رواية للهوى رأي اخر الفصل الثاني عشر
كان عشاء بائس كحياتها لم يبدُ حتي يكتمل على خير،
وطوال الطريق الصمت قاتل بينهما، ووجه لا يبشر بالخير.
نزلت من سيارته والتف إليها، فقالت دهب متسائلة:
_ إيه ضايقك كده، إيه حصل بينك وبينه؟
وضع يديه في جيبي بنطاله كعادته وقال بوجه صلب:
_ مش مهم، المهم إنك مش هاتشوفيه في مكان إنتِ فيه بعد كده ولا هايفكر إنه يضايقك.
هتفت دهب باعتراض:
_ وانت فاكر ده يعرف يضايقني، أنا أعرف أوقف كل...
قطعها موسى هادرا بها بغضب:
_ أنا مش هاستنى حد يتجاوز معاكي وإنتِ تقفي تردي وتخدي وتدي في الكلام معاه.
رمشت بعينيها عدة مرات قائلة باضطراب:
_ طول عمري كنت بعمل كده.
تحدث إليها وبصوتٍ غاضب يحمل بعض القسوة:
_ كنتي بتعملي إيه يا دهب! كام راجل عاكسك، كام راجل وقع في غرامك، كام راجل قرب منك سواء بنية وحشة أو لا، كام هدية جاتلك وعرضها قذر، قول...
اجفلت دهب واتسعت عينيها فجأة، وقاطعته بقوة وصوتٍ وكأنه ليس لها وبعينين شرستين هتفت:
_ مافيش راجل قدر يلمس مني شعرة، اللي حب وعشق وقلبي ما دقش ليه بقفل بابه، واللي بيسوق قلة الأدب بعلمه الأدب أنا، وانت شوفت بعينك، أنا اشتغلت من زمان وأعرف أوقف أي راجل عند حده.
كانت شرسة، مخيفة لأي رجل سواه، تدافع عن نفسها بأعين قوية واثقة، لكن وجود سامح الشناوي مع فعلته الأخيرة معها لم يستطع أن يسيطر على غضبه معه، وحاول التصرف بحكمة لعدم إثارة القيل والقال واكتفى فقط بتحذيره من الاقتراب بمكان تواجدها مع التوعد له بجزء مما ينتويه من أيام حالكة السواد له.
لا يحتاج موسى لكل تلك الكلمات ليعرفها جيدًا، لكن... غصب عنه، كاميليا أمها وهذا وحده يضيق صدره وشيطانه لا يرحمه، كلما يفكر أنها قضت سنوات عمرها بجانب امرأة مثلها يتخبط بأفكاره ومشاعره...
_ عارف يا دهب...
عم الصمت لدقائق، قضبت جبينها ثم زفرت أنفاسا مرتاحة قليلا، ولم تُخفِ عليه تلك النظرة المعاتبة من تلك العينين الساحرة.
أخفض رأسه قليلا وكأنه يفكر بشيء ما، انتظرته، ورغم ضيقها لا رغبة لها بالذهاب لأعلى وتركه.
رأته يأخذ نفسًا ثم وجه عينيه المتقلبة بنظراتها، مرة حادة وأخرى متبلدة غير مقروءة ثم أخرى شرسة كالتي رآها منذ قليل ومرة أخرى في المكتب... لكنها لا تريد كل هؤلاء، تريد تلك الهادئة... التي تنظر إليها بلين مثل الآن، تليق به.
_ دهب، أنا عارف إنك مش وحشة، لكن ليكي...
صمت يبحث عن كلمات مناسبة لا تتسبب في غضبها
وأكمل بيأس:
_ إنتي جميلة.
ابتسمت له وبصوت ناعما قالت:
_ ودي مشكلة أوي كده؟
لوى فمه وعينيه تداعبها قائلا: بصراحة... آه.
ضمت شفتيها المصبوغتين بلون الكرز وهتفت بخفوت:
_ مش أول مرة تقولي كده.
قضب جبينه، غير متذكرًا أنه اعترف لها بذلك من قبل:
_ إمتى؟
أجابته دهب بتردد:
_ في المكتب، يوم ما كنت محموم.
نظر لها لبرهة، لم يتذكر وكانت تعرف أنه يهذي ولكنها سعدت بتلك الكلمة وقتها منه فقط، ولكن الآن وهو يقولها ويعي ذلك أثارت حنينًا خفيًا بداخلها، أن يقول موسى ذلك... فقط موسى دون أي رجل آخر.
تنهد موسى قائلا بصوتٍ صارم رغم رقة عينيه:
_ من بكرة طريقة لبسك في المكتب تتغير.
ارتفع أحد حاجبيها وكادت أن تجيبه إلا أنه فاجأها قائلا:
_ ونزلي حاجبك ده.
اعتلى وجهها الجميل الدهشة وهتفت به دهب:
_ لحظة لحظة، مش عاجبك لبسي في إيه بقى، مافيش مدير مكتب بيدخل في لبس المساعدة بتاعته خصوصًا لو عادي.
ردد من خلفها بغيظ:
_ عادي! واه يا دهب في أنا، أدخل في كل حاجة وأي حاجة تخصك... إنتِ بالذات، هادخل حتى في لون شفايفك.
عضت على شفتيها بدون قصد، ثم نفخ بصوت عال وقد شعر بالتعب والغيظ منها:
_ ماتعمليش في شفايفك كده.
رمشت بعينها عدة مرات وارتبكت دهب، حتى رأى لون وردي طفيف على وجنتها، وتحركت عينيها اتجاه باب بنايتها، وكأنها تريد الهروب من أمامه حتى لا يشهد على ارتباكها...
دهب... مثال الأنوثة والإغواء.
ارتبكت من كلماته!!
اقترب منها خطوة حتى انحسرت بينهما المسافة، وازداد اتساع عينيها من تصرفه، لكنه لم يستطع السيطرة على ذلك الاشتعال أكثر من ذلك، ثم قال موسى هامسًا:
_ إنتي فاهمة أنا عايز أقول إيه، وافقي يا دهب من غير عناد، علشان هتلاقيني كل شوية ضارب راجل ولا معور حد بسببك.
تساءلت وهي سارحة في عمق عينيه المهيب:
_ علشان أنا مديرة مكتبك بس؟
حك أنفه بطرف إصبعه قائلا:
_ الوقت اتأخر، تصبحي على خير يا دهب.
...................
لم يتأخر قاسم، وفور ما هاتفته أخبرها بصوتٍ مؤكد أنه قادم على الفور فقط تنتظره مكانها، ولم يستغرق الكثير من الوقت وكان على أول الممر المتواجدة به والمتواجد به عمها في إحدى الغرف، استقامت له وهي تفرك كفيها ببعضهما بخوف حتى أصبح قبالتها، وبحركة وكأنها معتادة بينهما مسك كلتا يديها في حضن كفيه كأنه يبثها الأمان والهدوء، وقبل أن تفتح فيروز فاهها اتخذت من فعلته وعينيها تتحرك بينه وبين يديه المحتضنة كفيها.
بعينين ثابتتين طمأنها قاسم:
_ ماتقلقيش إن شاء الله كمال هايبقى كويس، بس قوليلي إيه اللي حصل.
باضطراب بين كلماتها سردت له ما حدث واستمع قاسم إليها بصبر وما أن انتهت اتجه للطبيب الذي خرج للتو من غرفة كمال متسائلا:
_ خير يا دكتور؟
أجابه الطبيب بعملية شارحًا الحالة المرضية:
_ انسداد في الأوعية الدموية في الرئتين لفترة طويلة وده سبب أعراض صعوبة التنفس ونزيف من الفم، سيطرنا على الوضع وهايحتاج يقعد معانا يومين نطمن إن الرئة بتشتغل بشكل طبيعي ولو حصل نزيف تاني لا قدر الله نقدر نسيطر عليه.
انسحب الطبيب فور ما انتهى، التفت قاسم إلى فيروز الشاحبة من خلفه وبهـدوء طمأنها:
_ ماتخافيش يا فيروز، كمال قوي وهايـقوم بالسلامة.
رفعت عينيها الضائعتين وبهـوت قالت شيئًا من مخاوفها:
_ أنا مش عايزاه يموت.
قضب قاسم حاجبيه باستغراب، فأكملت مسترسلة:
_ أنا أمي وأبويا ماتوا، مافضلش غيره، مش عايزة لما أحس إن في ضهري حد يموت هو كمان.
لِمَ تؤلمه هكذا، لِمَ كل ما تعبر عن مخاوفها أمامه يتألم!
ألم يظنها في البداية أنها ستداوي ما عصي عليه الزمن أم أنه من سيقوم بترميم ما بداخلها... وهل سيفعل؟!
مسك بيدها مرة أخرى مشددًا على حروفه:
_ كمال هايقوم منها والدكتور طمنا، فيروز مش عايزك تخافي من حاجة طول ما أنا موجود، أنا دايمًا هاكون معاكي، فاهمة؟
كانت تنظر لعينيه وصاغية لحروف كلماته المشدد عليها، أومأت برأسها بطاعة وقد احتل الاتزان بداخلها وكأن كلماته سحر، وجوده أحدث فرقًا، لأول مرة تحتاج لشخص ويتواجد لها، نظرة الامتنان من عينيها الواسعتين لمعت لها عينيه بسحر وكأنها في كل مرة تراه يلقي عليها جزءًا من سحره حتى شعرت أنها توغلت في منطقة قاسم عمران.
..................
في مقاعد الانتظار غفت فيروز على كتف قاسم الذي لم يتركها للحظة، ينظر لها بحنو، مستمتعًا بقربها اللحظي منه، هدوؤها من بعد ما طمأنها آثر به، سكونها على كتفه كان كالسحر،
فأبددت لحظاته عندما
أسرعت أسيل إليها هاتفه باسمها، فاعتدلت بفزع تنظر حولها بتيه وعدم تركيز:
_ فيروز إزاي بابا يتعب وماتقوليش وأعرف من أمن الشركة بابا حصله إيه وعنده، قوليلي
هتف بها قاسم دون أن يعبأ بوجهها الباكي قائلًا:
_ ماتهدي عليها شوية، هي كمان ماتقلش عنك خوف عليه
لوحت أسيل بوجهه حانقة بغضب:
_ وانت مالك انت، مش ملاحظ إنك بقيت بتدخل في حياتنا زيادة عن اللزوم
استقام لها قاسم وببرود قال:
_ كمال شريكي وفيروز تخصني، أما انتي فأمورك ماتهمنيش علشان اتدخل فيها
هبت فيروز واقفة بينهما، رغم كلمته التي اخترقت أذنيها إلا أنها لم تحبذ تصاعد الأمور بينهما، فتدخلت قائلة لأسيل التي تنظر لقاسم بغيظ وغضب:
_ أنا فعلًا كنت المفروض أكلمك لكن غصب عني نسيت من خوفي وقلقي وكمان الدكتور اتأخر لحد ما طمنا، عمي كويس والله، الدكتور بيقول إنه هايقعد هنا على سبيل المتابعة بس
هدأت ملامح أسيل من الانفعال للحزن ثم للبكاء، وارتمت في أحضان فيروز التي شاركتها البكاء أيضًا تحت أنظار قاسم الذي ولاهم ظهره لويًا فمه، أنه وحتى بعد ما طمأنهم الطبيب أن رغبتهم في البكاء مستمرة دون أن تنضب.
............ .....
مر بعض الوقت وانتهت مواعيد الزيارة، لم تحبذ أسيل أن تعرف خالتها بمرض والدها حتى لا تقلق وتأتي لهنا ويحدث مشاحنة بينها وبين فيروز، لم يرغب كمال بتواجد أي منهن، فأمتثلن لرغبته على موعد بالقدوم في الصباح والإفطار معه، استبقت فيروز أسيل للخارج ولم تجد قاسم، فظنته قد غادر، لكن رأت ياسين الذي يهرول في الممر، وما أن لاحظها حتى وقف أمامها متسائلًا بحيرة:
_ انتي فيروز
أومأت برأسها وقد عرفت هويته من صورته مع أسيل قائلة:
_ أسيل جاية ورايا
ثم تركته وابتسمت بداخلها على ملامحه القلقة وسؤاله الأول عن أسيل قبل والدها المريض، فيبدو أن تخمينها أن الأيام الماضية بينهما لم تكن على ما يرام، لعله الآن يصلح شئ بينهما ويؤازرها في مرض والدها.
وقررت الذهاب بمفردها، ولكن فور خروجها وجدت سيارة قاسم السوداء التي باتت على معرفة أكيدة معها، ترجل قاسم منها فابتسمت إليه وتحركت اتجاهه بإرادتها دون أن تركض أو تفر منه، وقفت أمامه بتلك الابتسامة المازالت محتفظة بها له، ورغم جمالها وسحرها وسعادته لخطواتها إليه، قال قاسم:
_ إيه سر الابتسامة دي
_ عايزة أشكرك
_ يعني كل ماها تحبي تشكريني هاتخطفيني كده
_ أخطفك ؟!
_ تخطفي يا فيروز، ابتسامتك تخطف ومش عايز حد غيري يتفتن بيها
آه من قاسم وكلامه الذي دون غرور يعزز إحساس تلك الأنثى المنزوِية بركنٍ داخلها، يجعلها تبدأ في الظهور فيكون أول من يستمتع بها.