رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة وسبعة
ابتسمت مارينا بسخرية كأن سؤال سارة أتى من عالمٍ آخر، وقالت باستهزاء:
"إن لم أكن أنا أمّه، فمن ستكون إذن؟ أنتِ؟"
رفعت سارة عينيها إليها وفي نظراتها ازدراء حادّ كالسيف:
"إذا كنتِ أمّه حقًا، فلا يليق بكِ أن تكوني بهذا الجليد… ابنكِ يعاني من رد فعل تحسسي وسقط من الدرج، ومع ذلك لم يكن أول ما فعلتِه حمايته أو مواساته، بل مهاجمتي! هل تُسمين نفسكِ أمًا؟"
ضحكت مارينا ضحكة قصيرة متشبثة بآخر خيوط عجرفتها، وقالت:
"لا تظنّي أن مهاجمتي ستُعيد لكِ مشاعره تجاهك الآن بعد أن أصبح أحمد هنا... لقد كان حاضرًا حين أنجبت كونور ويعرف جيدًا أنني أمّه، وليس لكِ أن تُشكّكي في ذلك."
لكن سارة لم تعد تهتمّ بمجادلةٍ عقيمة… فالحادثة وحدها كانت كافية لتبرهن لها أن بعض النساء قد يُنجبن أطفالًا لكنهن لا يُصبحن أمهات أبدًا لأن الأمومة تحتاج قلبًا لا جسدًا.
في تلك اللحظة هرعت المربية تحمل حوضًا من الماء بينما كانت سارة تخلع القميص الصغير عن جسد كونور لتضع الكمادة على جلده المتورّد لكن شيئًا غريبًا شدّ انتباهها… عادةً الأطفال الذين يُصابون بطفح جلدي يصرخون أو يتلوّون من الانزعاج أما كونور فكان ساكنًا يحدّق في وجهها
بعينين واسعتين وكأن كل العالم اختُصِر في وجودها إلى جانبه بل وظل يُمسك بطرف ملابسها بإحكام كالمتشبث بطوق نجاة وسط بحرٍ هائج.
قالت مارينا بصوتٍ متوتر وهي تراقب ما يحدث:
"انتظري، ماذا تفعلين بابني؟"
أجابتها سارة ببرودٍ تُلقي بوجهها وفي حضور أحمد حقيقة لا تقبل الجدل:
"الضغط البارد سيُضيّق الأوعية الدموية ويُخفّف الحكة… جسده هشّ الآن وخدشٌ واحد قد يُضاعف الطفح الجلدي… وفي أسوأ الأحوال قد يصاب بحمى."
فتحت مارينا فمها لترد لكن صوت أحمد قاطعها بقسوة لم تعهدها منه من قبل:
"اصمتي."
كان وقع الكلمة أثقل من صفعة جعلت مارينا تتجمّد بأرضها… ومن زاوية أخرى فطوال العامين الماضيين لم ترَ سارة أحمد يتعامل مع مارينا بتلك الصرامة وكأن شيئًا في المعادلة تغيّر فجأة.
أما مارينا التي شعرت بالطعنة في كبريائها بدأت تفتش في داخلها عن شرارة جديدة تُشعل بها الفوضى.
قالت مارينا بصوت يقطر مكرًا:
"لطالما كنتُ حريصةً على نظام كونور الغذائي... كيف يُصاب فجأةً بردّ فعلٍ تحسسي؟ ماذا أكل؟"
أجابت الخادمة بتردد:
"السيد كونور تناول نصف قطعة من كعكة العسل... التي خبزتها الآنسة سارة."
تجمّدت ملامح مارينا بإدعاء قبل أن تلتفت
نحو سارة بعينين مشتعِلتين بالغضب المصطنع:
"كعكة عسل؟! كيف تجرؤين على إطعامه ذلك وأنتِ تعلمين أنه يعاني من حساسية قاتلة تجاهها؟"
رفعت سارة حاجبيها بدهشة حقيقية بعد أن اكتشفت خيطًا خفيًا يجمعها بالطفل، وتمتمت:
"هل... هل هو يعاني من حساسية تجاه العسل أيضًا؟"
انفجرت مارينا بسخرية جارحة:
"كُفّي عن التظاهر بالبراءة! جئتِ إلى هنا تستعطفينني لأعيد لكِ منزلكِ، وحضرتِ كعكة عسل لتكسبي ودّي ومع ذلك... لم أطردكِ احتراما لصفة الضيف… لكن أن تمتد يداكِ إلى طفل صغير؟! إن كان لديك حساب معي فواجِهيني أنا، لا أن تهاجميه!"
ثم حدّقت في أحمد كأنها تُحشد قضيّتها أمام قاضٍ تعرف نقاط ضعفه وأشارت إلى رقبتها المكشوفة:
"انظر يا أحمد... لم يتوقف الأمر عند تسميم طفلنا… لقد حاولت قتلي أيضًا!"
كانت تعرف أن كونور هو وتر أحمد الحساس، وأن أي خطر يقترب من ابنه يُشعل جحيمًا لا يُطفأ لذلك ظنّت أن تحويل اللوم إلى سارة سيُحوّل المعركة لصالحها كما اعتادت دائمًا.
لكن سارة التي اتضحت لها الصورة أخيرًا أدركت أن مارينا كانت تحيك هذه اللحظة منذ البداية… تلك الكعكة لم تكن سوى فخ وكل هذا العنف لم يكن كافيًا لشفاء غليلها… وهي تغمغم دون
صوت:
*حتى لو كنت قد دمّرتُ وجهي وغادرتُ المدينة فامرأة تستخدم طفلها درعًا لن تفي بوعد أبدًا.*
تسلل حزن عميق إلى قلب سارة وهي تنظر إلى كونور الذي رأت في عينيه انعكاسًا لطفولة ضائعة.
*مسكين هذا الصغير... أي أم تلك التي تقف فوق جراحه لا بجانبه؟*
للمرة الأولى لم يقف أحمد إلى جانب مارينا كما اعتادت بل جاء صوته يقصف الغرفة بصرامة لم تسمعها منه من قبل:
"اصمتي مارينا! لقد تجاوزتِ كل حدودك!"
حاولت مارينا أن تستفزه بسُمٍّ أخير متجهة بكلماتها نحو سارة:
"هل تهتم بها حقًا؟ أم أنّك تُخدع بابتسامتها؟ يا للأسف كيف لرئيس مجلس الشيوخ الذي يتحمل مسؤوليات أكبر من ذلك أن—"
لكنها لم تُكمل فنظرات أحمد اخترقتها كخنجر، نظرات مُحمّلة بجحيمٍ مكبوت اجتاحت جسدها من رأسها حتى أظافر قدميها نصف المصقولة، نظرات بدت كشمئزاز من رؤيتها.
ارتبكت مارينا وتلعثمت محاولة تدارك خطئها:
"أحمد، أنا لم أقصد—"
قاطعها بصوت حاد وقد بلغ الصبر نهايته:
"اخرجي. لا أريد رؤيتكِ الآن."
لأول مرة نسيت مارينا كبرياءها وقد شعرت أن مجرد بقائها على قيد الحياة هو التنازل الوحيد الذي قد يمنحه لها وقبل أن تخطو للخروج جاء صوته كالصفعة
الأخيرة:
"تدعين أنك تهتمين بكونور؟... لا يسعني إلا أن أتساءل: كيف كنتِ تؤدين واجبكِ نحوه كأم؟"