رواية إنما للورد عشاق الفصل الاول بقلم ماهي عاطف
انتفضت من سباتها ترتجف بذعر، متوجسة من الأحلام البشعة التي تراودها. شهقت عدة مرات متتالية لتهدئة ضربات قلبها التي تقرع كالطبول. سحبت نفسًا عميقًا محاولة إدخاله عنوة إلى رئتيها. استحوذ عليها فجأة الشعور بالاختناق، وكأن روحها تسلب منها دون إرادة. شحب وجهها، وصار جسدها يرتجف كورقة خريفية وحيدة فوق غصن شجرة في مهب الريح؛ لكن ليس ارتجاف ألم، إنما بسبب الرجفة الحادة من فرط الوجع الذي يضرب بجسدها.
أغمضت جفونها تعتصرهم بقوة؛ فلم تعد تشعر بالاطمئنان بتاتًا، خاصة في الآونة الأخيرة.يظل "فريد" ابن عمها يقتحم غرفتها كي يبث بقلبها الذعر والتعامل معها بخشونة، وكأنها لا تعني له شيئًا، ولا ابنة عمه الذي حثه على معاملتها بحنو أخوي؛ كي لا تخشاه والشعور بالغرابة بينهم. لكن حينما توفاه الله، كل شيء أخبره به صار كالرماد. تلك المسكينة التي لم تنل أي شيء سوى الإهانة والذل، تركها والديها وحيدة منكسرة لا تعي بشيء سوى أنها لا تستطيع الخروج من هذا المنزل الذي سلب حريتها الكاملة والإذعان لكل شيء دون وجه اعتراض منها.
انتظرت عدة دقائق حتى استعادت السيطرة على جسدها، ثم تحركت نحو المرحاض تغتسل وتعاون ذاتها على الثبات من جديد بهيئة قوية لا تغمض لها جفن. بعد ثوان وقفت تتلو بخشوع بعض آيات من الذكر بعدما هدأت ذاتها، فالله معها مهما توالت عليها الصعاب المنغمسة بها في حياتها. وعندما لامست جبهتها الأرض، انفجرت باكية وظلت تدعو بكل ما يجول بطياتها من حديث مرير تخفيه.
انفتح الباب فجأة؛ ليرتجف جسدها بقوة بعدما انتهت من وردها اليومي، لتجده يبتسم بانتشاء مقتربًا من مجلسها على الأرضية، فأخذ كتاب الله يقبله، ثم وضعه بجوارها على الطاولة مغمغمًا بخفوت: صدق الله العظيم.
ليوجه نظراته الماكرة لها، يقتلعها من النظر أمامها بتوجس نحوه، قائلًا بنبرة ساخرة: ربنا يقوي إيمانك يا ست ورد.
أغمض جفونه مضيفًا بهيام وتلذذ: الله اسم على مسمى فعلًا ورد، وأنتِ وردة الجوري بتاعت البيت.
رمقته شزرًا، ثم بصقت عليه ما بجوفها وأشارت نحو الباب قائلة بنبرة تحذيرية: اطلع برا يا فريد بدل والله العظيم لهقول لعمي.
مسح وجهه من فعلتها المقززة تلك، فأمسك بعض خصلاتها المتحررة ليشتم رائحتها قبل أن يعقب بعتاب زائف: كده برضو يا ورد، عايزة تروحي تقولي لأبويا؟
ثم جذبها بقوة من رسغها مغمغمًا بفحيح: لو طاوعتيني وقولتي موافقة أجيب عيل منك مش هضايقك تاني، بس طول ما أنتِ معاندة معايا مش هسيبك أبدًا.
أطبقت على جفنيها من ذبذبات صوته التي اخترقت قلبها، تألمت من قبضته القوية فوق خاصتها الناعمة، فهدرت به: ابعد عني يا حيوان، وقولتلك لأ مش موافقة. عايزني روح اتقدم لي من عمي إللي هو أخو أبويا.
لتتابع بوجع: اللي آمنك عليا وأنت طلعت متستاهلش، منك لله وجعتني أكتر ما أنا موجوعة.
جاء ليضع يده فوق ذراعها، فدفعته بعيدًا مجيبة بشراسة: ابعد عني بقولك واطلع برا بدل اقسم بالله هصوت وهعملك فرح وسمعة زي الزفت في البيت.
ازدرد لعابه بصعوبة من تهديدها، ليقول بارتباك محاولًا إخفاءه: هطلع يا ورد بس مش علشان سواد عيونك، لأ يا روحي دا علشان مزاجي بس.
مرسلًا غمزة عابثة: نتقابل تحت على الفطار، سلام مؤقت يا حبيبي.
أرسل لها قبلة في الهواء، ثم غادر. لتطلق زفرة محملة بالأوجاع، قائلة بنحيب وعبراتها تتساقط من مقلتيها بغزارة: يارب ساعدني اخلص من القرف دا وابعده عني.
****
تقدمت من الكومود لتزيحه من موضعه قليلًا؛ فوجدت تلك الحقيبة البلاستيكية خلفه. التقطتها بتلهف، مخرجة منها ذلك الغلاف الممتلئ بمسحوق أبيض. فنظرت نحو الباب وجدته مفتوحًا على مصراعيه، ثم هبت واقفة مهرولة نحوه لتحكم إغلاقه. أفرغت محتوى الغلاف فوق ظهر كفها؛ فقربته من أنفها لتستنشقه بانتشاء جلي فوق قسمات وجهها رويدًا رويدًا، غير عابئة بخطورة ما تقوم به من جلد ذاتها والمخاطرة التي تقوم بها من عذاب يفترسها فيما بعد.
ما استنشقته لم يجعل جراحها تندمل إطلاقًا؛ بل يجعلها تفكر لو أذعنت بقرارها المحتوم بالتوقف عن هذا الشيء البشع، ستتوقف عن التفكير بمعذاب فؤادها؟ ابتسامة وجع ارتسمت فوق شفتيها حينما تذكرت نظراته العاشقة لكيانها، حديثه الناعم معها ككل مرة تراه، اطمئنانه عليها من حين لآخر غير عابئ بها هي.
هي ابنة عمه، متواجدة أمامه دومًا، على الرغم من جمالها الفاتن، إلا أنه لم يهتم بها قط، كأنها شخص غريب مجهول عنه. استفاقت من اضطراب دواخلها على نداء ابنة عمها لها، لتسرع بتخبئة الكيس أسفل الفراش، ثم هندمت ثيابها على عجالة وهرولت للأسفل حيثما جلوسهم في الصباح الباكر.
وجدت الجميع يتناول طعامه بصمت مريب، فتقدمت ملقية السلام ثم جلست بجوار زوجة عمها الحنونة، طالعته بنظرات عاشقة، بينما هو غير مكترث بها وبوجودها من الأساس.
زفرت بيأس، ثم شرعت بتناول الطعام. لتوجه لها الحديث "عنان" ابنة عمها قائلة بحماس: بت يا فرح، جهزي نفسك، علشان أنا استأذنت من ماما وهنروح نقضي اليوم في الغيط مع البت منار ونهال.
بتر حديثهم "عاصي" بقوله الحاد: بس مستأذنتيش مني، يبقى مافيش خروج يا عنان.
تنهدت بيأس، فتحدثت برجاء: علشان خاطري يا عاصي، والله مش هنتأخر، هنرجع قبل المغرب.
ضرب بقبضته فوق الطاولة ليقول باحتداد: قلت لأ يعني لأ، واتفضلي افطري يلا علشان هنروح عند ورد، ماما عايزة تشوفها.
أومأت له شقيقته بغضب، بينما "فرح" ابتلعت ريقها بمرارة، ثم وقفت في موضعها مغمغمة بخفوت: بعد إذنكم.
بتر مغادرتها حديثه بتساؤل جعلها تبتسم بسعادة من اهتمامه بها: أكلك زي ما هو ليه يا فرح؟
ازدردت لعابها فردت بتوتر: مليش نفس يا عاصي.
أجابت والدته "فيروز" بامتعاض: قول لها يا بني، دا أنا تعبت من الكلام معاها.
تحرك نحوها مما جعلها تتسع عينيها من فعلته الصادمة لها. أمسك بيدها جاعلًا تمسك بالخبز عنوة، فتحدث بجدية مشيرًا بسبابته نحو الطعام الموضوع أمامها: اتفضلي كلي كويس علشان متتعبيش، مش كل شوية هنعلق محاليل ليكِ.
أومأت له بعينيها مصاحبًا خجلها الذي جعل وجنتيها تشتعل بحمرة من اهتمامه وحنانه.
فلأول وهلة تراه يهتم بشيء خاص بها، تساءلت هل لو قفزت الآن من فرط السعادة سيقولون هل جنت أم ماذا؟
****
جلست تتناول الطعام كالعادة، بشرود غير عابئة بنظرات زوجة عمها المخترقة لها وهيئتها المنكسرة تلك. لا تعلم أتشفق عليها من أجل أيامها المريرة البائسة أم تنهرها لمكوثها معهم بعد رحيل والديها.
تصنعت "كوثر" القيام من مجلسها لفعل شيء؛ لكنها فعلت شيئًا غير متوقع حينما أمسكت بكوب العصير الطازج أمامها، ليقع فوق ثياب "ورد"، مما جعلها تصدر شهقة قوية نتيجة ما حدث لها. رفعت نظرها بغضب لتقول الأخرى بأسف مصطنع: يوه غصب عني يا ورد يا حبيبتي.
اصطكت أسنانها ببعض معقبة باختصار: حصل خير يا مرات عمي، بعد إذنكم هغير هدومي.
ثم صعدت لتغير ثيابها. بينما "فريد" رفع حاجبيه لوالدته قائلًا بحدة: اهدي شوية عليها، علشان هي مش حمل عمايلك دي.
رفعت يدها باستسلام وهزت رأسها بلامبالاة، ثم وجهت نظرها نحو زوجها الذي ينفث دخان سيجارته غير عابئ بما يحدث من ضجيج حوله، مما جعلها تسعل ليبتسم بسعادة. فها هو قد حقق مراده. أردفت بعصبية: أنا مش قلت لك ما تشربش سجاير قدامي؟ متشربش أصلا، هو لازم كل شوية أزعق.
زفر بتوتر بالغ، ثم أردف بتلعثم: مـ... ماهو يا حبيبتي ...
بترت حديثه بعدوانية: بلا حبيبتي بلا زفت، مش قلت لك لما تعوز تشرب سجاير تأكل بدلها حاجة مسكرة؟ بتعمل إيه دلوقتي؟
تحدث "فريد" بنرفزة: ماهو عنده السكر يا ماما، حاجة مسكرة إيه اللي هيأكلها؟
بامتعاض أجابت: اسكت أنت يا فريد
ثم أشارت نحو زوجها الجالس كالفأر المبلل بتحذير: آخر مرة يا محمود، أنت سامع؟
أومأ لها بلهفة، ثم قال بتساؤل مغيرًا مجرى الحديث: كلمتي ماجد؟
تنهدت ثم قالت بغضب سافر: قافل موبايله من امبارح، بس لما يكلمني والله لهنكد عليه.
رمق "فريد" والدته شزرًا من حديثها المحتدم دومًا. فالتقط أشيائه وصعد ليرى "ورد" التي تأخرت عن هبوطها لتناول الطعام مرة أخرى.
صعد ليجدها تقف في الشرفة بهيئة مهينة مذلة من الخزي بالكسر، كأن الحزن أصبح يلاحقها كظلها، ومازالت مرتدية ثيابها المتناثر عليها العصير.
ابتلع ريقه بمرارة مغمضًا جفونه. هي حبيبته، نعم قلبه عاشق لها ولكل شيء تمتلكه. حينما علم بعشق ابن خالتها لها، أراد التقرب منها وفعل أي شيء يجعل بينهم ترابط قوي بدلًا من صلة القرابة. فلا يجد طريقة تجعلها تخضع له سوى هذه الطريقة المقززة المهينة.
استحوذ عليه شعور الغثيان لحديثه ولكل شيء بغيض فعله معها. كلما تذكر انتفاضة جسدها، ينهر ذاته: كيف يتحدث معها ويجعلها تفعل شيء لا ترغب به من الأساس؟
كيف تغير مئة وثمانون درجة هكذا، وانقلابه في لمح البصر من ابن عمها لشخص تنفر من وجوده؟
تنهد مقتربًا منها قائلًا بنبرة هادئة لم تعتاد عليها: ورد.
التفت له بذعر، قائلة بارتباك: أنت بتعمل إيه هنا؟
شعر بالوجع من نبرتها وهيئتها المذعورة من وجوده، فابتسم ردًا بدعابة: بشوف الأستاذة اللي بتهرب من الفطار كل شوية زي العيال الصغيرة.
ابتسامة اعتلت ثغرها الشهي كعنقود العنب، لتتلاشاها مسرعة قبل أن تعقب بامتعاض: مش بهرب من الفطار، مليش نفس أصلا.
لتتابع بحنق طفولي: وزعلانة علشان مرات عمي وقعت العصير على الفستان الجديد بتاعي.
قهقه برجولة مغمغمًا بخفوت: هجيب لك أحسن منه، بس متزعليش.
رمقته باستغراب جلي فوق قسمات وجهها. منذ قليل كان يرغمها على فعل شيء بغيض، والآن يداعبها بحديثه؟
هي تعلم بأنه حنون، لكن قسوة الحياة هي من فعلت به هكذا، جعلته شخصًا آخر لا تعرفه بتاتًا.
تنهدت قبل أن تعاود حديثها باختصار: أنت مافيش حاجة وراك غيري؟ كل شوية تيجي هنا وكده مينفعش، أنا مش عايزة كلام يتقال عني يضايقني لو سمحت.
زفر محاولًا التريث، فتحدث بجدية: ورد، أنتِ بنت عمي وعمر ما حد يتجرأ ويجيب سيرتك، عايزك تعرفي إني مش هاسمح بده، ياريت تفهمي كده.
ليسترسل بنبرة جامدة وتحذيرية في آن واحد: أنا مش وحش، بس زعلي وحش، وأحسن لك متجربهوش علشان هتزعلي جامد مني.
ليُشير نحو جبهتها مستكملًا بقوة: عقلك دا يوزك، تخرجي من البيت ده هيكون يومك أسود، أنتِ سامعة؟
دفعته بعيدًا عنها، ترمقه بغضب، فصاحت باهتياج: أنت ملكش حكم عليا، وأنا مش في سجن. أنا لو قاعدة هنا فعلشان دا حقي وبيت أبويا الله يرحمه، غير كده أقسم بالله ما كنت قعدت هنا. مش كفاية مستحملة وحاطة جزمة في بؤقي، لكن مسمحلكش تلغي شخصيتي وتحط قرارات بدالي.
ثم تحركت نحو الباب، صافقة إياه بقوة جعلته غير مصدق ما أخبرته به من حديث قوي، جعله ينظر نحو طيفها مبتسمًا بإعجاب صارخ: البنت طلعت جامدة وبتخربش كمان، مش عارف هاحب فيكِ إيه والا إيه ...
بتر حديثه حينما استمع لصوت بوق سيارة اقترب من شرفتها، فوجد "عاصي" يترجل منها ومعه والدته وشقيقته الأصغر. شعر بالغيرة وبركان جحيمي يتملك به من تواجده هنا، فهرول إلى أسفل كي يجعلها بعيدة عن نظراته المخترقة لها.
فكلما جاء يتفحصها بنظراته العاشقة، فتجعل "فريد" يشعر بغليان قوي بداخله، مما جعله لا يصمت وكاشفًا بداخله حبها المخترق لقلبه.
****
ترك الهاتف فوق المنضدة بعدما وجد العديد من المكالمات الفائتة من والدته، فتنهد متحركًا نحو المرحاض ليسترخي قليلًا من عناء اليوم في عمله الهندسي. انتهى ثم خرج، قام بتشغيل المكيف واستلقى فوق الفراش متنهدًا بارتياح، مغمضًا جفونه لعله يستريح من التفكير في حياته البائسة.
بعدما ابتعدت عنه زوجته لمعرفتها بأنه عقيم لا يستطيع الإنجاب. تزوج بها سرًا مستغلًا مكوثه ببلدة أخرى بعيدًا عن عائلته. شعر بوخزة مؤلمة شقت صدره لنصفين متذكرًا ما حدث قبل شهر حينما أخبرته بأنها تحمل بين أحشائها جنين من شخص سواه.
(عودة بالوقت للسابق)
قبض فوق خصلاتها فكاد أن يقتلعها بين يديه من شدة ضغطه، يكاد أن يجن. فمنذ إخبار الطبيب له قبل قليل بأنه سيصبح أب، جعله يشعر بالتوهان والحيرة التي استحوذت عليه، متشككًا بما وقع على مسامعه، متسائلًا هل أخطأت بحقه واللجوء للخيانة؟
فصاح بها بفحيح وجنون: حامل إزاي يا زبالة وأنا مبخلفش؟ ردي عليا!
نفضت يدها بعد عناء من قبضته القوية لتهدر به بقوة: أنت فاكر نفسك جوزي بجد والا إيه؟ لأ فوق يا حبيبي، دا أنا استحملتك كتير ووافقت أتجوزك في السر واتخرست كمان لما عرفت إنك مبتخلفش. أنا مليش دعوة بكل دا، أنا عايزة أكون أم.
استشاط غيظًا من حديثها الوقح ليتفوه بجنون: بالخيانة يا حقيرة؟ دا أنا أولى بقي، كنت أطلقك وتروحي تشوفي حياتك بدل من القرف اللي عملتيه دا.
ليتابع بنبرة حادة مقتربًا منها كالأسد ينقض على فريسته: دا أنا هموتك النهاردة، قوليلي مين الكلب اللي خونتيني معاه يا زبالة، ردي عليا!
صاحت فيه بهيستيريا وهي تبتعد للخلف خوفًا من بطشه، فقبض على ذقنها بعصبية فارطة: هوريكي إزاي تخدعيني وتلوثي سمعتي يا خاينة.
وقعت في أحضانه بجسد مرتعش ناتجة عن انخفاض نسبة السكر في جسدها الهزيل، لتُصاب بالصاعقة وهي تهمس بجزع: أبوس إيدك سيبني، وصدقني مش هتشوفني تاني يا ماجد.
قال بصوت ضعيف وتحسر على حبه لها: دا أنا كنت بحبك ليه، عملتي فيا كده ليه؟
تجلت معالم الذعر على نبرتها الواهية وهي تكافح ألمها الجسدي، روحها المُتعبة، لتتحدث بترقب من حالته المزرية: ماجد، سيبني بالله عليك، أنا حامل، أرجوك متعملش فيا حاجة.
اتسعت عيناه يرمقها بنظرات جحيمية، مقتربًا منها قبل أن ينهال عليها بالصفعات واللكمات، وهي تصرخ بإنهيار وعقلها لا يصدق أي شيء من فعلته وضربه المهين لها.
ابتعد عنها فجأة بأنفاس لاهثة، قابضًا فوق خصلات شعرها بعنف، فصرخت ببكاء مرير وهي ترجو منه أن يتركها، لكن نهرها بقوة: اطلعي برا يا زبالة، أنتِ طالق، مش عايز أشوف وشك تاني، بــرا.
هرولت نحو الخارج غير عابئة بمظهرها وثيابها الممزقة نتيجة ضربه المبرح لها. بينما هو نظر نحو طيفها بخذلان ووجع، مُبتلعًا ريقه بمرارة؛ نتيجة اختياراته الخاطئة دومًا، لينتهي به المطاف كما جاء كي يهتم بعمله فقط دون اللجوء للتفكير بتكرار هذه الزيجة مرة أخرى.
استفاق من شروده وتفكيره المخزي على صوت هاتفه يصدع بالأرجاء، ليزفر بضيق ثم التقطه هاتفًا بضيق: إزيك يا ماما.
لتُجيب بعصبية كالعادة دون مراعاة الزمان والمكان: أنت فين يا ماجد؟ مبتردش عليا ليه من امبارح؟
تنهد مجيبًا بلامبالاة: كنت في الشغل، هاكون فين يعني؟
رفعت حاجبيها قائلة باحتداد: طب تاني مرة مش عايزة أرن عليك متردش، أنت سامع؟ بدل أقسم بالله هسافر لك بني سويف وهاخدك معايا القاهرة حتى لو غصب.
قهقه برجولة، فأردف بسخرية: تاخديني معاكِ فين؟ أنتِ ناسية إني كبرت وبقيت مهندس زراعي قد الدنيا؟
ليريح ظهره، مضيفًا بقوله الحاد غير عابئ بنبرته نحو والدته: يعني محدش يقول ليا تعالى واقعد، غير بمزاجي.
تفوهت بنبرة ساخطة: لأ مش ناسية، بس يمكن بقول كده علشان أمك مثلًا.
زفر بعصبية قائلًا بغضب سافر: ماما، أنا مش فاضي دلوقتي، لسه جاي من الشغل تعبان، هنام شوية وهكلمك بعد أسبوعين أكون ارتاحت.
ليُغلق الهاتف مُسرعًا ويذهب في سبات عميق. بينما هي اتسعت عينيها من فعلته وعدم تقديره لها ولمكانتها بالمنزل؛ فهي تعتبر كما يلقبونها بـ"الكبيرة" لشخصيتها القوية، الأمر والنهي لها فقط.
فزوجها ليس لديه شخصية إطلاقًا، تعتبر طيبة قلبه وحنانه الدائم في التعامل بالنسبة لها شيء بغيض لاذع. فلهذا هي المتحكمة دومًا في كل شيء، وهو لا يستطيع الرفض لها مطلقًا. حاولت التقاط أنفاسها ببطء من شدة الضغط على ذاتها، مُلتقطة بخاخ الربو لتسهيل التنفس لديها، فحمدت ربها بأنه في جيب جلبابها وإلا العواقب ستكون وخيمة.
وجدت زوجها "محمود" يهبط الدرج يدندن، لكنه ابتلع ريقه ناظرًا بذعر نحوها حينما وجدها تنظر نحوه بسخرية: متجوزة تامر عاشور يا أخواتي.
ليبتسم ببلاهة قائلًا بدعابة: لسه ورد قايلة برضو كده 'عمي تامر عاشور'.
رمقته شزرًا مغمضة بخفوت: جتك نيلة أنت وهي.
لتُشير نحو الأعلى مستطردة بحدة: فهم بنت أخوك إن قاعدتها في أوضتها دي مش عجباني، طالما هتطفح يبقى تنزل تساعدني، أنا مش هطبخ لتلات عجول، كفاية عجلين عليا.
تحدث بعدم فهم: قصدك مين؟
كبحت ضحكتها بقوة، فحمحمت مغيره مجرى الحديث بنبرة جامدة: أنت سامع بقول لك إيه؟ ياريت تطلع تقولها تنزل علشان تساعدني في عمايل المحشي.
_"بس ياحبيبتي المحشي بيسود الأيد، وهي ما شاء الله عليها رقيقة مش زيك يعني و ..."
بتر حديثه حينما رأى نظراتها المخترقة له، ليصحح بتلعثم: هطلع أندهلها حاضر.
جاء ليصعد، فوجد "فريد" يقول بعصبية: ورد مش هتساعد حد في المطبخ.
ليتابع بجمود: هاتي المحشي هعمله أنا معاكِ لو محتاجة مساعدة، غير كده هي مش هتمد إيدها في حاجة.
شهقت ضاربة فوق صدرها لتصيح به: أنت بتستعبط يا فريد؟ محشي إيه اللي أنت هتعمله؟
لتُضيف بضيق حينما لمحت جموده: خلاص يا أخويا، خلي السنيورة فوق تحضر عفاريتها، وهروح أنا هعمل الخلطة وأعبيه، مش عايزة حاجة منها.
لتتحرك نحو المطبخ، تسبها بأفظع الشتائم. بينما "فريد" جلس بجوار والده قائلًا بدعابة: بقول لك يا حج، مفكرتش تتجوز تاني بدل الولية دي؟
قهقه "محمود" ردًا بخفوت: أمك كرهتني في صنفهم والله منها لله.
ليقهقه "فريد" بقوة ثم تحرك نحو الخارج ليُباشر أعماله، مُحاولًا عدم التفكير في معشوقته.
****
بعد خمس ساعات، ظلت تجول بغرفتها ذهابًا وإيابًا تكبح غيظها من حديثه وعناده اللاذع معها ككل يوم، لا تعلم لماذا يتعامل معها بحنق دومًا وكأنها قتلت له شخص عزيز.
انفتح الباب على مصراعيه لترمقه شزرًا من فعلته الوقحة تلك. اقترب منها يقف قبالتها قائلًا باختصار: هو بيجي هنا ليه؟
شهقت من تساؤله المفاجئ لأمر ابن خالتها من مجيئه إلى هنا كل يوم مطمئنًا عليها، لتقول بغضب سافر: إيه قلة الذوق دي؟ هو دا إكرام الضيف؟ وبعدين هو بيجي علشان يطمن عليا.
تحدث بجنون رافعًا حاجبيه لها من حديثها المثير لإغضابه:
يـ إيه يا ختي؟ لأ سمعيني كده؟ لأ دا حلو أوي اللي بسمعه دا لأ وجديد كمان يعني سيادتك عارفة إنه بيجي علشانك وعلشان يشوفك وعادي جدًا بالنسبة لك؟
زفرت بضيق معاودة حديثها بعناد: عاصي ابن خالتي متنساش دا لو سمحت.
حرك رأسه بالنفي قائلًا بامتعاض: لأ أنا نسيت صلة القرابة بينكم لما شوفت نظراته ليكِ.
تفوهت بعدائية: أخرس هو كل الناس زبالة زيك والا إيه؟
بتر حديثها بعصبية مفرطة: أخرسي أنتِ ولو عايزة خالتك تيجي يبقى لوحدها، غير كده انسي.
ليُشير بسبابته قائلًا بنبرة قوية جادة غير محتملة للنقاش: اقسم بالله لو خالتك جات بعد كده وهو معاها ما هخليها تلمح طيفك.
لمعت عينيها بالذعر بتوجس، أجابت: هتموتني يا فريد؟
انتفض من وقفته حينما لمح مقلتيها على مشارف تساقط عبراتها ليقول بلهفة: لأ يا ورد مستحيل أعمل كده دا أنا أقتل نفسي ومعملش كده، اهدي طيب وبطلي عياط.
تنهد بيأس لضعفه أمام عينيها الباكية قائلًا بتساؤل: طب إيه يرضيكي وأنا هعمله؟
نظرت نحو عيناه ببطء ترتشف من ملامحه الرجولية، مُغمضة بخفوت: بجد؟
ابتسم ليومئ لها قائلًا بابتسامة: بجد.
اصطنعت التفكير لتُجيب بحماس: نفسي أروح شرم وأقعد أسبوع علشان خاطري وافق.
هز رأسه فأردف بإيماءة: حاضر، هاخد إجازة من شغلي ونروح كلنا شرم.
تحدثت بدعابة جعلته يقهقه بشدة: هو أنت بتشتغل أصلا؟ أنت يعتبر راشق في البيت وأربعة وعشرين ساعة عندي في الأوضة.
رفع حاجبيه لها بتساؤل: عاجبك والا مش عاجبك؟
ابتسمت قائلة بتوجس مصطنع: هو أنا قلت حاجة؟
ابتسم على دعابتها مجيبًا بحزم: يلا روحي نامي دلوقتي.
جاءت لتغادر لتُعاود الوقوف أمامه من جديد حينما استمعت لنداءه لها يقول بنبرة هادئة: امسكي.
رمقته باستغراب جلي فوق قسمات وجهها لتمسك بالحقيبة البلاستيكية كي ترى ما بها. اتسعت عيناها من هول جمال الفستان الذي أحضره لها بدلًا من الآخر المتسخ بفعل والدته في الصباح: الله ذوقك حلو يا فريد.
ابتسم ليقول بدعابة: أدام عجبك خلاص يا ستي عندي استعداد كل ما تلبسي فستان حلو وجديد هوقع لك عليه عصير.
بمشاكسة قال: حلو كده؟
غمغمت له بإشادة: شكرًا يا فريد.
أومأ لها قائلًا بنبرة جعلتها ترتجف من شعور استحوذ عليها: العفو يا مولاتي، تصبحي على خير.
بخفوت استطردت: وأنت من أهل الخير.
ثم تحركت نحو المرحاض بشعور جديد لم تعتاد عليه من قبل معه. بينما هو ظل ينظر لطيفها متنهدًا بابتسامة وجع: يارب يا ورد لو نصيبي مع حد غيرك منولهوش.