رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الحادي عشر 11 بقلم فاطيما يوسف


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الحادي عشر بقلم فاطيما يوسف



هبطت على ركبتيها وهي تتوسله وتستعطفه بدموع حـ.ـارقة وكانت منهارة تماماً، تهتز ملامحها كطفلة مذنبة وهي تراه أمامها صلباً لا يلين، فهوت على ركبتيها أرضاً، ودموعها تتساقط بغزارة على وجنتيها، وهي تمد يديها نحوه في استجداء يائس:

ـ حقك علي ، اني عرفت غلطي ، وحياة كل اللي بيناتنا يا "ماهر" تسامحني ، اوعدك ان عمري ما هغفل عن بتنا تاني بس بلاش تطلعني من حياتك .


وقف "ماهر" أمامها شامخاً وعيناه تقدحان شرراً، صوته كان كصفعة باردة لا ترحم، يختـ.ـنق بالغضب والخذلان.

ـ عمري ما هصدق وعودك تاني يا "رحمة" وعمري ما هسامحك على اللي انتِ عِملتيه في بتنا، ولا عمري هآمن عليها معاكي تاني، ولا عمري هقدر ابص في وشك، طلعتِ كذابة وخاينه للأمانة، انتِ صدمتيني فيكِ صدمة! ويا ريتك قلتي لي الحقيقة؛ لاه كملتي كذبك علشان خفتي على صورتك وشكلك قدامي، بس لساتك ما تعرِفيش اني مش سهل وخصوصاً اني عارف زين إنك مهملة واني هدور وراكي يا "رحمة" .


ارتجفت "رحمة" وهي تحاول التبرير، بعينين محمرتين من البكاء، وصوتها مبحوح يتوسل إليه بلا جدوى :

ـ يا "ماهر" والله انا كنت مركزة معاها ، كنت بس وقتها هرد على رسالة واتساب مهمة وكنت بصة معاها وما كنتش أعرِف ان هي حاطة يدها واني لما افتح الباب هتتزنق ،دي كلاته مقدر من عِند ربنا ومكتوب ليه عايز تدمر حياتنا بسبب قدر؟


اقترب منها "ماهر" خطوة تكاد تزلزل الأرض تحت قدميها، وصوته اشتعل غضباً حتى بدا كأنه يهدد الهواء نفسه :

ـ قدر مين يا هانم؟ ملعون ابو الرسايل على شغلك على مكتبك على على نجاحك الموهوم على الكل كليلة انب بتي أهم حاجة عِندي في الدنيا ،والمفروض توبقى أهم حاجة عنديكي انتِ كمان ، واظن اني نبهتك قبل سابق وقلت لك بتنا خط احمر وصبَرت عليكي بدل المرة ألف مرة ،

ثم تبدلت ملامحه الصلبة إلى متألمة وهو يتذكر ابنته الأولى حينما ماتت بين يديه وذكرى موتها تذكره الآن واشعل البراكين الخامدة داخله والآن انفجـ.ـرت في تلك المهملة وأكمل بفحيح:


ـ وقلت لك ان اني موجوع بسبب بتي الأولى لما ماتت بسبب اهمال أمها وانتِ عارفة كل حاجة واختارتي الطريقة اللي توجعيني بيها كويس ، ليه يا "رحمة" وجعتيني وبتوجعيني في النقطة اللي اني محذرك منها بالذات؟ 

ليه تخليني دايما خايف على بتي ومهموم وانها دايما في خطر معاكي ؟

عمري ما هسامحك يا "رحمة" عمري .


انكـ.ـسرت "رحمة" أكثر أمام كلماته القاسية، وارتفع نحيبها وهي تحاول التشبث بأي خيط أمل، يائسة أن تذيب غضبه المتجمد وتحاول الاقتراب منه كي تستجدي استعطافه ولكنه ما إن اقتربت منه ابتعد عنها وكأن لدغه عقرب :


ـ والله اني أسفة ، اني غلطانة والله ما هتتكرر تاني، حقك علي انت و"فيروز" اني ما اقدرش اعيش من غيركم يا "ماهر" ارجوك سامحني بس ما تبعدش عني ولا تسيبني.


أدار "ماهر" وجهه عنها بحدة ثم عاد لينظر إليها باحتقار لم تره منه من قبل، وصوته جاء صارماً كحكم نهائي:

ـ مش اني اللي هبعد عنك بس يا "رحمة" انتي ما لكيش بنت تاني اسمها "فيروز" روحي بقى لمكتبك ورسايلك ولنجاحك ولشغلك وعوضي فيهم نقصك وطلعي فيهم اهتمامك كله وبعدي عنينا .


شهقت "رحمة" في صدمة بالغة، قلبها يتفتت وهي تحدق فيه بعينين مذهولتين كأن الأرض سحبت من تحتها :

ـ انت تقصد ايه يا "ماهر"؟ انت عايز تاخد مني بتي كمان وتفرقني عنيها؟


رمقها "ماهر" بنظرة قاسية تقطر حنقاً، وصوته خرج ببرود قاتل جعلها تتجمد مكانها:


ـ اظن دي شيء مفروغ منه البنت انتِ ما انتيش فاضية لها ، اني بقعد وياها اكتر منك، وبشاركها تفاصيل حياتها اللصغيرة اكتر منك، للأسف ربنا اداكي ملاك ما قدرتيش تحافظي عليه بسبب تعلقك المريض بوهم النجاح والشهرة اللي في الآخر كلاتهم وهم ووقت وهيزول والحاجة الوحيدة والحقيقة اللي انتِ ما تعرِفيهاش ان الملاك اللي ربنا بعته لك وما حافظتيش عليها وأهملتِ فيها هي الحقيقة الوحيدة اللي دايمة ليا وليكي ، واني علشان عارف نعمة ربنا وعارف نعمة وجود بتنا في حياتنا علشان اكده اني هحافظ عليها وانتِ ما لكيش وجود في حياتنا احنا الاتنين تاني يا "رحمة" .


تقدمت "رحمة" نحوه خطوة كالغريق الذي يحاول التمسك بقشة، صوتها يتقطع وهي تصرخ في يأس :

ـ بأي منطق وفي أي دين وفي أي شرع تبعد بنتي عني؟ بأي قلب تقول ان مش اني اللي أربي بتي واني ما اشوفهاش تاني ؟!

لاه يا "ماهر" ما توصلناش للنقطة داي ارجوك .


ازدادت ملامح "ماهر" قسوة وهو يواجهها بعينين لا تعرف الرحمة، وصوته حمل تهديداً صريحاً كأنه سكـ.ــين يقطع الهواء"

ـ بمنطق بسيط جداً انتِ غافلة عنيه اني معاي الفيديو اللي حضرتك ماسكة فيه الموبايل وسايبه بتك في الأسانسير حواليكي تتنطط لحد ما ايديها اتزنقت في الباب وانتِ برده كنت ماسكة الموبايل لحد ما البنت صوتت واكتشفتي ان ايديها مزنوقة في الباب تصوري بقى لما نقدم الفيديو دي للمحكمة يا حضرة المحامية العظيمة ، ومش بس اكده هروح أجيب شهادة الناني اللي في المكان اللي رحنا فيه قبل اكده وشافت اهمالك لبتك بعينيها واعتراف بتك ليها انها ما ينفعش تنادي عليكي وانتِ ماسكة اللاب وهقلب عليكي الرأي العام وهسلط لجان السوشيال ميديا عليكي وهطلعك الشيطان ذاته،وهخليكي تندمي ندم عمرك وهخسرك كل حاجة لو ما بعدتيش عن البنت باختيارك علشان انتِ ما بقتيش أمينة عليها ، ويا عالم يمكن تكون البنت معاكي في مكان تنشغلي في تليفوناتك ورسايلك وتروح في شربة ميه وقتها برده هتقولي دي مقدر ومكتوب .


ارتعشت "رحمة" بشدة وهي ترفع يديها إلى وجهها باكية، لا تكاد تصدق أن قسوته بلغت هذا الحد وهي تستعطفه ببكاء شديد :

ـ لاه يا "ماهر" مستحيل تكون بالقسوة والجحود دي! مستحيل تعاقبني العقاب دي وتبعدني عن بتي ؟

مش كفاية انك بتدمر حياتنا كمان عايز تبعدني عن بتي وتحرم البنت من مامتها انت ازاي قادر بالشكل دي وقاسي اكده؟


اقترب "ماهر" أكثر حتى صار بينهما شبر واحد، وصوته صار أكثر قسوة وإيلاماً :


ـ اظن البنت ما تفرقش معاكي واظن ان أني لو سبتها لك لأني ما بقتش طايق ابص في وشك يا "رحمة" ولا طايق وجودك في حياتي واني لو سبت لك البنت عارف انها هتضيع، البنت أصلا من كتر رعبها منك ومنك مش فاضيه تتبادلي معاها الحوار زيها زي اي بنت بتحتاج امها ما بقتش تسأل عنيكي، ما بقتش محتاجكي كأم في حياتها، لأنها اتعودت منك على الخذلان ،

تقدري تقولي لي كنتي فين في عيد ميلادها من سبوع ؟ 

أو افتكرتيه أصلا لولا ان اني فكرتك بيه وقلت لك اني عامل عيد ميلاد للبنت وهاخدها واخرجها ما كنتيش افتكرتي، للأسف انتِ واخدة الدنيا فِردة وفاتحة صدرك قوي لنجاح شغلك ونسيتي انك ام، وعلشان نسيتي انك أم وعنديكي بت يوبقى انتِ ما تستاهليهاش، واظنك عارفه القاعدة اللي هتقول من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه وانت تعجلتي خراب بيتنا وضياع بتنا يوبقى عقابك انك تتحرمي منيها .


رفعت "رحمة" رأسها فجأة والدموع تملأ وجهها، وفي عينيها شرارة تحدٍ أخير رغم الانهيار:

ـ اني مش هسكت يا "ماهر" ومش هسيبك تاخد بتي مني وتحرمني منيها وما تخلينيش اشوفها تاني، المفروض بتي تنام في حضني وما تبعدش عني حرام عليك انا ما اقدرش اتحمل عقابك القاسي دي؟


ابتسم "ماهر" ابتسامة باردة كسكين حاد، صوته ينضح بالاحتقار والتهديد:

ـ أعلى ما في خيلك اركبيه يا بت "سلطان" ومش هتقدري تعملي معايا أي حاجة ،ولو عايزه فضايح نعلنها قضية رأي عام وتوبقى فضيحة معلمة في قلب بتك وعقلها لما تكبر وتعرِف ان ابوها وامها وقفوا قصاد بعض في المحاكم، لو عايزه لوي دراع انتِ مش هتقدري علي وانتِ عارفة اكده زين وعارفة انك مهما وصلتي لدرجة من النجاح مش هتقدري تاخدي مني حاجة اني ما اذنتلكيش بيها، والظاهر ان دلعي ليكي هو اللي وصلك للمرحلة داي وانك توبقي جبارة بالشكل دي وتفتري حتى على بتك وما تاخديش بالك منيها ، ومش بس اكده يا رحمة دي اني هقول لاخوكِ ولامك كل اللي حوصل وحياتنا ماشية كيف وهوريهم الفيديو للبنت وهي في الأسانسير وانتِ هتمسكي الموبايل، ومش بس اكده كل اللي حوالينا هيعرفوا قد ايه انتِ ام مهملة وما عِندكيش حتى إنسانية في ضناكي اللي ربنا اداه لك .


ارتجفت "رحمة" وهي تحاول التمسك بأي خيط أمل، وصوتها يتهدج برجاء أخير مذبـ.ـوح:


ـ انت اكده بتدمـ.ـرني يا "ماهر"، اكده هتقـ.ــتل كل حاجة حلوة بيناتنا ، ارجوك ما تخليش موجة الغضب والعصبية داي توصِلنا اني وانت لطريق مسدود، أرجوك يا "ماهر" تراجع عن اللي في دماغك؟


نظر إليها "ماهر" نظرة نهائية تحمل قراراً صارماً لا رجعة فيه، وصوته خرج كالحديد البارد:

ـ خلص الكلام وما فيش تراجع تاخدي من شغلك أجازة اسبوع تقعدي فيهم جنب بتك لحد ما تخف وبعدها هنسيب لك البيت اني وهي ونروح نشوف طريقنا في حتة تانية.


شهقت "رحمة" وهي تمسك بيده محاولة منعه من الرحيل، لكن صلابته كسرت يديها الممدودتين وهي تنزعج من قراره :

ـ بس اني ما اقدرش اخد أجازة من شغلي انت كده بتدمـ.ـرني اكتر وبرده مش هسيب بتي وهعرِف اخلي بالي منيها ؟


التفت "ماهر" بعيداً عنها ثم صـ.ـرخ بحدة وهو يلوح بيده في الهواء بعصبية جارفة:


ـ تصدقي بالله انك أكبر إنسانة مستفزة في الدنيا ، يلعن ابو القضايا اللي انتِ ماسكاها يا مستفزة ، غوري من وشي مش طايق اشوف وشك قدامي ولا طايق ريحتك ولا نفسك غوري من وشي .


هبط الليل على قلب "رحمة" كما لو كان جبلاً يطبق على صدرها، أغلقت باب غرفتها بإحكام وهي تحتضن ابنتها الغافية، وأسندت ظهرها إلى الخشب البارد بينما الدموع تنهمر بلا توقف، تتساقط حارّة على وجنتيها حتى شعرت بحرارتها تحـ.ـرق ملامحها. كانت كلمات "ماهر" ما تزال تتردّد في رأسها، قاسية، دامية، تحطم ما تبقى من صلابتها، أخذت تتحرك في الغرفة بخطوات متعثرة، تبحث عن مخرج وهمي من كابوسه الذي فرضه عليها، لكنها لم تجد سوى الفراغ الذي يبتلع صرخاتها الصامتة،

انكمشت على طرف السرير، تضم قدميها إلى صدرها كما لو كانت تحاول حماية نفسها من العالم بأسره، كانت تشعر أن الجدران تضيق من حولها وأن الليل يزداد وحشة وكآبة، بينما عقلها يعيد شريط المواجهة الأخيرة معها حرفاً بحرف، وصور "فيروز" الصغيرة وهي تصرخ من الألم تعصف بقلبها، تمزقه إلى أشلاء،


أمسكت وسادتها بين ذراعيها بقوة حتى كادت تخـ.ـنقها، وغرست وجهها فيها، تصـ.ـرخ بحرقة كي لا يسمعها أحد، كانت الدموع تختلط بأنفاسها المتلاحقة، تشعر أنها تفقد القدرة على الاحتمال، تتمنى لو تلاشى الكون كله كي لا تواجه نظرة "ماهر" الغاضبة ولا حقيقة تهديده الذي ما زال يرن في أذنها كالجلاد،


رفعت رأسها فجأة، مسحت دموعها بكف مرتجف، ونظرت إلى صورتها في المرآة المقابلة، فلم ترَ سوى امرأة شاحبة، منكّسة الرأس، عينيها متورمتين وخاليتين من أي بريق ،همست لنفسها بصوت مكتوم لم يخرج من حلقها ؛كيف وصلتِ إلى هنا يا "رحمة"؟ كيف صار أقرب الناس إليكِ سيفاً مصلتاً على عنقكِ؟


اقتربت من النافذة، فتحتها لتتنفس بعض الهواء، لكن البرد القارس لم يطفئ نار قلبها، زادها وجعاً، تساقط المطر خفيفاً وكأنه يواسيها، لكن لا المطر ولا السماء استطاعا غسل الألم الذي يعصف بداخلها،عادت إلى السرير منهارة، أسندت رأسها إلى الجدار، وأطبقت جفنيها بقوة، تتوسل ربها أن يرفع عنها هذه الغمّة وأن لا يحرمها من ابنتها، فالخوف من فقد "فيروز" صار أشد من الخوف من فقد حياتها كلها،


وفي تلك اللحظة، تعهدت بصمت أن لن تدع "ماهر" ينتصر في معركته ضدها، لكنها لم تعرف كيف ستواجهه أو كيف سترد ضرباته؟ كل ما كانت تعرفه أنها تذوب من الداخل، وأن قلبها صار هشاً، قابلاً للانكسار مع كل كلمة، ومع ذلك ما زالت تحبه حدّ الجنون، وهذا ما كان يزيد وجعها ضعفاً فوق ضعف .


              **********


كان "آدم" يجلس في غرفته بالفندق وهو يحاول ترتيب أفكاره، شعر بحنين جارف لصوت زوجته "مكة" فأمسك بهاتفه واتصل بها وعيناه تلمعان بالشوق وهو يستعيد في ذاكرته تفاصيل الموقف الذي حدث في الطائرة ذلك الموقف الذي لازال يثير داخله غضبًا صامتًا ممزوجًا بالخجل والضيق:


ـ صحيح يا "مكة" في حاجة نسيت اقول لك عليها لما كنت في الطيارة قبل ما اوصل حصلت معايا ومش عارف نسيت ازاي أحكيها لك؟


في بيت والدتها جلست "مكة" وهي تحتضن صغيرها بعينيها وتضع الهاتف على أذنها كان قلبها مفعمًا بالشوق والقلق وشعرت بفضول مفاجئ لمعرفة ما يريد "آدم" إخباره به فانعكس ذلك في لهجتها التي تحمل شيئًا من الدعابة الممزوجة بالاستفهام الحاد:


ـ أمممم ... اعترف ايها الـ"أدم" باللي انت عميلته ونسيت تحكيه لي كيف اصلا تنسى تحكي لي حاجة مِهمة حوصلت وياك.


شعر "آدم" بضحكة خفيفة تنفلت من صدره رغم توتره فقد أحب طريقة مزجها بين الحب والغيرة والجدية أراد تهدئتها قبل أن تنفعل أكثر فأخذ يروي لها الموقف بنبرة هادئة:


ـ يا بنتي سيبك من طريقة المخبرين وطريقة المفتش كرومبو دي هكون عملت ايه يعني المهم يا ستي وانا في الطيارة اول ما ركبت جت بنت مش فاكر اسمها والله وقفت قدامي وقالت لي ان ده كرسيها وطلعت تعرفني وعارفة قصة اعتزالي وتصوري عارفة كمان قصة حبنا انا وانتِ وانا بقى قعدت اقول لها إنك نعمة ربنا ليا وانك احسن حد في حياتي المهم لقيتها هتتكلم كتير سبتها ومسكت المصحف قلت اقرا الورد بتاعي وفجأة لقيت البنت نامت وقعت على كتفي


انتفض قلب "مكة" بشدة واحمرت وجنتاها وهي تتخيل المشهد بدقة فتدفقت مشاعر الغيرة في داخلها كالسيل لكنها حاولت التحكم بصوتها ليخرج حادًا ساخرًا يكشف غيرتها الشديدة:


ـ وه وه! هتقول ايه عاد دي انت حياتك هتوبقى مهببة انت والزفتة اللي بتتمايع وعامله نفسها نايمة على نفسها داي كيف تخليها تسند على كتفك عاد عارف لو انت قدامي دلوك وهتحكي لي كنت بهدلت الدنيا وياك كمل ايه اللي حوصل بعد اكده.


تراجع "آدم" إلى ظهر الكرسي وأخذ نفسًا عميقًا ليحافظ على هدوئه أمام انفعالها كان يحس بصدق غيرتها وأنها نابعة من حب عميق فأراد أن يطمئنها وأن يبين لها أنه لم يكن له يد فيما جرى:


ـ ههه اهدي يا ماما العصبية دي وحشة عشانك بس بصراحة إنتِ عندك حق عملت معايا موقف بحاول اصحيها علشان مش عايز ألمسها مش قادر أصلا ان انا اشيل راسها من على كتفي والغريبة إنها ما صحيتش لما ناديت عليها فمديت ايدي من بعيد علشان ابعدها عني لقيتها عملت حاجة غريبة قوي يا مكة وبصراحة من ساعتها عماله استغفر ربنا رغم اني ما ليش ذنب في اللي هي عملته


ارتفع نبض "مكة" وهي تترقب بقية القصة بكل حواسها واستعدت للانفـ.ـجار إذا كان في الأمر ما يستحق الغضب أكثر فأمسكت الهاتف بقوة وارتجف صوتها من شدة الغيظ:


ـ هيييييه حوصل ايه وعيملت ايه البت المجرمة داي قول واياك تخبي عني حاجة يا "آدم" ها ؟


أطرق "آدم" للحظة شعر بحرج شديد وهو يتذكر الفعل المشين الذي صدر من تلك الفتاة فقد كان الأمر صادمًا بالنسبة له وأراد أن يعترف به صراحة ليؤكد صدقه مع زوجته:


ـ لقيتها .... امممم... باست ايدي فجأة وانا والله العظيم انصدمت من عملتها دي وبصراحة بقى أكتر انا ما كنتش ناسي الموقف وما كنتش عارف اقول لك ازاي ومش حابب اني اخبي عليكي حاجة زي دي.


قفز قلب "مكة" من مكانه وتحول غضبها إلى بركان مشتعل وارتسمت على وجهها علامات الغيظ الشديد وهي تتخيل ما حدث في الطائرة وكان صوتها يعكس انفعالها:


ـ هاااااا ! يا نهارها مش معدي البت المجرمة الفاجر داي قسما بالله لواني كنت وياك لكنت فرجت عليها الطيارة كلاتها ولا كان هامني أي حد في الدنيا ازاي سبتها تعمل اكده وتبوس يدك يا "آدم" ازاي آه ياني هطق هفرقع همـ.ـــوت.


شعر "آدم" بحزن كبير لأنه رأى الألم في صوتها وأحس أنها متأثرة بشدة رغم ثقتها فيه فأراد أن يخفف عنها بإظهار ندمه وحزنه من قلبه:


ـ والله العظيم عملت كدة مرة واحدة وانا ما كنتش واخد بالي ومن وقتها وانا مش طايق نفسي ولا طايق الشغل ولا عارف أركز فيه ولا عارف أعمل أي حاجة وبصراحة كرهتني في نفسي وكرهتني في الدنيا كلها.


ارتعشت أنامل "مكة" وهي تفكر في أبعاد الموقف وعقلها يحلل الأمر بسرعة وقلقها يزداد من فكرة أن تكون هذه الواقعة مدبرة من شخص آخر فأطلقت كلماتها بصوت ممتلئ بالاستياء والدهشة:


ـ اه ياني اني متغاظة اني متضايقة ازاي ده يوحصل ؟اني مش فاهمة البني ادمين بقوا عاملين اكده ليه؟ بس برده حاسة ان البت داي ما عِمليتش اكده من دماغها علشان ما فيش واحدة هتبوس يد راجل وهي نايمة على نفسها الا اذا كانت متسلطة ،ربنا يستر وما يكونش حد صور اللي حوصل وان يكون حد هو اللي وزها تعمل اكده ربنا يستر.


ارتسمت على وجه "آدم" ملامح القلق وهو يعيد التفكير في ما حدث في الطائرة ويحاول تحليل الأمر من جديد فأخرج كلماته بنبرة حائرة:


ـ تفتكري إن ممكن يكون حد خلاها تعمل كده انا ما كنتش مركز في حركاتها ولا كنت حابب اني أركز معاها أصلا وهو المفروض إني أقرا نوايا البني ادمين اللي حواليا واني اقعد اتلفت حواليا اشوف مين اللي مركز معايا ومين اللي مش مركز انا مش فاهم ايه اللي بيحصل ده معقولة في بني ادمين بالبشاعة دي ومعقولة فيه بنت ترمي نفسها على راجل بالطريقة المقرفة دي علشان خاطر حد أمرها تعمل كده


شعرت "مكة" بحدس الأنثى القوي يتأكد أن الموقف ليس عابرًا بل وراءه مكيدة فظهرت على ملامحها صرامة وحزم واضحان ونطقت كلماتها بثقة:


ـ كل حاجة في الزمن اللي احنا فيه دي جايزة وخصوصا التهديدات اللي بقت تاجي لنا واني هزيدك من الشعر بيت اني أكيد هيوصلني معلومات عن الكلام اللي انت قلته لي دي عن طريق التوقيع ما بيني وما بينك وهتشوف اني دماغي بتبص لقدام كيف ؟


أحس "آدم" بخوف داخلي لكنه في الوقت نفسه شعر براحة لأنه لم يخف عنها شيئًا وأراد أن يؤكد لها صدقه فخرج صوته متضرعًا إلى الله:


ـ لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا انت سبحانك إني كنت من الظالمين استغفرك يا رب واتوب اليك الحمد لله اللي انا قلت لك على كده بقى وان انا حكيت لك على الموقف اللي حصل وان انا دايما ببقى صريح معاكي يعني معقولة انتِ لو كان وصل لك حاجة زي دي انتِ كنتِ ممكن تصدقي ان انا اعمل كده او ان انا أقرب من واحدة بالشكل المخزي والمقرف ده او اني ممكن أفكر ابص لواحدة غيرك أصلا.


ابتسمت "مكة" رغم غضبها وامتلأ قلبها دفئًا وثقة فقد رأت في صوته صدقًا يذيب كل الشكوك فأجابت بنبرة حانية ممزوجة بالحزم:


ـ تعرِف يا "آدم" عمري ما شكيت فيك لحظة وعمري ما هسيب فرصة لحد يوقع بيناتنا واصل وخصوصا اني دايما هشوف لمعة الحب في عينيك ليا ودايما هشوف صدقك في توبتك لربنا وهشوفك وانت هتصلي قيام الليل وهتفتكرني نايمة ودعائك لربنا ان يخليني ليك اني وابننا ما تخافش يا "آدم" على حياتي معاك وعلى حياتنا عموما اني بنت صَعيدية متربية زين قوي وأعرِف اذا كان جوزي هيحبني ولا لاه واني واثقة انك هتحبني أكتر حد في الدنيا بعد حب ربنا سبحانه وتعالى ما تخافِش على حياتنا يا حبيبي.


اغرورقت عينا "آدم" بالدموع من كلماتها الصادقة وشعر أن قلبه ينبض امتنانًا لهذا الحب العظيم الذي وهبه الله له فتحدث بصوت مفعم بالشجن:


ـ ياه يا "مكة" ليا حق والله أوصفك إنك ملاك ربنا بعته لي ليه حق كنت اتمسك بيكي من أول نظرة عين منك ليا حق كنت استغنى عن كل حاجة واسيب الدنيا باللي فيها علشان خاطر تكوني انتي زوجتي وأم عيالي يا أجمل نعمة ربنا أنعم عليا بيها ربنا يخليكي ليا يا نبض قلبي يا وصية رسول الله عليه الصلاة وأتم التسليم.


توردت وجنتا "مكة" من فيض مشاعر الحب واشتد شوقها له وهي تتمنى أن يكون بقربها لتبادله العناق بدلاً من الكلمات لكنها تماسكت وأجابت بصوت دافئ:


ـ خلاص بقى ما تقوليش كلام حلو علشان انت بَعيد عني وما هقدرش أحضنك بعد الكلام الحلو ده كلاته ترجع بالسلامة واعمل حسابك أي حاجة وأي محاولة هتفرق ما بيني وما بينك ما حدش هيقدر يعملها أبداً إذا كان الله معنا فمن علينا عايزاك بس تركز في شغل القناة عنديك وتحاول تخلص لقاءاتك وترجع بالسلامة علشان انت وحشتني قوي اني وانوس.


               *********


في ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، كانت الغرفة التي يبيت فيها "عمران" تغرق في صمت ثقيل لا يُكسره سوى خفق عقارب الساعة وصوت هاتفه المضيء بين يديه، تمدد على الفراش بجسده العريض، يتقلب في فراشه تارةً إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، يقلب صفحات الهاتف بإهمال كأنما يبحث عن شيء لا يعرفه، والحقيقة أنه لا يبحث إلا عنها، عن دفء "سكون" التي هجرت فراشه منذ شهر كامل لانشغالها بأطفالهم الثلاثة،


كان قلبه يخـ.ـتنق من الاشتياق، وكلما حاول أن يلهي نفسه بتصفح الأخبار أو رسائل العمل، وجد أفكاره تعود إليها قسرًا، كأنها طيف لا يغيب، ألقى الهاتف أخيرًا إلى جواره على الفراش وتنهد بحرقة، شعر أن الغرفة باردة خالية، وأن السرير الواسع لا يسعه وحده، بل يضيق عليه لأنه يفتقد عبيرها ولمستها وصوت أنفاسها وهي نائمة قربه،


جلس فجأة كمن لم يعد يحتمل السكون، وضع كفيه على وجهه يحاول كبح شعور لا يُكبح، ثم نهض بخطوات هادئة على أطراف أصابعه كأن الليل كله يستمع إلى أنينه، خرج من غرفته وأخذ يسير في الممر الطويل المظلم، يقوده قلبه قبل قدميه حتى وقف أمام باب غرفة الأطفال ،فتح الباب برفق شديد، فاندفع إليه عبيرٌ طفولي دافئ ممزوج بعطر "سكونه" الخفيف الذي لم يفارق ملابسها،


كانت تنام على حافة الفراش بجوار ابنتها، ويبدو على ملامحها الاصفرار والتعب من مجهود أبنائها، اقترب "عمران" بخطوات بطيئة حتى جلس إلى جوارها على الأرض، كأن حضوره بين نعاسهم يجب أن يكون همسًا لا صوتًا، نظر إلى ملامحها النائمة فأحس أن قلبه يذوب شوقًا ،مرّر أنامله على خصلات شعرها برفق، ملامسة بالكاد تُحس، كأنه يخشى أن يزعج ملاكًا،


أمال وجهه نحوها، وعيناه تتأملان وجنتيها المضيئتين بضوء القمر المتسلل من النافذة، ثم مد يده الأخرى ولمس خدها برقة خافتة، دفء بشرتها جعل قلبه يخفق بعنـ.ـف، اقترب أكثر حتى صارت أنفاسه تلامس وجنتها، وهمس بلا صوت؛ بأنه استوحشها كثيراً ،


لم تتحرك "سكون"، لكن شفتيها ارتجفتا قليلًا كأن روحها تسمع نداءه في المنام، ظل "عمران" يراقبها بعينين تغشاهما عاصفة حب، ثم اقترب أكثر، ترك أصابعه تنساب على جانب وجهها، يمررها برقة فوق خط الفك ثم يعود إلى شعرها، كأنه يحفظ ملامحها للمرة الألف، لكنها الليلة مختلفة، فهي بعيدة عنه حتى وهي أمامه، ثم مال على أذنها هامسًا بشوق صادق: 


ـ "سكون" فوقي يا حبيبي عايزك ومحتاجك قووي .


كان صوته بالكاد يُسمع، لكنه ممتلئ بحرقة حنين، كأنه يستجدي دفء قلبها، غلبه شعور أن البعد عنها جريمة، وأن الشهر الذي مرّ بلا لمستها أطول من سنوات العمر،


اقترب أكثر حتى صار وجهه قريبًا من وجهها، وكأنه يحاول أن يوقظها بلمساته لا بكلمة، يترك لأنامله لغة الشوق، يمسح على شعرها الناعم، ثم يتوقف عند جبينها كأنه يقبلها دون أن تطبع شفتاه قبلة فعلية ،كانت أنفاسه الدافئة تختلط بأنفاسها الهادئة النائمة، وحين شعر بأنها تتحرك قليلًا في نومها، ظل صامتًا، يتأملها وكأنه يرى الحياة كلها متجسدة في تلك الملامح الهادئة.


في تلك اللحظة، شعر "عمران" أن الليل كله لا يسوى شيئًا دونها، وأن اشتياقه لها أقوى من كل تعب، فأغمض عينيه للحظة، وألقى رأسه على طرف السرير بجوار كتفها، يكتفي بأنفاس قريبة، ولمسة صغيرة تُسكت العاصفة داخله حتى تفتح عينيها ثم نطق مرة أخرى وهو يحاول إفاقتها :


ـ "سكون" اصحي اتوحشتك قووي وعايز أتحدت وياكي شوي .


تململت في فراشها بتعب بادي عليها من غلبة أولادها معها طيلة اليوم ثم أجابته وعينيها مغمضتين وكأنهم رافضيتن أن يُفتحا من شدة نعاسها:


ـ تعبانة قوي يا "عمران" مقدراش الصباح رباح ، سيبني انام.


تنفس بحزن وهو يشعر بوخزة في قلبه من عدم استجابتها لنداء قلبه وأنها لم تراعي مجيئه لها واحتياجه لحضنها اليوم بالذات فهو يشعر بأنه يحتاجها ، يحتاج قربها فحاول إفاقتها مرة أخرى وهو يهمس بجانب أذنها بشوق :

ـ هقول لك محتاجك لو مقدراش تقومي أحملك أني يا سكوني ، فوقي بقى يا حبيبي.


لم تستجيب لنداؤه مرة أخرى ومهما حاول إفاقتها لاجدوى هي نائمة في سبات عميق من شدة إرهاقها 

غادر "عمران" غرفة الأطفال بخطوات ثابتة، لكن في قلبه زوبعة تكاد تقتلع صدره، لم يكن في الأمر ضعف أو استجداء، بل غضبٌ مكتوم من أن من يحبها إلى هذا الحد لم تشعر بنبض قلبه الذي جاءها في منتصف الليل، لحظة اليأس تلك لم تُسقطه، بل جعلته يشد على نفسه أكثر؛ راحته لا يمكن أن تُنتزع بالرجاء، وكبرياؤه كرجل لا يسمح له أن يطلب شيئاً مرتين، 

أغلق باب الغرفة برفق حتى لا يوقظ الأطفال، لكنه في داخله أغلق باباً آخر، باب كان مفتوحاً على مصراعيه لشوقٍ لا حدود له ،شعر بمرارة كمن شرب ماءً مالحاً وهو يظنه عذباً، قال في نفسه إنه من الآن وصاعداً سيكتم احتياجه في صدره، لن يعرض قلبه لانكسار جديد مهما كانت محبته لها، فالرجل الذي يحترم نفسه لا يطرق باباً أُهمل فيه النداء،


عاد إلى غرفته الكبيرة، لكنها بدت له أضيق من زنزانة، هواءها ثقيل، وجدرانها صامتة كأنها تعاتبه على عودته وحيداً، جلس على حافة السرير وقد انعقدت ملامحه بين الغضب والخذلان، ثم تمدد على ظهره وهو يحدّق في السقف، كأنما يسائل نفسه ؛كيف تحولت المرأة التي يذوب فيها عشقاً إلى من لا تسمع نداء قلبه في أشد لحظاته احتياجاً؟


مد يده إلى هاتفه بعصبية، كأنه يريد إلهاء عقله عن التفكير فيها، قلب شاشته بسرعة يتصفح الأخبار بلا اهتمام، ثم توقف فجأة عند منشور على مواقع التواصل، منشور كتبته الدكتورة "نور" التي تعمل في مزرعته، كلمات قصيرة يكسوها الحزن العميق، مع صورة لسماء رمادية وعبارة تشي بانكسارها الداخلي،


توقف "عمران" عند الكلمات كمن وجد شيئاً مختلفاً يخرجه من هذه الدائرة الخانقة، لم يكن يعرف ما وراء حزنها، لكن إحساسه كرجل لم يقبل أن يظل صامتاً أمام دمعة امرأة تحت حمايته، جلس مستقيم الظهر، كأنه اتخذ قراراً فورياً، وفتح تطبيق المراسلة، كتب رقمها في خانة البحث وضغط على اسمها، ثم بدأ يكتب رسالة قصيرة يسألها فيها:


ـ مالك يا داكتورة "نور" ، عرفتي حاجة عن طليقك هتخليكي تبكي كل البكا دي ؟طمَنيني عنك ؟


كانت أصابعه تتحرك بسرعة على الشاشة، لكنها لم تحمل ارتباكاً أو اندفاعاً، أرسل الرسالة وألقى الهاتف على الفراش بجواره، ثم شبك أصابعه خلف رأسه وأطلق زفرة طويلة، زفرة رجل امتلأ صدره بالحنق على الإهمال، وبحاجة لصوت آخر يلهيه عن الغصة التي تركتها "سكون" في قلبه هذه الليلة، 


كانت الدكتورة "نور" في ذاك الوقت جالسة في زاوية غرفتها الصغيرة داخل الاستراحة المخصصة لها في المزرعة، وعيناها محمرتان من البكاء المستمر، قلبها يخفق بعـ.ـنف غير معتاد، ويدها المرتجفة لا تفارق هاتفها، تراقب الشاشة وكأنها تخشى أن ينبثق منها وجه ماضيها ،منذ ساعات وصلها خبر أن "مكرمي" عرف مكانها، وأن طريقها لم يعد مخفياً كما كانت تظن طوال الأشهر الماضية، شعرت كأن الأرض سحبت من تحت قدميها، وأن كل الأمان الذي ظنت أنها وجدته وسط المزرعة تبخر فجأة،

بينما كانت تمسح دموعها بظهر كفها، ارتجفت شاشة الهاتف معلنة وصول رسالة جديدة، فتحتها بقلق، لتجد اسم "عمران" يطل أمامها، كلماته القليلة التي يسأل فيها عن سبب حزنها كانت كفيلة بأن تزيد دموعها لا أن تهدئها؛ شعرت أن خوفها انكشف حتى لمن لم يكن ينبغي أن يعرف، غمرتها حالة هستيرية من الفزع، حاولت أن تهدئ نفسها لكنها لم تستطع، كانت تردد بصوت مبحوح:


ـ لااا، مش ممكن يوصل ليا، مش ممكن .


ثم أخذت تدور في الغرفة جيئةً وذهاباً، صدرها يعلو ويهبط بسرعة، وقلبها يطرق كالمطرقة، تدرك أن الخطر صار أقرب إليها من أي وقت مضى،

ووسط دوامة الخوف التي كانت تعصف بها، وقفت تحدق في شاشة الهاتف كأنها وجدت خيط ضوء وسط عتمة خانقة، كلمات "عمران" القصيرة بدت لها كيد ممدودة تنقذها من الغرق ،للحظة أحست أن أحداً شعر بها أخيراً، أن هناك من يطرق باب وحدتها في أشد ساعاتها ظلمة،


تنفست بعمق محاولة السيطرة على ارتجاف يديها، مسحت دموعها بعصبية وابتلعت غصتها، ثم جلست على حافة السرير واحتضنت الهاتف كما لو كان طوق نجاة، لم تكن تدري ماذا تقول ولا كيف تبدأ، لكن يقيناً واحداً كان يعلو فوق خوفها؛ لا تستطيع مواجهة هذا الكابوس وحدها بعد الآن،


همست لنفسها بصوت مرتجف وهي تشعر بالخجل ان ترد عليه في تلك الساعك او ان تحمله همومها تلك: 


ـ يمكن ده الوقت اللي أتكلم فيه، يمكن ربنا بعت لي بشمهندس "عمران" دلوقتي علشان الاقي حد يسندني ويقف جنبي في بلوتي دي .


ثم أخذت نفساً طويلاً، وأطلقت أناملها المرتعشة تكتب له، كمن يكتب استغاثة لا مجرد رسالة، كانت كلماتها قليلة لكنها مشحونة بكل ألمها، وقرارها بأن تفتح قلبها له كان أسرع من أي تفكير أو تردد، وكأنها ترى في اسمه على الشاشة حصناً يحميها من الخطر الذي يقترب منها :

ـ "مكرمي" عرف طريقي وفي خلال أيام هيكون هنا انا بصراحة مرعوبة يا باشمهندس من مجيته انا بفكر اهرب لمكان تاني حتى لو هسافر بره .

في تلك اللحظة، كان "عمران" يتصفح هاتفه بعين رجل لا يعرف الخوف، فيه قوة فطرية وعزم صلب يليق بمن اعتاد أن يكون سنداً لغيره لا عبئاً عليهم، حين قرأ كلماتها، شعر بثقل المسؤولية على كتفيه وكأنها أخته، ولمعت رجولته الحقيقية في رغبته أن يحميها بلا انتظار لأي مقابل:


ـ طب ودي حل ؟ الهروب عمره ما كان حل للمشاكل ابدا يا داكتورة والمفروض إنك مثقفة ومتعلمة، لازم تواجهي الموقف وزي ما قدر يوصل لك اهنه وكان عنديه إصرار هيقدر يوصل لك لو في آخر بلاد المسلمين .


كانت "نور" تكاد تبكي وهي ترى كلمات "عمران" القوية، قلبها المضطرب لم يحتمل الصراحة، لكنها شعرت أنه يخاطبها بمنطق الأخ الحامي لا الرجل العابر، الخوف ما زال ينهش صدرها لكن كلماته مثل يد تهدئ رجفة صغيرة في قلب عاصف:


ـ انت بكلامك ده بتخوفني اكتر يا باشمهندس يا رب اموت علشان استريح من الهم اللي انا فيه ده.


اشتد في عيني "عمران" بريق رجل لا يقبل الانكسار لمن يلجأ إليه، لم يسمح لليأس أن يتسلل إلى حديثه، ورد بكلمات ثابتة كالجبال، ينطقها من صميم قلبه المؤمن، لم يكن يرضى أن يرى الضعف في امرأة استأمنته على خوفها:


ـ يا داكتورة محدش هيموت ناقص عمر ولازمن يوبقى عنديكي ايمان بربنا ان كل الابتلاءات اللي بيبعتها لنا ما هي إلا حسنات في كتابنا والصبر عليها بيزيد الحسنات عاد ،فانتِ لازمن تكوني أهدى من اكده علشان تعرِفي تتعاملي وياه ما ينفعش إنك تباني ضعيفة قدامه، أو إنه يستغل نقطة خوفك من إنك ما لكيش حد، استقوي ربنا وبعدين بالعبد لله .


ازدادت دموع "نور" وهي تقرأ، لكن دموعها هذه المرة لم تكن خوفاً فقط، بل امتزجت بشعور غريب بالأمان، إحساس أن هناك من يقف إلى جانبها، لا لرغبة أو مصلحة، بل لصفاء رجولته، كانت كلمات "عمران" كالجدار الذي تستند عليه كي لا تنهار:


ـ ما هو لازمن أكون ضعيفة علشان أنا وحيدة ما ليش حد ومكسورة، هي البنت كده لما يكون ما لهاش ضهر ولا سند الدنيا بتصد وترد فيها على كيفها .


لم يقبل "عمران" بهذه النظرة المهزومة للحياة، وأصر أن يزرع في نفسها القوة، فهكذا يتصرف الرجال الحقيقيون، يقيمون ظهر من ظن نفسه بلا سند، صوته عبر الرسائل كان كأنه يمسك بيدها ليوقفها على قدميها من جديد:


ـ ودي كلام برده يا داكتورة ؟!

اني وعدتك انك في حماية "عمران سلطان المهدي" وطالما انتي موجودة في داري وهتشتِغلي معاي يوبقى حمايتك واجبة علي، ياجي الضيف بالسلامة وما تقلقيش عاد وتتعجَلي الشر والخـ.ـراب "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم" افتكري دايما الأية داي وربنا هيبدل خوفك لأمن بإذن الله.


كانت "نور" تقرأ رسائله والدموع تنساب لكن قلبها لأول مرة منذ أيام ينبض بشعور مختلف، طمأنينة وسكينة، كلماته تنزع الرعب من روحها كما يُنزع السهم من الجسد، لم تتخيل يوماً أن مجرد حوار كتابي قد يعيد إليها الإحساس بالأمان بهذه السرعة:


ـ هو انت ازاي بتقدر تخليني استريح واحس بالأمان برغم المخاوف والمخاطر اللي حواليا بالشكل ده يا باشمهندس؟

ازاي عندك كمية الطمأنينة للي حواليك بالشكل؟

ده انا عمري ما حسيت بالأمان زي ما حسيته دلوقتي من كلامك معايا؟


ابتسم "عمران" وهو يقرأ كلماتها، ابتسامة رجل يعرف قدر الرجولة الحقيقية، رجولة العطاء لا التسلط، والحماية لا التفاخر، كان يتحدث من قلب نقي يرى في الخوف ضعفاً يحتاج إلى من يرفعه لا من يزيده انهياراً:


ـ دي ربنا اللي بيبعت لعباده الخير على قدوم الواردين واعتبري ان ربنا سبحانه وتعالى جابك تشتِغلي في المزرعة حداي علشان عارف ان انا هقدر أساعدك وكله لوجه الله، فبلاش المنشورات اللي هتنزليها على فيسبوك والدموع اللي ما لهاش أول من آخر دي يا داكتورة يا وخليكي مؤمنه بقضاء الله وبرده ما حدش هيموت ناقص عمر .


هدأت أنفاس "نور" شيئاً فشيئاً وهي تشعر أن الليل فقد شيئاً من سواده، وكأن الكلمات التي تقرأها تمد لها حبالاً من ضوء تعلق بها، صارت ترى "عمران" كأخ كبير لا يهتز، صلب كالأرض وأمين كالوطن، فامتلأ قلبها امتناناً له:


ـ انا والله العظيم ما عارفة اشكرك ازاي يا باشمهندس، انت بجد نعمة ربنا بيبعتها في حياه اي حد ومن بعد كلامك انا مش هخاف وهقدر أواجه "مكرمي" علشان هحس اني معايا اخ كبير يقدر يحميني من بطشه وغضبه .


رد "عمران" بثبات يليق بمن يعرف قدر كلمته، كانت رسالته الأخيرة كختم رجل يفي بوعده ولا يخلف العهد، فزادها ذلك طمأنينةً فوق طمأنينتها:


ـ الشكر لله يا داكتورة طمني حالك ونامي وارتاحي وما تشيليش هم بكره سيبي بكره لربنا سبحانه وتعالى هو هيدبِره كيف ما يشاء .


               ********


بعض مرور وقت طويل من ليلته وحيداً كانت الغرفة ساكنة إلا من ضوء خافت يتسلّل عبر الستائر الثقيلة، و"عمران" مستلقٍ على سريره، عاري الصدر، والهواء الليلي يحمل برودة لم يلتفت إليها، كان قلبه يضجّ بمزيجٍ من الاشتياق والخذلان، ينام متقلّباً على جمر الغياب، عاجزاً عن طرد شعور الجرح من روحه، لم يكن رجلاً يعرف الانكسار، لكن قسوة الإهمال من أقرب الناس إليه جعلته يبيت الليلة محمّلاً بعزمٍ صامت على أن يعلّم "سكون" معنى التقصير في حق رجل مثله،


تسلّل الفجر بهدوء، وصوت العصافير أيقظ شيئاً من الحياة في البيت الكبير، في الغرفة المقابلة، كانت "سكون" تدور بعينيها في السقف وهي تستعيد لحظة شعورها بأن "عمران" كان يحتاجها بالأمس ولم تجد في نفسها أي قوة للنهوض إليه، غمرها الندم، وشعرت بانقباض شديد في صدرها، لكن الوقت لم يعد يصلح لتبرير ما فات، فقررت أن تفعل المستحيل لتعوضه في الصباح،


بعد مرور بعض من الوقت أيقظت الأطفال الثلاثة على عجل، "سيف" و"سليم" و"سَكَن"، جهّزتهم للروضة وهي تكتم شعوراً ثقيلاً في قلبها، وكلما تذكرت وجه "عمران" المشتاق بالأمس أحست بوخزة خجل، أودعت أبناءها في الروضة بسرعة وعادت بخطوات متلهّفة، قلبها يدقّ كمن ذاهب لامتحان مصيري، وهي تخطط كيف ستحتضنه فور أن تلقاه وتغرقه بحبها واعتذارها،


عندما فتحت باب جناحه الخاص، ساد صمت ثقيل، ورذاذ الماء من الحمام ينذر بوجوده فيه، وضعت حقيبتها جانباً، جلست تنتظر خروجه للحظة، ثم امتدّت يدها إلى هاتفه الموضوع على الطاولة كنوع من ملء الوقت، لم تكن تنوي التجسّس، لكن الفضول ساقها لتتصفّح بعض الرسائل، فإذا بها تتوقف فجأة عند محادثة طويلة مع الدكتورة "نور" لم تفهم كل التفاصيل لكنها شعرت بانقباضٍ غير مألوف في صدرها، وخيالات غيرتها بدأت تتحرك قبل أن يكتمل المشهد في رأسها،


ارتجفت أناملها وهي تعيد الهاتف إلى مكانه عندما سمعت صوت تدفق الماء يتوقف وحركة "عمران" داخل الحمام توحي بخروجه بعد لحظات، أسرعت إلى ترتيب شعرها وملابسها، محاوِلة أن تُبعد عن وجهها أي أثر للانفعال كي تستقبله بابتسامة ودفء يعبران عن شوقها واعتذارها في آن واحد.أ،


خرج "عمران" من الحمام، عاري الصدر، تتدلى قطرات الماء على جسده الأسمر، والفوطة البيضاء تلتف حول خصره في إحكام، عطره بعد الشاور يملأ المكان برجولة هادئة وحضور طاغٍ، لم يلتفت إليها، مشى باتزان وثبات رجل يعرف قدر نفسه، وكأن وجودها في الغرفة لا يعنيه،

شعرت "سكون" بلسعة في قلبها من هذا التجاهل، فقامت بخفة وتقدّمت نحوه من الخلف، مدّت ذراعيها لتحتضنه من صدره، وضعت خدّها على ظهره الدافئ، وفي قلبها رغبة جارفة أن تذيب كل جليدٍ تراكم بينهما، لكن "عمران" أغمض عينيه بقوة، يقاوم اندفاع مشاعره وغريزته، ثم أمسك يديها بهدوء حازم وأنزلها عن صدره وهتف بنبرة أشبه للجليد:


ـ صباح الخير يا أم "سَليم" عايزة حاجة؟

خرج صوته بارداً، ثابتاً، بلا أي أثر لدفء الليلة التي اشتاق لها،

تجمّدت للحظة، ابتلعت ريقها وهي تحاول أن تبدو قوية رغم شعورها بالذنب، كان قلبها يخفق بجنون، وتنفّسها يتسارع، لكن عينيه الجامدتين جعلت كلماتها تتعثر قبل أن تخرج:


ـ أني جاية أقولك إني غلطانة يا "عمراني" آسفة إني امبارح ما لبيتش ندائك، كنت هلكانة من التعب مع العيال ومش قادرة أقوم من السَرير والله ، حقك علي .


دار ببطء، نظر إليها بعينين ثاقبتين لا تحملان سوى جليد، ونبرته زادت بروداً وهو يسيطر على صراع داخلي عنـ.ـيف بين حبه الكبير لها وكرامته المجروحة، وغريزته كرجل يقف أمام أجمل امرأة في حياته لكنه يرفض أن يظهر ضعفه أمامها :


ـ اه تمام، برده عايزة إيه يا "سكون" ؟


ارتبكت أكثر، شعرت أن الأرض تميد تحت قدميها، لكنه لم يعطها أي فرصة لالتقاط أنفاسها، كان يراقب وجهها بعينين صلبتين تخفيان نـ.ـار الشوق خلف جدار من الكبرياء، رفعت عينيها نحوه بخجل صادق، وبصوت متهدج همست كمن تسلّم قلبها بين يديه وهي تقترب من حضنه وتتمسح في صدره العاري بلهفة وندم واشتياق:


ـ عايزة حضنك يا "عمران" وأعوضك عن ليلة امبارح .


تصلب وجهه أكثر، عـ.ــضّ على أسنانه وهو يحاول ألا يكشف كم أن قلبه يشتعل لرؤيتها هكذا؟

ثم أبعدها عنه برفق و مدّ يده إلى أحد الأدراج وكأنه يبحث عن شيء ليتلهّى عن النظر إليها، ثم أجابها ببرود قاتـ.ـل كل كلمة كخنجر مغروس في قلبها:


ـ مش محتاج حضنك دلوك يا "سكون" ومش فاضي لك، ولما أفضى مش في وقت محدد يوبقى نشوف الموضوع دي بعدين.


عمّ صمت ثقيل كالسيف في الغرفة، كأن أنفاسها توقفت للحظة، لم تتوقع أن تسمع هذه الجملة منه أبداً، قلبها ارتجف بصدمة لم تعرف كيف تخفيها، كأن الأرض انسحبت من تحتها فجأة، نظرت إلى عينيه فلم تجد سوى جدار من العناد والكبرياء ،ورجل أقسم في نفسه ألا يطلبها مرة أخرى كما فعل البارحة،


انتهى المشهد على ارتعاش أناملها، وارتباك أنفاسها، وهي تحاول كتم دموعها كي لا يرى ضعفها، فيما مشى "عمران" بخطوات ثابتة نحو خزانته، متجاهلاً وجودها وكأنها مجرد عابرة طريق لا امرأة عمره.

الفصل الثاني عشر من هنا


تعليقات