رواية احفاد الثعلب الفصل الحادي عشر بقلم شريهان سماحة
وحانت تلك اللحظات علي غفلة بعد سفرها لعروس البحر المتوسط بيومٍ واحد ..
لحظات تخليص روحًا من روح بقدرته تعالى ..
لحظات أنتفض لها جسدها رعبا حين أخترق صياح شقيقتها جدران غرفتها صباحا بصراخ يزلزل الأرض من شدته !
فعلي ما يبدوا فقد فجاها المخاض الطبيعي بزيارته قبل موعد الطبيب المحدد بيومٍ فقط !! ...
تلك اللحظات حفرت للأبد في ذاكرتها .. إلي تلك اللحظة التي تقف فيها الأن أمام غرفة الولادة في هذه المشفى ..
لا تصدق بأنها حسمت أمرها في ظل استمرار ارتباكها وأحضرتها إلي هنا لحالها .. بعد ابلاغ زوج شقيقتها في عمله والذي غادر إليه في الصباح الباكر كحال كل يوم ...
زوج شقيقتها الذي أندفع من العدم باتجاهها الأن بنظراتهُ المشتتة .. بحال لا يختلف عن حالها نهائيًا !
وصل إليها يلهث أنفاسه بصعوبة بالغة .. لم تمنعه عن اظهار قلقه واخراج حديثه ، والذي أندفع دون توقف بهلع جلي علي معالم وجهه :
- أيه إللي حصل يا هنا دا كان معادها لسه بكره ؟!
أجابته "هنا " باضطراب وقلق مبين وهي تفرك راحة كفها في الاخرى :
- معرفش يا أبيه حسين أنا كنت نايمة ومرة واحده سمعت صراخها .. جريت عليها لقيت حالتها بتسوء أكتر .. يدوب أتصلت بيك .. ولبست ملابس خروجي ولبستها وجينا علي هنا .. والدكتور أول لما فحصها قال ميلاد ودخلها أودة العمليات لسه من خمس دقايق ...
أومأ برأسه بعصبيه مفرطه .. متحركاً باضطراب مسيطر عليه ذهاباً واياباً .. في ظل استمرار تحرك ل**نه تضرعاً لربه بالدعاء بحفظ زوجته وما في رحمها ...
بينما استكانت " هنا " علي أحد المقاعد أمام الغرفة تقرأ ما تيسر من " سورة يس " وبعض من الأدعية الواجبة في تلك الحالة ....
لم يمر إلا عشر دقائق أخري حتي أقتحم شاب طويل البنيه ، قمحي البشرة في الثلاثين من عمره جلستهما المتأججة بالقلق بقلق مماثل ...
أقترب من حسين يؤازره بثبات :
- ها يا حسين أيه الأخبار ؟!
تطلع حسين سريعا لمص*ر الصوت فخرج صوته مندهشا بنبرة استياء :
- أيه بس إللي جابك يا أمير !
أتاه صوته معاتبا :
- عيب يا حسين أنا قبل ما أكون أبن صاحب الشركة إللي بتشغل فيها فأنا صديق عمرك .. فعوزني لما يوصلي في مكتبي الخبر بالصدفة أنك خدت أستأذن اضطراري وطلعت من الشركة بسرعة ، متصلش بيك وأعرف أيه السبب .. المهم ربنا يسر الحال وأطمنت ؟!
أطلق تنهيدة عميقة تعبر عما يسيطر عليه من حالة خوف جليلة .. هاتفا بخفوت :
- لسه يا أمير .. لسه !
ربت أمير علي ذراعه بحركة ثابته هاتفا بيقين :
- أن شاء الله كل خير ..
أومأ حسين رأسه بإيجاب بحركات متتالية هاتفا بخفوت :
- أن شاء الله ..
حرك أمير عيناه لا ارادياً بعض السنتيمترات خلفه علي تلك المنتقبة التي تفتح بين راحتي كفيها مصحف شريف تقرأ منه ما تيسر من القران الكريم في سكون تام .. تلك الصورة الملائكية جذبته جذباً .. ليلمح حسين تطلعاته قائلا بخفوت :
- الأنسة هنا أخت مراتي جت من القاهرة أمبارح عشان تحضر الميلاد ...
أومأ أمير برأسه في شرود بينما ظلت عيناه تعلن حالة العصيان لكي لا تبتعد عن تلك الفاتنة بثوب عفتها !!!
ما هي إلا دقائق قليلة أخري وخرجت لهم أحدى الممرضات حامله المولودة بين يديها بابتسامة صافية مردده لحسين الذي لمح خروجها فأتي عليها متلهفا ليتبعه هنا وأمير :
- ألف مب**ك يا فندم بنوته زي القمر تتربي في عزكم ...
فهتف بلهفه دون صبر :
- المهم ندا مراتي عامله أيه ؟!
أجابته باطمئنان ومازالت تحتفظ بابتسامتها الودودة :
- كل خير .. الدكتور بس بيخلص معها وهتخرج كمان دقايق .. ألف مب**ك مرة تانية ..
أجابها وهو يلتقط أبنته بين راحتيه بابتسامة حانية وبقلب شغوف :
- الله يبارك فيكِ ..
بينما اقتربت هنا بعض الشيء بسعادة بالغة .. تتطلع بنظرات مختلسة لتلك الملاك بين يداه .. قائلة بنبرة سعيدة :
- ما شاء الله .. بارك الله فيها يا أبية حسين وجعلها سبب لك في دخول الجنة ..
أشاح بعيونه عن طفلته الجذابة متطلعا لها بنظرات سعيدة مرددا بتأمم :
- اللهم أمين يا رب العالمين .. تسلميلي يا هنا ..
تفاجأ بكف أمير تربت بهدوء علي كتفه في الجهة الأخرى مردداً بسعادة مماثلة :
- ألف .. ألف مب**ك يا صاحبي ...
ألتفت سريعا له هاتفا بابتسامة تتسع :
- الله يبارك فيك يا أمير عقبال لما نفرح فيك الأول وتدخل القفص برجليك ...
لم يدرك أمير أن بصره تحول دون أدراك منه لهنا هاتفا بشرود تام :
- شكلها قربت يا حسين !!
-------------------
تجمع الأهل والأقارب في سبوع الصغيرة وأتت والدتها من القاهرة دون الجد فحالته الصحية لن تسمح له بالتنقل .. لذلك أكتفت بيومين فقط لاطمئنان علي أبنتها ندا ثم اصطحاب أبنتها هنا والمغادرة له سريعا .. بعد أن أطمئنت من والدة حسين بمراعاة ندا والصغيرة " جويرية " نظرا لظروف الجد المسن ...
والدة حسين التي فاجأت " هنا " بعد أن حضر جميع المدعوين للاحتفال بجلب غربال وهون وسبع حبات من سبع أصناف من البقوليات !!!
لتنصدم " هنا " هاتفه بدهشة مفرطة :
- ده أيه يا طنط ؟!
أجابتها بتلقائية شديدة :
- ده لزوم السبوع يا حبيبتي ..
حينها سحبت هنا شهيقاً عميق ثم زفرته ببطيء هاتفه بهدوء تحاول الإحاطة به :
- بس ده كله مش في اسلامنا يا طنط ..
هتفت والدة حسين سريعا باندهاش :
- أنتِ بتقولي أيه يا بنتي .. أنتِ متأكدة من الكلام ده ، دا أحنا كلنا وعينا وكبرنا عليه واهلينا كمان !!..
هتفت هنا بإصرار مؤكد :
- ايوه يا طنط مش في اسلامنا .. لا الرسول الكريم عمل كده .. ولا وصي بكده .. ولا السبع حبات هتحمي البيبي والوالدة من الأذية قبل ربنا لسمح الله ...
أجابتها بحيرة :
- لسمح الله .. بس أحنا كبرنا عليها وكل إللي قبلنا عملوا كده !
ردت عليها هنا بسلاسة :
- عادات وتقاليد غلط يا طنط مفروض نصححها مش نتوارثها .. غير الذنوب إللي هناخدها من الأجيال إللي جاية ورانا ...
أجابتها والدة حسين سريعاً بنفور ظاهري :
- أستغفر الله العظيم .. ذنوب أيه هو أحنا نقصين ذنوب .. بلاها يا بنتي .. بس أحنا كده مفروض نعمل أيه منحتفلش يعني ؟!
هتفت هنا بلهفة نافية ما رددته :
- لا يا طنط هنفرح طبعاً .. أولا هنتصدق لله ونعمل عقيقة ولو في مقدرتنا نحتفل كمان .. نحتفل عادي وننشد ونفرح ونوزع ملبس وفيشار بس بدون الحاجات دي أو أغاني الإيقاع ..
- خلاص يا هنا أنا فهمتك .. العقيقة وأتعملت والحمد لله .. ودلوقتي أسيبك ثواني أعين الحاجات دي ونرجع كلنا ننشد الأناشيد إللي أنتِ حفظاها ونوزع السبوع كمان ونفرح الأطفال ..
وما هي إلا دقائق وأحتفل الجميع في سعادة عارمه دون ذنوب حملوها .. وفي وسط عيون راقبتها بأعجاب جليل وبفرحه أشد لعثورها علي عروس تقية لفذة كبدها الوحيد " أمير "
------------------
بعد مرور أسبوع دلف حسين لشقته يهتف دون توقف علي غير العادة ...
- نودي .. أنتِ فين يا نودي ..
أتاه صوتها مذبذب سريعا من غرفة طفلتها :
- أنا هنا يا حسين بنوم جوري ..
أسرع اليها ليرها ترضع طفلتها التي تدخل في سبات عميق .. فأشار أليها بإكمال نومها ثم تتبعه للخارج .. فوافقت بإشارة هادئة من رأسها ..
وبالفعل ماهي إلا دقائق معدودة وتبعته للخارج سأله أياه في حيرة ظاهرة :
- في أيه يا حسين قلقتني ..
ليجذبها من راحة يداها محفزا اياها للجلوس أمامه هاتفا بسعادة جليه :
- أمير قرر يفك العقدة ويتجوز أخيرا ...
ابتسمت ندا علي أثر جملته هاتفه من بينها :
- بجد ألف مب**ك .. أنت كان نفسك تفرح بيه قوي بس مين صاحبة الحظ ده أخيرا ..
أجابها بلغز محير :
- حد تعرفيه !
اندهشت بشدة هاتفه بحيرة :
- أنا !! .. مين دي ؟!
هتف بثقة :
- هنا أختك !
قالت بتردد خافت :
- هنا أختِ !
ثم انتبهت من شرودها علي ما لفظت به بابتسامة تتسع :
- بجد يا حسين .. دا يبقي أحلي خبر سمعته لأنك دايما بتشكر فيه وفي أخلاقه وكمان يبقي أخيرا حد من أهلي جمبي ..
تشجع حسين كثيرا لما رددته زوجته فأكمل حديثه بشغف :
- يعني هتقدري تاخدي موفقتها وتقنيعها بشخصيته !!
استراحت معالم وجهها مردده بعد تنهيدة عميقة أخرجتها هادئة :
- بص يا حسين عشان أكون صريحه معاك دي مش شخصية هنا أختي خالص .. وهترفض ويمكن تعند كمان عشان الموضوع جه بالطريقة دي .. لأنها بتحب الطريق الصح عن طريق جدو علي طول ... ولو جدو أقتنع بيه ووافق هي هتقتنع كمان ولحظتها أنا كمان هقنعها بيه لأن أمير فعلا أنسان قدير بالاحترام وأي أسرة تتمني تناسبه...
- يعني قصدك يتوكل علي الله ويتقدم لجدك علي طول وهو والنصيب بقا !
أومأت ندا برأسها بالإيجاب في **ت مصاحباً بابتسامة هادئة سعيدة ....
ليهتف حسين بابتسامة مماثلة :
- تمام هبلغه ويعملهم زيارة لوحده الأول في القاهرة بعد ما يستأذن جدك علي معاد مناسب ..
-------------------
بنظرات متفحصه هادئة لباقة الورد التي تحتل الطاولة بينهما ولذلك الشاب الوسيم بزيه المهندم الذي يحتل المقعد أمامه زادته الحيرة أكثر من وقت تحديد موعد تلك الزيارة منذ ثلاثة أيام...
فهتف الجد بنبرة ترحيب هادئة يصاحبها استفسار لحيرته :
- أهلا وسهلا يا أبني أقدر أعرف حضرتك مين و ايه سبب الزيارة دي ..
تنحنح أمير متحشرجاً من **ته مردداً بهدوء :
- أحم .. أنا يا فندم المهندس أمير الشرقاوي مهندس بترول أبن جمال الشرقاوي صاحب أكبر شركة لاستخراج البترول في الإسكندرية ..
هتف الجد بتقدير مشيد :
- ومين ميعرفش والدك يا أبني دي سمعته سبقاه .. بس متأخذنيش يا بشمهندس أنا مليش في شغل البترول وكدة ف…
تحدث أمير بابتسامة هادئة تصحيحا للأمر بعجاله :
- لا يا فندم سبب الزيارة مش بخصوص الشغل أنما…
أنما هو طلب القرب من حضرتك في كريمتكم الأنسة هنا !!!
شحب وجه العجوز ... وأنتفض قلبه بعنفوانيه من بين أضلعهُ ... لتتسرب الصدمة علي معالم وجهه بصورة واضحة لمن يراه ...
فما كان يخشاه طيلة السنوات الماضية وقع وقد كان …
وها قد أصبحت حفيدتهُ التي قضي علي مستقبلها وقيدها في صق ع****ة الأجنبي في سن الزواج وأتي أول عريس يطرق بابها ...
**ت ل**نه بل وأصبح عاجزا عن النطق نهائيًا … وضاق ص*ره لشعوره بتقلص الهواء من حوله ...
فما سمعه الأن يكفي لقلع روحه من جسده قلعاً ومغادرتها للأبد !!!