رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة وستة
كأنما زمجر ملك الوحوش من أعماق الغابة فأرعدت صرخته الأفق وهبت الريح مذعورة من صوته تدفع أوراق الزمن أمامها وتوقظ جذوة الغضب في صدر الأرض.
ركض أحمد... لا لم يكن يركض بل كان يقتحم اللحظة كإعصار هائج عيناه تشتعلان بنار لا ترى وقلبه يضرب كطبول حرب وجسده يطوي المسافة كما يأكل الجمر جلد من يفر من الحقيقة.
في الداخل تجمدت مارينا في مقعدها وتناثرت زجاجة طلاء الأظافر من يدها كسفك دم على سجاد أبيض نقي كأن خطيئتها قد سالت على البياض شاهدة عليها.
اللون الأحمر الفاقع التصق بألياف السجادة كما يلطخ العار ثوب الكبرياء حين يمزق.
أحمد... أستطيع أن أشرح لك... نطقت مارينا كلماتها تستجدي غفرانا من شبح لكن خرج صوتها يترنح فوق جليد لا يرحم.
لم يلتفت... لم ينظر إليها وكأنها لم تعد تستحق أن ترى.
تقدم... وخطاه أشبه بقرع أجراس النهاية.
أما الخادمة سناء... تلك التي جاءت بها مارينا من الريف طويلة كظل شجرة لا يعرف السكون قوية الجسد والنية ذات ماض نسج من خيوط الطاعة العمياء لم تتوقف لم ترتبك حتى بعدما رأته وكأنها تؤمن بأن مهمتها أسمى من الأوامر.
في الحقيقة سناء كانت تعلم تماما من هي سارة بالنسبة لمارينا... لذا عزمت على
محو وجهها الذي يثير غيرة سيدتها.
سكين واحد... جرح واحد فقط يكفي لطمس الجمال عن الملامح كما يتبدد الحلم من جفون السهر كانت سناء كما سيدتها ترى في تشويه وجه سارة نهاية لعلاقتها بأحمد... فالحب في منطقهما الأعوج لا يصمد أمام الندوب.
لكن الرصاص اخترق اللحظة طلقة اخترقت الهواء كصرخة قدر يعيد التوازن وعلى إثرها هلعت الخادمات وتفرقن كالعصافير حين تمس النار عشها.
الرصاصة اخترقت يد سناء فسقطت السكين من قبضتها واقترب برنت كالظل المتأهب. يركل ساق الخادمة بقوة فانهارت على الأرض ثم كبل يديها خلف ظهرها وهو يأمرها
لا تتحركي!
حتى عندما أخذ الدم يسيل من ذراعها كان في عينيها جحيم لم يروض بعد.
أما سارة فكانت مذهولة تحدق في كل شيء كمن خرج من فم الموت لتوه.
اقترب منها أحمد وصوته الحنون يحمل شيئا من الغضب المكبوت
هل أنت بخير
لم تجب... كانت تنزف من جبينها لكن الألم لم يكن ما يشغلها. نظراتها جالت تفتش عن الصغير بين الركام تبحث عن النبض في جسد هزه الخوف.
نظر أحمد إلى كونور ثم إليها
اطمئني عليه إنه فقط يعاني من رد فعل تحسسي.
بعينين ممتلئتين بقلق أمومي لا يقارن تلك النظرة وحدها كانت كافية لتعري مارينا.
مارينا... التي اقتربت لا
لتهدئ من روع كونور بل لتقف أمام أحمد محاولة أن تنجو من الغرق بالكذب
إنها هي! هي من دفعت كونور عن الدرج... كاد أن يموت! إنها امرأة لا قلب لها!
كلماتها خرجت مشوهة كقناع زائف قد ذاب فوق نار الحقيقة لكن أحمد لم يكن كما كان إذ أمسك بياقتها فجأة بيد امتلأت بالعزم لا بالغضب وصوته نزل عليها كصفعة
مارينا كارلتون أنا لست أعمى.
ارتجفت وانحنى وجهها كغصن هش تحت عاصفة باردة... ولم تجد عذرا بل وجدت نفسها ولأول مرة من كل مبرر.
في عالم يحكم فيه بالصوت الأعلى اختارت سارة أن تصمت عن صغائر العبث وتولي اهتمامها لما يستحق. وبالرغم من دمائها التي لا تزال تنساب من جرحها الغائر إلا أنها لم تعر انتباها لذلك فقد كان الألم الأعمق في صدرها حيث يرقد الصبي بين ذراعيها متورد الوجه يئن في صمت لا يحتمل.
وضعت كونور على الأريكة برفق كمن يضع قلبه هناك ثم التفتت إلى الخادمة بصوت نافذ لا يحتمل التأخير
أحضري لي منديلا وماء باردا حالا.
ثم وجهت أنظارها إلى برنت وعيناها تشعان بعزم حاد
يجب تهدئة التفاعل التحسسي على الفور سيد برنت اذهب وأحضر الدواء الآن.
أجاب برنت دون تردد بانحناءة تنم عن الاحترام والامتنان
بالطبع سيدتي... سيدتي سارة.
ثم أطلق
سراح سناء وتوارى في الممر كمن يطارد الحياة ذاتها بخطوات لاهثة.
مارينا كعادتها لم تستسلم للهزيمة الصامتة بل راحت تصارعها بالكلمات المسمومة. وها قد اقتربت بخطوات مهزوزة من أحمد ونبرة صوتها مخنوقة بالغضب
أحمد... هل سمعت هل رأيت كيف تتصرف إنها امرأة حقيرة... ستضع على ابني كمادات باردة! الجو بارد أصلا! هل تسعى لإمراضه!
كلماتها ارتطمت بجدار البرود الذي بنته سارة حولها... لم تكن تحارب مارينا بالكلام بل بالأفعال إذ استدارت نحوها ببطء وقالت بنبرة لم تعد تعرف التردد
اغلقي فمك بالله عليك اغلقيه هل أنت أمه حقا أحقا خرج هذا الطفل من رحمك!
كان الصمت بعدها أكثر صخبا من أي عتاب وكانت النظرة في عيني سارة تشق مارينا إلى نصفين وساد صراع أخرس بين امرأة تدافع عن بقية قلب يسكن جسدا صغيرا وأخرى تحاول التمسك بقناع أمومة لم تكن يوما لها.
ترى لمن ستكون الغلبة وهل سيغير أحمد موقفه تجاه كلا من سارة ومارينا وما سر تعلق كونور بسارة