رواية رائحة الارض المفقودة ( كامله جميع الفصول ) بقلم فارق العلي


 رواية رائحة الارض المفقودة كامله جميع الفصول بقلم فارق العلي

راح انعيد نشرها بالعاميه وانشوف التفاعل ..

#رائحة_الأرض_المفقوده

الفصل الأول: هدوء كوجو

تحت شمس الصيف الهادية، تمتد قرية كوجو مثل لوحة مرسومة وسط سهل سنجار. البيوت الطينية الزغيرة، بأبوابها الزرگ والخيضر، متوزعة كأنها حضن واحد للثاني بمحبة وسلام. ريحة الحنطة والشعير المتيبسة تلوح بالهوا، وجدول الماي الصغير يمر بين الحقول ويعزف نغمة هادية كأن الوقت واقف بمكانه.

على طرف القرية، گعدت مزرعة أهل خليل، مثل واحة تتنفس حياة بهالهدوء. الحقول محاطة بأشجار رمان وتين، والحنطة تترنح ويه الهوا، كأن الأرض تحچي ويا السما. يم الحقول، تنتشر أكواخ خزنوا بيها أدوات الزراعة وأعلاف المواشي. گطيع من الغنم والمعيز يرعى على راحته، تحت عينين خليل اللي تراقب كلشي.

داخل البيت، الحياة بدت تتحرك شوي شوي. نازدار، الأم، كانت أول وحدة تصحى، تروح وتجي بين المطبخ والحوش بخفة. حطّت قوري الشاي عالنار، وريحة بخاره العطرة بدت توصل لباقي البيت.

---

شير، الإبن الأكبر، ثاني واحد صحى. شاب چبير وقوي، سمرته تشهد عالتعب والشمس. عيونه الغامقة بيها طموح، بس هم يعرف شگد مسؤول عن أهله وأرضه.

"يمّه، الجاي صار؟" گال وهو يربط الشال عالراس يتحضّر لنهار طويل.

نازدار ردّت بابتسامة طيبة: "صار الجاي، بس روح شوف الغنم، يمكن جوعانات وعطشانات."

گعد شير يم التنور، يشرب چايه بهدوء، وبنفس اللحظة طلعت إيفين، البنية الوسطى، من غرفتها. شابة ناعمة، بعمر العشرين، تمشي بخفة وسكوت. هي ما تحب الزراعة هواي، بس دوم تساعد أمها.

"يمّه، اليوم أسوي الجبن وياچ. بس شير لازم يجيب الحليب أول." چانت تمزح وهي تحچي.

شير، وهو يضحك: "إي يابه، اعتمدوا علي بكلشي!"

بالغرفة الثانية، چانت ريفا تتقلب تحت البطانية المطرزة. أصغر وحدة بالعيلة، ودلوعة أبوها خليل. چانت مثل الأميرات، شعرها الأشقر الطويل سايح على چتوفها، وعيونها الزرق يعكسن براءة الطفولة. الكل يدللها، بس حب أبوها إلها شي ثاني.

"يمّه، ليش ما كعدتيني؟" كالتها بنبرة متضايقة وهي تمشط شعرها.

نازدار ضحكت وردّت: "أبوچ صارله ساعة ينتظرچ. يلا كوَي قبل لا يجيچ شير ويشلعج من الفراش."

قامت ريفا بخطوات خفيفة، لابسة فستان بسيط يزيدها نعومة. ركضت صوب أبوها، اللي گاعد ينتظرها يم الحقول.

"بابا، بشنو اساعدك؟" كالتها وهي تمسك إيده كأنها بعدها طفلة.

خليل رد وهو يبتسم: "اليوم أريدچ تساعديني بالسگي، بس لا توكعين بالمزرعة مثل كل مرة!"

رفعت راسها وقالت بفخر: "مستحيل أوكع! اليوم راح أثبت إني قوية مثلك."

بس شير ما فوت الفرصة، وگال بصوت عالي: "هاا، قوية؟! مدللة البيت ما تگدر تشيل دلو الماي!"

ريفا ردت بسرعة وبحدّة: "غيران؟ ما يهم، بابا يعرف أنا الأقرب لقلبه."

خليل ابتسم وكمل شغله وياها. هو يعرف إنها مو متعودة عالشغل، بس يحب تشارك وياه، وتتعلم من الأرض اللي عايشين بيها.

وسط الحقول، كان صوت الماي ينسكب من الدلو عالجذور العطشانة. خليل واقف يم بنته، يعلّمها برفق. ريفا، رغم إنها ضعيفة شوي، بس چانت تحاول بكل جهدها تثبت نفسها.

"بابا، شنو أحلى شي تحبه بهالشغل؟" سألته وهي تمسح العرق من جبينها.

رد خليل وهو يحط إيده على گتفها: "أحب أشوفچ وياي، الأرض تصير أحلى لما نشتغل سوا."

بجهة ثانية من الحقل، شير مشغول بجمع الحبوب، وإيفين كانت تساعد أمها بإعداد الجبن من حليب الماعز 

"يمّه، ريحة الجبن أحلى من ريحة الزرع!" كالتها إيفين وهي تضحك.

نازدار ردّت وهي تبتسم: "بس لازم تعرفين إنو الزرع هو اللي يعينّا ونعيش منه."

---

من وصل الظهر، تجمعت العيلة تحت شجرة تين چبيرة يم البيت. فرشت نازدار طاولة بسيطة، عليها خبز تنور حار، الجبن اللي سوّته ويا بنتها، وصحن عدس مطبوخ. الأكل بسيط، بس مليان حب ولمة.

"بابا، اليوم لازم تخليني أروح وياك للسوك." كالتها ريفا وهي تباوع عليه بعينين متوسلات.

خليل ضحك ورد: "إي طبعًا، بس بشرط، لا تاخذين كل فلوسي مثل المرة اللي راحت!"

الكل ضحك، بس شير ما سكت، گال بنبرة مزح: "بابا، مدللتك تخرب كلشي، خلوها تبقى بالبيت أحسن."

ريفا ردّت وهي ترفع حواجبها بفخر: "غيران؟ مو مشكلتي."

ولما قرب المغرب، الشمس بدت تصبغ القرية بلون برتقالي دافي، كأنها تودّع الأرض بحنية. العائلة گعدت بالحوش تشرب چاي وتتحاجى. خليل، ماسك غليونه، يسكت ويتأمل السما، وراسه مليان حچي ساكت. ريفا كانت حاطّة راسها على كتفه، مثل طفلة صغيرة تدور الأمان.

"بابا، شنو أحلى شي بالدنيا بالنسبة إلك؟" سألت بهدوء.

خليل ابتسم وربّت على راسها وقال: "أحلى شي؟ شوفة ضحكتكم. بدونكم حياتي بلا معنى انتو دنيتي كلها."

إيفين دخلت على الخط وقالت بمزاح: "بس بابا، ناسي امي؟ هي اللي تسوي كلشي يصير حلو!"

خليل باوع على نازدار وگال وهو يضحك: "ما أنسى أمكم أبدًا… هي عمود البيت، هي الأصل.انتو تروحون وهي باقية"

---

الليل نزل على كوجو، والظلام غطّى كلشي بهدوء. ما بقى غير صوت الهوا بين الشجر، ونغمة جدول الماي الصغير. الكل نام براحة، بدون ما يدرون إن هالراحة يمكن ما تدوم، وإن عالمهم الهادي ممكن يتغير فجأة… للأبد.

---

ثاني يوم، الشمس طلعت من جديد على كوجو، مثل كل مرة: هادية، حلوة، تنبض بالحياة. ورا البيت، نازدار كانت تشعل النار تحت قوري الشاي، تبدي يومها مثل العادة. بس هالمرة، گلبها مو مرتاح.

"گلبـي مو مرتاح اليوم…" همست ويا نفسها، وهي تباوع على دخان النار وهو يصعد للسماء.

طلع شير من غرفته وهو يفرك بعيونه، لمح نظرة أمه ووقف يمها.

"يمّه، شبيچ؟ ليش شكلج مو مرتاح اليوم؟"

نازدار هزّت راسها وهي تحاول تخفي اللي بقلبها:
"ماكو شي، يما... بس الله يستر علينا."

بس الحقيقة كانت غير... إحساس ثقيل بالخوف متلبّسها، كأن قلبها يعرف إن شي چبير جاي ويغيّر كلشي.

---

وهم يتريكون، انفتح التلفزيون من الغرفة الثانية، وصوت المذيع طلع مرتبك، يحچي عن هجوم صار على قرى الإيزيديين بسنجار.

"قامت جماعة تسمي نفسها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بمهاجمة قرى إيزيدية بالموصل... ذبحوا رجال، وخطفوا نسوان وأطفال... خصوصًا الإيزيديين..."
صوته كان متكسّر، والدموع بعينه.

الكل سكت. الملاعق وقفت، والأكل ظل بمكانه.

خليل حط استكانة الشاي على الجرف وقال بحزم:
"ماكو داعي للخوف. ذوله شلّة مجرمين، الجيش رح ينسفهم."

بس نازدار كانت غير، ما كانت مطمئنة. حطّت إيدها على صدرها وقالت بصوت واطي:
"خليل، گلبي مو مرتاح... خل نطلع للجبال، يمكن نلگى ناس يساعدونا مناك نهرب لغير محافظة."

خليل رد وهو يباوع الأرض:
"نازدار، يمعودة لا تكبرين الموضوع هاي مجرد عصابة، بالكثير يومين أو أسبوع وتجيهم الضربة. وبعدين شلون نعوف بيتنا وأرضنا؟ إحنا أهل، نعرف بعض، وإذا صار شي نوقف سوا."

---

الأيام الجاية چانت أصعب. كل يوم خبر، كل يوم قرية جديدة طاحت بإيدهم. والخوف بدأ يكبر بالقلوب، بس الكل يحاول يتمسك بالحياة الطبيعية قد ما يگدر.

بليلة من الليالي، وهم متلمين يم التنور، ريفا سألت أبوها بصوت خافت:
"بابا... هم رح يجون لهنا خاف يخطفوني؟"

خليل سحبها لحضنه وقال برقة:
"لا تخافين، حبيبتي اني احميج. إحنا بأمان، الجيش قريب، وبلش يردهم. ما راح يوصلون لهنا."

بس شير ما چان مطمئن مثله. قام يبات أكثر بالحقول، يتفقد حدود القرية، يدوّر على أي حركة غريبة… قلبه چان مشغول، وعينه ما عاد تغمض بسهولة.

بصباح أحد الأيام، صحّت كوجو على أصوات غريبة جاية من بعيد. صوت شاحنات عسكرية، وصراخ، وضرب. الناس طلعت تركض للشارع، والكل يباوع باتجاه أطراف القرية.

"وصلوا... وصلوا لكوجو..." قالها واحد من رجال القرية وصوته يرتجف.

مجموعات مسلحة، ملثمين ومليانين سلاح، حاصرو القرية من كل الجهات. عيونهم بيها قساوة، لا رحمة ولا خوف من الله. خلال لحظات، انسدت كل الطرق، لا أحد يطلع، ولا أحد يدخل.

خليل گعد بباب البيت يباوع من الشباك وقال لأهله:
"تحضروا... أول فرصة ننهزم للجبال، ما ننتظر أكثر."

---

الوضع بدأ يضغط بسرعة. الأكل قل، الماي قل، وكل شي صار صعب. بالبداية، حاولوا الناس تصمد. الجيران صاروا يتقاسمون الاكل، الماي، وحتى الحچايه الطيبة.

بمزرعة خليل، نازدار بدت تخبص، تخزن اللي تگدر عليه من طعام. شير سد كل الشبابيك والباب، بس قلقه مبين عليه.

"بابا، ما يصير نضل هيچ... لازم نتحرك، نسوي شي!" قالها آريان يوم وهو متوتر.

خليل رد بصوت حازم، بس تعبان:
"ماكو حل، ابني... الطرق كلها مسدودة، ما نكدر نطلع. لازم نصبر."

الناس ظلت متماسكة، اللي عنده خبز يوزّع، واللي عنده ماي يشرب جيرانه. بس الكل يعرف، هاي الروح ما راح تكفي إذا طالت السالفة.

---

ومر الأسبوع الثاني، وكلشي بدا ينهار. الأطفال يصيحون من الجوع، والكبار ما عاد يتحملون. التعب، القهر، والخوف خلّى الوجوه تغص بالحزن.

بليلة، وهي تكعد يم التنور، نازدار قالت والدمعة بعيونها:
"إحنا صرنا كأننا بسجن... سجن چبير."

داعش بدت تتقدم، تتوغل. كم واحد من رجال القرية حاولوا ينهزمون يدوّرون على نجدة، بس صادوهم وقتلوهم قدام الكل. رموا جثثهم على حدود القرية، كتحذير لكل من يفكر يعصيهم.

وبتلك الليالي المظلمة، الخوف صار سيد الموقف. حتى خليل، اللي دومه شايل الهم بروحه، بدى يضعف. عيونه ما بيها نفس الثقة، وصمته صار أثقل من أي كلمة.

"بابا، لازم ننهزم... ما نكدر ننتظر الموت وإحنا ساكتين! على الاقل نحاول" قالها شير بعصبية، وصوته يرتعش من الغضب.

خليل حاول يبين هادي، بس عيونه ما گدرت تخفي القلق:
"نهرب؟ وين نهرب؟ الطرق كلها مراقبة، وكل درب عليه مسلحين."

بس شير ما سكت:
"ما عدنا خيار، إذا ظلّينا، راح ننقتل كلنا! مو امي كالت ننهزم للجبال؟ خليها تحمينا."

حتى نازدار، اللي دوم تخاف من المجازفة، بدت تميل للفكرة:
"خليل، شير يحچي صح... لازم ننهزم منا، لازم نحاول قبل لا يفوت الأوان."

بس الوقت چان ضدهم...

---

بالليلة الأخيرة، گعدوا كلهم بغرفة وحدة. صوت الطلق والرمي، والقلوب تخبط من الخوف. برا، أصوات داعش كانت تعلى، قريبة كلش.

خليل حاول يثبتهم وقال:
"مهما صار، إحنا سوا. نعيش، نموت، المهم نكون مع بعض."

بس نص الليل، أصوات الطلق صارت أقرب... صياح، تكسر أبواب، وناس تترجى، وناس تصيح.

"خليل، قربو هواي! خل نطلع، بعد ما عدنا وقت!" صوت نازدار چان يرجف.

خليل قال بصوت سريع وحازم:
"حضّروا جنطتكم، خذوا الصور والأغراض المهمة، وخلوهن بهالجنطة... لازم ننهزم للجبال، ما عدنا غيرها."

العائلة لمّت نفسها بسرعة، كلهم لافين عالأغراض، والجو مشحون.

"يلا كوموا، لا تاخذون إلا الشي الضروري!" قالها خليل وهو يأشر على نازدار تحضر الجنطة الصغيرة اللي خلوها للطوارئ.

طلعوا من باب البيت الخلفي، بخطى ساكنة، يتفادون نظرات المسلحين، يتنقلون بين الحقول، يحتمون بالصخر والشجر وين ما لگوا.

وصلوا يم بيت قريب، وشفوا أبو سعيد، جارهم، يحاول بكل شجاعة يوقف المسلحين عن دخول بيته.

"بابا! لازم نساعده!" قال شير بعين حارة وقلبه يغلي.

بس خليل مسكه بإيده، بقوة:
"عدهم رشاشات، وإنت شتملك؟ بإيدك؟ شتسوي؟ إذا رحت، يذبحوك وما راح تگدر تنقذ أحد!"

شير عض شفايفه من الغيظ، وعيونه تمتلّي دموع من القهر. وقفوا لحظة يشوفون بعينهم بنتين أبو سعيد وهما يُسحبن للشاحنة، وأبو سعيد يصرخ وما من سامع.

خليل قرب راسه من شير وهمس:
"يلا... لازم نكمل، لازم نوصل للجبال، ما عدنا وقت..."

شد إيده عليه، وسحبهم بعيد عن المشهد، والكل يمشي بخوف، بخطى ثقيلة، بس بعزيمة إنهم ينجون... بأي ثمن.

الظلمة كانت مغطية كوجو كلها، والقمر متخبي ورا الغيم، وكأنه ما يريد يشوف اللي ديصير. الهوا چان بارد، بارد مثل نفس الموتى، والصياح الجاي من جوه القرية يوصلهم مثل لعنة تتنفس وراهم.

خليل يمشي بأهله باتجاه جبال قنديل، آخر بصيص أمل، آخر ممر للهروب. الجبل قدامهم مثل سيوف مغروسة بالسماء، قاسي، جامد، يخوف، بس يمكن يكون هو النجاة الوحيدة.

"بابا، الطريق طويل، وهم ما يخلّون أحد. أي واحد يشوفوه يذبحوه... شلون راح نوصل؟" سألت ريفا وهي مشدودة على إيده كأنها تخاف تنفلت وتضيع.

خليل رد وهو يحاول يخفي رجفة صوته:
"لا تخافين يابا، بس نمشي بسرعة. كل خطوة تبعدنا عنهم أكثر."

---

يمشون ساكتين، بس أجسادهم تحچي. ينحنون بين الزرع، يتزحفون ورا العشب العالي، وعيونهم تدور على الحصى وين يحطّون رجليهم. الطلقات بعده ما وقف، كأن القرية كلها محاصرة. وكل شوي، يلمحون ضو مصباح بعيد، يتحرك بين الجدران، كأنه يبحث عنهم.

"لازم نمشي أسرع." قال شير وهو يمسح جبينه بكمه، تعبان بس مصمّم.

"بس الطريق كله شوك وحجر، رجلي ما عادت تتحمل." نازدار گالتها بصوت واطي، شايلة چيس بيه شوية خبز ومي.

خليل رد وهو يحثهم على المشي:
"ما عدنا خيار، نازدار... إذا وقفنا، نموت."

---

عدّوا الحقول، بس الأرض صارت أقسى. الحصى المدبب دخل بأحذيتهم، والوجع بدي يضرب بكل خطوة. ريفا طاحت، ركعت عالأرض، ودموعها نزلت.

"قومي يابا، لازم نكمل." خليل مد إيده وساعدها توقف، بس صوته بيه شي مكسور، كأنه يعرف إن طاقتهم بدت تخلص.

ريفا، ودموعها على خدها، گالت وهي تمسك فستانها الممزق:
"بابا، رجلي ما تقدر، كل خطوة تصير أصعب..."

شير، يحاول يثبت الكل، گال بصوت چبير بس متهدج:
"لازم نتحمّل. ما راح نسمح لهم ياخذونا. مو هسه نستسلم."

بس هو يعرف، الكل تعب، الكل خايف، والكل حاير شلون يكمل.

من وصلوا لسفح جبل قنديل، چانت القمة تبين بعيدة، مثل سراب بآخر الدنيا. الصخور حادة كأنها أسنان وحوش، والممرات متلوية، كلها شوك يتعلّق بثيابهم كأنه يمنعهم يمشون.

"ما أگدر بعد، رجلي تعبت..." قالت نازدار وهي تحاول تلتقط نفسها.

خليل مد إيده وسندها:
"نازدار، إذا وقفنا، راح يلگونا ويذبّحونا. لازم نكمل، بعدنا ما وصلنا."

بدوا يصعدون، والبرد يضربهم بوجههم، الهوا يخترق ملابسهم، والبرد يدخل للعضم. الأرض زلقة، والصخور تنزل من تحتهم. إيفين طاحت مرتين، بس شير مسك إيدها بآخر لحظة.

"ديروا بالكم، كل خطوة بيها خطر." قال شير وهو يفتح الطريق قدامهم، حذر بكل حركة.

---

الرياح كانت تعوي، كأن الجبل يتنفس بوجوههم. الظلمة غطّت كلشي، وكل زاوية تبين وكأنها فخ.

وفجأة... سمعوا صوت وراهم.

تجمّدوا بمكانهم، ماكو نفس، عيونهم تفتّش بالخوف.

"يمكن صوت حيوان... بس خلكم جاهزين." قال خليل، ومسك حجر بإيده، كأنه رح يحميهم من الموت بهالحصوة.

رجعوا يكملون مشي، تعبانين، مرتجفين من البرد والجوع. الصخور شقّت أحذيتهم، والدم صار يطبع على الطريق. خليل فقد توازنه بحجر وانزلق، كاد يطيح لو ما شير لحّقه ومسكة.

"بابا، خلي الجنطة علّي، إنت تعبان." قال شير وعينه تتقلّب بين خوف وقلق.

"لا، أنا أشيلها... إنت خزن طاقتَك للمشي اذا لحكونا اخذج خواتك واهرب." رد خليل وهو يحاول يثبت رجله ويرجع يوقف.

---

بعد ساعات من التعب، بان قدامهم كهف صغير. فتحته ضيّجة، بالكاد تدخل شخص، بس حسّوا إنه مأوى. دخلوا وسدّوا نفسهم داخله، گعدوا عالأرض الباردة، أرجلهم تتنفس وجع، وقلوبهم تئن من الخوف.

"الحمد لله... الحمد لله وصلنا." قال خليل، وعيونه تباوع أولاده وهم ملتفين حَوله، يدورون طمأنينة ولو لحظة.

بس محد كان مغشوش... الكهف مو نهاية الطريق. هو بس محطة، مهرب مؤقت. وكوجو، بكل وجعها، بعد تلاحقهم… مثل ظل ثقيل ما يروح.

---

الكهف كان فتحة طبيعية بگلب الجبل، ضيّق، رطب، بارد مثل الصمت نفسه. الجدران مبتلّة، والصخور طالعة مثل أنياب. السقف بالبداية نازل، بعدين يصير أوسع كلما تغور بيه. الهوا عند الباب يعوي، يجيب وياه ريحة عشب يابس وبرد يقرص.

جوه، الظلمة تاكل كل ضوا. الأرض حَصَو ورمل، وصوت قطرات الماي يضرب من السقف ويضيف رهبة على رهبة. بس رغم كل هذا، الكهف كان أملهم، المكان الوحيد اللي ممكن ينامون فيه وهم بعيدين عن عيون داعش.

---

"لازم ننهزم لمحافظة ثانية، ماكو أمان هنا. كل ساعة ممكن يجونا داعش ويذبحونا!" نازدار كانت تبچي وهي تحضن ريفا، اللي ترتجف مثل عصفور بردان.

خليل حاول يهدّيهم، قال بصوت هادي بس حازم:
"ما نكدر نتحرك بهالليل. الطرق خطرة، والظلمة تغمّينا. نبقى الليلة هنا، نصبر... وبالفجر نقرر شنسوي."

گعدوا كلهم داير ما داير، أنفاسهم تنقطع من التعب والخوف. ريفا چانت مشدودة على إيد أبوها، تبچي بدون صوت، وإيفين تباوع الظلمة والدموع بعينها توگف وما تنزل.

شير گعد بعيد، يباوع باتجاه مدخل الكهف، عيونه تغلي.
"ما أگدر أبقى هيچ... ما أگدر أشوف كلشي يضيع بوجهي وأنا ساكت. لازم أسوي شي... لازم أقاتلهم!" صوته مبحوح، يغلي من جوه.

خليل، بصوت هادي ومكسور، گال:
"ما نكدر نسوي شي هسه... جيش ما كدرلهم، تريد إحنا نقاتلهم؟ وبيا سلاح؟"
كان يعرف إن شير يحچي باسم الكل، باسم العجز اللي وياهم.

وبعد لحظة، باوع على شير وقال بهدوء:
"بس قبل لا ننام، روح للآخر، شوف نهاية الكهف. تأكد ما بيه شي... لا حيوانات ولا حياة ولا عقارب."

---

نهض شير، ماسك بيده مصباح صغير، وجهه مشدود كأنه شايل جبل فوق صدره. مشى جوه الكهف، خطوة خطوة، والظلمة تغيم عليه. كل ما تقدم، الحيطان تبين أقرب، كأن الكهف ديضايق عليه.

صوت خطواته يرن، والكهف يرد الصدى، كأنه يحچي وياه. سمع شي، صوت ضعيف مثل الأنين، بس ما لگه مصدره. ضوّى المصباح عالأرض... بس صخر، وعناكب تتجاهله.

"كهف طبيعي..." تمتم لنفسه وهو يحاول يطمن قلبه.

بس فجأة... سمع طلق نار.

---

تجمّد بمكانه، الطلقات قريبة، والصياح مألوف... التفت بسرعة، طفى المصباح، وانحنى ورا صخرة. عيونه على المدخل... وبدأت الظلال تدخل.

شافهم… عناصر داعش، دا يصرخون، دا يدخلون بأسلحتهم. أمه وأبوه جاثين عالأرض، رافعين إيدهم باستسلام موجوع. وجه خليل كان هادي، بس عيونه تحچي خوف ما ينحچي.

"أبدو بالرجال." گال واحد منهم ببرود وكأنّه دا يطلب چاي.

شير انكسر من جوه، رجف، حط إيده على حلكة حتى لا يطلع أي صوت. شاف واحد منهم يمسك راس أبوه، والثاني رفع خنجره الكبير…
بلحظة، سمع الصوت… ودم أبوه نزف عالرمل، وكلشي وقف.

---

ما لحگت لحظات، وتوجهوا صوب نازدار. چانت تهمس، يمكن دعاء، يمكن تحچي ويا أولادها بحلم أخير. واحد سحب شعرها، ورفع راسها.

"إنتو كفّار، وعلينا نقيم الحد." گالها وهو يبتسم ببرود.

شير شاف الضو ينطفي بعينين أمّه الزرق… شاف الروح تطلع ببطء. اللحظة چانت مثل موت بطيء، بارد، ساكت.
هو يريد يركض، يريد يصرخ، بس بقى بلا نفس… بلا حِيل.

---

إيفين وريفا چانوا يبچون ويصرخون. واحد اقترب من ريفا، ربط إيديها بحبل خشن.
"لا تكتلون الحلوات، نريد نبيّعهم بسوك السبايا." گالها وضحك بخبث.

بس إيفين، من سمعت، شعلت. عيونها صارت نار…
وقفت فجأة، وركضت باتجاه باب الكهف.

"وگفي!" صرخ واحد منهم ووجّه البندقية.

"لا تقتلوها!" صاح الثاني، يحاول يوقفه…

بس إيفين ما وقفت... ركضت بكل اللي بيها، كأن كل قوتها اجتمعت بهاي اللحظة.
وصلت لحافة الكهف، التفتت وصرخت بصوت هز الجبل:
"أموت... ولا تلمسون شعرة مني!"

وبدون تردد... رمت نفسها من الجبل.

---

ريفا صرخت صرخة تفطر القلب، وانهارت على الأرض، عيونها تسود، والدنيا ضاعت من وعيها.
واحد من الدواعش باوع لتحت وقال ببرود:
"مجنونة... شمرت نفسها من فوق."

جمعوا باقي العائلة، شالوا ريفا وهي مغمى عليها، ما تحس بشي.
أما خليل ونازدار… تركوهم، جثثهم تمددت بصمت موجوع على الأرضية الرملية.

واحد همهم بصوت ميت:
"كافي، هاي آخر عائلة من كوجو... يلا نرجع."

---

شير ظل ورا الصخر، متجمد، مثل حجر. جسمه يرجف، عيونه تغرگ دموع، بس بلا صوت، بلا حركة.
كل نفس بيا يطلع وياه وجع، وكل ذرة بجسده صارت خايفة، ضعيفة، مكسورة.

المسلحين طلعوا، والكهف رجع ساكت... ساكت أكثر من اللازم.

الدم بعده يلمع بالأرض، والريحة… ريحة خوف، موت، دم، ووجع.

شير ظل بمكانه، ميكدر يتحرك، عيونه تباوع الجثث، والفراغ، والظلمة.

هاي اللحظة، فهم...
كلشي انتهى.
الدنيا اللي يعرفها انهدّت.
الأهل، البيت، الأمان… كلشي راح.
واللي باقي… بس هو، ووحدة ثقيلة، وعالم غريب ما يشبه شي.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1