رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثاني عشر 12 بقلم فاطيما يوسف


رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثاني عشر  بقلم فاطيما يوسف

عاد “ماهر” إلى بيته بعد أسبوعٍ كامل من الصمت الذي قطعه مهلةً أخيرة لـ”رحمة”، كان وجهه مشدودًا، وعروقه متوترة، والظلام المتسلل من نافذة المكتب يزيد من حدة ملامحه الصارمة، جلس خلف مكتبه يحاول الانغماس في الأوراق أمامه، لكن قلبه كان ممتلئًا غضبًا وغليانًا كبركانٍ ينتظر الانفجار، كل دقيقة تمر تزيد يقينه أن المواجهة معها لا مفر منها، وأن ساعة الحساب قد حانت،
نهض من مكتبه بعد أن حسم أمره، فتح الباب بخطوات ثقيلة تحمل غضبه المكبوت، ليجد “رحمة” جالسة على الأريكة في الخارج، مرتدية ثيابًا جريئة تفوح منها رائحة عطر قوي، وكأنها تتحدى حضوره، شعر قلبه بالاشتعال، ليس غيرةً فقط بل غضبًا عارمًا، فكيف تجرؤ أن تجلس أمامه بتلك الهيئة وهي مطلّقته؟ فسألها وهو يحاول عدم التأثر بهيئتها تلك وفتنتها المثيرة :
ـ انتي ازاي تقعدي بالمنظر المتحرر دي قدامي وأني مطلقك ، ايه مفيش حياء خالص يا “رحمة” هانم ؟
تململت “رحمة” في جلستها، لكن الكبرياء منعها من إظهار خوفها، فيما كان قلبها يشتعل بندم خفي لم تعرف كيف تخفيه، فقد شعرت بثقل الأسبوع الذي مضى، وكأن كل يوم فيه كان حبلًا يلتف حول عنقها، ومع ذلك، لم تسمح لصوتها أن ينكسر أمامه :
ـ والله أني حرة أقعد في بيتي على كيفي مش عاجبك غض بصرك ولا انت اللي هتتلكك علشان تتطلع لي بقى ؟
اشتعلت عينا “ماهر” بنظرة حادة كسيف مسلول، ملامحه ازدادت صلابة، وصدره يعلو وينخفض من شدة الغضب المكبوت، تذكر كل لحظة حذرها فيها من إهمالها، وكل مرة تجاهلت تحذيره، حتى انفـ.ــجر صوته مثل قنبلة:
ـ أطلع لك مين! على أساس ايه يعني هشوف وجه جَديد مثلاً ؟ ما اني حافظك كويس وحافظ تفاصيلك يعني انتي شكلك دلوك قدامي زي الكرسي بالظبط حافظ شكله وواخد على هيئته اكده.
شعرت “رحمة” بالاختناق، لكن عنادها دفعها لمقابلة نيرانه بسخرية لاذعة، محاولة إخفاء ارتباك قلبها الذي بدأ يضعف، وفي عينيها بريق خوف لم تستطع طمسه رغم كلماتها المتحدية:
ـ أمممم… شكل الكرسي ، آه ! بأمارة انك من ساعة ما رجعت من المكتب وانت مش على بعضك وداخل خارج ، طالع ، نازل وعينيك اللي هتندب فيها رصاص هتطلع لي وهتاكلني أتاري شكل الكرسي عجبك قوي اكده يا متر ؟
اقترب “ماهر” بخطوات غاضبة، ونبرة صوته أصبحت أكثر حدة وقسوة، كأن كل كلمة منه تحمل طوفانًا من الألم والخذلان، كان يشعر أنه أمام امرأة لا تفهم قيمة ما بينهما، ولا تدرك أن صبره وصل إلى نهايته:
ـ شوفي بقي يا مستفزة إنتي ان ما سبتكيش من كيد الحريم دي هتشوفي وش عمرك ما شفتيه في حياتك ، ومتفكِريش حالك هتقدري تأثري علي واني أول ما أشوفك وانتي بالشكل دي هقدم فروض الولاء والطاعة زي قبل سابق ، لااااه يا هانم خلاص الأهبل اللي كان بيريل أول ما يشوفك وتعملي قدامه حبة حركات الدلع دول فاق من وهمك وخلاص الموازين اكده اتنصبت صوح ، وخلاص الأسبوع خلص وأني هاخد بتي وهنمشي واقعدي على كيفك بقي يا بت سلطان.
ارتجف قلب “رحمة” للحظة، شعرت أن الأرض تهتز تحت قدميها، لكن كبرياءها دفعها لرفع صوتها، حتى وهي تشعر بالندم العميق يتسلل لروحها، لم تستطع أن تعترف بخطئها أمامه:
ـ انت فاكر نفسك مين يا بني أدم انت علشان تقعد تتشرط علي وتتفرد وتتني اكده وتدي أوامر كمان ، اني خلاص مبقتش تحت سلطتك ولا ليك حق تعلي صوتك عليا من الأساس انت فاهم ولا مش فاهم ؟
تقدّم “ماهر” أكثر، والغضب يعصف بعروقه حتى كاد يُفقده السيطرة، قبضته اشتدت على ذراعها بعنفٍ لا يقصد به الأذى بقدر ما هو ترجمة لغليان قلبه وحسرته على ضياع ما بينهما:
ـ قسما عظما إن صوتك دي علي عليا تاني لا هفلقك نصين ، اوعاكي تعلي صوتك علي أبداً ، واكتمي خالص وبعد اكده لما اكون جاي تستري نفسك يا هانم يا بتاعة الشريعة والقانون .
صرخت “رحمة” وهي تحاول الإفلات من قبضته، دموعها بدأت تحرق عينيها، ليس خوفًا منه بل من الإحساس بالخذلان، وكيف تحول حبها الكبير له إلى هذا الصراع المرير:
ـ اوعى سيب يدي، بعد عني إنتَ هتوجعني يا مفتري، هو انت بقيت قاسي قوي اكده ليه حرام عليك يا “ماهر” ، وبعدين اه أني بتاعة الشريعة والقانون والشريعة والقانون هيقولوا ان الست المطلقة طلاق رجعي ما تخرجش من بيتها الا بعد ما تتم عدتها وممكن تظهر قدام طليقها عادي بملابس متحررة يعني اني فاهمهة زبن قوي يا متر .
تراجع “ماهر” خطوة، لكنه لم يخفّف من نظراته المشتعلة، قلبه يصرخ من داخله أنه لم يعد يحتمل أكثر، وأن بقاءها بهذه العناد سيحطم كل ما تبقى من صبره:
ـ آه دي على أساس ان اني ممكن اشوفك بحالتك ومنظرك دي وتغريني اقوم يا عيني متراجع عن قرار الطلاق وجاي لك مقدم فروض الولاء والطاعة واقول لك شبيك لبيك “ماهر” بين يدك اعملي فيه ما بدالك؟! والكلام دي يا هانم لو كان في نية رجعة ما بيني وما بينك مني اني ، فاحترمي حالك يا “رحمة” واحترمي دينك واحترمي العشرة المحترمة اللي كانت بيناتنا .
شعرت “رحمة” للحظة بأن قلبها ينكسر، كلمات “ماهر” اخترقت عنادها كالسهم، لكنها أخفت ذلك خلف ابتسامة ساخرة زائفة، فيما كانت روحها تصـ.ــرخ ندمًا وخوفًا من فقدانه وفقدان ابنتها:
ـ يكون بقى في معلومك اني اللي ما بقتش عايزة ارجع لك وما تاخدش مقلب في حالك قوي اكده وتحسسني ان اني هرمي حالي عليك، واعمل حسابك اني مش هسيب بتي يا “ماهر” ومش هخرج من البيت عايز تسيبنا انت وتمشي الباب يفوت ميت جمل ها .
اشتعلت ملامح “ماهر” أكثر، صوته خرج هذه المرة ممتلئًا مرارة وغضبًا لم يعرفه من قبل، فكيف تجرؤ على الحديث هكذا وهو يختنق من خوفه على ابنته التي كادت تفقد حياتها بسبب إهمالها:
ـ ما تخلينيش أعمل حاجة تندمي عليها يا “رحمة” وما تستدعيش غضبي عليكي اكتر من اكده ،اني حذرتك قبل سابق واديتك مهلة اسبوع والسبوع خُلص وما كنتش باجي أبيت اهنه ولا كنت عارف اقعد ويا بتي بسببك وانتِ برده كنتِ هتفوتيها لحالها وتروحي شغلك وتسيبيها لأم “محمد” فأحسن لك تلمي الدور وهطلع اخد البنت بهدوء ونهملك لشغلك ومكتبك وقضاياكي انجحي فيهم على كيفك.
ارتفع صوت “رحمة” هذه المرة وهي تحاول التمسك بابنتها، قلبها يصرخ خوفًا من أن تُنتزع منها، فيما دموعها تختنق في حنجرتها لكنها تأبى أن تظهر ضعفها أمامه:
ـ وه ! كانك هتاخد بتي من حضني غصب عني إياك؟! واني هقعد اهنه ليه لو بتي مش معاي؟ هتفكِرني قليلة الحيلة ولا قليلة الاهل والعيلة عاد ؟ يكون في معلومك اني لو خبرت اخوي عن اللي انت هتعمله فيا دي هيفط فيك فط وهتوبقى جنازة بس اني مش عايزة اخوي وابو بتي يمسكوا في بعضهم .
ارتعشت أنفاسها وهي تحاول أن تُمسك بزمام أعصابها، شعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها من ثقل كلماته الأخيرة التي اخترقت قلبها كسكين بارد، وكأنها فجرت فيها شعوراً بالخذلان والصدمة لم تعرفه من قبل، بدا لها “ماهر” وكأنه جبل شامخ لا يتزحزح، لا تلين قسماته ولا يرق قلبه لدموعها، بينما الكبرياء الذي طالما احتمت خلفه صار قيداً يخنقها الآن ويمنعها من الاعتراف بانكسارها،
وارتسمت على وجهها علامات صدمة لم تعهدها من قبل، إحساس غريب بالخذلان تسلل إلى قلبها، شعرت بأن كلمات “ماهر” ليست مجرد عتاب، بل سهام مسمومة تمزق كيانها قطعة قطعة. كان صوته قاسياً لا يعرف التردد، ونبرته تحمل حُكماً نهائياً غير قابل للاستئناف، فيما ارتجفت يداها من شدة الانفعال وهي تحاول التمسك بما تبقى لها من كبرياء وأكمل هو بعناد وتحدي شرس :
ـ تمام يا رحمة يوبقى انتِ الجانية على روحك ومتقوليش لأخوكِ حاجة اني اللي هروح له بنفسي وهحكي لك هو والحاجه زينب على كل حاجه وهم اللي هيحكموا ما بيني وما بينك وفيديو الاسانسير وكلام الناني اللي حكمت بنفسها ان بنتك تروح لدكتور نفسي هقول لهم على كل حاجه وعلى اهمالك وياها وشوفي بقى منظرك هيوبقى قدامهم عامل كيف وهما بس هيشوفوا فيديو الأسانسير بتاع بتك وانتِ واقفك جارها هتقلبي في الموبايل ونسياها وممكن كانت لا قدر الله تروح فيها يا مهملة، انتِ امي متسيبة.
اهتز جسد “رحمة” وهي تستمع لكل كلمة، شعرت وكأن جدران الغرفة تنطبق عليها، قلبها يصرخ لكن فمها عاجز عن الدفاع عن نفسها، كانت تحاول أن تُظهر تماسكاً زائفاً رغم أن الدموع كانت تحاصر عينيها من كل اتجاه:
ـ حرام عليك تستغل ضعفي وتعمل فيا اكده علشان انت راجل وهتستقوى علي، انت بتعمل معاي اكده ليه ؟ اني اعتذرت لك وقلت لك اني غلطانة وحبيت على يدك ورجليك كماني، ايه المطلوب مني اعمله دلوك علشان أرضيك يعني وتسيبني أعيش ويا بتي ؟ ارجوك ما تحكمش علي بالموت يا “ماهر” اني ما اقدرش أبعد عنيها .
تحرك “ماهر” بخطوات عنيفة تحمل كل ما بداخله من غضب، عينيه تقدحان شرراً وهو يرمقها بنظرة حادة تفضح استياءه الشديد، لم يعد يرى أمامه سوى أم تهدد وجود ابنته برعونتها:
ـ دلوك هتبكي وهتتحايلي ! عجبت لك يا زمن ما اني بتحايل عليكي من بقى لي زمن وهقول لك خلي بالك منيها ، داي اغلى حاجة عِندي، مش مستعد أفقدها وانتِ ولا على بالك وكنتِ هتكملي إهمال فيها عادي وهتنسيها، دي يا مؤمنة كان ممكن يوم يعدي عليكِ من غير ما تشوفيها ولا تحضنيها لو اني اللي عديت جبتها من الحضانة وغديتها ونامت بالنهار وانتِ رحتي ورجعتي لقيتيها نايمة بالليل وما كنتيش بتشوفيها يعني الحوار دي انتِ واخده عليه عادي .
اشتد انفعال “رحمة” وحاولت أن تدافع عن حبها لابنتها بصوت مرتجف، فهي لا تملك سوى كلماتها لتثبت له أن قلبها لا يعرف حياة دون طفلتها، بينما عيونها امتلأت دموعاً رغماً عنها:
ـ بس بتي ما تقدرش تستغنى عني ولا تقدر تعيش من غيري يوم واحد يا “ماهر” ولو انت بتحبها صوح هتسيبها في حضن امها حتى لو هشوفها بالنهار وقت قصير كفاية انها هتنام في حضني الليل كلاته، في حضن امها وهتشم ريحتها .
ارتسمت على وجه “ماهر” ابتسامة ساخرة، تحمل مزيجاً من الاستهزاء والمرارة، وكأنه لا يصدق كلمة مما تقول، ثم التفت فجأة لينهي النقاش بقرار قاسٍ:
ـ متوكده من الكلام ده عاد يا حضرة المحامية العظيمة ؟
يا اللي ما لكيش في الأمومة بربع جنيه تمام نشوف الكلام ده دلوك ،
ثم اعتلى صوته المختنق وهو ينادي على المساعدة في المنزل ليثبت لها حاجة ما في نفسه :
ـ تمام ، يا “ام محمد” هاتي “فيروز” من فوق دلوك حالا .
ارتجفت شفتا “رحمة” وهي تشعر أن الموقف يتفاقم بشكل لا يمكن السيطرة عليه، الخوف على ابنتها دفعها لتصـ.ـرخ بصوت متهدج، بينما قلبها يخفق بعنف يكاد يفتك بها:
ـ ايه ده انت هتعمل ايه وهتاخد البنت وهتمشي وتسيبوني لوحدي ما تاخدش بتي مني يا “ماهر” حرام عليك بجد .
انحنى “ماهر” ليجلس إلى مستوى ابنته وهو يبتسم لها ابتسامة دافئة على غير عادته في لحظات الغضب، وكأن قلبه يلين فقط حين يراها، بينما كان صوته يحمل حناناً لم يظهر لغيرها:
ـ تعالي يا حبيبة بابي إيه رأيك لو اخدك ونسافر أسبوع نروح البحر وأجيب لك ايس كريم وافسحك ونروح الملاهي عايزه تيجي مع بابي ؟
قفزت الطفلة من الفرح بعفويتها البريئة، وعيناها تلمعان بالانبهار وهي تتخيل كل ما يحدثها به والدها، بينما كانت “رحمة” تنظر بذهول وقلق يعتصر قلبها :
ـ أمممم…. أووووه ، “فيروز” هتحبك قوي يا بابا ، اني عايزه اروح وياك البحر والبس المايوه وانت تنزل معاي وتعلَم “روزا” ازاي تعوم، واروح الملاهي واركب الدادة دودي.
ابتسم “ماهر” بحنان وهو يحاول اختبار مدى ارتباط الطفلة بأمها في هذه اللحظة، كانت نبرته هادئة لكنها تخفي وراءها هدفاً واضحاً:
ـ هنروح اني وانتِ لحالنا بس علشان مامي عندها شغل ولا انتِ مش هينفع تروحي من غير مامي .
نطقت الطفلة بعفوية طفلة محرومة من أمها دوماً دون أن تشعر، كلماتها كالسهم اخترقت قلب “رحمة” وجعلتها تطرق رأسها من الألم، فيما اكتفى “ماهر” بالاستماع:
ـ لا ينفع يا بابي مامي بتروح الشغل بالليل وبالنهار ومش بتقعد مع “فيروز” واني قاعدة لوحلى على طول ، وانت بقالك كَتير مش بتقعد معاي انت كمان،
هو انت اشتغل وماما اشتغل و”فيروز” اقعد لوحدها وتسيبوها؟!
اني عايزه اروح معاك البحر يا بابا ، نانا صاحبتي راحت البحر مع باباها ومامتها وما جتش الحضانة الاسبوع اللي فات كلاته واني عايزه اروح مليش دعوة ماما اشتغل وانت تاخد “فيروز” ونروح البحر .
رفع “ماهر” حاجبيه بنظرة انتصار صامتة وهو يواصل اللعب بأعصاب “رحمة”، مستفزاً مشاعرها بكل هدوء:
ـ يعني عادي نروح البحر اني وانتِ من غير ماما ؟
ضحكت الصغيرة بخفة وهي تهز رأسها بالموافقة في براءة، دون أن تدري أن كلماتها تقلب قلب أمها رأساً على عقب:
ـ ماما مش عايزه تيجي براحتها هي حرة اما “فيروز” عايز يروح البحر مع باباه .
ربت “ماهر” على كتف ابنته برفق وهو ينهض من مكانه، وفي عينيه لمعة تحدٍّ واضحة وهو يوجه كلامه لابنته :
ـ طب يا حبيبة بابي اطلعي دلوك كملي الواجب بتاعك وما تقلقيش يا حبيبي هنروح البحر سوا .
قفزت الطفلة بسعادة عارمة وركضت للأعلى وهي تضحك، بينما بقيت “رحمة” واقفة عاجزة عن الكلام، تحاول تمالك نفسها أمام ضرباته الموجعة:
ـ هييييه ، “فيروز” حبك موت يا بابا حبك قوي عشان هتوديها البحر .
التفت “ماهر” نحو “رحمة” ونظرة الانتصار لا تزال تكسو عينيه، كلماته تخرج كطعنة مباشرة لا تعرف الرحمة:
ـ ها ايه رايك بتك عندها استعداد تسافر عادي جدا وانتِ مش معاها لانها شايفة ان حضرتك هتشتِغلي ليل ونهار ومش فاضية لها، على فكرة البنت تقدر تستغنى عنك عادي جدا لأنك ما لكيش وجود في حياتها من الاساس فواخدة على غيابك عنها وعدم وجودك معاها في اي حاجة هي هتحبها.
اشتعل الغضب في عيني “رحمة” وهي ترفع رأسها متحدية رغم الألم والدموع التي تملأ عينيها، رفضت أن تظهر ضعفها أمامه:
ـ انت على فكرة كلامك تقيل قوي وجامد واني مش هسيب بتي يا “ماهر” مهما حوصل ومهما عميلت وقلت.
أجابها بصوت ثابت كأنه يكتب قراراً لا عودة فيه، بينما ملامحه لا تعرف ليناً:
ـ تمام يوبقى يا تختاري يا بين بتك وبيتك يا بين الشغل ؟
صرخت “رحمة” بانفعال وهي تشعر أن الأرض تهتز تحت قدميها، لم تتوقع أن تصل المواجهة لهذه الدرجة من القسوة:
ـ وه ! انت عايزني أسيب شغلي ومستقبلي ونجاحي بعد التعب اللي اني تعبته دي كلاته واستغنى عنيهم اكده بكل بساطة ؟! وعلشان ايه ؟ علشان خاطر حضرتك تنفش ريشك علي وتفرض آراءك المريضة داي وتسيطر على نجاحي اللي هتغير منيه ، دي بالنسبة لي قمة الأنانية منك يا “ماهر” ، قمة الأنانية .
ضحك “ماهر” ضحكة قصيرة لكنها مليئة بالسخرية والحزن في آن واحد، وصوته يزداد حدة كأنه يضع النقاط الأخيرة على الحروف:
ـ أنانية ! أنانية مين يا هانم ؟ وهغير منك كمان برافوا ! انتِ للأسف واحدة طماعة ولا عارفة توازني بين بيتك وشغلك ولا عارفة تشوفي بتك اللي في أهم سن محتاجة فيه حضنك وحنانك واهتمامك، يكون في علمك المربية الجَديدة جايه للبنت كمان اسبوع وطالما انتِ مش عايزه تديني البنت يوبقى هاجي اعيش معاها اهنه وخليكي قاعدة بقى براحتك وراضية على حالك الوضع السخيف دي ،والمربية الجَديده هتيجي .
حاولت “رحمة” أن تنقذ ما يمكن إنقاذه، كلماتها خرجت بصوت مخنوق يختلط فيه الرجاء بالغضب المكبوت:
ـ طب …. ما المربية الجَديدة تاجي واني وانت وبتنا نعيش مع بعض عادي يا “ماهر” وتتراجع عن اللي في دماغك واهو منها هتساعدني ومنها ما اسيبش شغلي ونرجع لبعض.
لكن “ماهر” نظر إليها بجمود، وكأن كل ما بينهما صار ذكرى بعيدة، صوته خرج كالقضاء النافذ لا يقبل جدلاً وهو يلقي قنابله الموقوتة الموجعة لها في صدرها :
ـ للأسف انتِ عارفة زين انك لو المربية الجَديدة جت مش هتشوفي بتك ولا ليل ولا نهار وهتعتمدي عليها اعتماد كلي واللي هيربي بتك غيرك، و للأسف بردو اني اكتشفت دلوك إني ما عرفتش اختار ام زينة لبتي، اني ندمان ندم عمري لأول مرة إني اسمي ارتبط باسمك .
خرج “ماهر” من المنزل بخطوات ثابتة، كأن الأرض نفسها تخشى أن تهتز تحت قدميه من شدة عزيمته، كانت عيناه تحملان ذلك البريق الجامد الذي لا يلين ولا يعرف ترددًا، كمن عقد العزم على أمر لا رجعة فيه، وكمن أقسم في قرارة نفسه أن يربيها كما يربي عنادها نفسه، ولو على حساب قلبه،
أما “رحمة” فقد وقفت مكانها للحظة، كأن روحها انسحبت منها، ثم هوت جالسة على الأرض والدموع تغمر وجهها، لا تدري أهي دموع غضب أم انكسار أم خليط بين الاثنين، أخذت تلومه في سرّها على تلك القسوة التي لم تعهدها فيه قط، وكأن رجولته اليوم صارت سيفًا مسلطًا على عنقها،
مدت يدها بلا وعي إلى الطاولة القريبة فرمت كل ما عليها، فتناثرت الأوراق والأقلام وكأنها تريد أن تصـ.ــرخ بلسان الأشياء حولها، دفعت الكرسي بعـ.ــنف حتى ارتطم بالجدار، ثم جرت إلى المرآة لتنظر إلى وجهها المتعب، فكأنها ترى امرأة أخرى غير التي كانت تعتقدها قوية مسيطرة،
تحسست قلبها وهي تقول بين نفسها؛ أهكذا يُجازى الحب؟ أهكذا يُستغل ضعفي؟ ثم تابعت بكاءها بحرقة، كأن الدموع صارت سلاحها الوحيد في مواجهة جدار صلب من عناد رجل لا يعرف التراجع،
في تلك اللحظة أدركت أن الصراع بينهما لم يعد مجرد خلاف عابر، بل معركة إرادات حقيقية، وأن “ماهر” ماضٍ في طريقه حتى النهاية، وأنه لن يرضخ لدموعها كما كان يفعل دائمًا،
أمسكت مزهرية صغيرة وألقتها أرضًا فتكسرت إلى شظايا متناثرة، وكأنها تعكس قلبها المحطم في هذه اللحظة ،نظرت حولها فلم ترَ سوى الخراب الذي أحدثته بيديها، فأطلقت شهقة طويلة ومزيدًا من الدموع،
سقطت على الأريكة وهي تلهث من شدة الانفعال، ويدها على جبينها كأنها تحاول استجماع أنفاسها، لكن كل ما كان يتردد في أذنها هو صدى خطوات “ماهر” وهو يغادر مصممًا لا يعرف الرجوع،
في قرارة نفسها تعلم أن الأيام المقبلة لن تكون هادئة، وأنه مهما توسلت إليه فلن يتراجع عن قراره، وأنه سيبقى متمسكًا بتربية عنادها كما يربي طفلتهما،
أما قلبها، فقد كان يصرخ في الداخل؛ لماذا يا “ماهر” ؟ أول مرة تفعل بي هذا… أول مرة تختار القسوة بدل الحنان؟!
ومع كل دمعة جديدة كانت الجدران تشهد على انكسار امرأة كانت يومًا تعتقد أن الحب وحده كافٍ ليكسر شوكة أي رجل وهيهات إنه ليس رجلاً عاديا إنه الخط المخيف وجوده في المكان كالزلرال إنه “ماهر البنان” .
************
مرّ أسبوعان ثقيلان على قلب “سكون” منذ تلك الليلة الباردة التي أغلق فيها “عمران” باب قلبه في وجهها، تغيّر كل شيء بينهما، لم يعد يطرق باب غرفتها، لم يعد يناديها بصوته المليء بالشوق، بل صار يتعامل معها ببرود متعمّد، صمتٌ طويل ونظرات جامدة وحضور ثقيل كأنه يعاقبها من دون كلمة واحدة، ورغم أنّه لم يقل شيئًا صريحًا، إلا أنّ صمته كان أبلغ من أي اتهام، المكان الذي تتواجد به يبتعد عنها عمداً ،مما آلمها وجعلها تنتفض صراخا من ابتعاده وجموده معها بتلك الدرجة البشعة من وجهة نظرها،
كانت تحاول أن تقترب منه كل يوم، بكلمة، بابتسامة، بلمسة عابرة حين يجلسان إلى المائدة، لكنه كان يرد عليها بفتور شديد، حتى حين تجلس بجواره، يكتفي بإيماءة مقتضبة أو إجابة قصيرة، ثم يواصل انشغاله بهاتفه أو أوراقه، كأنه يريد أن يعلّمها درسًا لا يُنسى، وكلما مرّ يوم، ازداد خوفها من أن الفجوة بينهما تتسع،
في صباح ذلك اليوم، دخلت غرفته وهي تحمل فنجان قهوة صنعته بنفسها، رائحة البن تعبق في المكان، لكنها لم تجد منه سوى نظرة سريعة ثم عاد إلى هاتفه، اقتربت منه بخطوات مترددة، وضعت الفنجان على الطاولة وقالت بنبرة هادئة:
ـ صباح الخير يا “عمران” ،عاملة لك قهوة مخصوص زي ما هتحبها وقلت اصبح عليك بيها علشان تشربها من يدي وتركز في شغلك .
رفع عينيه إليها ببطء، وكأن النظر إليها صار عبئًا ثم قال ببرود لا يخلو من الجفاء:
ـ صباح الخير، شربت قهوتي عميلتها لحالي زي كل صبح معلش اشربيها انتِ .
شعرت كأن قلبها يسقط على الأرض، لم يمد يده حتى للفنجان، لم يبتسم كما اعتاد، لم يقل كلمة واحدة عن تعبها أو عن اهتمامها به، حاولت أن تلتقط أنفاسها وأجبرت نفسها على الكلام:
ـ هو انت متغير معاي اكده ليه يا “عمران” ؟
بتتجنب الكلام معايا وبتحاول ما تبصليش وحتى لو عينك جت في عيني صدفه واحنا هناكل ويا بعض او واحنا قاعدين والاولاد حوالينا هتبعد عينك عني هو وشي دلوقت بالنسبه لك بقى اكبر عدو واكثر حاجه تكره تشوفها ؟
فهمني يا “عمران” مالك كرهت “سكون” للدرجة دي؟
لم يرفع رأسه من الهاتف، وكأنه لم يسمع شيئاً مما استدعى ذهولها لتلك الطريقة التي لم تعهدها يوما من عمرانها وقلبها بدى يدق هلعاً ورعباً ، فــأعادت السؤال بنبرة فيها رجاء:
ـ هو انت ليه بتحاول تتجاهلني بالشكل دي؟! اني ما فهماش ايه اللي حوصل مني علشان تتعامل معاي اكده؟
ليه يا “عمران” طريقتك الجديده دي هتقـ.ــتلني من جواي؟
بقى “سكون” تهون عليك بالشكل دي؟
نظر إليها أخيرًا، نظرة ثابتة لكنها قاسية، وقال بلهجة حادة بل وكأنها أحد من السكين بصوت يملاه البرود والجمود معاً:
ـ “مش وقته الكلام دي دلوك يا ” سكون” اني متأخر ووراي شغل مهم بعدين نشوف الحوار دي ، همليني أروح لشغلي .
ثم نهض وأمسك مفاتيحه وخرج من الغرفة دون كلمة أخرى، و تركها واقفة في مكانها، تتلوّى بين الغضب والحزن والدهشة، لم تعتد منه هذا التجاهل القاسي، لم تعتد أن يدير لها ظهره بهذا الشكل،
جلست على حافة الفراش بعد خروجه، وجهها بين يديها، وقلبها يصرخ بأسئلة لا جواب لها:
ـ هو ليه متغير معاي اكده؟معقولة كل دي علشان طلبني ليلة وقلت له إني تعبانة ؟!
هو ممكن يكون حد دخل حياته؟
ممكن تكون “نور” اللي طبت علينا زي القضى المستعجل ومن وقتها خربت حياتي وياه ؟!
او فعلاً كل دي علشان أنا أهملت فيه؟ طب هو كلمها تاني بالليل وكل ليلك هيكلَمها ؟
ظلت تدور في حلقة مفرغة من الشكوك طوال النهار، كل لحظة تمرّ تشتعل الغيرة أكثر، وكلما حاولت أن تُقنع نفسها أن “عمران” مستحيل يخونها، يهمس لها صوت آخر:
ـ لااااه ، عمران” عمره ما يفكِر يبص لواحدة غيري ابدا ولا عمره يبص لست تانية يستحيل .
ظلّت شاردة طول اليوم، لا تذوق طعامًا ولا تركّز مع أولادها، كل ضحكة منهم تمرّ أمامها بلا طعم، لأنها كانت غارقة في أفكارها السوداء،
وقبل غروب الشمس بقليل، لمحته من نافذة غرفتها وهو يجلس في الحديقة مع الدكتورة “نور” كان الجو ساكنًا، الهواء يحمل رائحة العشب المبلول، وعمران يجلس في كرسي خشبي بسيط يتحدث معها باحترام واضح لكن بابتسامة لم ترها منذ أسابيع على وجهه، كان يختلق أحاديث خفيفة، يضحك معها بخفة رجل يعرف كيف يجعل الحوار يبدو عاديًا، بينما في داخله يعرف أن زوجته تراقبه من بعيد،
وقفت “سكون” خلف ستائر البلكونة، قلبها يكاد يقفز من مكانه وهي تحدث حالها بجنون :
ـ هو إيه اللي بيوحصل دي ؟! بيضحك لها ليه؟!
أني بقالي أسبوعين ما شفتش الضحكة دي على وشه!
كانت نيران الغيرة تأكلها بسرعة رهيبة ،كل ابتسامة منه وهي تراها تضرب قلبها كسهم مسموم،
لم تتحمل أكثر، اندفعت إلى الخارج بخطوات سريعة، قلبها سبق عقلها، وعيونها مشتعلة بالغضب، هبطت الدرج حتى وصلت إلى الحديقة، وفي صوتها ارتعاش واضح من شدّة الانفعال، صرخت:
ـ هو إيه اللي بيحصل اهنه يا عمران بالظبط؟!
اوعاك تقول ام العيال مشغوله معاهم واني العب بديلي على كيفي ده انت هتبتسم لها ابتسامه ما شفتهاش منك بقالي اسبوعين بحالهم ما تخليش الشك يلعب في دماغي ناحيتك يا عمران ووقتها هتهدي حاجات كتير قوي جوايا ليك عمرها ما ترجع ما تلعبش في الثوابت معايا يا عمران ؟
التفت إليها بهدوء كامل، كأنه كان يتوقع قدومها، أما “نور” فارتبكت من نظرات الاتهام التي قراتها في عيناي “سكون” ، قامت من مكانها فورًا، لكن “عمران” أشار لها بإيماءة مطمئنة أن تجلس، ثم نظر إلى “سكون” بعيني رجل قوي لا يهتز أمام العاصفة:
ـ “إيه يا ” سكون” ؟ مالك صوتك عالي اكده ليه؟ آني والداكتورة شغالين .
اقتربت منه، عيناها تلمعان بالغضب والدموع المكبوتة وهي تسحبه من يده بعيداً عن تلك الدخيلة عليهم:
ـ مالك يا “عمران” ؟! أسبوعين متغير معاي خالص، هتعاملني بتجاهل، وبعدين ألاقيك قاعد بتضحك وتهزر اهنه مع الست الداكتورة ؟
رد بهدوء بارد، كأنه يقلب سكينًا في جرحها ببطء كي يثبت لها ان لكل فعل رد فعل مساوي له:
ـ مالي عاد؟ هو الانسان منينا ممنوع يضحك وهو في شغله ولا إيه عاد ؟
هزت رأسها بحرقة وهتفت بصوت مختنق:
ـ آه ممنوع، لما تكون ما بتضحكش معاي ولا بتكلمني زي الناس، آه ممنوع! يعني أني ماليش عندك كلمه حلوة، وتاجي اهنه وتضحك مع داي اني ما فاهماش انت فيك ايه بالظبط؟
ابتسم “عمران” نصف ابتسامة، نظرة فيها غضب مكتوم ورجولة مصممة على ألا تنكسر:
ـ “سكون” إوعاكي تدخلي في كلامي مع الناس بالطريقة داي، أني راجل عارف أني بعمل إيه،ومش محتاج حد يحاسبني.
صرخت في وجهه، الدموع تلمع في عينيها وهي لم تصدق ان هذا عمرانها عشقها ومعشوقها الذي لا يتحمل دمعه واحده تهبط من مقلتيها:
ـ لاه يا “عمران” ، محتاج! محتاج مرتك تسألك انت ليه بتعاملها بالشكل دي!
محتاج تعرف إنك بتجرحني وانت بتعمل اكده! أني مش قادرة أفهمك بقالك أسبوعين غريب، انسان تاني عمري ما شفتوش قبل سابق، هتعاملني كأني مش موجودة!
نظر إليها نظرة طويلة، صوته نزل هادئ لكنه أخطر من أي صراخ وهو يجيبها بما جعلها تحزن بشدة:
ـ عشان تتعلَمي يا “أم سَليم” إن الراجل ما يتحبّش بالكلام ولا بالمجاملات لما تفتكري، الراجل هيتحب بالفعل، وبالاهتمام، وبإنه يحس إن مرته شايفاه قبل أي حاجة تانية.
حاولت أن ترد، لكن الكلمات خانتها، شعرت كأن الأرض تدور، كأن دموعها ستفضح كل ضعفها، أما “نور” فقد قامت سريعًا تحاول الانسحاب حينما بدا صوتهم يعلو:
ـ “باشمهندس ” عمران” أني هسيبكوا تتكلموا براحتكوا ونبقى نكمل شغل بكرة .
رفض تحركها بشدة و أوقفها بابتسامة هادئة:
ـ “اقعدي يا داكتورة الأدوية اللي هتاجي للفرسات لازم تتراجع وهنشوف هنستغنى عن ايه وهنستبدل ايه علشان نبعت للشركة بكرة الشغل دي ما ينفعش يتأجَل.
زاد هذا المشهد النـ.ــار في قلب “سكون” ، كيف يطلب من “نور” البقاء بينما يطعنها بكلماته الآن؟ اقتربت أكثر، وصوتها يرتجف:
ـ إيييه؟! انت هتعمل معاي اكده ليه ، فهَمني عاد اني هتجنن منيك ؟ انت مش “عمران” عاشق “سكون” ابدا ، إنت واحد تاني أني معرفهوش .
أجابها بنفس نبرة البرود وهو يذكرها بكلمتها التي كانت دوماً تلقيها على مسامعه حينما كان يرجوها ان تكون معه كأي رجل وامراته:
ـ مش وقته الكلام ده يا “سكون” اني شغال ما تكبريش المواضيع عارفاها انت الكلمه دي اللي دايما كنتي هتقوليها لي .
صرخت به دون ان تراعي وجود تلك الطبيبة وقد خرجت عن وعيها بسبب كلماته:
ـ لااه وقته ! أني مرتك وعندي الحق أعرِف ليه بتتغير عليا اكده! وليه بتضحك اهنه مع “نور” داي وليه حاسه إني بقيت غريبة عنيك؟!
هتف بصوت مختنق وداخله حزين بشدة لتلك الحاله التي وصلوا اليها بسببها:
ـ بقيتي غريبة بيدك يا “سكون”، و يوم ما قررتِ إن “عمران سلطان” ملهوش عازه عندك غير على كيفك وفي الوقت اللي شايفاه لصالحك، ويستنى مرته زي العيل الصغير، أني راجل يا “سكون” مش لعبة في يد حد.
كان “عمران” واقفًا بثبات، عيناه جامدتان كالجدار، لا يظهر فيهما انفعال رغم اشتعال الموقف أمامه، و”سكون” واقفة مقابله، قلبها يتقلب بين الغيرة والخذلان، تتشبث بكلماتها علّها تكسر صمته أو تعيده إلى سابق عهده معها، لكنه كان رجلًا قرر أن يعلّمها الدرس بطريقته الخاصة، كلما علت نبرتها، ازداد هو هدوءًا، وكلما زاد رجاؤها، ازداد هو صلابةً كأنه جبل لا تهزه عاصفة،
اقترب منها خطوة، صوته خرج هادئًا لكنه ممتلئ بالقوة التي تحمل أمرًا لا يقبل النقاش، عينيه لم ترمشا وهو يثبتها في مكانها:
ـ اطلعي أوضتك دلوك عندي شغل لازم يخلص دلوك،روحي شوفي عيالك وخليكي زي ما انتي عايزه، أني مبقتش أهتم ،ولا بقيت اقرفك كل شوي بطلباتي ولا فاضي للحوارات داي، ريحتك مني خالص.
شعرت كأن الأرض انشقت تحت قدميها، كل كلمة منه كانت كسـ.ــكين بارد ينغرس في قلبها بلا رحمة، حاولت أن ترد بصوت مرتعش، تبحث عن أي خيط للأمل:
ـ “عمران” انت بتطردني من قدامك؟! انت هتتعامل وياي اكده ازاي ! والله ما مصدِقة حالي واصل .
أشار بيديه الى الداخل وهو يأمرها:
ـ مش وقته ولا مكانه الكلام ده يا “سكون” اتفضلي روحي لولادك .
أدار ظهره لها بلا تردد، جسده القوي يتحرك بخطوات واثقة نحو الكرسي حيث كانت “نور” ما تزال جالسة، تنظر للمشهد بارتباك وقلق ظاهر على ملامحها وهي تريد الفكاك من بينهم بأي طريقة ولكن “عمران” لم يسمح لها، ثم جلس “عمران” بجوارها بهدوء كأنه لم يحدث شيء، أمسك كوب العصير على الطاولة ورشف منه ببرود كامل، ثم التفت إليها بابتسامة خفيفة وقال بلهجة عادية جدًا، كأن اللحظات السابقة لم تكن موجودة أصلًا:
ـ كملي يا داكتورة، كنا فين قبل ما نقطع حديتنا.
وقفت “سكون” للحظة مشلولة لا تصدق ما يحدث، رجلها الذي تعرفه منذ سنوات يتجاهلها هكذا أمام امرأة أخرى؟! قلبها يكاد يحـ.ــترق، أنفاسها تتسارع، والغـ.ــضب يشـ.ــتعل في عروقها حتى شعرت أن وجهها كله يلهب من شدة الدماء المتدفقة فيه؛ لم تجرؤ على الرد أمامه حتى لا تزيد الموقف سوءًا، لكنها كانت تغـ..ــلي من الداخل،
عادت إلى غرفتها بخطوات ثقيلة، كل ضربة كعب على الأرض كأنها طعنة في كرامتها، جلست على حافة الفراش وعقلها يدور بسرعة جنونية:
ـ إزاي يجرؤ يعمل فيا اكده؟! يسيبني واقفة زي الضيفة، ويكمل قعدته وياها؟! لااه مستحيل الموضوع يعدي اكده، أني لازم أخلص من “نور” داي نهائي، لازم أعرِفها إن مالهاش مكان في حياتنا واصل .
الغيرة العمياء كانت كالسم يسري في دمائها، لم تعد ترى الأمر كما هو، لم تعد تفكر بعقل، كل ما كانت تسمعه بداخلها صوت واحد: ـ لازم تطلّعيها بره حياتكم يا “سكون” دلوك حالًا قبل ما تخــ..ــطفه منيكي وهي حلوة، ومتعلَمة وكمان هتفهم في الخيل وهتحبهم زيه بالظبط لازمن أنزلهم دلوك تاني مهسكتش على المهزلة داي واصل.
قامت بسرعة، فتحت خزانتها وسحبت عباءة داكنة ترتديها حين تخرج مسرعة، نظرت في المرآة ورأت انعكاس وجهها مشدودًا، عينيها متسعتين من شدة الانفعال، ضغطت على أسنانها حتى شعرت بألم في فكّها، لكنها لم تهتم،
في الأسفل، كان “عمران” يتحدث مع “نور” بنبرة عادية جدًا، يسألها عن آخر التطورات في مشروع المزرعة، ويعلق بهدوء على بعض الملاحظات التي تشرحها، لا كلمة خارجة، لا نظرة مشبوهة، لكن قلب “سكون” المشتعل بالغيرة لم يكن يرى سوى أنه يجلس معها ويضحك بينما يتجاهلها هي،
وقفت عند باب الحديقة للحظة تلتقط أنفاسها، ثم تقدمت بخطوات محسوبة، كل خطوة كأنها تجمع غضب يومين كاملين،ملامحها لم تكن تخفي نيتها، كانت أشبه ببركان على وشك الانفـ.ـجار،
وصلت إلى حيث يجلسان، نظرت أولًا إلى نور بعينين تقدحان شررًا، ثم حولت بصرها إلى عمران لكنها لم تقل له كلمة، لم يكن في عينيها سوى قرار واحد لا رجعة فيه ان تلك الطبيبة لابد ان تغادر فورا،
رآها “عمران” من بعيد وهي قادمة بشرارها والغيرة تلمع في عينيها فابتسم وهو يراها تقترب، تلك الابتسامة الساخرة الخفية التي يعرفها جيدًا حين يقرر ألا يلين أبدًا، وحين يعرف أن ما تفعله مجرد انفعال لن يغيّر شيئًا من قراره، أما “نور” فقد بدت متوترة للغاية، شعرت أن الجو أصبح مشحونًا ولم تفهم السبب،
جلست “سكون” على مقعد مقابل لهما دون استئذان، وكأنها تعلن سيطرتها على المكان، ثم نظرت إلى “عمران” نظرة متحدية تحاول أن تخترق جدار هدوئه:
ـ أني محتاجة أتحدت مع الداكتورة “نور” لوحدنا.
أجابها “عمران” ببرود مطلق وهو يضع كوبه على الطاولة دون أن يهتز صوته:
ـ أي كلام يتقال اهنه يتقال قدامي يا “سكون” ما عِندناش حاجة نخبيها.
كان رده صفعة ثانية على وجهها، لكن هذه المرة، لم تعد قادرة على كتم غضبها، ثم نظرت إلى “نور” مباشرة وقالت بنبرة حادة امتزجت فيها الغيرة بالجرأة المفاجئة وهي تشعر انها قد وصلت إلى حافة الجنون:
ـ طب يا داكتورة احنا استغنينا عن خدماتك خدي بعضك وارجعي بلدك واحنا هنجيب دكتور .
ارتبكت “نور” وشهقت بخوف واضح وهي ترفع يديها كمن يحاول الدفاع عن نفسه:
ـ هو في حاجة صدرت مني تجاهك يا مدام “سكون” أزعجتك مني؟
أظن أنا بقى لي داخلة على السنتين شغالة معاكم وعمري ما ضايقتك في حاجة؟
لكن “عمران” وضع يده في يد “سكون” برفق امام الطبيبة وهو يبتسم لها بتأدب مروعيا غيرتها أمام “نور” ثم ذهب بها إلى مكان بعيدا عنها وقاطع الموقف كله قبل أن يتصاعد أكثر، صوته كان كالسوط وهو يوجه كلماته مباشرة إلى زوجته :
ـ “سكون” لو سمحتي روحي شوفي عيالك زي ما قلت لك، أني مش هسمح لك تتكلَمي مع ضيوفي بالشكل دي اللي انت بتعمليه عيب يا “سكون” .
ردت بعناد وصوت مرتجف لكنها لم تتراجع:
ـ لاااه ،مش ضيوفك يا “عمران” دي واحدة بتاخد منك اهتمام زيادة عن اللزوم، وأني مش هسكت .
وقف “عمران” فجأة من مكانه، طول قامته وظلاله جعلت الموقف أكثر هيبة، نظر إليها نظرة تحذير صريحة، وصوته انخفض لكنه صار أخطر:
ـ اطلعي فوق دلوك لو سمحتي ما تجبرنيس أرفع صوتي عليكي قدام الناس اني لحد دلوك هتعامل وياكي بطولة بال.
سكتت لحظة، ثم رمقته بنظرة تحدٍّ أخير قبل أن تستدير بسرعة وتصعد إلى غرفتها، لكن قلبها كان يشتعل أكثر، لم تعد تفكر بعقل، لم تعد تسمع سوى صوت واحد يصرخ بداخلها ان تلك النور هي العقبة التي جعلت عمرانها يتغير عليها بتلك الدرجة ولابد ان تغادر من حياتهم،
أما “عمران” فقد عاد إلى مكانه بهدوء وكأن شيئًا لم يحدث، أكمل حديثه مع “نور” عن المزرعة، بينما في داخله كان يعرف أن الدرس بدأ يؤتي ثماره، “سكون” تغـ.ـلي من الغيرة، لكن هذه المرة ستفهم أن الرجل لا ينتظر اهتمامًا وقت ما يناسبها، بل يريد زوجة تضعه في قلب أولوياتها.
*********
شعر “فارس” بالاختناق من كثرة الأفكار التي تتناوب عقله والحدة في صوته بدت واضحة والآخر يوبخه:
ـ علشان تعرف انك غبي كشفت نفسك قدامها وانا متفق معاك ان انت تكون حريص أكتر من كده اديها كشفتك وكشفت لعبتك عليها ومصممة انك تعرفها على بيري حبيبتك تحرس وتخفي أي حاجة توصلها ليك لحد ما وصلت لطريق مسدود بينك وبينها وكشفتك يا غبي وانا كنت مخطط لك ان هي عمرها ما هتكشفك.
ارتبك “فارس” وهو يحاول الدفاع عن نفسه وفي صوته أثر الخوف والندم:
ـ طب انا ذنبي ايه علشان تزعق لي بالشكل ده؟ انا كنت سايب موبايلاتي اللي هي تعرفها هنا ولما رحت هناك كانت بيري جايبه لي موبايل جديد كنت بكلمها من عليه واكيد هي ما كانتش تعرف عنه حاجه وحوار الساعه انا كنت غافل عنه تماما.
ضغط الآخر على أسنانه بقسوة كأنه يعاقبه بغضب أكبر:
ـ انا منبه عليك اي حاجه فيها واي فاي ما تكونش معاك واي اتصالات ما تكونش معاك انت طلعت غبي وهي طلعت اذكى منك ولبست نفسك الخيانه وما قدرتش تفلت منها باي حجه قدامها
ارتفع صوت “فارس” في محاولة يائسة للبحث عن مخرج من الورطة:
ـ طب قول لي انت كنت هفلت منها ازاي وهي جابت لي كلامي كله مع “بيري” وواجهتني بيه عايزني اطلع كذاب كمان مش كفايه شايفاني خاين دلوقتي.
نظر “الآخر” حوله بتوتر وهو يطلب النصيحة بعينين مضطربتين :
ـ طب ايه الحل يا فالح بعد اللي انت عملته؟
توسل “فارس” بحرقة وهو يحاول التمسك بخيط الأمل الوحيد:
ـ طب امال انا جاي لك ليه ما انا جاي لك علشان انت اللي دايما بتنصحني شوف لي حل ارجوك انا ما ليش غيرك وانت دايما اللي بتقف جنبي وبتنصحني.
أخذ نفساً عميقاً وكأنه يسترجع وصايا كان يعرفها مسبقاً:
ـ ياما قلت لك لازم تكون حذر في تعاملك مع كل الناس لازم تاخذ بالك من نفسك حتى لو مع نفسك شخصيا مش مع مراتك انا ما عنديش حل مش انت تعكها وانا اشيل الهم معاك.
أطبق “فارس” قبضته على المقعد بجانبه وهو يستسلم لفكرة المواجهة:
ـ انا ما قداميش حل غير المواجهه وهي بعيده عني من بقى لها كتير ورفضه الكلام معايا وانا تعبت من بعدها وانت عارف ان انا بحبها.
تبدلت ملامح الآخر إلى سخرية باردة كأنه يستهزئ بمشاعره هو نفسه:
ـ اما انت أمرك غريب يا شيخ ما كفايه عليك “بيري” ما انت كمان بتحبها ما تقدرش تستغنى عنها انت عايز كل حاجه ما تبقاش طماع.
ارتجف قلب “فارس” وهو يتوسل ألا يُحرَم من أي منهما:
ـ ما يبقاش قلبك انت كمان قاسي وتؤمرني اني ابعد عن روحي و”فريدة” روحي وانت عارف كده كويس وبيري برده كمان روحي انا ما اقدرش اعيش من غير حد فيهم هم الاثنين.
ارتسمت على وجه الآخر ابتسامة مائلة لا تخلو من المكر وهو يعلن عن المعلومة الصادمة:
ـ خلاص يا حبيبي “بيري” وصلت مصر من يومين لانك طبعا اتصرفت من ورايا وخليتها تنزل وهي طبعا انا لما صدقت هتعيش في نفس المكان اللي انت عايش فيه خذ الست فريده هانم وروح خليها تشوفها وتقابلها ومن وقتها هتخيرك ما بينها وما بينك ده ان سامحتك اصلا.
شهق “فارس” بخوف وهو يتخيل ما قد يحدث لو وُضع أمام هذا الاختيار:
ـ هو ده اللي انا خايف منه انها تخيرني ما بينهم وانا بحبهم هم الاتنين.
رمق الآخر الفراغ بعين ضاقت حتى صارت مليئة بالملل والضيق:
ـ انا تعبت منك وزهقت انت ضيعت لي وقتي ومش فاضي لك وخلاص انت وعدتها انك هتخليها تقابلها لازم تنفذ وعدك انا لازم امشي دلوقتي.
تحرك “فارس” بسرعة وخوف وهو يستنجد بصوت مرتجف:
ـ لا استنى ما تمشيش ما تمشيش وتسيبني.
لم ينم “فارس”/ طوال الليل، كانت عينيه شاخصتين إلى السقف كأنهما تبحثان عن مخرجٍ مستحيل من فخٍّ صنعه بيده، قلبه يدق بعـ.ـنف في صدره، يتناوب بين طنين الغضب وخفقات الرعب، يدرك أنّ اللحظة التي حاول الهرب منها طويلًا قد حانت، لحظة المواجهة بين زوجته “فريدة” وبين “بيري” تلك المرأة التي صار اسمها يطارده في يقظته ومنامه، حاول “فارس” أن يقنع نفسه بأنّه قادر على السيطرة على الموقف، لكن أصابعه كانت ترتجف حتى وهو يزرر قميصه، وعرق بارد يتصبب من جبينه رغم برودة الجو،
أما “فريدة” فكانت صامتة كأنما فقدت القدرة على النطق، عينيها مسمرتان إلى الأمام ووجهها شاحب كمن يساق إلى مصيره بغير إرادته، كانت تشعر وكأن الأرض تضيق تحت قدميها كلما اقتربت السيارة من العنوان الذي أعطاها “فارس” ، قلبها يدق بسرعة هائلة، أنفاسها تتلاحق، لم تكن تعرف كيف ستتمالك نفسها عندما تقف أمام المرأة التي ظلت تسمع صوتها وضحكاتها من خلال الساعة اللعينة وهي تغازل زوجها ،كل ثانية في الطريق كانت تكبر في قلبها كسكين تغرس ببطء، كأن الزمن يجرّها نحو لحظة لم تتخيل يومًا أنها ستعيشها،
كان “فارس” بين الحين والآخر يحاول كسر الصمت بكلمات مقتضبة، لكن صوته كان مبحوحًا، ونظراته زائغة، يحدق في الطريق أمامه وهو يضغط على المقود بقوة حتى ابيضت مفاصله، عقله مشغول بترتيب الكلمات التي سيقولها، كيف سيبرر، كيف سيبدو هادئًا؟ كيف سيقنع “فريدة” أنّها كل معشوقته وأنها لن يستطيع الاستغناء عنها ؟
وفي داخله خوف آخر من رد فعل “بيري” نفسها، كيف ستتلقى هذه المواجهة، هل ستتصرف بهدوء أم بكبرياء قد يزيد النار اشتعالًا؟
أما “فريدة” فكانت يداها متشابكتين على حجرها حتى آلمتها أصابعها من شدة القبض، تتساءل في صمت عن مظهر تلك المرأة؛ كيف تبدو؟ هل هي أجمل منها؟ أرقّ؟ أقوى؟ كانت كل الأسئلة تنهش قلبها دون إجابة، وكلما حاولت أن تتماسك أمام فارس شعرت بأن دموعها تكاد تقفز من عينيها. كان كل نفس تسحبه يشعرها بأنها على وشك الانهيار،
توقفت السيارة أمام المبنى، لحظة صارت أثقل من جبل، لم يتحرك “فارس” للحظات كأنه يشد نفسه إلى المقعد خوفًا مما سيحدث لو نزل، مد يده لفتح الباب فتردد، ثم استجمع ما تبقى من شجاعته الممزقة وقال بصوت خافت:
ـ يلا بينا.
خرجت “فريدة” خلفه بخطوات بطيئة ثقيلة وكأن ساقيها مكبلتان، صعدا الدرج بصمت، وكل خطوة تعلو كان قلب “فريدة” يسقط في قاع صدرها أسرع،
وقف “فارس” أمام الباب وضغط الجرس، وبداخل صدره حرب شرسة بين “فارس” الخائف و”فارس” المتظاهر بالثبات، أما “فريدة” فكانت تشعر وكأن جدارًا يطبق على صدرها، عيناها مثبتتان على الباب الذي يفصلها عن الحقيقة المرة،
انفتح الباب فجأة وأخيراً ظهرت “بيري” ،
تجمدت “فريدة” في مكانها، شهقت شهقة مرتفعة خرجت من أعماق قلبها، شهقة لم تكن مجرد صوت بل كانت صرخة صامتة ممزوجة بالصدمة والخذلان، عيناها اتسعتا حد الذهول، وجسدها كله ارتجف كأنها تلقت طعنة مباغتة في قلبها….

تعليقات