رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل المائة والسادس عشر
كانت سارة تحدّق في جسد والدها الغارق في صمته كأن روحه علِقت في مكانٍ بين السماء والأرض… ومن خلال تفاصيل حالته بدأت الخيوط تتشابك في ذهنها:
**تفسير واحد طرق عقلها أنه حين نجا جيف من الحادث لم يرق الأمر لأحمد فاستفزّه حتى أسقطه في نوبة قلبية لتتلقفه الغيبوبة كما تتلقف الهاوية حجراً سقط إليها بلا مقاومة.**
اشتعل شيء في صدرها أشبه ببركان يحبس حممه منذ زمن بعيد فشدّت قبضتيها حتى ابيضّت مفاصل أصابعها والعتمة في عينيها بدت وكأنها تتكلم نيابةً عنها:
*لن ينجو أحد منكم.*
كان الليل قد بدأ يثقل على المدينة حينما جلست في المقعد الخلفي بينما كيلفن يقودها إلى المطار والطرق أمامهما تبدو كأنها شرائط مظلمة تقودها نحو مصير لا رجعة فيه.
تناولت وجبة بسيطة هناك بلا طعم كمن تبتلع رماداً لا طعاماً… لم تعد تفكر فيما إذا كان والدها سيستعيد وعيه… لم يعد للأمل مكان في قلبها.
همست لنفسها وكأنها تعقد اتفاقاً مع القدر:
ــ "طالما أنا على قيد الحياة، لن يعرف أحمد ولا مارينا ولا أيٌّ منهما طعماً للسلام."
كانت تعرف أنها لن تعيش طويلاً والسرطان يتسلّل في جسدها كقاتل صبور لكن ذلك لم يخفها، على العكس فقد بدا الأمر كهدية سامة:
*إن كانت النهاية تنتظرني، فسأجرّهم معي إلى الحضيض.*
جلست في غرفة الانتظار
لبعض الوقت تراقب الناس حولها كمشاهد عابرة في مسرحية لم تعد تعنيها وكل بضع دقائق كانت تتفقد جدول الهبوط وعندما حانت الخمس دقائق الأخيرة قبل وصول الطائرة نهضت بثبات غريب كمن تستعد لمشهدٍ تدريبيّ مارسته مئات المرات في خيالها.
كان الطقس مشمساً على غير عادة الشتاء والثلوج التي اعتادت تغطية المدينة ذابت خلال اليومين الماضيين تاركةً الأرصفة مكشوفة كأسرار انفضحت وبدت السماء صافية لكن قلبها كان عاصفاً.
هبطت الطائرة في موعدها كما لو أن القدر التزم الصمت وسمح للأحداث أن تسير في خطها المرسوم.
خرج أحمد من مخرج الشخصيات المهمة يمشي بخطى واثقة كعادته كأنه لا يزال يملك العالم في قبضته.
ألقت سارة بصرها نحوه لكن ما قطع حبل تركيزها كان الشخص الذي يسير بجانبه.
**كريس.**
رغم أنها لم تلتقِ به سوى مرة واحدة إلا أن وجهه كان محفوراً في ذاكرتها كجرح قديم لا يلتئم… لحظة رؤيته الآن جعلت الزمن يتقلص فجأة كأن كل ما مرّ لم يكن إلا تمهيداً لهذه المواجهة.
كان المشهد أشبه بارتداد شريط قديم أمام عينيها. **كريس**، ذلك الرجل الذي حمل كلوي ذات يوم من بيتهم، لم يغادر ذاكرتها قط، كظلٍ طويل يلاحق طفولة مبتورة. الرجل الذي لم تستطع كلوي تجاوزه، لم يكن شريرًا بطبيعته، لكنه كان كافيًا ليعيد تشكيل قدرها بالكامل. كانت كلوي
ــ يومها ــ مستعدة أن تتخلى عن كل شيء وترحل معه كمن يركض وراء وهمٍ يظنه الخلاص.
والآن ها هو يمشي جنبًا إلى جنب مع أحمد في مشهد غير متجانس لكن متوازن على نحو مريب.
موضوعيًا، كان كريس وجيف في مستوى واحد من الوسامة، لكن الفرق لم يكن في الملامح بل في **الهالة**:
جيف كان يحمل رقةً تُطمئن القلب بينما كريس يلفّه هواء كثيف من السلطة وكأن حضوره قفصٌ لا يُرى لكنه يُطبق على الأنفاس.
التقت عينا كريس بعينيها… نظرته لم تكن نظرة إنسان بل نظرة حيوان مفترس يتفحص فريسته قبل الانقضاض فشعرت بقشعريرة تزحف تحت جلدها.
في تلك اللحظة بدا كأن الوحش الذي أفسد طفولتها لم يختفِ قط بل ظل يراقبها حتى كبرت… وحش دخل حياتها وسرق والدتها وذهب بعيداً.
*هل سيتذكرني؟* تساءلت سارة لكنها لم تحتج وقتًا طويلًا لتعرف الإجابة.
توقف أمامها، وجاء صوته يخترق صمت المطار:
ــ "الآنسة سارة، هل تنتظرين أحدًا؟"
تصلبت ولم تعرف كيف تواجهه وكأن الكلمات تحولت إلى شظايا في حلقها. كان يفترض أن تظل الضغائن حبيسة الجيل الأكبر لكن مع مرور الوقت أدركت أن كريس لم يسرق كلوي فقط بل سرق أمومتها منها وحوّلها إلى طفلةٍ بلا مأوى روحي.
أجابت ببرود يخفي بركانًا تحت السطح:
ــ "نعم."
ثم نقلت نظراتها مباشرة إلى أحمد.
ربما شعر كريس بوخزٍ من الذنب
أو هكذا أراد أن يوحي فحاول أن يخفف حدّة حضوره قال بنبرة أهدأ كمن يمد غصن زيتون هشًا:
ــ "والدتكِ كانت تذكرك كثيرًا خلال هذه السنوات… الآن وقد عدنا تفضّلي بزيارتنا متى شئتِ... يمكنكِ رؤيتها في أي وقت."
ردت بإيجاز كمن يغلق الباب دون أن يدّعي التهذيب:
ــ "تمام."
ثم حولت نظرها إلى أحمد الذي بدا أكثر شحوبًا من المعتاد والهالات الداكنة تحت عينيه كشفت عن ليالٍ بلا نوم… شعرت للحظة أن جسده يصرخ بما يحاول وجهه إنكاره.
أما كريس فقد أصبح الآن والد زوجة أحمد. *كيف سيتصرف أحمد معها كزوجته السابقة إذا ما حضر كريس؟*
تساءلت سارة. *كريس من النوع الذي يهاجم بسكين إذا شعر بالإهانة… إذا آذى أحمد مارينا فلن يتردد في طعنه بلا تفكير.*
انتظرت سارة أي رد فعل أحمد لكن الرد لم يأتِ كما توقعت فكل ما فعله أنه نظر إليها لبرهة نظرة أقرب إلى الفراغ، ثم أدار وجهه عنها كما لو كانت مجرد عابرة طريق.
ذلك البرود مزّق آخر أوهامها: **فالوعود والكلام المعسول دائمًا ما ينهاران أمام قسوة الواقع.**
ودّعها كريس بمجاملة ثقيلة بينما مرّ أحمد بجانبها دون أن يترك أي أثر من تعبير على وجهه كنسمة باردة لا تعترف بوجود من تلامسهم.
عندما لامس النسيم خدّيها فهمت الرسالة: **لم يُرِد أحمد أن يُفصح عن علاقتهما لكريس.**
بعد
أن غادرا اختارت سارة طريقًا آخر للخروج من المطار كأنها تهرب من مشهد لا يحتمل إعادة العرض لكن ما إن فتحت باب السيارة حتى سُحبت داخلها .