رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة وخمسة
ارتطم صدى بكاءٍ حادّ بالجدران كأنه نُواحُ روحٍ صغيرة أُجبرت على تجرّع ما لا يُحتمل.
كان كونور واقفًا أعلى الدَّرج يبكي بمرارة طفلٍ جُرِّد من أمانه.
تجمدت الخادمة في مكانها يدها معلقة في الهواء وقد أربكها الصوت العاجز.
أما مارينا ورغم ما بين قلبها وقلب ابنها من مسافات جليدية إلا أن أنوثتها كأم ترددت للحظة لم تكن تتمنى له أن يرى هذا الوجه الآخر من الحياة... ذلك الوجه الوحشي الذي كانت تستعد لرسمه على سارة.
صرخت، دون أن تنظر:
"ماذا تفعلين؟ تأكدي من أن الطفل لا يرى شيئًا من هذا الجنون!"
اندفع سربُ الخادمات من كل الزوايا كأنّ البكاء قد حطّم الجدران وحرّك السقف فوق رؤوسهم.
أما مارينا فقد علا الغضب في نبرتها ليس رأفةً بكونور بل لأن لحظتها الحاسمة مع سارة كادت أن تضيع.
"أين كنتِ؟ تحرّكي، افعلي شيئًا!" صاحت مارينا في المربية الموجودة على سلم الطابق العلوي.
وجاء الرد مشوبًا بالهلع:
"السيد كونور يُعاني من حساسيةٍ حادة! هناك طفحٌ جلديٌ ينتشر على جسده ووجهه!"
زمّت مارينا شفتيها بحدة وقالت:
"استدعي الطبيب فورًا!"
لكنها لم تتحرّك من مكانها وكأنّ مسمارًا ثبّت قدمها إلى الأرض… كانت عيناها لا تزالان مشدودتين إلى سارة كمن يتعجل تصفية دينٍ قديم.
نظرت سارة إلى مارينا
بذهولٍ يشوبه الصدمة:
"إن ابنكِ، صغيرٌ، يبكي... ألا ترين؟ أما كان من الأولى أن تضمّيه بدلًا من أن...؟"
قهقهت مارينا ساخرة، ورمقتها بنظرة فارغة:
"إذا أنهيتِ ما طلبتُه منكِ بسرعة
انكسر صوت سارة وهي تهمس:
"إنه يبكي بحرقةٍ في الأعلى... ليس ابني، لكن لماذا يشعرني بكاؤه وكأن صدري ينفطر؟"
دفعها ذلك الألم اللا منطقي لأن تتخيل نفسها تأخذ السكين لتنه ما طلب منها وتركض كي تعيد له دفء العالم ولو للحظة.
وفجأة وبلا سابق إنذار تمرد كونور وتحرر من يد المربية وسقط يتدحرج على السلالم.
صرخت المربية وهي تحاول اللحاق به:
"سيد كونور!"
لكن السقوط كان أسرع من الصراخ… وبينما الزمن يتباطأ تحركت سارة كأنّ جسدها يسابق وعيها تجتاز منتصف الدرج بخطوات كالقفز لتستقبله بين ذراعيها بحنانٍ غريزي قبل أن يصطدم رأسه بالأرض وقد علا وجهه الصغير ذاك الطفح الجلدي الممزوج بالدموع.
"ماما... ماما..." شهق كونور وسط نحيبه
ذلك المشهد على بساطته كان كفيلًا بأن يشعل شرارة الجنون في صدر مارينا التي صرخت من دون أن تنهض:
"سارة! توقفي عن اللعب بالوقت… إن لم تنهي هذا، فسأجعلك تندمين!" ثم أشارت للخادمات بعيونٍ فقدت صبرها.
تقدّمت إحداهن لسحب كونور من سارة بينما الأخرى اقتربت ببطءٍ كأنها ظلّ لموتٍ وشيك عازمة
على إيذاء سارة.
لكن مارينا لم تحرّك إصبعًا لا لكونور ولا لسارة... فقد كانت لا تزال منشغلة بطلاء أظافر قدميها وكأنّ هذا الطقس التجميلي أهم من كلّ ما يجري.
وفي تلك اللحظة التي تخلّت فيها الأم عن دورها عرفت سارة الحقيقة الموجعة:
ليس كلّ من حملت لقب "أم" كانت أهلًا له.
تساءلت وعيناها تترقرقان بغصةٍ غير معلنة:
كيف يمكن لإنسانة أن تضع طلاء الأظافر أهم من بكاء ابنها؟
لقد عرفت سارة الآن لماذا تعلّق بها كونور منذ اللحظة الأولى، ولماذا شعر بدفءٍ لا يشبه دفء بيتٍ ولا أمٍ... بل دفء روحٍ كانت تبحث عن شبيه.
في تلك اللحظة، كان كونور يتشبث بسارة كما لو كانت خلاصه الوحيد، كمن وجد مأواه بعد عاصفةٍ اقتلعت ما تبقّى من دفء العالم. ذراعاه الصغيرتان التفّتا حولها بإصرارٍ طفوليّ عجيب كمن يخشى أن يُسلب منها كما سُلب منه الحنان… ولم تكن هي بقلبها المُثقَل بالأوجاع تملك أي دافع لتُبعده بل على العكس شعرت وكأن هذا يعيد ترتيب شيءٍ مُنهار بداخلها.
لكنّ الفوضى لا تمنح أحدًا مهلة لاتقاط الأنفاس وفي خضم الصخب المشتعل حولها انزلقت قدماها عن الدرج وتدحرج جسدها نحو الأسفل كونور بين ذراعيها كدرعٍ بشري من أمومةٍ لم تلده الظروف بل أوجعته الخسارات.
وخلال تدحرجها تراءى لها طيف طفلها الذي فقدته قبل أن
يولد ذاك الذي لم تسعفها الحياة لتنقذه كما لو أنّها عاقدة العزم على تحمّل كل ألمٍ نيابةً عنه إن لزم الأمر.
وما إن وصلت إلى أسفل الدرج حتى رفعت رأسها ببطء وابتسمت للصغير المذهول بين يديها، وهمست له بنبرةٍ دافئة كنسمة فجر:
«لا تخف… أنا هنا، ولن أتركك.»
ظلّ الطفل يحدّق بها بعينين واسعتين تغمرهما الصدمة وقد خذله صوته عن البكاء كمن أُخرس دهشةً مما حدث.
لكن مارينا؟
لم تُحرّك ساكنًا لم تهرع للاطمئنان، لم تقترب، لم ترتبك حتى… فقط اكتفت بجملة باردة تُلقي بها من علياء قسوتها:
«أفسدن وجهها الآن.»
كانت كلماتها كصفعة من جليد… وفيما بعد اقتربت الخادمتان من سارة وفي أيديهما سكين وكأنّهن يُنفّذن حُكمًا لا يُردّ.
إحدى الخادمتين تمتمت بأسفٍ:
«نعتذر، آنسة سارة…»
فلا أحد يملك الجرأة على معارضة "السيدة أحمد المستقبلية".
مارينا… تلك التي تحوّلت كلماتها إلى سكاكين تُشهر في وجه الرحمة.
أما سارة وقد نال منها التعب كجسدٍ انتهكته الحياة شعرت بالوهن يتسلل إليها كالسمّ.
جسدها يخذلها وروحها تتشبث بالحياة بأظافر مهترئة.
رأت السكين تقترب مشرقةً تحت ضوء الغرفة كوميض نذير… وكلّ ما استطاعت فعله هو أن تراقب… لا تهرب، لا تصرخ، لا تقاوم.
لكن عندما رفعت الخادمة السكين لتضرب… شقّ الأرجاء صوتٌ زمجَر
كوحشٍ أُطلِق من عرينه.
زمجرةٌ ذكوريّة مليئة بالغضب كأنّها صوت العدل وقد عاد لينتقم… أو ربما شيء آخر.