رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل العاشر 10 بقلم فاطيما يوسف


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل العاشر بقلم فاطيما يوسف


كان المكان صامتاً إلا من ارتجاف أنفاسها، قلبها يئن تحت وطأة صدمة جعلت الدم يثقل في عروقها والهواء يضيق في صدرها، وكلما وقع بصرها عليه أمامها شعرت وكأن الأرض تميد تحت قدميها. فتح الباب لتجد "فارس" قد عاد، كان صوته دافئاً وهو يناديها، اقترب منها بخطوات مشتاقة وذراعاه تفتحان ليحتضنها، لكنها دفعته بقوة مفاجئة والدموع ما زالت تغمر عينيها، نظراته ذهبت للحيرة بينما قلبها يصرخ بلا صوت :


ـ بعد يدك داي عننننننننننني ، متلمسنيش يا قذر ، بععععععد .


تجمدت الكلمات في فمه من هول ما رأى في عينيها من كره ممزوج بوجع قاتل، لم يكن يتوقع أن تستقبله بهذه الثورة الجامحة، فاقترب محاولاً تهدئتها، بينما دموعها تنحدر كالسيل على وجنتيها:


ـ ايه الكلام ده يا "فيري"، هي دي مقابلتك ليا بعد الغياب ؟! انتي وحشتيني ،وحشتيني بجد .


كان قلبها يتفتت وهي تسمع نبرته وكأن شيئاً لم يحدث، شيء بداخلها أراد تصديقه لكنها وأدته بصرخة وجع حادة وهي تنتزع يده من على كتفها بسرعة، كأن لمستة صارت خنجراً يذبح روحها:


ـ متلمسنيش ، يدك القذرة داي متاجيش ناحيتي ، يا خاين يا غدار ، انت ازاي جدرت تعمل فيا اكده ؟ ازاي جالك قلب تعيش بوشين وياي ، تروح تحضن غيري وتحب فيها وتاجي اهنه تمثل إني وحشاك ورايد حضني وهتموت علي ؟!


شهقاتها كانت تخنقها وهي تبتلع الهواء بصعوبة، وجهها شاحب كأن الدم جف في عروقها، وكل كلمة منها كانت بمثابة طعنة تريق دمها وتسيل انين وجعها:


ـ انت ممثل كبير جووي يا حب عمري وأبو بتي ، ممثل بدرجة كبيرة جوي حقير وخاين.


انعقد لسانه وهو يرى الشرخ العميق في قلبها، فحاول التظاهر بعدم الفهم، متصنعاً الحزن ليخفي ارتباكه وقد علم للتو أنها عرفت شيئاً مما يخبئه :


ـ هو انتي ليه مش قادرة تنسي اللي حصل مني قبل كدة ، انا اعتذرت لك بدل المرة الف واتصالحنا وراضيتك وانتي كنتي كويسة معايا جدا معايا ايه اللي حصل تاني خلاكي ترجعي في مسامحتك ليا انا بجد بحبك يا فريده وانت عارفه .


أغمضت عينيها بقوة تحبس صرخات دموعها، وهتفت صارخة من وجع صادق يقتل الروح، وكل تراه منه يصرخ بالخيانة:


ـ عارفه ايه ! انت مصدج نفسك انك هتضحك على عجلي بكلمتين انت ازاي جادر تبجى بوشين ازاي جادر تبجى معايا ومعاها في نفس الوقت بنفس الطريقه وبنفس الكلام انت ازاي جدرت تعمل فيا اكده، انطج يا خاين ، دي أني وهبتك جلب من دهب ميستاهلش تبيعه بالرخيص ، اديتك حب وعشق واحتويت وجعك وحيرتك وضياعك وضميتك جوه صدري بكل الحنان اللي في الدنيا وفي الاخر واني في حضنك طعنتني في ضهري .


شحب وجهه أمام كلماتها التي اخترقت قلبه كالرصاص، لكنه تمسك بدوره في الإنكار، محاولاً استجداء قلبها الجريح:


ـ طب ليه الكلام ده كله يا حبيبتي ، أنا بحبك اكتر مانتي بتحبيني وعاشقك وعشقك موصوم جوة قلبي ، بصي في عيوني يا فريده وانت هتشوفي لمعتهم في قربك مني ، حطي سمعك على قلبي وانت هتسمعي دقاته وهو بيقسم بعشقك والله العظيم كل الكلام اللي في دماغك اوهام ليه رجعت لك ثاني انا مش فاهم ؟


صرخت عيناها قبل صوتها وهي تحدق فيه، وكل خلية فيها تصرخ بالخذلان:


ـ ما هو الغريبه انك طلعت ممثل شاطر جوي جوي اني مش فاهمه كيف نظره عينيك اللي بشوفها و بتبص لي بيها دي تبين انك دايب في هوايا ويستحيل تعرف ست ثانيه غيري ودجات جلبك ازاي بتدج في جربي وانت بتخوني وده يدل على حاجه واحده ان اني ما بفهمش في الحب او طلعت عيله صغيره انضحك عليها بكلام موهوم لحد ما صدجت انك فعلا هتحبني وهتعشجني وما هتشوفيش في الدنيا غيري ، انت علمتني درس ان نظرات العيون خداعه ودجات الجلوب زي ما بتدج بالعشق بتدج بالخيانه والشر اتعلمت منك درس عمري كلاته .


كان قلبها يتفتت وهي تسمع صوته وهو يحاول الدفاع عن نفسه وكأنه بريء، في حين كانت الحقيقة تنغرس في صدرها كخنجر بارد، كل نَفَس منه يجرحها، وكل كلمة ينطقها تزيدها يقينًا أنه يخادعها، دموعها تنحدر بلا توقف وهي تشعر أن روحها تُنتزع منها قطعة قطعة:

ـ لا يا فريده نظرات عيوني ليكي مش خدعه لو ما كانتش صادقه ما كانتش وصلت لقلبك ولو ما كانتش دقات قلبي بتنطق بعشقك ما كنتيش صدقتيها ولا كان قلبك حبني اصل امر الحب بيقول كده ان كل اثنين بيحبوا بعض بيبقوا عارفينه مصدقين ومامنين بكده .


انفجرت بضحكة ممزوجة بمرارة ووجع، ضحكة لا تحمل سوى اليأس من تصديق كلمة واحدة منه، وكأن كل ما بينها وبينه صار رمادًا، حدقت فيه بعينين متورمتين من البكاء وصوتها يرتعش وهو يحمل وجعًا لا يُحتمل:


ـ أمر الحب اه ! لساتك هتكمل خداع معاي لساتك هتجول وماله هضحك على عقلها بكلمتين زي كل مره وهتصدجني، لساتك هتفتكرني هبله وعبيطه وهصدج الاعايبكو توسلاتك اللي انت بتمثلها علي خلاص يا فارس الجلب الكبير اتكسر وبقى ضعيف والحب بجي بالنسبه لي معاك وهم كبير المفروض اطلع حالي منيه .


شعر بعجز غريب أمام انكسارها، مد يده وكأنه يحاول الإمساك بخيط أخير يربطه بها، وصوته يحمل استجداءً غريبًا:

ـ انا نفسي افهم ايه اللي غيرك بالشكل ده ايه اللي قلبك تاني وخلاك تفتكري الحاجات الصعبه دي ارجوكي فهميني انا مش فاهم حاجه ؟


كانت تحدق فيه بذهول، كأنها لا تعرفه، كأن الرجل الذي أمامها ليس زوجها الذي أحبته، وتكلمت وهي تكاد لا تلتقط أنفاسها:

ـ إنت عارف نفسك عامل كيف؟ جاسي جوي، وفي نفس الوقت بتعرِف تبجى ناعم لدرجة تخلّي أي حد يصدجك.


اقترب خطوة وصوته مبحوح يحمل خليطًا من الدفاع والجرح المصطنع، لكنه لم يجد سوى عينيها المملوءتين بالخذلان:


ـ قاسي؟ أنا يا فريده ده انا حبيتك من كل قلبي واديتك من حبي وسبت حياتي كلها في مصر وقلت اعيش جنبك ووهابتك كل وقتي انتي وبنتنا انت اكيد غلطانة .


صرخت به وهي تلوّح بيديها المرتجفتين، ودموعها تنهمر كالسيل، كأنها تريد أن تمحو صورته من قلبها:

ـ أيوه ايوه ، صوح نبرتك دلوج نبره المكارين .. بتضحك في وشي وتخليني أصدجك، وتدمع جدامي وأجري زي الهبله من طيبتي أطبطب عليك.. وفي الآخر كله كدب ، كله خيانه وبجى كلي جهر ووجع ، منك لله ، منك لله .


تراجع خطوة وهو يحاول التمسك بخيط آخر من دفاعه المستميت، صوته يرتجف لكنه لا يزال يحاول التلاعب بعاطفتها:


ـ إنتِ فاكرة إني بلعب بيكي؟ طب هعملها ازاي يا فريده انتي النفس اللي بتنفسه انت كل حاجه ليا في الدنيا انا من غيري أضيع من غيرك ما ليش مكان ولا عنوان كل مره هقول لك الكلام ده .


أطبقت شفتيها للحظة، ثم انطلقت كلماتها كالرصاص، كل حرف منها كان ينزف من قلبها المجروح:

مش فاكرة ايه؟! أني متوكدة، والمره دي بالذات اكتشفت إن العيون اللي كنت بحبها ممكن تخوني بالشكل الفظيع دي .


ارتبك وهو يحاول إقناعها بالصوت الذي كان يومًا يذيب قلبها، لكن الآن صار صفيرًا أجوف:


ـ إنتِ مكبرة الموضوع واكيد انت فاهمه غلط صدقيني .


هزت رأسها بعنف والدموع تغرق وجهها، صرخت وهي تشعر أن الأرض تدور بها:

ـ لاه، إنت اللي مصغّره.. إزاي جلبك اللي كان بيجول لي إنه بيحبني يبجى هو نفسه اللي بيدوس عليّ النهارده وبيعرف غيري ؟!


كانت الدموع تملأ عينيها وهي تنظر إليه بصدمة قلب منكسر، لا تصدق كيف يمكن لرجل أحبته أن يطعـنها في ظهرها. ارتجفت شفتاها وهي تسمع صوته يعلو بنبرة دفاع مرتبكة:

ـ ما تقوليش كده ،أنا بحبك انت وعمري ما اشوف ست غيرك انت موهومه .


هزّت رأسها بألمٍ وهي تشعر أن قلبها يتمزق من الداخل، وأنها كانت تعيش في وهم كبير:

ـ كنت موهومة انك هتحبني؟! وأنا صدجتك من غير ما أسأل ولا أشك، كنت بعيش ليك ولبتنا مش لنفسي.


تنهد "فارس"بعصبية وهو يحاول تهدئتها، بينما كانت هي تزداد انكساراً مع كل كلمة:

ـ طب ممكن تهدي وتقولي انا عملت ايه لده كله على فكره الحب اهم حاجه فيه الصراحه .


رفعت عينيها المبللتين بالدموع، وفي قلبها صرخة موجوعة، مؤكدة أن الحب الذي تعرفه لا يشبه أفعاله:

ـ ايوه صوح الصراحة ، يعني الحب مش خيانة، الحب مش إنك تسيبني أعيش في حلم وتصحيني منه بصدمة، واذا كان على الصراحه فدي دورك انت يا ابو بتي .


حاول التمسك بصورته في قلبها، وكأنه يذكّرها بمن هو:

ـ ابو بنتك وبس ! أنا فارس يا فريدة ، حبيبك وقلبك وحبك الحقيقي وانتي كدة بتظلميني .


لكن "فريدة" شعرت أن ظلم النفس كان منها لا منه، وأنها وثقت بمن لا يستحق:

ـ لااه ، اذا كان على ظلم النفس فاني اللي ظلمت حالي لما سلمتك جلبي من غير ما أتأكد إنك تستاهله.


اقترب منها معتذراً في محاولة يائسة لتبرير نفسه، بينما وجعها يزداد احتراقاً:

ـ طيب أنا آسف وحقك عليا لو زعلتك في حاجه من غير ما اقصد بس اكيد انت فاهمه غلط ؟


صرخت به وهي تبلع دموعها، تتذكر كل لحظة حب وهبتها له وانقلبت إلى خيانة:

ـ آسف؟! بعد ما خلّيتني أحبك وأسيب الدنيا كلها عشانك.. تيجي تجولي آسف بعد ما كسرتني ازاي جالك جلب تعمل فيا اكده كيف جالك جلب تحضن ست غيري وتجول لها انك بتحبها زي ما بتحبني ازاي جالك جلب تقول لها ريحتك حلوه وانك وحشتيني ازاي جالك جلب تخدعني بالشكل الكبير ده، منك لله .


ارتبك "فارس" وهو يحاول إنكار كل شيء والتشكيك في مصادر كلامها، بينما قلبها كان يتفتت ألماً:

ـ لا بقى انا زهقت من طريقتك دي انت لازم تفهميني انتي جبت الكلام ده منين انا نفسي افهم مين اللي بيقول لك الحاجات دي ده انا مصور لك نفسي وانا في المؤتمر ومصور لك نفسي وانا بجيب المعدات وكنت بكلمك اغلب الوقت بطلي بقى شك بطلي تدخلي الخيانه في حياتنا علشان خاطر تهدمي كل الحب الكبير اللي بينا وانت عارفه وواثقه اني بحبك يا فريده.


نظرت له نظرة قاسية كسيف، وألقت أمامه الدليل الذي لا يستطيع الفرار منه:

ـ بطل كدب بجى طلع الساعه اللي في يديك دي وافتحها وافتح البرنامج اللي بيربط ما بيني وما بينك اللي اني منزلاه عندك من غير ما تعرف ولا اجول لك سيب الساعه وتعالى وانا اسمعك قصه الحب العظيمه اللي بينك وبين البرنسيسه بيري .


ارتسمت على وجهه علامات الدهشة والارتباك وهو يحاول التملص:

ـ بيري مين انتي اكيد غلطانة ؟


لكنها لم تترك له مجالاً للإنكار، وكلماتها كانت تنزف وجعاً واحتقاراً:

ـ لاه مش غلطانة واني عارفة اني هقول لك ايه كويس بطل تمثيل اكيد دي واحده منيهم عجبتك علشان اسمها على اسم امك الله يرحمها وهي طبعا ما صدجت لجت واحد بيريل عليها مسكت فيك بايديها واسنانها حتى وهي عارفه انك متجوز ومخلف ومهمهاش انها تهدم بيتك وتبعدك عن مرتك وبتك علشان خاطر تجول لك انا موافجه ابجى معاك وهي كمان موجوده يعني انا كمان اللي بجى يتوافج على وجودي معاك مش هي.


شعر بالصدمة من أسلوبها الحاد، وتمسك بحجة أخرى فارغة محاولاً تحويل دفة الحديث:

ـ ايه ده انت بتتصنتي عليا يا "فريدة" ركبتي لي برنامج في الساعة تصنت وعرفتي انا بعمل ايه؟! ازاي جالك قلبي تعملي معايا كده؟


نظرت له بعينين دامعتين ملتهبتين من الألم، مستغربة كيف يتجاهل الخيانة ويتمسك بالتافه:

ـ اه هو دي اللي فارق وياك ان اني كيف جالي جلب اتجسَس عليك؟!

انت مش مستوعب انت سبت الموضوع الأساسي وبتمسك في ايه سبت خيانتك ليا وبتسال عن ايه ؟


اقترب منها بعصبية يفتش عن مخرج، متهماً غيره بأنه سبب ما يحدث:

ـ انطقي يا "فريدة" عرفتي حوار الساعه ده منين انا كده بقى فهمت فهمت اللي خلاك تشكي فيا وتجري ورايا وتقلبي في كل حاجه تخصني وتحطي ودانك وتسمعي وتشوفيني انا بعمل ايه وبتكلم مع مين اكيد فيها عماد لانك ما تعرفيش حوار الساعات والحوارات اللي كلها خبث دي وهو اللي اكيد وصل لك الساعه دي وهو اللي دخل في دماغك اني بخونك ما انا عارفه من زمان .


رفعت رأسها بإصرارٍ موجوع، تؤكد أن لا شيء يهمها سوى طعنته القاسية:

ـ كل اللي انت بتجوله دي ما يفرجش معاي ولا له لازمه بالنسبة لي عرفت منين او مين اللي جاب لي دليل خيانتك ليا وكسرتك وجهرتك لجلبي كل دي تحت رجلي، كل اللي يفرج معاي ان جوزي ابو بتي حب عمري اول دجات جلب، و اول نظره عشق مني وهبتها له طعني في ضهري وخاني .


هتف برجاءٍ مرتعش يحاول التمسك بأهداب حب يظنه ما زال قائماً:

ـ صدقيني يا "فريدة"ما تسمعيش كلام "عماد" ولا حتى الكلام اللي انت سمعتيه مني انا عمري ما اقدر اخونك ولا عمري اقدر اعرف ست غيرك انت فاهمه غلط .


صرخت به بصوت ممزوج بالقهر والخذلان، تريد إجابة صريحة منه:

ـ فاهمه غلط ! فاهمه غلط! انا زهجت ،طب ما تفهمني الصح فهمني انت ليه بتعمل اكده او عرفني على الست اللي انت بتعرفها وانا اشوف فيها ايه زياده عني خلاك تعمل معايا اكده ده انا عمري ما جصرت معاك في حاجه عمري ما رفضت لك طلب عمري ما حوشت حضني ولا حناني.عنك وكنت معاك رقيقه زي النسمه وكنت بالنسبه لك امان وسكن وسكينه وفي الاخر خدعتني وخنتني خيانه موتي اهون بالنسبه لي من اني اعيشها أو اشوفها .


مد يده نحوها يحاول تهدئتها، وامتلأ صوته بالقَسم والرجاء:

ـ بعد الشر عليكي يا نبض قلبي يا عمري كله يا اغلى حاجه في حياتي يا اللي عمري ما حبيت ولا هحب ولا هعشق ولا عشقت ست غيرك والله العظيم انت كل حاجه ليا انت وبنتنا.


أجابت بحزمٍ يائس وقد انطفأ نور قلبها نحوه:


ـ طالما مصمم انك تفضل جوه دوامة الكذب وانك ما تصارحنيش يوبقى انت من طريج واني من طريج وخلاص حياتنا مع بعض انتهت اني ما اجدرش اعيش مع واحد بوشين يجول لي كلام ويعمل عكسَه .


في تلك اللحظة لم تعد تسمع كلماته كما يريد لها أن تسمعها، كانت تسمعها كخدعة جديدة، كقناع يحاول أن يخفي وجهه الحقيقي. كان جسدها يرتعش وهي تستعيد كل كلمة قالتها له قبل لحظات، كل سؤال لم يجب عنه، كل نظرة رجاء منه لم تعد تؤثر فيها، قلبها الذي طالما احتضنه بلا حساب بات الآن متحجراً لا يقبل مزيداً من الخداع،

حاول أن يقترب منها خطوة، لكن نظرتها كانت صارمة كالسيف، جعلته يتراجع بلا وعي. أدرك أن فريدة لم تعد تلك الزوجة التي يقدر أن يلين قلبها بكلمة حب أو قسم غليظ.

انكمش صوته وهو يقول:

ـ هان عليكي تنطقيها يا "فريدة"؟! هان عليكي تطلبي مني انك تبعدي عني وتسيبيني ؟!، ما تعمليهاش وتسبيني ما اقدرش اعيش من غيرك انتي وبنتنا .


كانت يداها ترتجفان وهي تمسح دموعها بعصبية. لا تريد أن تضعف أمامه مرة أخرى، لا تريد أن تسمح لعاطفتها بأن تنتصر على كرامتها، أجابت بصوت مبحوح لكنه حاد، كمن يحكم إعداماً لا رجعة فيه:

ـ خلاص فات اوان الكلام ده وهتطلجني يعني هتطلجني .


شعر "فارس" كأن الجدران تسقط على رأسه، كأن الأرض تهتز تحت قدميه. لم يتصور يوماً أن "فريدة"، التي كانت له المأوى والسكينة، يمكن أن تتحدث بهذه القسوة. رفع صوته فجأة في محاولة يائسة للسيطرة على زمام الأمور:

ـ طب انت عايزه اعمل لك ايه واعمله لك غير الطلاق لاني عمري ما اعملها يا فريده وعمري ما هطلقك ولا هسيبك تبعدي عني .


كان صوته متكسراً، لم يعد "فارس" الرجل الواثق الذي تعرفه، صار رجلاً مذعوراً يخشى خسارة كل شيء،لكن "فريدة" لم تر فيه سوى رجلاً خان ثقتها وسرق قلبها ليكسره بلا رحمة،


كانت دموعها تسيل بغزارة، كل كلمة منه تزيد ألمها، وكل نبرة صوت يحملها تزيد قلبها تمزقًا، ورغم الانهيار الذي يسكن عينيها إلا أن صلابتها في المواجهة لم تتراجع، شعرت أنها أمام رجل لم تعد تعرفه، رجل يحاول شراء وقت، لا اعتراف. رفعت رأسها بصعوبة وقالت بحدة:

ـ والله بيدك تنهي كل حاجة وتعرِفني عليها وجتها برده هقرِر اذا كنت هكمل معاك ولا لا.


تراجع خطوة إلى الخلف، كان يمد يده إلى الهواء وكأنه يبحث عن قشة يتعلق بها، صوته يحمل رجاءً ممزوجًا بخوف دفين من خسارتها بالفعل:

ـ حاضر يا "فريدة" هخليكِ تقابليها وتتكلمي معاها بس ارجوكي تهدي ما تبكيش تاني بجد دموعك بيقطعوا في قلبي .


أغمضت عينيها للحظة وهي تكتم شهقة حارقة، إحساس الغدر ينهش قلبها بقسوة، لكنها رغم ذلك تماسكت بصوتها:

ـ تمام لحد ما تجيبها واشوفها ساعتها هنشوف موضوع الطلاج دي ولحد ما اشوفها برده ما ليكش صالح بيا عاد ولا تاجي ناحيتي ولا لسانك يوجه لي اي كلام .


ارتبك وهو ينظر إليها بعينيه الذابلتين، يحاول التمسك بشيء من الماضي، لكنه لم يجد سوى جدار بارد من الألم يفصل بينهما، صوته خرج متهدجًا:

ـ ما اقدرش يا "فريدة" ما اقدرش ابعد عنك ما اقدرش اشوفك وتبقي قدامي واتمنى حضنك وتبعدي عني ارجوك انا قلت لك هعمل لك اللي انتِ عايزاه بس من غير ما تبعدي عني ولا تحرميني منك .


أدارت وجهها عنه وهي تشعر أن كل ذرة فيه تكذب، كل كلمة منه محاولة لإبقاء قبضته عليها، لكن قلبها كان قد انكسر بما يكفي، نظرت إليه نظرة أخيرة مشبعة بالخذلان وقالت واني هكرر كلامي معاك:

ـ بيدك تنهي كل حاجه وتعرفني عليها وجتها برده هكرر اذا كنت هكمل معاك ولا لا.


            

               *********

استيقظت رحمة مبكراً قبل أن يصحو زوجها من نومه، كان الوقت يشير إلى السابعة صباحاً حين جلست على حافة السرير تفكر في جدول يومها المزدحم؛ بين جلسة المحكمة، ومكتبها، واجتماعات العملاء، وبين واجباتها تجاه ابنتهما من تمرين وحضانة وموعد الغداء، ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تقرر أن تعتمد عليه اليوم ليشاركها حمل المسؤولية،

تسلّلت بأنظارها إليه، كان نائماً بعمق، وجهه مسترخي كطفلٍ أرهقه اللعب، فاقتربت منه، وانحنت تداعب شعره بنعومةٍ بأناملها، كأنها تحاول إيقاظه برفق لتستمتع بدلاله الصباحي، ثم همست قرب أذنه بصوتٍ شهي كقطعة سكر:


ـ اصحى بقى يا كسول مش من عادتك النوم دي كلاته.


كانت تعرف أنّ صوته في تلك اللحظة سيأتي مثقلاً بالنعاس، لكنه لم يتحرك، تململ قليلاً دون أن يفتح عينيه، مدركاً أنّ هذه فرصته ليلهو بها، فادّعى النوم وتركها تعبث بخصلات شعره، أما هي فقد قرأت في ملامحه تلك النبرة العابثة التي لا تُخطئها، فابتسمت ماكرة، ووضعت يدها أسفل رأسه تداعب رقبته برفق؛ الحركة التي تعرف تماماً أنها تُثيره كلياً، فجأة، وبمهارةٍ خاطـ.ـفة، جذبها إليه حتى اعتلاها وكتّف يديها بحركة رجولية متقنة، وعيناه تلمعان بالمكر والعبث، وصوته يخرج ساخراً وهو يرفع حاجبيه بتحدٍ:


ـ انتِ كد الحركات داي وياي يا بت سلطان؟ مالك صاحية الصبح رايقة ودماغك طالبة دلع اياك؟


نظرت إليه بعينين ضاحكتين تحاولان إخفاء ارتباكها من فُجاءة حركته، وقلبها يطرق بعنـ.ـف من قوة سيطرته، فرفعت رأسها متحدّية صوته القوي قائلة بثباتٍ أنثوي رغم أنفاسها المتسارعة:


ـ وه هو انت مكتفني كيف الحرامية اكده ليه سيب يدي اني كنت هصحيك علشان ما تتاخرش على شغلك.


ازدادت ملامحه دهاءً، وشدّ قبضته على معصميها وهو يقترب أكثر، حتى كاد يسمع ارتجاف قلبها، قبل أن يهمس بابتسامة رجلٍ كشف ألاعيب محبوبته:


ـ وهو برده اللي نيته سالكة وبيصحي جوزه حبيبه يلعب في شعره ويتكلَم بنعومة ورقة زي اللي هتتكلَمي بيها، أني فاهمك كويس وفاهم الحوار كلاته اني الخط يا صغنن.


ابتسمت بخبث وهي تحاول التملّص من تحت جسده بلا جدوى، عينان تتحدّيان بريقه وتكشفان أنها رغم قوتها أسيرة لمكره، فقالت بصوتٍ يقطر أنوثة ودهاء:


ـ امممم.. طب فاهم ايه عاد يا متر قول اللي عنديك وأطربني.


مرّر نظراته على وجهها كمن يقرأ ملامح كتابٍ مفتوح يعرف تفاصيله جيداً، ومال نحوها أقرب حتى لامس بأنفاسه وجنتها ومرر سبابته على وجنتيها وهتف بنفس مكرها :


ـ فاهم انك اكيد قلتي اني واحشك وبقى لي كذا يوم ارجع القاكي نايمة فبتصعبي علي إني أصحيكي فالشوق غلبك وجابك حداي.


زادت ابتسامتها اتساعاً وكأنها تعترف من دون كلام، لكن كبرياءها الأنثوي جعلها تراوغ بإيماءة جانبية وصوتٍ يفيض بالسخرية اللطيفة:


ـ امممم... وه دي انت خُط بصوح ، طب قولي فهمت ايه تاني؟


ضحك ضحكة قصيرة تحمل نبرة الانتصار، عيونه تتقد ذكاءً وهو يضغط على معصميها أكثر كأنه يؤكد امتلاكه للموقف:


ـ لااااه ، انتِ بقي اللي تقولي رايدة ايه من الآخر يا بت "سلطان" علشان انتي عاملة كيف النحلة وأكيد لفلفتك حواليا الصبح اكده وراها مطالب هاتي ما عنديكي يا صغنن يا مكار انتَ.


لمعت عيناها بخبثٍ أنثوي، فردّت بصوتٍ ملون بالسخرية العذبة وهي تنظر له كأنها تكافئه على فراسته:


ـ حلوه قوي طلعت هتفهمني بحق الله انت ما فيش منيك يا حبيبي بجد كل يوم بتعلَم منيك ومن فطنتك انت كنز معلومات وذكاء وسرعة بديهة لأي حد.


تبدّل بريق عينيه من المزاح إلى الجدية وهو يقترب أكثر، نبرته صارت أثقل وكأن قلبه ينطق بحاجته قبل لسانه:


ـ طب بقولك ايه سيبك من التطبيل دي في موضوع مهم قوي عايزين نتناقش فيه دلوك طالما البال رايق لأنه موضوع مهم جدا بالنسبة لي.


حاولت أن تنسحب من تحت قبضته، ونبرتها تمازج بين الدلال والاعتراض وهي تُلقي برأسها للخلف:


ـ امممم.. طب سيبني انام جارك وفك التكتيفة داي عاد واتحدت براحتك وعلى كيفك.


اقترب أكثر وهو لا يترك لها منفذاً للحركة، عيناه تلمعان بتلك الرجولة التي اعتادت هزيمة عنادها:


ـ لااه الوضع دي عاجبني ومريحني قوووي ومش هنفضل نتحدت كَتير ونضيع سحر اللحظة.


رفعت حاجبيها بدهشة ساخرة وهي تتظاهر بعدم فهم مقصده، لكن قلبها فضح ارتباكها، وصوتها جاء متردداً بين التحدي والفضول:


ـ سحر اللحظة ، آااه! على اكده انت ناوي على ايه دلوك في حوار سحر اللحظة داي.


تجمّدت نظراته عليها للحظة وكأنه يقرر إيقاع خطوته التالية، ثم نطق بجملة رجولية قاطعة:


ـ لااه دي متتشرحش بالقول دي أفعال علطول وانتي عارفاني زين رجل أفعال لا أقوال بس خلينا في المهم ، اني عايز أخاوي "فيروز" كفاية انتظار لحد اكده.


شهقت بدهشة خفيفة لم تستطع إخفاءها، ثم رمقته بنظرة تمزج بين الحب والرفض، وردّت بصوتٍ يحمل ثقل المسؤولية:


ـ وه ! انت عايزني أخلَف تاني دلوك واني في عز شغلي ونجاحي والبيت والاهتمام بالبنت وبيك؟! لاه لا يمكن يوحصل اني مش مستعدة دلوك خالص يا "ماهر".


تبدلت ملامحه فجأة إلى الصرامة، وصوته حمل نبرة الرجل الذي لا يقبل نقاشاً في قراره، وهو يحدّق في عينيها بثباتٍ عجيب:


ـ ما هو مش بمزاجك يا قلب وروح "ماهر" اني اللي اقرر ، كفاية انتظار لحد اكده ولازمن تبطِلي الوسيلة اللي هتاخديها علشان عايز أخلَف تاني وأربي عيالي واني صَغير ، انتِ ناسية إن اني عديت الأربعين سنة وأني صَبرت كَتير ومش هصبر تاني أكتر من الوقت دي كلاته وجه قرار نهائي لا رجعة فيه.


ساد صمت ثقيل لثوانٍ، لم يكن صمت خلاف بل صمت رجل قرر أن يُنهي الجدال بطريقته الخاصة،كانت عيناه معلقتين بها، تحدٍّ رجولي ثابت يلتقي بعناد أنثوي لا يقل صلابة، لم تكن "رحمة" من النوع الذي يتراجع بسهولة، لكن قلبها يعرف أن ما يريده "ماهر" لا يقاوم، ليس لأنه يأمر، بل لأنه يملك تلك الطريقة الغريبة التي تجعل المرأة تستسلم له وهي تظن أنها ما زالت مسيطرة،

اقترب أكثر، حتى شعرت بحرارة أنفاسه على وجهها، وبتلك النبرة التي تجمع بين القسوة والحنان في آن واحد قال وهو يضغط على معصميها أكثر ليؤكد أنه لن يترك لها فرصة للهروب:


ـ "اني مش بطلب ،أني بقرر ،وانتي عارفة لما اقرر حاجة ما فيش قوة في الدنيا توقِفني، حتى انتي يا "رحمة" مش هتعرفي تمنعيني عن حلمي ولا تمنعيني عنك كمان دلوك .


ارتعشت أنفاسها رغم مقاومة قلبها، لم يكن خوفاً بل ذلك الإحساس المألوف بسطوته التي تعشقها أكثر مما تعترف، حاولت أن ترفع ذقنها عالياً، وكأنها تتحدى نبرته القوية بصلابة امرأة تعرف قدرها، لكنها لم تستطع منع ابتسامة صغيرة من التسلل إلى شفتيها، فمالت برأسها قليلاً وصوتها يقطر سخرية ودلالاً معاً:


ـ وه ! يعني شايف نفسك هتجبرني زي أي خصم في المحكمة؟ صدقني يا "ماهر" اني لو قاضية كنت حكمت عليك بالمؤبد في عشق رحمتك من أول يوم جواز.


اشتعلت عيناه بوميض ضحكة ساخنة لم تكتمل، ضحكة رجل أدرك أن أنثاه تختبئ خلف لسانها السليط لتغطي ارتباكها من قربه، مال أكثر، حتى صار صوته يلامس بشرتها قبل أن تلامسها شفاهه، وقال ببطء كمن يُنطق حكماً لا رجعة فيه:


ـ المؤبد معاكِ نعمة ،واني اخترت السجن دي ليا وحدي وياكي، بس المشكلة يا ست القاضية ان السجان نفسه واقع في حُب المسجون.


تجمدت نظراتها للحظة وهي تحاول إخفاء اضطراب قلبها، لكن صلابتها الأنثوية دفعتها لترد بنفس السخرية اللاذعة وهي ترمش بعينيها لتشتت تركيزه:


ـ كلامك حلو يا سيادة المتهم بس للأسف أني مش هبقى ضحية سهلة ولا هسلمك مفاتيح زنزانتي اكده ببلاش.


تبدلت ملامحه فجأة من المزاح إلى الجرأة، وكأن كلماتها أشعلت فيه نار التحدي، أرخى قبضته عن معصميها للحظة ثم عاد وأمسكها بشكل أقوى، هذه المرة ليس ليمنعها من الحركة بل ليشعرها أنه لا ينوي تركها تفلت منه ،عينيه اقتربتا أكثر، وصوته أصبح أخفض لكنه مشحون بنبرة رجل يعرف كيف يأخذ ما يريد:


ـ اني مش طالب مفاتيح الزنزانة يا صغنن اني ناوي اكسر الباب بيدي، وصدقيني لما أكسره مش هتعرفي تخرجي تاني ،انتي قضيتي الوحيدة اللي مش ناوي أطلع منها براءة.


قلبها قفز في صدرها، مزيج من الرغبة والخوف اللذيذ الذي يعصف بأنوثتها كلما تحدث بتلك القوة، شعرت بحرارة جسده تكاد تلتهم مقاومتها، لكنها رفضت أن تعترف بالاستسلام بهذه السرعة، فأدارت وجهها قليلاً وكأنها تتجنب عينيه بينما همست بصوتٍ مهتز لكنها تحاول جعله ثابتاً:


ـ انت فاكر اني هتنازل بسهولة إياك؟! مش كل مرة تنجح حركاتك يا "ماهر" ، اني عشقي جامح قوي يقدر يسحبك للعالم بتاعه وانت مدريانش .


ضحك ضحكة قصيرة عميقة، ضحكة رجل يعرف أن كل كلمة رفض تقولها لا تعني إلا مزيداً من الانجذاب نحوه، ضحكة بمعنى 'يتمنعن وهن الراغبات' اقترب حتى صار بينهما أنفاس مشتركة، وترك نظراته تتجول على ملامحها ببطء كأنه يحفظها من جديد، ثم قال بنبرة رجولية لا تحتمل نقاشاً:


ـ اني مش زي القضايا اللي بتكسبيها في المحكمة ،اني قضية مش هتعرفي تخرجي منها غير لما تخسري قلبك وخسارتك لقلبك دي مش هتحصول، لأنه أصلاً معاي من زمان.


في تلك اللحظة شعرت أن الأرض تميد تحتها، لم يكن حديثه مجرد كلمات بل إعلان ملكية صريح، فارتفع حاجباها بدهشة أنثى معتادة على أن تكون صاحبة اليد العليا، ومع ذلك وجدت نفسها محاصرة بكل شبر من رجولته، حاولت أن تداري ارتباكها فغيّرت نبرة صوتها لتبدو ساخرة، لكنها لم تستطع إخفاء ارتعاشة خفيفة فيها:


ـ بتتكلَم كانك ماسك عليَّ دليل إدانة، يا ترى هتعاقبني ازاي يا سيادة المحامي؟


لم يُجبها بالكلام هذه المرة، بل بالصمت الثقيل والنظرة التي تقول كل شيء، حرر إحدى يديها فجأة ليضع كفه على خصرها ويجذبها نحوه بعـ.ـنفٍ محسوب، حتى تلاصق جسديهما تماماً، شهقت بلا وعي وهي تدرك أن لعبة الكلمات انتهت وبدأت لعبة القلوب والأجساد، بصوتٍ خافت عميق قال قرب أذنها، ونبرته تحمل ذلك الإيحاء الذي يجعل الكلمات تلسع قلبها قبل جلدها:


ـ العقوبة مش بالكلام يا رحمتي العقوبة هتعيشيها دلوك وتحسيها بكل روحك وقلبك وكيانك ياقلب "ماهر" .


ارتجف جسدها رغماً عنها، وبرغم ذلك لم تفقد كبرياءها، رفعت وجهها نحوه وقالت بصوتٍ متحدٍ لكن مبحوح من شدة قربه:


ـ "ما تخوفنيش يا "ماهر" يمكن أطلع أقوى منيك ولو مرة.


ابتسم ابتسامة رجل يعرف أن تلك ليست سوى محاولة أخيرة للمقاومة، ثم اقترب حتى صارت شفتاه على بعد أنفاسٍ منها، وبلغة رجل يفرض سطوته العاطفية قال:


ـ جرِبي بس اكده واوعاكي تزعلِيني لو لقيتي نفسك بتترجّي الحكم يتنفذ بسرعة.


وقبل أن تنطق بكلمة، احتواها بين ذراعيه بقوة، حضن كاسح يشبه العاصفة، حضن رجل عاد من سفر طويل داخل قلبه ليجد بيته في عينيها، حاولت في اللحظة الأولى أن تدفعه بيديها، لكن دفء صدره وحرارة أنفاسه جعلا مقاومتها تتبخر تدريجياً،


بدأت أصابعه ترتحل على ظهرها ببطء، كأنه يرسم طريق رحلته الحالمة معها وكل حركة منه كانت تحمل رسالة غير منطوقة؛"لن أتركك حتى لو حاربتِني" أما شفاهه فصارت أقرب من أي وقت مضى، يقبّل كل ملمح في وجهها بعـ.ـنفٍ مشوب بالشوق، قبلة تملك رائحة الغياب الطويل ولون الرجولة الواثقة، قبلة رجل لا يساوم على حبّه،


كانت رحمة تتنفس بصعوبة، نصفها يريد أن تصرخ في وجهه بأنه عنيد، ونصفها الآخر يريد أن يذوب تماماً بين ذراعيه، ومع كل قبلة يطبعها على جبينها، على وجنتها، على عنقها، كانت كبرياؤها يتهاوى قطعة بعد أخرى، حتى لم يبقَ إلا قلب عاشق يعترف بالهزيمة في صمت،

وفي النهاية، حين التصقت أنفاسهما تماماً وصار صوت الهواء ونسيمه في الخلفية يرافق ارتجاف أنفاسهما، همست بصوتٍ يقطر استسلاماً وهي تتأوى بين يديه من قوته الشديدة عليها لجسدها الضئيل بين يديه :


ـ بالراحة علي يا "ماهر" هتكسِر في يدك .


ردّ بصوتٍ أعمق من كل مرة، وهو يضمها أقوى ويقبّلها من جديد:


ـ لااه ، قاومي ويا الأسد يا صغنن ، ولا لسانك دلوك جاب وره .


وبعد تلك اللحظات الحالمة من عمرهم كان الصباح قد اكتمل دفؤه بينهما بعد لحظات الشوق تلك، وملامح "رحمة" بدت أكثر إشراقاً وهي ما تزال محاصرة بعينيه، لم يكن "ماهر" رجلاً يتراجع بعد أن يحسم أمره، لكنه أيضاً يعرف كيف يستجيب لدلال أنثاه عندما تطلب شيئاً بطريقة لا تقاوم، وبينما كان يراقب ملامحها وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة بعد حضنٍ عنـ.ـيف لم يترك لها مجالاً للمناورة، باغتته بنظرة فيها كل أنوثة العالم وابتسامة تحمل نوايا لم يكشفها قلبها بعد،


رفعت رأسها قليلاً ومررت أناملها على كتفه في حنان متعمد، وكأنها تمسح آثار العناد الذي كان بينهما منذ لحظات، ثم قالت بنغمة هادئة تفيض دلالاً وهي تتظاهر بأنها تطلب شيئاً بسيطاً لا يستحق الرفض:


ـ بقولك يا "ماهر" اني النهاردة يومي مزنوق قوي ،عندي محكمة ومكتب ومواعيد ومش عارفة هوازن ازاي. كنت بفكِر لما اروح أجيب "فيروز" من الحضانة أعدّي بيها عليك في المكتب وانتَ توديها التمرين بدل ما ألف حوالين نفسي.


تأملها "ماهر" لبرهة، يعرف جيداً أن هذا الطلب الذي جاء بعد لحظات من الشوق ليس بريئاً تماماً، فهي تعرف كيف تلعب على أوتاره الحساسة بعد أن أذابت مقاومته أنوثتها منذ قليل، ترك نظراته تتنقل بين عينيها وشفتيها ببطء، ثم ابتسم ابتسامة رجل يقرر أن يمنحها ما تريد ليس لأنه مضطر بل لأنه مفتون بطريقة طلبها، وقال وهو يعقد حاجبيه بمكر مصطنع ليزيدها توتراً:


ـ وه ! يا سلام يعني بعد ما دلعتيني ودوّقتيني الهنا كله الصبح دلوك جاية تطلبي خدمات؟! انتي ست شاطرة قوي يا "رحمة" واني عارف دماغك زين، بس برضه هعمل اللي انتي عايزاه.


لمعت عيناها بخفة فرح، لكنها لم تفوّت فرصة لتزيد جرعة الدلال، فأمالت رأسها على كتفه واقتربت أكثر، وصوتها ينساب بنعومة مغرية كالموسيقى:


ـ حبيبي يا "ماهر" طب ما اني اكده ابقى ست شاطرة وعرفت ازاي أخطـ.ـف قلب جوزي وعقلَه .


شعر بحرارة كلماتها تتسلل إلى أذنه كتيار خفي لا يقاوم، فأطلق ضحكة قصيرة عميقة، ضحكة رجل يعرف أنه واقع في الأسر بإرادته الكاملة، ثم رفع يده ووضعها برفق على خدها وكأنه يعلن استسلاماً مؤقتاً أمام دلالها، وقال بصوت رجولي ثابت رغم العاطفة التي تملؤه:


ـ من عيوني يا صغنن هاتيها انتي المكتب وأنا أوديها التمرين ،


ثم غمز لها بشقاوة وهو يداعب خصلات شعرها:

ـ وعلشان الصباح أخر جمدان دي هروق عليك يا باشا وما هكسرش لكِ طلب.


رفرفت ابتسامتها كفراشة فرح وهي ترى رضوخه لمطلبها بهذه السهولة، لكنها لم تكتفِ بذلك، بل قررت أن تغلف شكرها بمزيد من الأنوثة الذكية التي لا يقدر على مقاومتها. اقتربت منه أكثر، حتى كادت أن تلامس شفتاها وجنته، وهمست بصوت خافت كنسيم الصباح وهي تلامس صدره بخفة:


ـ ربنا يخليك لينا يا روحي أني معرفاش من غيرك كنت هعمل ايه؟

ثم مازحته بدلال :

ـ بس إوعي تندم انك وافقت علشان ممكن كل يوم أطلب منك اكده.


رفع حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو يضغط ذقنها بين أصابعه ليجعلها تنظر في عينيه مباشرة، ثم قال بنبرة تجمع بين التهديد الرقيق والحب العميق:


ـ واني مبزعلش من طلباتك يا "رحمة" بس خدي بالك، كل دلال ليه تمن وانتي لسه ما دفعتيش تمن الدلع بتاع الصبح دلوك.


ازدادت ابتسامتها اتساعاً وهي تدرك أن اللعبة لم تنتهِ بعد، بل بدأت مرحلة جديدة من التحدي بينهما، حاولت أن تُظهر نفسها في موقع القوة فرفعت حاجباً وقالت بخفة:


ـ وه يعني هتفرض عليا ضريبة دلع يا متر؟! خلاص اعتبر نفسك قبضت مقدماً، ابتسامتي ليك كفاية ولا ازود كمان؟


لم يتحمل مزيداً من هذه المراوغة الأنثوية، فانحنى نحوها فجأة وأمسك خصرها بقوة ليقربها أكثر، حتى شعرت بدقات قلبه المتسارعة تلتحم بدقاتها، ثم أجاب بصوتٍ منخفض رجولي لا يحتمل لعباً:


ـ اني مش باخد ضريبة ابتسامات اني باخد حقي كامل ،وحقي مش هسيبه ليوم تاني استعدي يا صغنن. 


ضحكت ضحكة قصيرة وهي تحاول الإفلات من بين ذراعيه، لكن قبضته كانت محكمة بطريقة تحمل دفئاً أكثر مما تحمل عنـ.ـفاً ،لم يكن يريد إخافتها بل كان يذكرها أن رجولته لا تعرف المزاح حين يتعلق الأمر بها، شعرت بحرارة قربه من جديد وكأن اللحظات الأولى بينهما تعود لتشتعل مرة أخرى، لكنها لم تتوقف عن المراوغة حتى النهاية، فمالت على صدره وهمست بمكرٍ ونعومة:


ـ ماشي يا سيادة الحاكم ،بس لو اتأخرت على ميعادي بسببك هخليك تتحمل المسئولية كلاتها حتى لو اضطرينا نخلي "فيروز" نفسها تشهد عليك.


أطلق ضحكة عميقة وهو يضمها إلى صدره أكثر، ثم قبّل شعرها قبلة طويلة تحمل امتنان رجل لامرأة تعرف كيف تسيطر على قلبه بعنادها ودلالها في وقتٍ واحد. رفع رأسه ونظر إليها بعينين تلمعان بحب وشيء من التحدي:


ـ خليها تشهد يا رحمتي واني هخليها تقول ماما أحلى واحدة في الدنيا بس بتتدلّع قوي على بابا.


لم تستطع منع نفسها من الضحك وهي تضـ.ـربه بخفة على صدره، لكنه استغل تلك اللحظة ليحتضنها من جديد، حضن طويل عميق فيه كل الشوق والرجولة والامتنان ،لم يكن هذا مجرد اتفاق على توصيل طفلتهما إلى التمرين، بل إعلان حب جديد بينهما، حب يزداد قوة مع كل تحدٍ ودلال، وحب يعرف كل منهما كيف يفرض نفسه على الآخر بلا كلمة اعتذار واحدة.


وظلا على هذا الحال بضع دقائق، يتبادلان النظرات والابتسامات وكلمات الغزل المبطنة بالتحدي، حتى بدا الصباح وكأنه مشهد خاص بينهما لا يشاركهما فيه أحد.

في مساءٍ هادئٍ تتسلل إليه خيوط الضوء الشاحب من نافذة الغرفة، كانت "سكون" تمسك بالمكنسة وهي تزيل الغبار المتراكم على أركان غرفتهم هي و"عمران" كانت الأجواء بين المغرب والعشاء يغلفها شيء من السكون الموحش، فيما ينعكس ضوء القناديل القديمة على الحائط وكأنه يرسم ظلالاً مرتجفة،كانت ترتب الفراش وتعيد الملابس إلى مكانها وهي تحدث نفسها عن الراحة بعد يوم طويل،وبالتحديد في تلك الليلة فقد طلبها "عمران" اليوم بعد غياب عن أحضانه اكثر من ثلاثة أسابيع ،


لكن فجأة، وبينما كانت ترفع إحدى الوسائد عن السرير لتسوي الغطاء، سقط منها علبة دواء صغيرة استقرت على الأرض، انحنت لتلتقطها، وحين قرأت ما كُتب عليها، جحظت عيناها وتوقف قلبها لوهلة ،كان الدواء لعلاج مرض السكري من النوع الثاني، اسم تجاري معروف لا يمكن أن تخطئه العين، وقفت في منتصف الغرفة والعلبة في يدها، لا تدري كيف جاءت إلى هنا ولا لمن تكون ؟


شعور بالقلق بدأ يتسلل إلى قلبها، امتزج بالحيرة والخوف فتشت حولها بسرعة، بحثت عن أي دليل آخر، لكنها لم تجد شيئاً، تساءلت بصوت مرتجف وهي تضغط العلبة بين أصابعها:

ـ يا ترى دوا السكر دي بتاع مين؟ إزاي أصلاً موجود اهنه؟


لم تنتظر كثيراً والهواجس والقلق على عمرانها معشوق روحها بدأت تعبث بها ، فأمسكت هاتفها بسرعة وضغطت على رقم "عمران" وكان قلبها يخفق بسرعة وهي تستمع إلى صوت الاتصال المتواصل ، وأخيراً، جاء صوته عبر الخط، هادئاً كعادته، يحمل شيئاً من الإرهاق:

ـ ايوه يا "سكون" مالك ياحبيبي صوتك متوتر اكده ليه؟


ازدادت أنفاسها اضطراباً، فجلست على طرف السرير محاولة جمع نفسها قبل أن تنطق، لكنها لم تسيطر على قلقها:

ـ "انت فين دلوك يا عمران؟ اني محتاجاك ضروري حالاً، في حاجة مهمة قوي لازم نتحدت فيها وجها لوجه.


سكت لثوانٍ ثم رد بصوتٍ يحاول أن يبدو عادياً من لهجتها المتوترة وعلى غير المعتاد:

ـ اني في الاستراحة بتاعة الاسطبل قاعد اخلص شوية حسابات ودفاتر، خير في ايه؟ وشكلك متوترة اكده ليه؟


شدّت قبضتها على علبة الدواء وهي تقفز واقفةً من مكانها بعزم:

ـ تمام، استنى اني جاية لك دلوك حالاً، ما تسألنيش في ايه لما اشوفك هتعرِف كل حاجة.


أغلقت الخط بسرعة دون أن تترك له فرصة لمزيد من الأسئلة، وأسرعت بخطوات متلاحقة إلى الخارج، كانت العلبة في يدها كأنها تحمل سرّاً كبيراً، وكل خطوة تأخذها نحو الاستراحة كانت تثقل قلبها أكثر،


في الاستراحة، كان "عمران" يجلس على مكتبه الخشبي الكبير وسط دفاتر الحسابات وأوراق المزرعة، كان يحب إنهاء أعماله هناك بعيداً عن الضوضاء، وهو يراجع الأرقام بدقة ويفكر في الموسم الجديد للمحاصيل وتكاليف العمال، وهو لم يكن يتوقع أن يتغير هدوء ليلته فجأة ،

دقت "سكون" الباب ثم دخلت إليه ، رفع رأسه بسرعة حين رآها تدخل مسرعة ووجهها يحمل قلقاً لم يره عليها من قبل ،وضعت العلبة على المكتب أمامه بقوة:

ـ ممكن تقولي يا "عمران" دوا السكر دي بتاع مين؟ لقيته في الأوضة بتاعتنا .


حاول أن يبدو متماسكاً، مدّ يده وأخذ العلبة بهدوء مصطنع وهو يشيح بعينيه عن نظراتها القلقة:

ـ يمكن جه غلط من الصيدلية ما تكبرِيش الموضوع اكده.


لكن "سكون" تقدمت خطوة للأمام، وضعت يديها على المكتب ونظرت مباشرة في عينيه بعزمٍ وحزنٍ ممزوجين بالشك:

ـ لاه يا "عمران"، نظرة عينيك بتقول غير اكده، قولي الحق بالله عليك دوا السكر دي بتاع مين؟ ولا انتَ…


ارتبك "عمران" للحظة، عيناه تحركتا بلا تركيز كأنه يبحث عن مهرب من المواجهة ،حاول أن يرسم ابتسامة خفيفة ليكسر حدة الموقف:

ـ يا بنتي ما فيش حاجة، ما تكبريش الموضوع، يمكن حد… حد من الضيوف قبل سابق ناسيه.


لكن ارتعاش يده وهو يعيد غطاء العلبة لم يخفَ عنها، فشهقت بصوت مسموع وهي تضع يدها على فمها:

ـ "يا نهار ابيض! دوا السكر دي بتاعك انت يا "عمران"! وانتَ طول الوقت دي معرفتنيش عن اللي بيك وهتعمل نفسك كويس وما فيكش حاجة؟!


سقط الصمت على المكان كالصاعقة ،لم يعرف ماذا يجيب، واكتفى بالنظر إلى الأرض وهو يضم العلبة في كفه بقوة حتى كادت تنكسر، اقتربت منه خطوة بخطوة حتى وقفت إلى جواره، وعيناها تمتلئان بالدموع،


كان "عمران" طوال العامين الماضيين يخفي مرضه السكري عن الجميع، حتى عن أقرب الناس إليه، لم يرد يوماً أن يزعجهم بشأنه أو يقلقهم عليه ، أو يشعر أحد بأنه ضعيف أو مكسور بسبب ذاك المرض اللعين ،كان قوياً دائماً، يواجه الحياة بابتسامة رغم كل شيء، لكنه الآن أمام "سكون" لم يستطع الكذب أكثر،رفعت "سكون" صوتها قليلاً وهي تحاول أن تكتم بكاءها:

ـ ازاي تخبي عليا حاجة زي دي؟ انتَ عارف اني ممكن يجرالي ايه لو حوصلك حاجة؟ من ميته يا عمران حداك المرض دي ؟


أجابها بعيناي يملؤها الرضا بقضاء الله:

ـ من سنتين بس ؟


ـ وه ! من سنتين بحالهم يا عمران وانت حداك المرض دي ومهتقوليش عليه ؟ ... جملة استفاهمية نطقتها له بذهول وتابعت بصدمة :


ـ سنتين وانت ساكت؟ بتعالج نفسك لوحدك ومش عايز تقول لحد انك جالك السكر ؟


تنهد "عمران" بعمق وهو يحاول أن يتمالك نفسه، عيناه تلمعان بحزن لم يستطع إخفاءه:


ـ اني شايف تعبك مع الولاد ما حبيتش اشغلك معاي ولا احزن قلبك، ما كنتش عايزك تقلقي ولا تشيلي همي، السكر يا "سكون" مش نهاية الدنيا، واني راجل اقدر اشيل نفسي.


لكن كلماتها قطعت حديثه وهي تقترب أكثر، حتى أصبحت على بعد خطوة منه ولمعة الدمع ظهرت واضحة في عينيها :

ـ لاه يا "عمران" ، انتَ راجل صوح بس قلبك مش من حديد، ليه محسس نفسك انك لازم تشيل الدنيا لوحدك؟ انا اهنه جارك ولازم نكون سند لبعض وكل واحد فينا يرمي أوجاعه على التاني، ليه خبيت علي يا "عمران" حاجة خطيرة زي داي ؟

وازاي اصلا جالك قلب تخبي كل المده داي كلاتها علي ؟!


انخفض صوته وهو يشيح بنظره بعيداً عنها، كأنه يخفي دمعة عصية:

ـ "ما حبيتش اخليكي تشوفي ضعفي يا "سكون" اني طول عمري متعود اشيل الكل وما اخلي حد يشيلني ولا اتعِب حد معاي ، وكمان ابوي اللي على فراش المرض الشديد وامي مهيتحمَلوش واصل .


شعرت "سكون" بخوف شديد عليه، امتزج بالغضب من عناده ،وضعت يدها على يده بقوة حتى كادت أصابعها ترتجف:

ـ اني مصدومة انك ازاي قدرت تخبي علي الفترة داي كلاتها ؟

ازاي جالك قلب يبقى عنديك السكر وما تقوليش يا "عمران" اني بجد قلبي زعلان منك قوي .


ثم جذبته من يديه وهي تأمره بخوف على حالته :

ـ قوم دلوك لازم نروح للداكتور نطمَن عليك واني كمان اسمع منيه السكر عنديك كام ولازم أعرِف نظام غذائك، وأعرِف كل حاجة عنيك دلوك حالا يا "عمران" . 


لم يرد عليها، فقط ظل صامتاً وهو يشعر أن دموعها تكاد تسقط على يده، لأول مرة منذ زمن طويل شعر أن هناك من يخاف عليه بهذا الشكل الصادق وخصوصاً بسبب ابتعادها عنه ،

فحاول تهدئة الأوضاع ، 

كانت الاستراحة في ذلك الوقت غارقة في سكونٍ ثقيل لا يقطعه إلا صوت عقارب الساعة المعلقة على الجدار، ضوء المصباح الخافت جعل المكان يبدو كأنه لوحة مرسومة بالظلال والذهبي، 

فاقتربت منه ورمت حالها داخل أحضانه وهي تتمسح في صدره كالقط الوديع :

ـ تعرِف انت بالنسبة لي كل حاجة في الدنيا، بالنسبة لي الهوا والنفس اللي انا بتنفسه ومهما أبَعد عنيك شوي ، ومهما ظروف الحياة تلهينا عن بعض الا إن حبك في قلبي عمرَه ما قل ولا هيقل سنتي واحد ، بالعكس اني هحبك حب شَديد قوي يا "عمران" وما هتحمَلش فيك أي أذى واصل، اوعدني انك ما تخبيش عني حاجة تانية أبدا .


احتضنها هو الآخر بشدة حتى لم يعد بينهما إلا نفس متلاحق ، ثم رفع وجهه نحوها بعينين عميقتين كأنهما بحر يغرقها فيه.


ـ اطمَني يا "سكون" اطمَني يا حبيبي عمرانك بخير مش عايزك تقلقي من ناحية الموضوع دي، نص الشعب المصري حداه سكر عادي يعني بس الأهم من كل حاجة انك دلوك في حضني في الاستراحة بتاعتي واننا وحدنا ولازم استغل الفرصة داي قوي .


لم تمهله فرصة ليبتعد عنها ليسحبها إليه؛ كانت هي من اقتربت أولًا، لكنه أحاطها بذراعيه دفعة واحدة، شدد على احتضانه لها لصدره حتى شعرت أن عظامها تتلاشى تحت ضغط قلبه ،كان صوته يهمس قريبًا من أذنها، دافئًا وخشنا في الوقت نفسه، كأنه يغزل بها الأمان ويعاقبها على خوفها :


ـ هدي روحك يا حبيبي ،اني موجود قدامك بخير اها، ولا يوم هيبعدني عنك إلا الشديد القوي ، اني ماليش غيرك، ومش عايزك غير انك تكوني مبسوطة جنبي.


ارتجفت وهي تسمع كلماته تخرج بهذا القرب، ولم تستطع الرد للحظة، فاكتفى هو بابتسامة صغيرة وهو يرفع يدها إلى شفتيه، يقبّل أصابعها قبلة طويلة جعلت قلبها يختل:


ـ انتَ مش مقدر اللي اني حاسة بيه دلوك اني بخاف عليك بجنون يا "عمران" بخاف عليك اكتر من نفسي، وكل لحظةاحس بيها دلوك انك كنت هتتألَم من غيري واني ما عِنديش علم بيها بموت من جواي والله .

باغتها بقبلة ناعمة من وجنتيها ثم هتف بمكر :


ـ طب ما تيجي نطفي النـ.ـار اللي جواي دي دلوك يا روحي وانتي قربك مسكر يا سكوني وسيبك بقي من الحوارات داي ، عمرانك دايب وملهوف ومشتاق لقربك .


ثم جلس على طرف المكتب وسحبها لتجلس بين ذراعيه، حتى كاد أن يحيطها بالكامل، كأنه يريد أن يخفيها داخله، كان ينظر إلى وجهها نظرة عاشق يعرف أنه أمام الحياة كلها في صورة واحدة، أزاح خصلة شعر سقطت على جبينها، ومرّر أصابعه ببطء على خدها، حتى أغمضت عينيها من شدة القرب :


ـ انتي عارفة يا "سكون" لو بعدتي عني يوم، قلبي بيبقى تايه، اني مش قادر استغنى عنك لحظة واحدة ولا يمكن تتخيلي كل ليلة في بعادك بقضيها كيف ؟


جذبت يده وقبلت باطنها بنعومة وهمست برقة:

ـ واني كمان روحي متعلقة بيك، انت مش فاهم يعني ايه اني مش بس هحبك؟ لاه دي اني بتنفسك يا "عمران" .


اقترب أكثر حتى صار صوته يلامس شفتيها قبل أن تسمعه أذنها، وهمس بشيء لا يشبه الكلمات بقدر ما يشبه العهد:


ـ يا قلب عمران ونبضه وحياته يا كل حاجة حلوه في حياتي يا أجمل رزق ربنا بعته لي .


لم تستطع أن تمنع نفسها من أن ترفع يديها إلى وجهه، تمرّر أصابعها على خديه ببطء وهي تبتسم ابتسامة عاشقة رغم الدموع التي لم تجف بعد، كان يقترب منها أكثر فأكثر حتى صار لا مجال لهروب، ولا رغبة فيه ،

أمسك بيديها معًا، وضعهما على صدره ليشعرها بخفقات قلبه، ثم قال بصوت منخفض لكنه مفعم بالدفء:


ـ حاسّة دقّات قلبي وسمعاها؟ داي كلها ليكي بتأمرك بالقرب مني .


ـ وانا قلبي ما بيعرفش يدق غير ليك يا "عمران"


في تلك اللحظة لم يعد في الاستراحة أي شيء يهم سوى قربهما؛ الأوراق المبعثرة، الحسابات المؤجلة، حتى القلق الذي كان ينهش قلبها قبل دقائق ذاب تحت دفء حضنه؛ رفع وجهها نحوه مرة أخرى، لم يقبّلها مباشرة، بل ظل يطيل النظر إليها بعينين تقولان كل شيء دون كلام غير أنه ترجاها بيمين عاشق :


ـ تعالى ننسى الدنيا شوي اهنه… خليني احسسك قد ايه انتي وحشاني .


وضمها إليه بقوة أكبر، حتى كادت أن تختفي بين ذراعيه، وراح يمرر أنامله على شعرها بعدما خلع عنها حجابها وخدها ببطء، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يهمس:

ـ اجمل عيون في الكون عيون "سكوني" .


كانا يتحدثان بعينين أكثر مما يتحدثان بألسنتهما. لحظة حميمية صافية لا يشوبها سوى دقات قلبيهما، تركت الغرفة تغرق في دفء لا يوصف، 


كانت اللحظة بينهما تتصاعد كعاصفة لا هوادة لها، تتراكم سحب الشوق في فضاء ضيّق لا يتّسع لكل هذا العشق، والهواء نفسه بدا أثقل من أن يُستنشَق، اقترب "عمران" حتى غابت المسافة تمامًا، كأن الأرض ضاقت فلم يبقَ إلا قلبان يلتهمان المسافة بنبضٍ متسارع،

تدفقت حرارة أنفاسه على وجه "سكون" كاللهيب، وجعلت قلبها يتخبط كطائر محبوس يبحث عن منفذ للنجاة، لكن لا نجاة من هذا القرب إلا إليه ،عيناه كانتا عميقتين، قادرتين على اجتياح كل جدار أقامته حول خوفها، وكأنهما تقولان ما لا تستطيع الكلمات حمله،


اهتزّت ملامحها تحت لمسة يده، وهي تتنقل بين وجنتيها وخصلات شعرها ثم تنحدر إلى عنقها برفق العاشق المتيقّن أنه يملك العالم بين أصابعه، وبينما كان الليل يزداد سكونًا خارج الاستراحة، كانت دواخلها تمتلئ بصخب لا يُحتمل،

احتواها بذراعين كأنهما قلعة حصينة، يسند قلبها المرتعش إلى صدره المشتعل، وكأن دقات قلبه صارت الطبول التي تُعلن قيام معركة العشق، تحوّل الخوف إلى دفء، والصدمة إلى تيار جارف من الحنين الذي طال كبته،تقاطعت أنفاسهما حتى لم يعد أحدهما يعرف من أين يبدأ هو ومن أين تبدأ هي، كأنهما اندمجا في جسد واحد ونبض واحد، كان قربه لا يُقاوَم، وكان عهده الصامت أوضح من أي كلام؛ أن هذه المرأة روحه، ولن يسمح لشيء أن يجرّدها منه،

أغمضت عينيها تستقبل لمسته الحانية الممزوجة بالقوة، ولم يعد للعالم حولهما وجود، كانت اللحظة تتسع لتبتلع كل خوف قديم، وتزرع مكانه عشقًا أعنـ.ـف من العاصفة ذاتها،

ترك شفتيه تلامسان جبينها لمسة بطيئة عميقة، وكأنه يزرع وعدًا أبديًا هناك، قبل أن يعود بعينيه إلى عينيها ليُخبرها دون كلام أن كل لحظة بعيدة عنها موت، وكل لحظة قريبة حياة،

في تلك الثواني الأخيرة قبل أن تذوب الكلمات، كان كل شيء في المكان يتداعى لصالحهما، ضوء المصباح الخافت، ورائحة الخشب القديم، وحتى الصمت صار موسيقى حبّ جامحة تعلن أن عاصفة اقترابهم قد بلغت ذروتها،


شعرت "سكون" أن قلبها لم يعد ملكها، وأن "عمران" صار وطنًا لا يمكن الهروب منه ولا الرغبة في الفرار، أما هو، فكان يضمّها وكأنه يخشى أن تفلت منه إلى الأبد، فشدّ عليها أكثر، يذيبها في دفئه ويستسلم معها لانفجار الشوق،

وانتهت اللحظة على حافة الجنون، حيث لم يعد بينهما سوى الهمس والدفء والعاصفة، معلنة أن حبّهما أكبر من أي خوف وأقوى من أي سرّ فكان ولا يزال عشق العمران وسكونه اعمق من أي خوف ويكسر كل الحواجز مهما كان صدها .


                  *******


كانت الساعة تقترب من الثالثة عصرًا، والشمس ما زالت ترسل خيوطها الذهبية على المدينة، أنهت "رحمة" اجتماعها الأخير في المكتب وقد بدا عليها الإرهاق من ضغط اليوم، لكن قلبها كان خفيفًا وهي تعلم أن بعد دقائق ستضم صغيرتها "فيروز" بين ذراعيها، قادت سيارتها بسرعة معتدلة نحو الحضانة، تراجع بعض الرسائل على هاتفها وتتصل بمكتب "ماهر" لتطمئن أنه موجود قبل أن تصل،


دخلت إلى الحضانة، فركضت الصغيرة نحوها بفرح طفولي جعل قلبها يذوب حنانًا، حملتها وقبّلت خدّيها مرارًا، ثم أنزلتها على الأرض وهي تبتسم لها وهي تعلمها أنهن ذاهبتان لرؤية والدها، توجهتا معًا إلى برج المكتب الذي يعمل فيه "ماهر"، وصعدتا إلى المصعد المخصص للزوار، كان هادئًا وواسعًا، ولا يوجد فيه أحد غيرهما، فشعرت "رحمة" بالراحة، وأخرجت هاتفها لتراجع بعض الرسائل الهامة التي تخص موعدًا آخر بعد ساعة،


انشغلت عين "رحمة" بالشاشة، وفي تلك الأثناء بدأت "فيروز" الصغيرة تتحرك بخفة، تستكشف أزرار المصعد كعادتها في حب اللعب بكل ما هو مضيء، لم تنتبه الأم لحركات ابنتها إلا حين شعرت بها تقترب من الباب لحظة إغلاقه، لكن الوقت كان أسرع منها؛ وضعت الصغيرة يدها في الحافة المعدنية للمصعد دون قصد، فانحشرت فجأة وهي تصرخ صرخة عالية مزّقت سكون المكان،


ارتبكت "رحمة"، وأسقطت الهاتف من يدها وهي تحاول سحب يد طفلتها بكل قوتها. شعرت بأصابعها الصغيرة تكاد تنخلع من مكانها بينما الباب يطبق بلا رحمة، ضغطت "رحمة" بجنون على الأزرار لإيقاف المصعد لكن دون جدوى، والطفلة تصرخ بصوت عالٍ يكسر القلب، بدأ المصعد في الحركة للأسفل، وزاد الموقف خطورة، فدموع "رحمة" انهمرت وهي تصرخ طالبة النجدة بلا وعي،


وصل المصعد إلى الطابق الأرضي أخيرًا، وهرع بعض الموظفين والحراس عند سماع الصراخ،كان "ماهر" يقف قرب الاستقبال ينتظر وصولهما، وفوجئ بالضجة تقترب مع نزول المصعد، وما إن فتح الباب حتى اندفع مذعورًا نحو طفلته ورآها بين ذراعي "رحمة" تبكي بحرقة ويدها متورمة بشكل مخيف،


بلا كلمة واحدة، جذب "ماهر" ابنته من بين يدي أمها وركض بها خارج المبنى بسرعة جنونية، بينما "رحمة" تتبعه وقد اختلط خوفها بارتباكها وعجزها عن تفسير ما حدث، قاد سيارته بنفسه إلى المستشفى، وفي الطريق كانت "فيروز" تصرخ من شدة الألم بينما يحاول تهدئتها بصوت مبحوح:


ـ "اهدي يا حبيبي.. بابا معاكي ، هنوصل حالاً يا روحي.


لم تتوقف دموع "رحمة" طوال الطريق، تمسك بيد الصغيرة وتحاول أن تدعو الله في سرّها ألا يكون الضرر كبيرًا، وصلو إلى الطوارئ، فحمل "ماهر" طفلته بين ذراعيه واقتحم قسم الاستقبال كالإعصار،

وقف بلهفة في غرفة الكشف وهو يراقب الأطباء يجرون الفحوصات على يد "فيروز" مرت الدقائق كأنها دهر كامل حتى خرج الطبيب وأخبرهم أن الإصابة قوية، لكن العظام سليمة، وهناك تمزق شديد في الأربطة بسبب قوة الشد، ويجب التدخل بسرعة لعدم حدوث مضاعفات،


جلس "ماهر" على الكرسي وهو يضم وجهه بين كفيه للحظة محاولاً استيعاب ما حدث، ثم رفع رأسه فجأة وحدّق في "رحمة" بنظرة نارية مشحونة بالقلق والغضب معًا، وقال بصوت جهوري متقطع من شدّة الانفعال:


ـ "ايه اللي حوصل يا "رحمة"؟! "فيروز" ايديها كيف اتزنقت اكده كيف؟!


تلعثمت "رحمة"، وهي تمسح دموعها بيد مرتجفة، ثم أجابت بصوت خافت تحاول أن تُظهر براءتها:


ـ ماعرفاش يا "ماهر" ... ما كنتش واخدة بالي.. كانت واجفة جنبي فجأة سمعتها بتصرخ، الأسانسير جفل بسرعة، أو يمكن الباب عطَل أو حاجة مش أني السبب .


ظل ينظر إليها طويلًا بعينين لا تحملان تصديقًا ولا اتهامًا مباشرًا، فقط مزيج من صدمة وخوف وغضب مكتوم، لم يشأ أن يفتح جدالًا وهي على هذه الحال، فاكتفى بالصمت حتى انتهى الأطباء من تضميد يد الصغيرة،


بعد ساعة، حين اطمأن الطبيب إلى استقرار حالة "فيروز" خرجوا من الغرفة كانت "رحمة" تكرر لنفسها مبررات ساذجة كي تهرب من تأنيب الضمير، تقول بينهما بصوت عالي وقد قرأت الاتهامات بعين "ماهر" ولو علم ما فعلته سوف يؤدي بها إلى جحيمه :


ـ يمكن الباب فيه خلل ، أو يمكن الأسانسير جديم، اني ما سبتهاش لوحدها.

لكن تلك الكلمات لم تنقذها من نظرات "ماهر" الصامتة،

تركها تتحدث ثم ذهب بهم إلى المكتب مرة أخرى وعاد إلى المكان الذي توجعت منه ابنته وأصيبت بذاك الحادث المؤلم، بينما فكر بعقلية المحامي الذي لا يقبل الغموض ،توجه مباشرة إلى مكتب الأمن وطلب مراجعة تسجيل كاميرات المصعد ،


وقف أمام الشاشة واللقطات تعرض المشهد القاسي ،"رحمة" منشغلة بالهاتف تمامًا، و"فيروز" تلعب قرب الباب، ثم لحظة الانغلاق والصرخات التي دوّت، لم ينطق بكلمة، لكن يديه قبضتا على ذراعي الكرسي بقوة حتى أبيضّت مفاصله من شدّة الغضب ونقل الفيديو على هاتفه ويبدو أن القادم عاصف لامحالة ،


عاد إلى السيارة حيث كانت "رحمة" تنتظر، وقد بدا على وجهها قلق شديد ممزوج بأمل أن ينتهي كل شيء دون لوم وهي تحتضن ابنتها فتح الباب وجلس بجوارها دون أن ينظر إليها، وظل صامتًا لبضع ثوانٍ، ثم التفت إليها بنظرة ثابتة وصوت منخفض يحمل في طياته غضبًا عميقًا لم تسمع مثله من قبل كي يسمع كذبها فيشتعل داخله وكأن صدره جمر من النـ.ـار:


ـ سؤالي للمرة الأخيرة انت كنت بتعملي ايه في الاسانسير وقت ما البنت ايديها اتحجزت في الباب ؟


حاولت التهرب، ترفع عينيها إلى النافذة كي لا تواجه نظراته، وأجابت بصوت متقطع وقد علمت انها وقعت في براثن غضبه وانها هالكة لا محالة:


ـ "ماهر" .. اني.. يمكن كنت برد على رسائل مهمة بس والله كانت عيني عليها ومعرِفش حوصل كيف دي ؟ 


قاطعها بصوت حاد وصراخ شديد كالصاعقة:


ـ بتنا كانت بتصرخ و ايديها كانت هتتخلع أو ممكن كانت تتـ.ـجطع لا جدر الله وانتي مشغولة في الموبايل! فاهمة يعني ايه يا هانم ؟


لم تستطع الرد، فغرقت في بكاء صامت وهي تدفن وجهها بين كفيها ،لم يكمل "ماهر" الجدال في تلك اللحظة احترامًا لحالة ابنته وصراخه سوف يفزعها ، لكنه حسم في داخله أن هذا الأمر لن يمر مرور الكرام، وأن تقصيرًا كهذا لا يليق بأم صغيرة وابنة محامٍ لا يقبل الخطأ أو الأعذار،


قاد السيارة بصمت، والهواء داخلها مشحون بغضب مكتوم وندم قاسٍ، بينما الصغيرة نائمة في حضن أمها بعد أن هدأ الألم قليلًا تحت تأثير العلاج كان المشهد كله درسًا قاسيًا لن يُمحى بسهولة من ذاكرة أي منهم،


بعد أن عادو إلي المنزل أخيرًا، كانت "فيروز" قد غلبها النوم من التعب والألم، حملها "ماهر" برفق شديد إلى غرفتها، قبّل جبينها وهو يتمالك دموعه على ما حدث لها بصعوبة بالغة، ثم غطاها جيدًا وخرج بهدوء كي لا يوقظها. أطفأ ضوء الغرفة وأغلق الباب خلفه ببطء، لكنه لم يغلق على قلبه الذي يغلي بالغضب المكبوت،

توجه بخطوات ثقيلة نحو الصالة حيث كانت "رحمة" تنتظر، متوترة، تقبض على كفيها وتتنفس بسرعة، كانت تعرف أن المواجهة آتية لا محالة، فوجه "ماهر" وهو داخلا عليها كان قاسياً كالحجر كما يدخل الجلاد على الآثم، وعيناه تعكسان غضباً هادئاً أشد وقعاً من أي صراخ، جلس في المقعد المقابل لها دون أن يتكلم، أمال جسده للأمام، شبك أصابعه بقوة، وظل يحدق في الأرض للحظة قبل أن يرفع عينيه إليها :


ـ اللي حوصل النهاردة دي ملهوش غير معنى واحد عندي غير انك ما تستحقيش الأمومة .


اهتزت ملامحها، حاولت أن تبتسم ابتسامة باهتة لتخفف حدة الموقف، لكنها لم تجد الجرأة، أنزلت نظرها إلى الأرض، ثم رفعت رأسها بسرعة محاولة الدفاع عن نفسها:


ـ اني عارفة اني غلطانة غلط شديد ارجوك يا "ماهر" الحمد لله البنت رجعت بالسلامة وان شاء الله ايديها تخف والله العظيم هخلي بالي بعد اكده اكتر من اللازم .

تجمدت ملامحه للحظة، ثم انحنى بجسده للأمام أكثر، وصوته صار أعمق وأكثر قسوة، وكلماته تخرج كالرصاص:


ـ اه بتحاولي تهوني على نفسك وتهوني عليا حجم الجرم العظيم اللي حوصل منك وانتِ مشغولة في ايه أهم من بتك؟! بنتنا كانت هتضيع وإنتي ماسكة الموبايل! دي مش غلطة صغيرة يا "رحمة" هانم داي كارثة.


ارتبكت أكثر، بدأت دموعها تنزل بلا إرادة، لكن دموعها لم تزد كلماته إلا صلابة، وقف فجأة، ودار في الغرفة بخطوات سريعة وهو يضغط على صدغه بيده كأنه يحاول منع انفجار غضبه، التفت إليها بعينين دامعتين لكنه لم يلن وحجم الألم يتصاعد في صوته وهو يتذكر مشهد ابنته وما حدث لها :


ـ أنا شوفت الكاميرات ، ما تجوليش أعذار واهية، شوفتك وإنتي واجفة، ماسكة الموبايل، مش شايفة بتك وهي بتلعب عند الباب ، شفتك وانتي عندك استعداد تبيعي الدنيا باللي فيها علشان نجاح الديفا "رحمة سلطان المهدي" امال ايه …


شهقت "رحمة" في صمت، كأن أحدهم لكمها بقوة، كانت تحاول أن تتكلم لكن الكلمات تخونها، ترفع يدها نحوه في محاولة استجداء:


ـ "ماهر" اقسم بالله مش قصدي ،اني غلطانة.. اني ...


قاطَعها صارخاً لأول مرة، صوته يهز جدران البيت:


ـ "غلطانة؟! وهل كلمة غلطانة دي هتخليني اامن على بتي معاكي تاني، طب المرة دي كانت هتفقد ايديها، المرة الجاية هتفقد روحها علشان انتي أم مش أمينة يا "رحمة" على بنتنا، انتِ منتيش ام من الاساس


تراجعت للخلف خطوة وجلست على حافة الأريكة والدموع تتساقط بغزارة، لكن "ماهر" لم يتراجع ،اقترب منها خطوة بخطوة، نبرته صارت حادة عميقة تكشف عن ألم أكثر من غضب:


ـ أني لو أطول اكسِر لك عضمك دلوك بين ايديا وادوجك من نفس الكاس والله لاعملها .


رفعت وجهها له أخيرًا، محاولة التمسك بأي خيط دفاع وهي تنتحب بشدة وقد علمت مدى الجرم التي فعلته بابنتها من اهمالها الجسيم:


ـ "ماهر" بالله عليك اسمعني.. والله اني اتعلَمت الدرس.. مش هتتكرر تاني، ارجوك سامحني.


ضحك ضحكة قصيرة مريرة وهو يومئ برأسه ساخرًا:


ـ "اتعلمتي الدرس؟! الدرس دي تمنه كان ممكن يكون إيه يا "رحمة"؟ تمنه يد بتنا؟ تمنه إنها تعيش بعاهة طول عمرها عشان شوية رسائل على الموبايل؟! 


سكت لحظة، يلتقط أنفاسه، ثم اقترب أكثر حتى صار على بعد خطوة منها، يحدق في عينيها مباشرة وصوته ينخفض لكنه يزداد خطورة وهتف بما جعلها انصعقت:

ـ انتِ طالق يا أكبر خدعة عشتها في حياتي ، طالق يا أكبر مقلب وكدبة في عمري كله .


انصعقت من نطقه لتلك الكلمة واهتز جسدها ذهولاً فآخر ما كانت تتوقعه هي سماع تلك الكلمة منه ، انها معشوقته وروحه ، انها من أخرجته من غياهب جُبِّ التيهة وذاق الغرام على يديها ، توسلته بعينيها ؛ كيف استطاع لسانك نطقها ؟

كيف طاوعتك شفاهك على التفوه بها ؟

فـأنا ، روحك وقلبك ، فـأنا من تتنفس عشقها وتهيم بغرامها ! لاااا قلبي انت لن تسمعها ، لا عقلي كذِّب أُذنيك فتلك تخيلات لا تصدق ، فنظرت إلى عينيه تتوسلهما فلم تجد منها إلا نظرات من لهيبها تكاد تـ.ـحرقها ، فابتلعت أنفاسها بصعوبة بالغة واقتربت منه وهي تتوسل إليه :

ـ لااااه ، اوعاك تعمل فينا اكده ؟!


ثم اقتربت منه والدموع تنهمر على وجنتيها وهي تضـ.ـربه بقبضة يديها الصغيرتين على صدره وصوتها على بعض الشئ:

ـ كيف جدرت تنطُجها ؟ كيف لسانك وقلبك طاوعك تجولها ؟ أني مصدومة فيك!


ما كان منه إلا أنه نفض يدها بحدة بالغة وهو يمسك بمعصمها بقوة جعلتها تألمت بشدة وألصقها بالحائط واقترب من وجهها مرددا بفحيح وكأنها في تلك اللحظة عدوته وليست زوجته بل ومعشوقته :

ـ كان لازم أجولها من زمان بس اتأخرت شوي ، كيف انتِ مستغرِباها يا جاحدة الجلب والاحساس ، وإذا كان على الصدمة فأنا مش أجل منيكي ، إنتي من النهاردِة ملكيش وجود في حياتي ورب اللي خلج الكون لا هندمِك على اللي حوصل وهخليكي تمـ.ـوتي في الساعة ألف مرة .

هبطت على ركبتيها وهي تتوسله وتستعطفه بدموع حـ.ـارقة:

ـ حجك علي ، اني عرفت غلطي ، وحياة كل اللي بيناتنا يا ماهر تسامحني ...

الفصل الحادي عشر من هنا



تعليقات