رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والثالث عشر
بالنسبة إلى إيفرلي كانت سارة دومًا أشبه بنجمة ثابتة في سماءٍ مضطربة؛ امرأة وُلدت في بيئة كريمة تحمل ذكاءً مصقولًا بأخلاق راسخة وقلبًا لم يعرف طرقًا ملتوية فحتى وهي وريثة عائلة ثرية لم تنظر يومًا إلى الآخرين من برجٍ عاجي بل كانت تراهم بشرًا يليق بهم الاحترام ذاته الذي تمنحه لنفسها.
لذلك كان طبيعيًا أن يقع أحمد في حب امرأة مثلها: واثقة، ناضجة، تعرف كيف تترك أثرًا دون أن ترفع صوتها وحتى إيفرلي كامرأة أحبت سارة وأعجبت بها؛ أعجبت بتلك الاستقامة التي جعلتها في أحيان كثيرة تخجل من نفسها وهي تقارن بينهما.
لكن المرأة التي تقف أمامها الآن لم تكن سارة التي عرفتها كانت أشبه بدمية نزعت منها الحياة منهكة حتى النخاع.
عيناها اللتان كانتا يومًا تلمعان بوهج يقظة تحوّلتا إلى مرآتين فارغتين تبثان قشعريرة تسري في جسد إيفرلي كريحٍ باردة تهب من قبرٍ مفتوح.
قالت إيفرلي بصوتٍ يختلط فيه الذهول بالخۏف:
ــ "سارة ما الذي تتحدثين عنه؟"
لكن سارة لم تجبها مباشرة كأنها استسلمت لجنون ناعم يتسلّل إلى ملامحها فبكت وابتسمت في اللحظة نفسها ابتسامة تُشبه انحناءة سکين على حافة قلب تستهدف إنهاءه فالصور التي رأتها قد غيّرت كل شيء وقلبت نظرتها إلى العالم رأسًا على عقب بل وكشفت لها أن اللطف الذي منحتْه للآخرين لم يكن سوى بوابة واسعة لتسلّطهم عليها.
قالت سارة بصوتٍ مخټنق يقطّر مرارة:
ــ "لن يساعدني يومًا في البحث عن ليو. كل ما كان يريده سببًا آخر ليسخر مني، ليمارس تنمّره عليّ بضميرٍ مرتاح ومع ذلك ظللتُ أتمنى أن يستعيد والدي وعيه... يا لسذاجتي! كنتُ أظن أنه سيساعدني لأجل ذلك."
ــ "سارة..." نادت إيفرلي في محاولة يائسة لتثبيتها إلى أرض الواقع.
لكن سارة اڼفجرت كبركان ظل محتبسًا طويلًا:
ــ "أنا بالنسبة له لا شيء! حيوانه الأليف… يرمي إليّ ببعض الألعاب حين يكون سعيدًا ويجب أن يتوجب عليّ طوال الوقت أن أزن كل خطوة حتى لا أجرح كبرياءه وكأنني مهرّجة في سيركه الخاص. أنا أتألم... أتألم يا إيف، ومع ذلك عليّ أن أضحك له وكأن كل ذلك لا يكفيه فيصرّ على أن يرشّ الملح على چرحي!"
ــ "سارة اهدئي..." حاولت إيفرلي مواساتها لكن صوتها بدا أضعف من أن يوقف الطوفان.
التفتت سارة نحوها وعينيها تشعّان بنيران حمراء من الڠضب واليأس:
ــ "اهدأ؟ كيف يمكنني أن أهدأ يا إيف؟ هم السبب في شقائي…. لماذا يجب أن أموت أنا بينما يواصلون هم الحياة؟!"
في تلك اللحظة أحست إيفرلي بالبرد يتسلّل إلى عظامها كأن الغرفة امتلأت فجأةً بثلج غير مرئي… فقالت بحذر وصوتها يرتجف:
ــ "سارة، لا تفكّري في أي شيء طائش… نعم مارينا حقېرة لكن طفلها بريء… لا تدعي غضبكِ يمتد إليه... لا تفعلي ذلك."
ماټت والدة سارة وهي بعدُ طفلة،
فكان جيف، والدها، هو الركيزة الوحيدة التي أسندت إليها حياتها، العمود الأخير الذي يحمل سقف عالمها المتصدّع.
بالنسبة إليها، لم تكن العائلة مجرّد كلمة، بل كانت الهواء الذي تتنفسه.
وحين حملت، صار طفلها الكون كله؛ قلبًا نابضًا داخلها، كأنها تحمل كوكبًا صغيرًا يدور حول شمس روحها.
ظنّت، في سذاجة الحب، أن ما حدث لجيف وما ابتلع طفلها من مصيرٍ مظلم لم يكن سوى عبث القدر؛ مصادفات عابثة لا يد للإنسان فيها. ولهذا لم تلُم أحمد. لم ترَ فيه سوى رجلٍ مبتلى مثلها.
لكن الآن... كل شيء تغيّر.
الحقيقة، مثل شقّ خاطف في جدار مظلم، كشفت لها وجهًا آخر للعالم. لم يكن الأمر حادثًا، بل مسرحًا لچريمة. لم يكن موتًا بريئًا، بل محاولة قتل بدمٍ بارد.
لقد مدّ أحدهم يده إلى أغلى ما تملك، وجرّده من الحياة. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد الغفران خيارًا، ولا النسيان متاحًا.
جلست إيفرلي إلى جوارها، تحاول أن تحاصر جنون اللحظة بالصبر، كمن يحاول أن يربط إعصارًا بخيط رفيع. قالت بصوتٍ وادع:
ــ "سارة، رجاءً... لا تتركي نفسكِ لهذا الطريق. لن يخرج منه إلا مأساة جديدة."
نظرت إليها سارة، وفي عينيها بريق غامض، وابتسمت ابتسامة غريبة لا تحمل ما توقّعته إيفرلي.
ــ "إيف... ما الذي تفكرين به؟ لماذا أؤذي طفلًا؟"
أطلقت إيفرلي زفرة طويلة كمن نجا من غرقٍ مفاجئ، وقالت بخفوت:
ــ
"هذا... مريح."
لكن سارة لم تلتفت إليها، بل تركت عينيها تتسللان إلى النافذة. كان النهار مشمسًا على نحوٍ يثير السخرية، وكأن الشمس قررت أن تضحك في وجه مآسيها. على الأغصان، كانت كتل الثلج تتفتت تحت دفء الضوء، تسقط في صمت، تتجمع في برك صغيرة على السطح.
راقبت المشهد وهمست، بصوت أشبه بتفكيرٍ يخرج إلى العالم لأول مرة:
ــ "تمامًا مثل استيائي... يذوب ببطء، لكنه لا يختفي، بل يتجمع، يتضخم، حتى يصير شيئًا آخر."
ثم التفتت قليلاً، وصوتها يحمل مرارة تتسلّل من أعماقها:
ــ "أتساءل، يا إيف، هل شعر أحمد بالحزن على طفلي؟ أم أن الأمر بالنسبة إليه لم يكن سوى خبر عابر؟ لم يره حتى... لم يرَ طفلي أبدًا. لو كان كونور هو ذاك الطفل الذي ماټ، هل كان أحمد سينزعج؟ ولو قليلًا؟"
شعرت إيفرلي ببرودة تنفذ من عمودها الفقري، كأن الكلمات نفسها زحفت خلف ظهرها. أمسكت بسرعة بيدي سارة، كأنها تحاول أن تسحبها من حافة هاوية:
ــ "سارة... يا سارة، أرجوكِ لا تفكّري بهذا الشكل. خطئي أنا حين تحدّثتُ عن قصص الاڼتقام والبعث. تلك مجرد حكايات، رمادٌ يذروه الخيال في الهواء، لا تنطبق علينا.
أحمد وغد، ومارينا أكثر حقارة منه... لكن كونور بريء. وأنتِ... أنتِ أيضًا أنجبتِ طفلًا، فلا تتركي قلبكِ يشبه قلبهم."