.
الناس تمشي بخطًى ثقيلة، تجرّ خلفها وجعًا لا يُرى، وتخبّئ بين ضحكاتها قلقًا لا يُحكى.
والحارة، تلك التي لا تنتمي إلى الشعبية الفقيرة ولا إلى الأحياء الراقية، كانت واقفة في المنتصف، مثل ناسها بالظبط… لا فقيرة للحدّ الذي يشبه العوز، ولا مرتاحة بما يكفي لتطمئن.
المباني متجاورة كأنها تتساند، الشرفات قريبة، والخطوط بينها ضبابية صوت جارتك يبقى وِنس، وائحة طعامها تبقى وجبة، وصرخة ابنها تبقى إحساس بالخطر… وإن كان ليس ابنك.


في آخر الحارة، عند باب حديد أخضر مدهون بيدٍ هاوية، يسكن بيت متوسط لا يبدو مميزًا من الخارج، لكنه يحتوي عالِمًا كاملًا… عالم "رقية محسن المهدي".


رقية، التي بلغت السادسة والعشرين وهي تحمل في قلبها ما يُثقل الكاهل.
منذ كانت في الخامسة عشرة، انكسر البيت مرة، ثم مرتين، ثم لم يلتئم أبدًا.
ماتت الأم، وتزوّج الأب من أخرى، تاركًا الأبناء لمصيرٍ هشّ.
والجد، الذي آوى البيت فترة، لم يطل به العمر، فمات هو الآخر، وبقيت هي مع إخوتها الثلاثة في شقة بالدور الثاني في بيتٍ جدرانه كانت بمثابة حصن أمن لها ولأخوتها


< نور > البالغة من العمر ثلاثاً وعشرون عامًا ، تدرس في عامها الأخير من كلية الصيدلة ، وتعمل في صيدلية بسيطة وسط حارتهم.


< هنا > تلك الفتاة التي تُشاغب أخوتها دائماً ، تبلغ من العمر واحد عشرون عاماً ، في بداية عامها الثالث من كلية الطب ، تسعي دائماً لكي تعمل ولكن أختها الكُبري ترفض .


< سيف > الضلع الرابع من مربع رقية ، يبلغ من العمر سبع عشر عاماً ، في الصف الثالث الثانوي .
.........


كان الصباح لا يزال يتمطّى، والساعة تُقارب السادسة حين خرجت رقية من غرفتها بخطى سريعة.
الحجاب مربوط بإحكام، والعباية السوداء لا تزال دافئة من أثر النوم، لكنها جاهزة للخروج.
وجنتاها خاليتان من أي مساحيق، وعيناها ضيّقتان كمن لم ينَم كفاية منذ أعوام.
لكن وجهها – رغم ذلك – فيه صلابة.
نوع من الجمال الذي لا يطلب النظر، لكنه يفرضه… جمال مسؤول.


مرت بالصالة، فوجدت "سيف"، أخوها الأصغر ، نائمًا كما تركته، متكوّرًا على الكنبة.
– سيف!
صوتها جهوريّ قليلًا، لا حاد ولا ناعم .


تحرّك "سيف" وهو يغطي رأسه بالبطانية:
– اصبري شوية… الجو برد أوي يا رُقيّة…


قالت بضيق وهي تسحب من عليه الغطاء:
– قوم يا خويا، إنت فاضلك كام شهر وتدخل كلية… قوم بدل ما تفوّت الدرس وتيجي تقول لي رجّعيني.


فتح عينه بصعوبة، قال وهو يتقلب:
– ماشي… خمس دقايق بس.


قالت بحزم :
– خمس دقايق دي لو زادت هتلاقي نفسك نايم على الرصيف.


اتجهت بعدها للمطبخ… المكان ضيق جدًا، ورغم ضيقة إلا أنه منظم ، يوجد بوتاجاز صغير، وحوض يلمع من نظافته، ومحتويات المطبخ البسيطة التي لديها ..
الغلاية على النار، وريحة شاي النعناع بدأت تطلع.
حطّت طاسة الفول على العين التانية، وبدأت تقلب فيها بهدوء.
يدها تتحرك بثبات: شوية زيت، شطة، رشة كمّون…


وفي الوقت نفسه، كانت تسمع خطوات "نور"، أختها ، خارجة من غرفتها وهي بتجهّز شنطتها.

نور! هتتاخري على الكلية لو ما خلّصتيش في عشر دقايق.


قالت " نور" بنبرة سريعة وهي تنظر في مواضع عديدة:
– عارفة، والله… بس فين الكوتشي الكحلي؟


"رقية " بضحك:
– تحت السرير، دايمًا بيكون هناك، عارفاه أكتر منك.


دخلت " نور" الغرفة سريعاً وارتدت حذائها ، ثم اتجهت للمطبخ بسرعة:
– هفطر برا، مش هتلحقيني.


" رقية " بضيق :
– خدي رغيفين معاكِ، الفول سخن ولسه معمول حالًا، طب أعملك شندوتشات جبنة أو اللي تحبيه.


" نور " وهي تتجه نحو الباب لتغادر المنزل :
– لا لا، مش قادرة آخد نفسي حتى، هتأخر، المحاضرة الساعة 8 والمواصلات رخمة أوي !


– طيب بصّي! ما تجريش في الشارع وإنتِ مستعجلة كده ، وخدي بالك من الطريق وإنتِ بتعدي ، وماتنسيش نفسك ، وهاتي حاجة افطري بيها ، ماشي! وتخلصي محاضراتك وترجعي علي طول .


ابتسمت " نور " وهي تغلق الباب وتقول :
–بحبك يا أشطر أمّ في الدنيا!


"رقية " تنهدت…ثم ابتسمت، ابتسامة بها تعب ولكن بها رضا.


خرجت "هنا"، الأخت الثالثة، ترتدي بلوزة خفيفة وبچامة عليها بطاريق
وقالت بضحك:
– هو فيه فول؟ ولا فطارنا تهزيق؟


" رقية " بغمزة وهي تلقي الحذاء في وجه هنا:
– فيه فول، وفيه اللي هيضربك على دماغك لو ما قمتيش لبستي زي الخلق وخلصتي بدري.


تفادت " هنا " الحذاء برشاقة وقالت وهي تذهب من أمام أختها :
– ماشي يا ست أمّنا، أنا كلّية طب مش حقل بطاطس.


ضحكت "رقية"، وهي تضع الفول في طبقين صغيرين، ومعاهم عيش مقطّع في كيس نايلون، وجبن وخضروات، و وضعتهم على الترابيزة التي توجد في منتصف صالة بيتهم .


"سيف" أخيرًا خرج من بطانيته، وجلس بجوار رقية.
نظر للطعام ، وقال بضيق وهو ينظر لرقية :
– إيه؟ مفيش عيش فينو ونسكافية النهاردة؟


في حركة سريعة فعلتها " رقية "، كان الحذاء بين يديها ، وقالت بعصبية طفيفة:
– ما تيجي تطلب منيو يالا ، أهو ده اللي ناقص !


قال سريعاً وهو يأخذ لقمة من العيش ويضعها بفمه:
– خلاص خلاص، هأكل وأنا ساكت ، بس إيه الحلاوة دي يا روقا؟
قال أخر جملة وهو يغمز لها
ت
عالت ضحكات " هنا " في ذلك الوقت وهي تخرج من غرفتها بعدما ارتدت ملابسها لكي تذهب إلي الجامعة
" هنا " وهي تقول ل" سيف " :
_ كُل بعقلها حلاوة يا لئيم إنتَ ، والله تلاقيك عايز منها حاجة .


ؤ سيف " بضيق وهو يقول لها :
_ إنتِ مالك إنتِ يا اوزعة ، إيش حشرك بيني وبين رقية حبيبتي ؟


" هنا" بدراما وهي تضرب بيديها علي صدرها :
_ أنتَ بتعلي صوتك عليا يا واد يا سيف ! بنزعق لأختك الكبيرة .


نظر لها باستخفاف وهو يُشير بيديه :
_ ياشيخة غيري المشهد بقي !، طفحنا كلامك يا فنانة .


كانت تنوي الرد عليه واستكمال فقرتهم المعتادة كُل يوم ، ولكن " رقية " قالت بأمر وهي تقف :
_ تخلصوا فطاركم وتدخلوا الأطباق المطبخ


اكملت وهي تشير ل " هنا ":
_ متفضليش ترغي معاه كتير وتتأخري علي جامعتك ، أفطري وانزلي علطول ، وبلاش تقفلي تليفونك ، عشان بقلق .


" هنا "وهي تُشير بيديها علي عينيها وتقول:
_ عيوني لروقا وأوامر روقا .


ابتسمت " رقية " وقالت لاخيها الذي يأكل بنهم :
_ بالراحة يا حبيبي ، كُل علي مهلك واقعد ذاكر شوية لعند لما يجي معاد درسك.


قال لها بمرح:
_ ماشي يا حلو إنتَ ، هذاكر واروح الدرس عشان خاطر عيونك الخُضر دول .


تعالت ضحكات "هنا " علي كلمات اخيها ، وهي انحنت لكي ترتدي حذائها وقالت وهي تتجه لباب المنزل تنوي المغادرة:
_ عشان نفسك الأول يا سيف ، مش عشان رقية
يلا استودكم الله .


أغلقت الباب خلفها، وسارت في الطريق الضيق المؤدي إلى أول الشارع.
كانت الشمس بدأت تتسلّل إلى الحارة، تطرق النوافذ وتفتّش في الأزقّة.


الحارة بدأت تستيقظ ببطء: أصوات الباعة، خطوات المارة، وروائح مختلطة من الخبز والفول وغسيل الأرض.
كان كل شيء مألوفًا، ومع ذلك، في قلبها شعور دفين بأن الأيام تُشبه بعضها أكثر مما ينبغي.


مرت بجوار قهوة الحاج رمضان، حيث يجلس الرجال كبار السن يطالعون الجريدة ولا يقرأونها، يراقبون المارّة ولا يعترفون بذلك.
أحدهم ألقى عليها السلام:
_ صباح الفُل علي أجدع بنت في الحارة.


فردّت بابتسامة خفيفة وهي تقول:
_ صباح النور يا عم أحمد ، خف سجاير شوية ،هتموت مننا .


قال ضاحكاً وهو يمسك السجائر بين يديه:
_ جهزيلي فطار حلو كده من أيدك وهاتيه وأنا صحتي هتبقي فل.


قالت بهدوء وهي تذهب من أمامه:
_ رقية مابتجيش لحد ، اللي عايز حاجة يجي ياخدها ، سلام .


ذهبت من أمامهم وتركتهم ينظرون لها بابتسامه ، فقال أحدهم :
_ شايله كتير رقية ، بس دايماً الضحكة منوره وشها.


رد عليه العم أحمد:
_ الضحكة بتداري كتير ، بس الوجع مابيتخباش .


رقية كانت معروفة في الحارة… ليست من النوع الذي يُلفت الانتباه بجماله أو مظهره، بل من النوع الذي يُحترم دون ضجيج، ويُقدّر دون مجاملة.


أول محطّة لها كانت في محلها أو لنقل مطعمها الصغير ، الذي يتواجد في منتصف الحارة ، مطعم روقا للفول والفلافل ، كانت تعمل في هذا المحل منذ كان عمرها عشرون عاماً ، ومع الأيام والمجهود الذي بذلته في هذا العمل ، استطاعت أن تُشارك صاحبة المحل وتبقي شريكتها فيه ، بدلاً من مجرد عاملة بِه ، وبشطارتها المعتاد عليها ، اصبح المحل الصغير الذي اتت له أول مرة ، مطعهم صغير بعدما استأجرت المحل المتواجد بجواره وضمت الأثنين علي بعضهم البعض وأصبح المطعم بهذا الشكل .


وقفت أمام المطعم وارتسمت ابتسامة علي وجهها ، وحمدت الله في سرها عندما رأت العديد من الناس يقفون بداخل وخارج المكان لكي يقدموا طلباتهم .
خطت خطواتها لداخل المحل فوجدت سيدة في الأربعينات، صارمة لكنها طيّبة في العمق، وقد وثقت برقية منذ السنة الأولى لعملها معها.


"رقية" بابتسامة مرحة:
– صباح الخير يا ست الناس ، فاتحة من غيري والدنيا ماشية أهو.


ضحكت " مدام ناهد " وقالت :
– صباح الفل يا رقية ، ناموسيك كحلي أنهاردة ، دي الساعة قربت علي سبعة يا بت.


"رقية" بصدمة:
– يووه! مش أنتِ اللي قايلالي يا وليه تعالي براحتك انهاردة ؟ دلوقتي مش عاجبك ؟


قالت "مدام ناهد" وهي تتابع بعينيها حركات رقية التي بدأت عملها في المكان:
_ مابعرفش اقعد في المكان من غيرك يا رقية ، من يوم ما دخلتي هنا وأنتِ صاحبة المكان قبل مني ، والله ما عارفة اشكرك ازاي علي اللي عملتيه


نظرت لها "رقية" بامتنان وقالت:
_ مين يشكر مين يا ناهوده ؟ ده انتِ فتحتيلي بابك بعد ما أبواب الدنيا كُلها اتقفلت في وشي .


" ناهد" بابتسامه هادئه:
_ ربنا اللي فتحلك بابه يا رقية ، أبواب ربنا ملهاش اقفال .


هزت رقية رأسها بتأكد علي كلامها و أخذت مكانها خلف الطاولة الخشبية، وأخرجت دفترها الصغير، تدوّن فيه بعض الملاحظات المالية، وتنقل الأرقام من الذاكرة إلى الورق بدقّة،ظلت هكذا لنصف ساعة وهي تدون الأسعار والميزانية ،حتي سمعت صوت أحد زبائنها فرفعت رأسها لتري ماذا يحدث


أحد الزبائن بعدم رضا
_ الطعمية دي مش من ايد رقية ، وانا مش هاكلها .


" محمود " العامل مع رقية ومدام ناهد في المطعم:
_ والله الأبلة هي اللي عامله الخلطة ، أنا سويت بس .


الزبون باعتراض :
_ لا لا ، طعمها متغير برضوا .


اتت " رقية " بعدما رأت "محمود " يجذب شعره بعصبية
قالت بابتسامتها المعتادة:
_ أيه يا عم مصطفي ، عامل قلق ليه ، ماتفطر وتروح شغلك عشان تلحق .


قال لها بضيق :
_ إيه يا ست رقية ؟ مابتعمليش الأكل أنتِ ليه ؟ أهو بسببك هروح علي الشغل من غير لقمة!


نظرت له بتهكم وقالت :
_ وأنا مالي يا اخويا ، خلي مراتك تفطرك قبل ما تنزل .


قال لها وهو يضحك:
_ خالتك أم أحمد نازلة بعد شوية تفطر عندك ، هتعملي الأكل ولا هتتقلي علينا .


قالت وهي تتجة لمكانها المعتاد وراء المكان المخصص لتسوية الفلافل
_ ماحدش بيتقل علي رزق ربنا ، اقعد شوية واكلك هيجيلك.


اكملت وهي تنظر لمحمود البالغ من العمر خمسة عشر عاماً:
_ وبعدين حد يُرد أكل من إيد محمود ؟ ده نَفسه أحسن مني في الأكل .


ارتسمت ابتسامة علي وجه الصبي لكلامها وتشجيعها له ، واتجه لاِكمال عمله ،وهي ارتدت قفازات في يديها وبدأت شغلها المعتاد بسرعة اكتسبتها مع مرور الأيام .


مرت الساعات الأولي عليها وهي منهكة في عملها ، صامته وعلي وجهها ابتسامة ، من يري هذه الابتسامة يقول بالها خالي من الأفكار ، ولكن رقية بالها لا يخلو أطلاقاً


في الناحية الثانية من الحارة، حيث تصطفّ البيوت في صمت أكثر ترتيبًا، وتلمع النوافذ بزجاج نظيف وستائر ثقيلة، يقع بيت عائلة "البرّاق".


بيت من طابقين، بابه الخشبي عريض، وفي فناءه الأمامي شجرة جوافة مزروعة في حوضٍ من السيراميك، تطلّ على سيارة فارهة تقف إلى جوار مدخل خاص لا يُفتح إلا في المناسبات.
ليس فخمًا بمعنى الأحياء الراقية، لكنه يحمل من الرقيّ ما يكفي ليُقال عن أصحابه: "ناس مستورة… وربنا فاتحها عليهم."


في الطابق العلوي، في غرفة تطلّ على الشارع الواسع، وقف "مهاب البرّاق" أمام المرآة، يرتدي قميصًا كحليًا ويلفّ ساعة حول معصمه الأيسر.
كان في الحادية والثلاثين من عمره، عيناه العسليّتان تحملان نظرة ثابتة، كأنها لا تهتزّ بسهولة.


فتح الخزانة، اختار جاكيتًا رماديًا، ارتداه بإتقان، ثم تناول هاتفه ومحفظته، وألقى نظرة سريعة على مكتبه حيث تنتظره بعض الأوراق المتعلقة بمعرض السيارات الذي يملكه.


دخل أخوه الأصغر "مازن" فجأة، صبيٌّ في العشرين من عمره، مفعم بالحيوية، يرتدي ملابس رياضية ويأكل قطعة توست في يده.


– رايح فين يا باشمهندس؟


رد عليه " مهاب " وهو يتناول الأول بين يديه وينظر بهم :
– عندي اجتماع في المعرض، وبعده هشوف ميعاد تسليم العربيات الجديدة.


" مازن " بضحك وغرور:
– طب ماشي… لو قابلت محمد العجمي، قوله يدّي أخوك عربية تجربة يومين بس، عايز أبهر العيال شوية.


نظر له بهدوء وقال بتوبيخ خفي:
– تبهرهم؟ ما شاء الله، إنت ناقصك بهرجة؟! ناقصك عقل يا مازن.


ضحك "مازن" وقال وهو يركض خارج الغرفة:
– العقل دا مش ستايل السنة دي!


هز" مهاب " رأسه بيأس من أخيه ، ثم خرج وأغلق باب الغرفة خلفه، و نزل إلى الطابق السفلي حيث كانت والدته تجلس في الصالة الكبيرة، ترتّب الأدوية على الطاولة.
سيدة خمسينية، ملامحها هادئة، لكن عيناها تحملان نظرة تُشبه السهر الطويل… سيدة بيت، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
قال وهو يبتسم :
– صباح الخير يا ماما.


التفت له وقال بحنان:
– صباح النور يا حبيبي… فطرت؟


نظر في ساعته قال:
– لسه، مستعجل النهارده.


قالت بتوجس ، وهي تعلم رفضه:
– مازن بيقولك تسيب له عربية.


قال بسخرية :
– مازن عايز ياخد اللي في المعرض كله… لو سبت له على هواه، هيبيعهم في الفيسبوك!


ابتسمت الأم وهي تُحكم غطاء أحد علب الدواء:
– أبوك كان زيّك زمان، جدّي في كل حاجة… بس قلبه طيب.


لم يعلّق مهاب، فقط اكتفى بابتسامة مقتضبة.
والده، الحاج "عامر البرّاق"، رجل معروف في الحارة، يملك ورشة ميكانيكا قديمة أسّسها بعرقه منذ أكثر من ثلاثين عامًا، ويُقال إن معظم العربيات القديمة في الحيّ مرّت على يده مرة واحدة على الأقل.


دخل الحاج عامر في تلك اللحظة، بجلابيته الرمادية، وشاربه الكثيف، ونظرته التي لا تعرف المجاملة.


– صباح الخير.
" مهاب " بابتسامه لوالده:
– صباح النور يا حاج.
سأله " الحاج عامر ":
– رايح المعرض؟
رد بإحترام:
– آه، عندنا معاينة شحن لدفعة عربيات مستعملة من برّه.


هزّ الحاج رأسه وقال:
– ما تنساش تتفق مع بتوع الورشة على كشف شامل… سمعة المعرض أهم من المكسب.


– عارف، وواخد بالي.


قالها "مهاب" ثم التقط مفاتيح سيارته ومضى.


خرج من البيت، وقف للحظة أمام الباب الحديدي وهو ينظر إلى الحارة…
نفس المكان الذي نشأ فيه، لكنّه تغيّر كثيرًا.
أو ربما هو الذي تغيّر، وهو يحاول ألّا يعود للوراء.
لكنه لم يكن يعلم أن الخلف أحيانًا يركض إليه رغمًا عنه.


وفي اللحظة التي دارت فيها سيارته، كانت رقية على بُعد شارعين تُحضّر الطلبية الأخيرة في مطعم الفول…
ولا أحد منهما يعلم أن القدر بدأ ينسج حبكته بهدوء، سطرًا بعد سطر، وأن ظلال "البرّاق" ستسقط على من لم تتوقعه يومًا.
.......
بداخل مطعم رقية، كانت رقية ترتب الطلبات وتحسب الأسعار
كان الوقت قد جاوز الواحدة ظهرًا بقليل، والشمس بدأت تشتدّ على الأسطح، بينما رائحة الفلافل والفول المدمّس تتصاعد وتعلّق بالملابس واليدين والذاكرة.


جاءها صوت "محمود " من الداخل، وهو منهمك في قلي الأقراص:
– يا أبلة رقيّة، الحاج طلب خمسة ساندويتشات فول بالسجق… خلّي بالك من الباقي، الراجل ده بيزعل بسرعة.


قالت وهي تبتسم علي تعبير وجهه:
– تمام يا حوده، يلا روح إنتَ عشان متتأخرش علي الدرس .


قال وهو ينظر حوله:
_ مابلاش يا أبلة الدرس إنهاردة وخليني معاكِ ، المكان زحمة ومش هتلاحقي لوحدك .


نظرت له بحزم وقال :
_ تمشي تروح تغير هدومك وتأكل وتروح علي درسك وبعدها ترجع تذاكر ، مفهوم ؟


ابتسم لها ،وقال باحترام :
_ حاضر يا أبلة ، وهجبلك وأنا جاي حمص الشام اللي بتحبه وأنا جاي .


ضحكت وقالت بتسرع:
_ طب يلا يا أخويا الحق مواعيدك .


ذهب من أمامها وهي بدأت تلفّ الساندويتشات بسرعة وبنظام، ثم وضعتها في كيس بلاستيكي، وأرفقت معه منديلًا صغيرًا.


بسطتها لمندوب الدليفري الذي ينتظر على الباب:
– "خد، سلّم عليه وقوله دي من رقية… يفهم."


قال الولد مبتسمًا:
– "طب ما تبعتي له رقمك وخلاص!"


نظرت له بنظرة جانبية:
– "خد الطلب وخلّص… ده وقت هزار؟"


ضحك ومضى، فيما عادت هي لتجلس قليلًا، تمسح عرقها بطرف حجابها، وتفتح زجاجة مية بلاستيكية نصف فارغة.
كان التعب قد بدأ يُثقل عينيها، لكن اليوم لا يزال طويلًا، وهناك وردية أخرى أخر اليوم في البقالة.


انتبهت لمدام ناهد التي وضعت أمامها الطعام وهي تقول بأمر:
_ يابت بطلي تنسي روحك شوية ، كُلي ساندوتش وبعدين كملي الشغل.


"رقية" بارهاق :
_ الأكل يستني ، بس الشُغل لأ ، وبعدين أنا مشيت محمود عشان معاد الدرس بتاعة ، ونادية أجازة إنهاردة


" ناهد " بتساؤل:
_ ألا من الحق ، إنتِ مديه البت دي أجازة إنهاردة ليه ، مانتِ عارفة إن الدنيا بتبقي زحمة يوم الحد.


قالت برفعة حاجب :
_ أهدي علي نفسك يا ست الكُل ، البت بتجهز وراحت تشوف باقي جهازها .


صمتت ثواني وقالت بتذكر:
_ أبقي فكريني نظبط الميزانية ونديها قرشين تمشي بيهم الدنيا.


نظرت لها "ناهد" وهي تبتسم فقالت "رقية ":
_ إيه البصه دي يا ناهد ، ماعندكيش دم ولا إيه؟


ضربتها ناهد بخفة وهي تقول بعصبية مصطنعة:
_ لسانك متبري منك ، بس بحبك يا جزمة ، وببصلك عشان في كُل اللي إنتِ فيه ده ، بتفكري في غيرك وتدبري أمورهم .


" رقية" بتنهيده وهي تقوم من مكانها :
_ ربنا بيرمي عبيد في طريق عبيد يا ناهد ، ربنا اللي بيدبر ، مش رقية.


في نفس اللحظة، كان مهاب البرّاق يجلس في مكتبه بمعرض السيارات.
أمامه ملفات وشاشات تعرض مواصفات السيارات الواردة من الخارج، وعلى مكتبه صورة قديمة لورشة والده، مؤطرة بإطار خشبي بسيط.


رنّ هاتفه، نظر إلى الشاشة، ثم ردّ:
– أيوه يا مازن؟


أتاه صوت " مازن " وهو يتسأل:
– العربية بتاعة التجربة موجودة عندك؟


قال له بجدية؛
– آه، بس مش ليك… النهارده جاية معاها لجنة فحص.


"مازن " بلامُبالاه :
– ماشي، متعيّبش نفسك، أنا هاخد المفتاح من السكرتير.


رد عليه " مهاب " بجدية ونبرة غير قابلة للنقاش:
– لو عملت كده، مش هتلاقي مفاتيح تانية خالص، يا مازن.


أغلق الهاتف، ثم تنهد وهو يميل على كرسيه، يُراجع الأرقام.
ورغم النظام والنجاح والانشغال، كان داخله شيءٌ لا يستقرّ.
كأنه يُدير عملًا لا يخصّه، ويُنجز نجاحًا لا يشعر به.


في الرابعة عصرًا، انتهت رقية من عملها في المطعم، وبدأت طريق العودة.
سمعت صوت إخوتها وهي تدخل من الباب
" هنا " وهي تجري وراء "سيف " وتقول بعصبية:
_ هات الفون يا سيف عشان والله لو ماجبتوش حالاً ، لقصلك شعرك اللي فرحان بيه ده.


" سيف " وهو مازال يسرع في خطواته ويقول بضحك:
_ هلعب دور واحد يا رخمة ، وهدهولك تاني .


كانت ستصرخ في وجهه ، ولكنها صمتت عندما لمحت رقية تقف بجوار الباب
قالت " هنا " ببراءة مصطنعة ل" رقية " وهي تشير علي اخيها:
_ بصي يا روقا ، أخوكِ بيعذب فيا إزاي ؟


" رقية " بشهقة :
_ يا قلبي يا طيبة إنتِ ، بيعذب فيكِ إزاي يا حُبي ؟


" هنا " بهمس :
_ الواد ده مابيذكرش ، واخد مني التليفون وعمال يلعب عليه.


نظرت لها بصدمة ثم نظرت لسيف الواقف يبتسم لها ببلاهه.
ضحكت بخفوت وقالت:
_ تصدقوا بالله .
اجابوا في صوت واحد
_ لا إله إلا الله .
أكملت بتوعد :
_ إنتوا عايزين تتلموا في أوضة ،وتترزعوا علقة مُعتبرة عشان تبطلوا الجنان بتاعكم ده .


نظروا لبعضهم البعض بخوف فاكملت وهي تنظر لسيف :
_ إديها تليفونها يا حبيبي ، خليها تسكت ، وأنا هخليك تنزل حجز كورة بالليل.


قال بحماس وهو يذهب سريعاً لاحتضانها:
_ احلفي يا روقا ، والله إنتِ أجدع أخت في العالم .


احتضنته بحنان وقالت :
_ دي مُكافاة قبل ما تتمرمط في تالته ثانوي ، وعشان كُنت بتشتغل في الأجازة يا بطل .


نظر لها بإستغراب وقال:
_ هو أنا هبطل شغل ولا إيه ؟


" نور " أجابته وهي تخرج من المطبخ :
_ آه يا حبيبي عشان تركز في دراستك .


نظر لهم بضيق وقال ل " رقية ":
_ مش هتعطل يا روقا ، خليني أفضل أشتغل .


ربتت علي شعره وهي تقول:
_ هنتكلم بعدين ، يلا دلوقتي عشان نتغدي.


"نور" بغرور :
_ عملتلكم شوية مكرونة إينما إيه ؟


أكملت "هنا "بضحك:
_ أنا جاهزة بأي أدوية ومسكنات للمعدة يا جماعة ، لا تقلقوا.


تعالت ضحكاتهم ، واتجهت هي والبنات لإحضار الطعام ، وبعد مدة قصيرة كانت تستعد للنزول إلي محل بقالة بأسفل بيتهم ، تعمل بِه أخر اليوم ، تركت اخوتها البنات في المنزل بعدما نزل سيف لكي يذهب إلي درسه


خطت خطواتها بداخل المحل فوجدت صاحب المحل، "الحاج عمران"، رجل ستينيّ يرتدي نظّارة سميكة ويعتمد عليها في الحسابات أكثر من ذاكرتِه.
قال بلهفة عندما رأها:
– أهو جت الست الجدعة… ربنا يبارك فيكِ يا بنتي.


ردت بابتسامة؛
– الله يكرمك يا حاج، في حاجة ناقصة؟
– رز وسكر… لو فاضيه تعملي طلبيّة من المستودع بكرة.
قالت بهدوء:
– تمام، سجّلهم عندك وأنا أروح بدري شوية.


أمسكت رقية بدفتر الحساب، بدأت تقلب فيه، تتأكّد من حركة البيع، وتتابع الزبائن بابتسامة خفيفة ووجه مجهد.


خرجت تقف على باب المحل لدقائق، تستنشق بعض الهواء…
وفي لحظة صمت، مرّت بجوارها سيارة سوداء، من النوع الغالي، تسير ببطء وكأنها تبحث عن شيء.


لم تنتبه كثيرًا…
لكن تلك السيارة كانت سيارة مهاب البرّاق، الذي جاء ليراقب ورشة والده دون أن يدخلها.
أوقف سيارته بعيدًا، ترجل، ومشى عدة خطوات في الحارة، يتأمل تفاصيلها التي لم يلحظها منذ زمن.


مقاهي صغيرة، بيوت متلاصقة، أطفال يلعبون الكرة في الزوايا، ورائحة طبيخ تخرج من بعض المطابخ…
كان المشهد بسيطًا، لكنه حمل سكينةً غريبة.


رفع عينيه، فراها…
امرأة تقف على باب دكّان، ترتدي حجاباً أسود ، عيناها محددتان بالتعب، لكنها لا تنظر لأحد.
كانت تمسك دفترًا في يدها، وتحسب شيئًا ما بعقلٍ حاضر.


لم يطِل النظر، فقط استدار وسار في الاتجاه الآخر.
.......
تمضي الحياة كأنّها لا تلتفت،لا تهمّها خساراتنا الصغيرة،ولا تعبنا المستتر خلف ابتسامة مرّة.


نكبر... لا حين نبلغ،بل حين نصمت عن أوجاعٍ لا تُقال،حين نمنح ولا نُسأل،ونُؤذى ولا نعاتب،ونقف رغم الانحناء الذي لا يراه أحد.


ما أقسى أن تكون حاضرًا في كل شيء،
وغائبًا عن كل قلب.


وما أرهق أن تُجبر على القوة،
لا لأنك قوي،
بل لأنك لا تملك حق الانهيار.
......


الساعة تجاوزت العاشرة مساءً، وشارع الحارة بدأ يستكين لأصوات الصراصير وهمسات البيوت التي تنغلق أبوابها واحدًا تلو الآخر.


رقية صعدت الدرج القديم وهي تحمل كيسين ثقيلين.


فتحت الباب الخشبي لشقتهم، دخلت وهي تخلع خفّها في نفس الوقت.


من الداخل، كانت الشقة شبه مظلمة، إلا من نور خافت يأتي من غرفة الصالة.
جلست نور، أختها الكبرى، على الأرض وسط كتبها، وشعرها مربوط ، ووجهها منهك.
" رقية " وهي تضع الأكياس علي الأرضية:
– لسه بتحفظي؟
" نور " بتعب :
– آه… بكرة عندنا امتحان.


– طب كلتي حاجة؟
– شربت شاي بس… أنا مش جعانة قوي.


مرت رقية إلى المطبخ، وضعت الكيسين، ثم خرجت تنادي بهدوء:
– "هنااااا… سيف… يا ولاد، أنا جيت."


خرج "سيف "من غرفته وهو في يده كتاب رياضيات.
– عاملين مسابقة في الدرس، والمركز الأول بياخد مُكافأة جامدة…يارب اكسب.


ضحكت رقية رغم التعب، واقتربت منه تربت على رأسه:
– وإنت دايمًا تكسب، بس ركّز.


خرجت "هنا" من غرفتها، كانت ترتدي تيشيرت قطني وبنطلون، وتشد شعرها بتوتر وهي تري الاجهاد الظاهر علي وجه اختها وقالت بحُزن:
– ماما كانت بتدعي لنا طول الوقت، تحسي كأنها سامعة كل اللي بنمر بيه دلوقتي.


وقفت رقية عند الحائط، وأسندت ظهرها، ثم قالت بهدوء وهي تتأملهم:
– أنا بحمد ربنا إني لسه معاكم… دايمًا بحمده.
بس بتمنى… بتمنى ييجي يوم وتستقروا، وتكونوا مرتاحين… وتنسوني أنا خالص."


قالتها وكأنها لا تنتظر ردًا.
كأن الكلام خرج لأنه ثقيل، لا لأن أحدًا سيفهمه.


صمتوا جميعًا للحظة، ثم قالت "نور":
– وإحنا كمان بندعي لكِ كل يوم… بس إحنا مش هننساكي، حتى لو نسينا نفسنا.


ضحكت رقية، ثم مشت بهدوء إلى غرفتها.
أغلقت الباب، وخلعت حجابها، وجلست على طرف السرير.


أخرجت من جيبها ورقة صغيرة، مكتوب فيها بخط قديم:
"ما تخافيش، ربنا بيحبك."


كانت أمها قد كتبتها يومًا ما، ووضعتها لها في المصحف قبل امتحان الإعدادية.


نظرت رقية للورقة، ثم ضمّتها إلى صدرها…
وأغلقت عينيها.


في الخارج، استمر صمت الحارة…
وفي الداخل، لم يكن هناك صوت،
إلا صوت في قلبها…
لا يسكت..
الفصل الثانى من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1