رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثالث عشر 13 بقلم فاطيما يوسف


 رواية من نبض الوجع عشت غرامي الجزء الثالث الفصل الثالث عشر


كيف لي أن أقسو على عينيّ اللتين أرى بهما الحياة؟ كيف لي أن أجعل أنفاسها بعيدة عن صدري وأنا الذي لا يعرف الدفء إلا بها؟
أي قلب هذا الذي يظن أنه قادر على احتمال الفراق، ثم يرتجف كالطفل عند أول ليلة يغيب فيها حضنها؟
أعاتبها بعـ.ــنفٍ وأنا المذنب في كل لحظة تركتُها فيها وحيدة تناديني آهاتها وأنا أتجاهلها،
كيف ظننت أن رجولتي تُثبتها القسوة، وأنا أعلم أن قوتي كلها تسكن في عينيها؟
أيا امرأةً لو غابت عن عالمي يوماً لانطفأت شمسي، أما تعلمين أنني لم أخلق إلا لأعشقك؟
أهرب بعنادي، وأخدع نفسي بتجاهلك، لكنني أعود لأبحث عن عطرك في زوايا غرفتي كالمفتون وأتنفسه وأُكمل ليلتي بالسهد على فراقك ؟
أي غباء هذا الذي يجعلني أظن أن كبريائي أثمن من قلبك؟
إنك لست زوجتي فقط، بل حياتي كلها، وجرحي ودوائي في آنٍ واحد ،
ما أصعب أن أراكِ أمامي ولا أستطيع ضمك، وما أقسى أن أكون سبب دمعة في عينيك ولا أستطيع أن أمسحها !
أما آن لـ"عمران سلطان" أن يتوقف عن لعب دور القاسي، ويعترف أنه عبدٌ لعشقك لا سيّدٌ عليك؟

انفتح الباب فجأة وأخيراً ظهرت "بيري" ،
تجمدت "فريدة" في مكانها، شهقت شهقة مرتفعة خرجت من أعماق قلبها، شهقة لم تكن مجرد صوت بل كانت صرخة صامتة ممزوجة بالصدمة والخذلان، عيناها اتسعتا حد الذهول، وجسدها كله ارتجف كأنها تلقت طعنة مباغتة في قلبها من هيئة من أمامها ، 
سحبها فارس من يدها وهو ينظر إلى تلك الـ"بيري" بابتسامة غريبة وهو يحرك رأسه إلى "فريدة" مرة وإلى "بيري" مرة وأغلق الباب بقدمه فأصدر صوتاً أرعب "فريدة" بشدة ونظرت إلى يديه المتمسكة بيديها بشدة وهي ترتعب من هيئته وابتسامته وتبرقة عينيه وكأنها تذكرت مقابلته معها أول مرة وتذكرت تلك الابتسامة وتلك النظرات فدق قلبها بوتيرة سريعة وحالة من الرعب انتابتها قليلاً وصدرها يعلو ويهبط من شدة خوفها ، 
حتى استمعت إليه ينطق بنبرة صوت هادئة كما الطفل الصغير ويديها تتحسس شعر "بيري" برفق ونعومة :

ـ شفتي "بيري" طلعت جميلة ازاي ؟
شفتي بسمتها ولا لون شعرها خليتها صبغته أحمر زيك بالظبط ، شفتي جميلة إزاي زي ما حكيت لها عنها بالظبط ، 

وتابع ببسمة بريئة وهو يأمر "بيري" أن ترحب بها :

ـ رحبي بـ"فريدة" يا "بيرو" كان نفسك تشوفيها من زمان وياما اتكلمنا أنا وانتي عنها فاكرة كنت بقول لك ايه عنها ؟

ثم قام فجأة وابتعد عن "بيري" ووقف أمام "فريدة" وجذبها برفق شديد إلى أحضانه وما إن سكنت أحضانه حتى بدأ يربت على ظهرها حتى وصل إلى حجابها فخلعه عنها مما جعلها شهقت بذهول من فعلته تلك ومن تواجدها في المكان ككل وقلبها يدق الطبول بعـ.ـنف شديد استشعره ذاك القابع بين أضلعها فحاول طمئنتها وهو يجذب خصلات شعرها بين أصابعه وأقربهم من أنفه يستنشقه بوحشة شديدة وهو يهمس بجانب أذنها بنعومة شديدة جعلت القشعريرة أصابت جسدها من همسه و لمسه الناعم :
ـ متخافيش مني يا بنت قلبي ، يا عمري يا كل حياتي ، يا عشق الفارس الفريد ، وحشتيني ، وحشني حضنك ، وهمسك ، وكلامك ، وحشني أمانك اللي في كلامك اللي حرمتيني منهم شهور ، وحشني ضحكتك وابتسامتك اللي بتنور لي طريقي ودنيتي ، 

ثم أخرجها من أحضانه واحتضن وجنتيها بين كفاي يديه و فجأة اقترب بشفاه من وجهها وقبل جانب شفتيها بنعومة شديدة وجسدها يرتعش بين يديه من غرابة الموقف ثم تحسس وجنتها برفق ونظر إلى "بيري" قائلاً بفخر :

ـ شفتي يا "بيري" اهي دي "فيري" حب عمري اللي كنت بحكي لك عنها علطول وكنت مصدعك دايما بالحكاوي عن قصة حبنا ، شفتي جميلة ورقيقة ازاي ؟ يالا مدي ايدك سلمي على مرات ابنك وخديها في حضنك وقولي لها قد ايه انتي مشتاقة تسلمي عليها وتحضنيها وتتعرفو على بعض يا أكتر اتنين بحبهم في الدنيا كلها ومتصورش حياتي من غيركم . 

بالفعل قامت "بيري" من مكانها وتحركت برزانة وتقدمت من "فريدة" ومدت يديها الحديدية كي تسلم على "فريدة" ونطقت بترحيب شديد وهي تبتسم لها بكلمات متتالية لم يفصلها شيئاً :

ـ يا هلا وغلا بمرات ابني الغالي ، من زمان كان نفسي اشوفك وأتعرف عليكي ، من زمان اتحايلت على "فارس"
يجيبك أتعرف عليكي ونتكلم مع بعض كتير وهو بيقول لي مش وقته ، لحد ما جه الوقت وشفتك وطلعتي جميلة الجميلات زي ما دايما بيتكلم عنك وبيوصفك ليا . 

ارتعبت "فريدة" وخافت أن تمد يدها فحثَّها "فارس" ان تقدم على تلك الخطوة دون خوف أو تردد وهو يطمئنها :

ـ متخافيش يا حبيبي مدي ايدك سلمي عليها هي جميلة خالص ومش بتأذي ، شايفة هي بتحبك ازاي ونفسها تشوفك من زمان قووي ، وبعدين اوعاكي تخافي من اي حد طول ما انا جنبك يا حبيبي. 

مدت "فريدة" يدها كي تبادل ذاك "الروبوت" المتمثل في هيئة والدته بالتمام دون أي تغيير مما أذهلها ومن يراها من بعيد أو يسمع صوتها لن يتخيل انها قطعة حديد بل امراة طبيعية بل ويفتتن بها من جمالها فهي ترتدي فستانا باللون الأبيض الغامق وشعرها ينسدل على ظهرها بنعومة ووجهها مرسوم بعناية كأنها انثى حقيقية وكأنها بالفعل والداته ، حاولت "فريدة" تهدئة حالها واستيعاب الموقف
وقد تفهمت وضع زوجها وتفهمت حالته وشعرت بالشفقة الشديدة والخوف من القادم بشدة فللأسف هو لم يبرأ إلى الآن من مرضه ثم رددت بعد ان مدت يديها المرتعشتين سلامها بتوتر وعينيها تتنقل بين "فارس" :

ـ الله يسلمك . 

هنا نطق "فارس" يطلب منها بإلحاح :
ـ قولي لها يا ماما يا " فيري" هي كان نفسها من زمان إن مرات ابنها تقول لها يا ماما ، 

ثم نظر إلى "بيري" وحكى يا بتسامة عذبة زينت محياه :
ـ فاكرة يا "بيري" لما كنت في ثانوي وكنتي تنيميني على رجلك وتلعبي لي في شعري وتقولي لي إنك نفسك تشوفيني عريس وانك هتحبي مراتي قووي زي ما بتحبيني وهتتعاملي معاها معاملة الأم مش الحما؟
طب فاكرة بردو لما كنتي تقولي لي إنك نفسك في بنوتة ولما أتجوز هتعاملي مراتي على انها بنتك وتجيبي لها كل اللي نفسها فيه ؟

لم يجد من الروبوت رداً على أسئلته فقط صمت ملأ المكان وذلك لأنه لم يعرض عليه ذاك السؤال قبل ذلك فهو صدر منه وليد اللحظة بل بالفطرة وإحساسه المتقين أن ذاك الروبوت والدته ليس غيرها فانزعج من صمتها وشعر بالخزي أمام "فريدة" وحزن بشدة وإحساسه في ذاك الوقت كالطفل الصغير حينما يجري إلى أحضان أمه بوجه مبتسم وقلب سعيد فتقابل أحضانه بالفتور ، 

فذهب إلى ركن جانبي في بهو الصالة الواسع وجلس على الأرض وضم ساقيه إلى بعضهم وشبك كلتا يديه على ركبتيه وأثنى جبينه قليلاً إلى الأرض وهو يردد بخزي :

ـ هي مش بترد على أسئلتي ليه ؟
هي ليه سكتت وما اتكلمتش مع إني مزعلتهاش في حاجة ؟
اسأليها يا "فيري" قولي لها مبترديش على ابنك ليه يا ماما ؟
يمكن أنا مزعلها في حاجة وهتحكي لك إنتي ، أصلك متعرفيش هي بتحبك قد إيه ؟ بتحبك زي بنتها بالظبط .

أحست "فريدة" بحزنه الشديد وأصاب صدرها وخزة شديدة على هيئتة التي تقشعر لها الأبدان حزناً فو الله ذاك الـ"فارس" النبيل لا يستحق كل ذاك الحزن والعذاب فدون تردد ساقتها قدماها إليه وعلى حين غرة ارتمت تحت قدميه فلم تستطع "فريدة" أن تتحمل رؤيته بهذا الانكسار الطفولي، ذاك الرجل الذي رغم كل ما فعله وخبأ عنها ذاك الحوار المرعب ما زال قلبها يلين له حين تراه مكسورًا، مدّت يديها بحنان مرتجف تمسح دموعه التي انحدرت بصمت على وجنتيه، ثم جذبته بقوة إلى صدرها تحتضنه وكأنها تضم طفلًا صغيرًا فقد أمه للتو، أحست بحرارة أنفاسه تلهث فوق كتفها وصدره يهتز من انفعاله المكبوت، فربّتت على ظهره بحنانٍ عفوي لم تعرف من أين جاءها في وسط كل ذاك الغضب والخوف:

ـ ما تعيطش يا فارس أنا جنبك هو، ما تزعلش نفسك انا عمري ما هسيبك ولا هتخلى عنك انت حبيبي انا وانا اللي ليك وانا اللي دايمة لك لحد اخر نفس في عمري .

رفع رأسه ببطء، عيناه تلمعان كطفل خذله العالم كله، وتعلقت نظراته بها كأنه يبحث عن أمان ضائع، أمسكت وجنتيه بكلتا يديها لتثبت عينيه في عينيها رغم ارتعاش قلبها، ثم تابعت بصوت خافت يرتجف من الخوف والشفقة معًا:

ـ اهدَى، كل حاجة هتتظبط، بس أوعى تزعل نفسك ، ومدت يديها مسحت دموعه الخفيفة التي هبطت على وجنتيه ثم أعادته إلى أحضانه بحنو جارف :
فنظر إليها طويلًا، ثم ابتسم ابتسامة مرتبكة امتزج فيها الحزن بالامتنان، ونهض فجأة من مكانه، أخذ بيدها بلطف هذه المرة، وقادها نحو "بيري" من جديد وكأن شيئًا لم يحدث، كان يحاول أن يبدو متماسكًا، لكن ارتعاشة أصابعه لم تخفَ عنها،

اقترب فارس من الروبوت "بيري" وأمسك يدها المعدنية بين يديه ثم وضعها في يد فريدة برفق مبالغ فيه، كأنه يصرّ على إتمام هذه المسرحية حتى النهاية:

ـ شايفة يا "فيري" ؟ هي كمان بتحبك وعايزة تتعرف عليكي قوي، بصي ازاي مستنياكي من زمان ، بصي نظراتها ليكي بتاكد لك انها بتحبك وانها نفسها تقابلك من زمان صدقيني انا حافظها وعارفها اكتر منك .

كانت "فريدة" تبتلع ريقها بصعوبة، عينها لا تفارق ملامح هذا الوجه المصنوع الذي يشبه والدة فارس تمامًا، وجسدها يقشعر مع كل كلمة ينطق بها وكأنها تمشي فوق أرض زلقة، لم تكن تعرف هل تحتضنه أكثر كي لا ينهار، أم تدفعه بعيدًا خوفًا مما هو قادم،
جلس فارس فجأة على طرف الأريكة وأشار لهما أن تقتربا، ثم قال بنبرة آمرة ممزوجة برقة مصطنعة:

ـ اقعدي جنبها يا "فيري" ، هي عايزة تحكي لك عني وأنا صغير، كنت شقي قوي زمان، مش كده يا "بيري" ؟

لكن "بيري" التزمت الصمت مجددًا، مما زاد انزعاجه، فأدار وجهه نحو فريدة بعينين قلقتين ونبرة متوسلة:

ـ كلميها إنتي يا "فيري" ، اسأليها ليه مش بترد عليا؟ يمكن بتزعل مني ومش عايزة تقول لي!

كادت "فريدة" تنطق، لكن الكلمات ماتت في حلقها، فوضعت يدها على كتفه محاولة طمأنته دون كلام، التقط "فارس" هذه اللمسة كأنها موافقة ضمنية، فانفرجت أساريره فجأة وعاد صوته الهادئ المليء بالعاطفة:

ـ "شايفة يا " بيري"هي مرات ابنك بتحبك قوي زي ما انا بحبك بالظبط، قولت لها عنك قد ايه جميلة وطيبة وكنت دايمًا بدعي لك تدعي لنا وتفضلي معانا.

ثم مال إلى "فريدة" يهمس في أذنها بنبرة رجاءٍ طفولي:

ـ قولي لها يا ماما يا فيري، نفسي أسمعك بتقوليها كده مرة.

شعرت "فريدة" بسكين تمزق قلبها وهي ترى "فارس" بهذا الانفصام بين قوة رجلٍ يفرض إرادته وضعف طفلٍ يستجدي حنان أمه، اختـ.ـنق صوتها، لكنها حاولت أن تجاريه لتهدئته:

ـ حاضر يا "فارس" 
فنادت الروبوت بلسان يرتجف وهي تبتلع غصتها بمرارة:
ـ يا ماما.

بمجرد أن نطقت الكلمة، أضاء وجه "فارس" بفرح غامر كأنما حصل على جائزة العمر، ضم يديهما معًا بين كفيه وهو يقول بحماس حقيقي:

ـ سمعتي يا "بيري" ؟ قالت لك يا ماما! اهو ده حلمي طول عمري يتحقق النهارده.

تبادلت "فريدة" مع الروبوت المصنوع النظرات للحظة، لم يكن في عينيها إلا الذهول والشفقة والخوف مما ينتظرها، بينما ظل "فارس" يبتسم بوجه طفل بريء يعيش داخل رجلٍ غارق في أوهامه،

ساد الصمت للحظة طويلة في الصالة الفسيحة، لم يكن يُسمع سوى خفقات قلب "فريدة" وهي تراقب "فارس" بعينين مذعورتين، كان واقفاً أمام الروبوت "بيري" مبهوراً بها، متلهفاً لجواب لم ولن يأتي أبداً، تقدم خطوة نحوها، ثم جلس القرفصاء أمامها وكأنه طفل صغير ينتظر حنان أمه، مدّ يديه إلى ساقيها المعدنية المغلفة بجلد صناعي ناعم وصوته يتهدج بالرجاء:

ـ فاكرة يا ماما لما كنتي بتحكي لي حواديت قبل النوم وما كنتيش بتسيبيني الا لما تطمني عليا اني نمت وبقيت كويس وحشتني الحواديت بتاعتك قوي ايه رايك انام في حضنك النهاردة وتحكي لي حواديت زي زمان؟ "فارس" الطفل اللي كان بينام جنبك في حواديت وحشني قوي يا أمي .

ارتجف جسده، كأن سؤالاً بسيطاً كهذا كان يمزق أعماقه، عينيه تلمعان بدموع خفيفة وهو يبتسم ابتسامة متكسرة لم تستطع "فريدة" احتمالها، لم يأت الرد، فواصل حديثه بصوت أكثر ضعفاً:

ـ طب فاكرة لما كنتي بتزعليني وتسيبيني يومين ما تكلمنيش وبعدين كنتي تيجي تحضنيني وتقولي لي إنتي حتة من قلبي؟

رفع رأسه إليها في لهفة طفل، لكن الجمود ظل يكسو وجه الروبوت ،لم يلمح سوى ابتسامة صناعية صمّاء لا تعرف حنيناً ولا دفئاً، تغيرت ملامحه فجأة من الرجاء إلى الانكسار، ثم إلى غضب مكتوم يحاول السيطرة عليه.

ـ ليه مش بتردي عليا يا ماما؟ زعلانة مني؟!
ولا "عماد" زعلك في حاجة؟
زي كل مره ومش عايزه تحكي لي عنها وكاتمة في نفسك كالعادة علشان ما تزعلينيش ،احكي لي ان ما كنتش انا اشيل عنك مين هيشيل انا ابنك سندك وضهرك اللي هيحميكي حتى من الغول نفسه مش عماد الظالم المفتري .

اقترب أكثر، شد طرف فستانها الأبيض الداكن كما لو كان يتوسل قلباً من لحم ودم:

ـ طب أنا عملت حاجة زعلتك؟ طب قولي لي، أنا "فارس" ابنك حبيبك ؟

ومرة أخرى لا جواب، ارتعشت شفتاه كأنه على وشك البكاء، ثم زأر بغضب مكتوم وهو يقف فجأة:

ـ لا بقى كفاية صمت يا "بيري" انا مش بحب كده. 

ارتجفت "فريدة" في مكانها من حدة صوته، ورأت الصراع القاسي على وجهه، نصفه رجل قوي متماسك يحاول السيطرة على غضبه، ونصفه الآخر طفل صغير محطم يركض وراء حب لن يعود، بدأ يتنفس بسرعة، قبض كفيه بعصبية حتى احمرت مفاصله، ثم عاد فجأة إلى صوت الرجاء من جديد، يجلس على ركبتيه أمام الروبوت:

ـ طب قولي لي بتحبيني ولا لا؟

مد رأسه إلى ساقها كأنه يبحث عن لمسة حنان لا وجود لها، ثم همس كالمجنون:

ـ ما تقوليش إنك مش بتحبيني يا ماما… لأن ما فيش حد بيحبني قدك!

لم تستطع "فريدة" التحمل، شعرت أن قلبها يُنتزع من بين ضلوعها وهي ترى "فارس" على هذا الحال، وجهه الممتلئ شموخاً وهيبة صار الآن مبللاً بدموع طفل مهزوم، تقدمت نحوه دون وعي، ركعت أمامه ومدت يديها تمسح دموعه وهي تهمس بصوت مرتعش:

ـ "فارس" … "فارس" حبيبي فوق انا هنا جنبك، انا كل حاجة حلوة في حياتك، انا "فريدة" حبيبتك ام بنتك ما حدش هيحبك في الدنيا قدي صدقني .

لكنه لم يسمعها، كان غارقاً في عالمه الخاص، يحرك رأسه يميناً ويساراً كأنه يخاطب أحداً لا تراه هي ازداد صوته ضعفاً:

ـ هي ليه سايباني يا "فريدة" ما بتردش عليا؟ ما تسيبينيش لوحدي يا أمي أنا تعبت والله تعبت من بعدك وصمتك ،

ثم تمسك بأحضان القطعة الحديدية وهو يترجاها ويتوسل اليها كما لو أنها حقيقة:
ـ أرجوكي اتكلمي واحضنيني جامد حضنك وحشني.

ثم فجأة انقلبت ملامحه مرة أخرى، ضـ.ـرب الأرض بقبضته وهو يصـ.ــرخ كالمحروق:

ـ جاوبيني! ليه مش بتردي عليا؟!

قفزت "فريدة" نحوه، واحتضنته بكل قوتها كأنها تحميه من نفسه قبل أي شيء آخر، ضغطت رأسه إلى صدرها حتى كاد يختنق من شدة قربها وهمست في أذنه بلهجة حانية مشبعة بالبكاء:

ـ أني اهنه يا "فارس" جارك، أني الحقيقة اللي في حياتك! اسمعني يا حبيبي، أني اللي هحبك مش أي حد تاني، ما فيش في الدنيا كلها حد هيحبك قدّي أني .

شعرت بحرارة دموعه تبلل عنقها، وصدره يهتز كبركان يكاد ينفـ.ـجر، حاولت أن تهدئه، تكرر كلماتها كأنها تعويذة تنقذه من الغرق:

ـ إحنا لازم نروح لبيتنا يا "فارس" لازم نروح لبتنا، هي مستنياك ومشتاقة لك، خلينا نرجع لها ونوبقى نرجع اهنه تاني لما تهدى، بس اسمعني دلوك، أني مش هسيبك أبداً ولا هتخلى عنك هفضل جنبك يا كل حاجه ليا في الدنيا اهدى يا بابا .

ضمته أكثر وأكثر حتى شعرت بعظامه تضغط على صدرها، لكنها لم تتراجع، أرادت أن توصل له أنها لن تفرط فيه أبداً مهما حدث، همست بجانب أذنه من جديد بصوت يكاد يختنق من كثرة الدموع:

ـ انت مش لوحدك، أني معاك، أني مرتك اللي هتحبك وهتفضل جنبك طول العمر، صدقني مافيش ولا بني آدم هيقدر ياخد مكاني في قلبك .

أحس "فارس" بدفء كلماتها يتسلل إلى داخله كالنور وسط عتمة خانقة، ورغم أنه لم يرد بكلمة واحدة، إلا أن يديه ارتفعتا ببطء وأحاطتا ظهرها، كان يحضنها بجنون كأنه يغرق في بحر مظلم ووجد طوق النجاة الوحيد:

ـ أنا، أنا تعبت يا "فيري"...
قالها بصوت واهن، كطفل يعترف بفشله، ثم دفن وجهه أكثر في كتفها:

ـ عارفة يا حبيبي،عارفة إنك تعبت، بس أني معاااك، مش هفوتك لحالك أبداً، بس لازمن نروِح لبيتنا دلوك ،نرجع لبتنا، وبعد اكده ناجي اهنه مع بعض تاني.

ازدادت قوة ضمته لها حتى شعرت بأضلاعه ترتجف، وكان كل نفس يخرجه مليئاً بالوجع والندم والخوف، بقيت هي تمسح شعره وتربت على كتفيه، تهمس في أذنه بلا توقف:

ـ أني الحقيقة يا " فارس" أني مرتك، أني حبك الوحيد.

ظل على هذا الحال دقائق طويلة قبل أن يضعف جسده في حضنها، يستسلم لحنانها وكلماتها التي اخترقت ضباب عقله، وفي عينيه بقايا صراع عنـ.ـيف، بين "فارس" الرجل القوي و"فارس" الطفل التائه الباحث عن أمه، لكنها لم تترك له فرصة للانهيار أكثر، رفعت رأسه بين يديها وقالت بحزم مشوب بالعاطفة:

ـ يلا بينا دلوك، بتنا هتستنانا، وأني مش هسيبك أبداً، فاهم .

نظر إليها للحظة كأنه يحاول أن يفهم هل هي حقيقية أم مجرد صورة أخرى من أوهامه، ثم هز رأسه ببطء، وكأنه يوافقها دون كلام،

أمسكت بيده المرتجفة، وسحبته معها خارج المكان، بينما عيناه لا تزالان معلقتين على الروبوت "بيري" بنظرة مشوبة بالخذلان والاشتياق، وكأن قلبه ينادي استغاثتها لكن يده الأخرى كانت مشدودة إلى يد "فريدة" الحقيقية، التي تقوده إلى بيتهم، وإلى الحقيقة الوحيدة في حياته. 

                   ********
كان المساء هادئًا إلا من صوت ضحكات "أشرف" تتردد في أنحاء الشقة، بينما جلست "فاطمة" على الأريكة ممسكة بصحن صغير من المخللات تخفيه بين يديها كأنها تحمل كنزًا ممنوعًا ،كان بطنها البارز يفضح شهور الحمل المتقدمة، وحركتها البطيئة تزيدها أنوثة رغم محاولتها إخفاء ذلك الحياء الذي لم يفارقها يومًا،

دخل "أشرف" فجأة، يلوح بيده كمن ضبط مجرمًا متلبسًا ثم امسكها من ياقة قميصها القطني :
ـ إيه ده يا "بطبط"؟! مخلل؟! هو البيبي محتاج مية نار دلوقتي ولا إيه؟ ولا هو اشتكى لك انه زهق من العسل اللي انتي بتنزليه له كل شوية وقال لك عايز أكلة حرشة ؟

رفعت عينيها بخجل وهي تحاول إخفاء الطبق خلف ظهرها:
ـ يا "أشرف" انت هتمسكني اكده ليه كانك قفشتني متلبسة بمخدرات مثلا ،
ايه نفسي فيه ،سيبني بقى احسن ما يطلع للواد جزرايه ولا خيارايه في وشه انت اللي هتبقى مسؤول وقتها .

اقترب بخطوات مسرحية وهو يضع يده على جبينه:
ـ يا شتات الشتات يا بختك اللي زي وشك يا "اشرف" انت وابنك اللي هيجي مظلوم في الدنيا وامه بتتوحم فيه على مخلل انت بتوحمي يا اختي على مانجا ولا شيكولاته ولا حاجة كدة حلوة، رايحة توحمي لي على مخلل ؟!

ضحكت رغم توترها، فجلس بجوارها وخـ.ـطف الطبق من يدها بسرعة:
ـ طب مش هتاكلي إلا بشرط بقى طالما اتوحمتي عليك اخاف على ابني يطلع له طبق المخلل مرسوم على جبينه وقتها اقعد اندب اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين .

نظرت إليه بتوجس:
ـ شرط إيه دي يا حظي؟

ابتسم ابتسامة واسعة:
ـ أنا اللي هأكلك بإيدي وكل لقمة بمقابل!

شهقت بخجل وضـ.ـربته بكفها على كتفه:
ـ يا ابني عيب بقى انت كل تفكيرك شمال اكده ؟

أشار إلى بطنها ضاحكًا:
ـ أيوة ما هو أنا السبب، يعني من حقي آخذ حقي برضه!أنا بطارية أشرف طول الليل شغالة.

احمر وجهها وهي تحاول خـ.ـطف الطبق من يده، لكنه ابتعد وهو يرفع اللقمة أمامها:
ـ يلا يا "بطبط" قولي لي كلام حلو علشان البيبي يسمع صوت أمه وهو بتدلع أبوه.

جلست مكرهة، تضحك رغماً عنها، وتفتح فمها لتأخذ اللقمة، فيقربها ببطء ثم يسحبها فجأة:
ـ لله كده مش عاجبني، الابتسامة مش كاملة! فين الدلع بتاع المهندسات الشطار ؟

قالت وهي تحاول كتم ضحكتها:
ـ إنت عايز تخليني أمثل سيب الدلع ياجي على راحتَه علشان يوبقى حقيقي .

حرك راسه رافضا وهو يتشبس برأيه:

ـ لا يا ماما... أنا عايزك تدلعيني يعني تدلعيني .

أدخل اللقمة في فمها وهو يضحك، ثم جلس بجانبها يضع يده على بطنها حتى قالت بجدية وكأنه سيسمي ابنهم حقا هذا الاسم :

ـ بالك انت لو أهلي سمعوك وانت هتقول الاسم دي هيقاطعوك!

رفع حاجبيه ناطقاً بخفة وهو يحاول استفزازها:
ـ ولا يهمني يا عسل ،أهم حاجة إني مبسوط، والمخلل مبسوط جوة.

ضحكت بخفة، ثم أراحت رأسها على كتفه دون وعي، شعر "أشرف" فجأة بسكون جميل يغمر المكان، ونظر إليها نظرة لم تخلُ من جدية رغم كل المزاح:
ـ إنتي عارفة يا "بطبط" أنا مبسوط قوي إنك في حياتي.

رفعت عينيها بسرعة، وفي وجهها حياء ودهشة:
ـ إيه يا "أشرف" مالك قلبت رومانسي اكده فجأة؟

ـ أصل كل ما أشوفك كده بحس انك نعمة ربنا بعتها لي وببقى مش مصدق أوقات إنك مراتي، وإنك حامل مني كمان
عارفة؟ أنا طول الوقت بهزر معاكي وبضحك من قلبي ، بس دلوقتي حاسس إن نفسي أحضنك حضن كبير وهيبقى قليل قوي على اللحظة دي.

سكت قليلًا وهو يمرر أصابعه بحنان فوق بطنها المنتفخ:
ـ البيبي ده، أول هدية بينا، أول مشروع مشترك، وأنا متأكد إنه هيبقى أحلى مشروع في حياتنا.

ارتجف قلب "فاطمة" من كلماته، وابتسمت بخجل وهي تقول بصوت منخفض في حملتها الأخيرة :
ـ يا رب يطلع شبهك في الضحك، وشبهي في الجمال .

ضحك وقال:
ـ وأنا بقى نفسي يطلع شبهك في العند علشان يبقى عندنا خناقات أسرية محترمة والناس تسمع بينا كل يوم الله كان نفسي من زمان اتخانق خناقات الازواج اللي بسمعها وبقول معقول انا عقلي يوصل اني اتخانق واعلي صوتي كده لحد دلوقتي ما شفتش الحوارات دي .

وفجأة، شعرت "فاطمة" بركلة خفيفة داخل بطنها، فشهقت بصوت مرتفع:
ـ يا نهار أبيض! استنى يا "أشرف"البيبي بيتحرك!

انتفض "أشرف" كطفل يسمع خبر العيد لأول مرة، ووضع يده بسرعة على بطنها:
ـ فين؟! وريني كده كل مره بتقولي لي انه بيتحرك ما بكونش جنبك وببقى هموت واشوفه .

ـ اهنه، استنى شوية ،هتلاقيه بيرفس!

جلس متوترًا كأنه ينتظر صافرة بداية مباراة، ثم فجأة شعر بركلة صغيرة تحت كفه، فتجمد في مكانه وعيناه اتسعتا بدهشة لم يعرفها من قبل:
ـ يا نهار أبيض على الجمال والحلاوة بجد احساس جميل قوي يا "بطبط" .

انحنى يقبّل بطنها في رهبة، كأنه يحيّي مخلوقًا صغيرًا لا يراه:
ـ يا روح أبوك... إنت اتأخرت ليه يا واد؟ انا مستنيك من زمان اتجدعن بقى واخرج .

ضحكت "فاطمة" والدموع في عينيها من شدة التأثر، بينما تابع "أشرف" بحركة مسرحية وهو يرفع رأسه إليها:
ـ بطبط! أنا رسمي دلوقتي بقيت أب! وده معناه إني لازم آخد مكافأة من مامتك فورًا.

ضربته بخجل وهي تحاول إبعاده:
ـ مكافأة إيه بس؟ كفاية عليك البيبي!

اقترب منها أكثر وهمس بخبث محبب:
ـ لا يا روحي ، أنا عايز المكافأة دي دلوقتي ، قبلة أبوية كده علشان البيبي يبارك حياتنا.

احمرّ وجهها بشدة وهي تحاول الهرب بعينيها، لكنه أمسك يدها وقبّلها بعمق، ثم رفعها إلى قلبه وهو يقول بصوت متهدج:
ـ ياه يا "فاطمة" تعرفي انك أحلى حاجة في حياتي وبيتنا الصغير اللي برجع له من الشغل ببقى حاسس اني داخل جنتي إنتي أحلى حاجة حصلت لي،إنتي والبيبي أحلى حكاية في حياتي.

ساد الصمت لحظة إلا من صوت أنفاسهما المتلاحقة، قبل أن يكسره "أشرف" بضحكة خفيفة:
ـ بس برضه، مش هسامحك لو خلتي البيبي يحب المخلل أكتر مني!

وانفجرا معًا في ضحك طويل، بينما الليل من حولهما صار أكثر دفئًا من أي وقت مضى.

              ************

جلس "عمران" في شرفة غرفته، الليل ينسدل من حوله مثل عباءة حالكة لا يُرى لها طرف، والسيجارة تشتعل بين أصابعه فتضيء وجهه بوميض خافت ثم تنطفئ مع كل نفس يزفره، كان البحر الصغير الممتد أمام المزرعة ساكناً، والريح تمر على أوراق الشجر فتحدث وشوشة خفيفة كأنها تعاتبه على جفائه، أغلق عينيه وهو يسند ظهره إلى الأرجوحة التي صنعها خصيصاً لها ذات يوم، حين كانت تطلب منه مكاناً لتستريح فيه قبل ان تلد اطفالها وكالعادة هو لطلباتها سمعاً وطاعة، كان يتذكر ضحكتها يومها، وكيف كانت تدور على الحبال وكأنها طفلة صغيرة بين يديه ،الآن يجلس عليها وحده، وصدى غيابها يلسع قلبه أكثر من دخان سيجارته،
كان يعلم أنها وحشته حدّ الوجع، لكنه أقسم على نفسه أن يصبر، أن يتحمل بُعده عنها حتى تستشعر قيمته، حتى تعود كما كانت زوجة تهتم، لا أمّاً منهكة تنسى أن له قلباً يحتاجها كما يحتاجه صغارهم، كان كبرياؤه يحاول أن يقنعه أن هذا البعد علاج، لكن قلبه يصرخ أن العلاج صار مرضاً يقـ.ـتله كل ليلة،

في الداخل، كانت "سكون" تحاول أن تنيم أطفالها الثلاثة، وكلما أغمض أحدهم عينيه، فتحت هي عينيها على بحر من الأسئلة،كيف يقسو عليها إلى هذا الحد؟ كيف لا يلتفت إلى وجودها؟ كيف تغيّر فجأة إلى هذا الصمت الثقيل وهذا التجاهل الموجع؟ كان عقلها يسترجع تلك الليلة حين رأته يرسل رسائل إلى "نور"، ويتحدث معها يجوب بالتفكير الصارخ والموجع لقلبها، لكن عقلها يأبى إلا أن يزرع الشك في صمت "عمران" وبروده، لم تكن تغار من طبيبة تعمل معه بقدر ما كانت تغار من كل ابتسامة تخرج من قلبه لغيرها، ومن كل كلمة دافئة لم تُقَل لها منذ زمن وهو يتجاهلها كل هذا التجاهل الشديد الذي أذهلها ،

وضعت الغطاء فوق جسد "سيف" النائم بجوار شقيقه "سليم"، ثم عدّلت وسادة الصغيرة "سكن"، وقبلت جبينها بحنان، لكنها ما إن خرجت من الغرفة حتى وجدت نفسها تتجه نحو غرفة "عمران" دون وعي، كأن شيئاً يسحبها إليه رغم قسوته عليها وجفاؤه معها ،كانت قد عقدت العزم أن تفهم، أن تقترب منه ولو بصمت، أن تكسر هذا الجدار البارد الذي أقامه بينهما،

فتحت الباب بخفة فاستقبلها دخان سيجارته ورائحة الليل الممزوجة بموسيقى حزينة لعبد الحليم تنساب في الغرفة مثل نهر من الذكريات،كان جالساً على المرجيحة التي أحبّتها دوماً، عينيه مغمضتين، رأسه مائل قليلاً إلى الخلف، والرماد يتساقط ببطء من سيجارته في المنفضة إلى جواره، كان يبدو كتمثال لرجل يصر على إخفاء وجعه، لكنه يبوح به في كل نفس دخان يتصاعد إلى السماء،
وقفت "سكون" عند الباب، قلبها يخفق بشدة، شعرت بالشوق ينهشها وهي تراه هكذا، بعيداً عنها رغم قربه، تقدمت خطوة بخطوة، وصوت عبد الحليم يعلو في الخلفية بموال حزين يشبه حالهما، عيناها تراقبانه بشغف، وكأنها ترى رجلاً آخر، ليس زوجها الذي اعتادت حضوره، بل عاشقاً يقاوم نفسه كي لا ينهار بين ذراعيها،
اقتربت أكثر حتى صارت على بعد خطوات منه، وقلبها يرتجف بالحنين والخوف معاً، كانت تريد أن تلمسه، أن تعتذر له بلا كلمات، أن تقول له إنها اشتاقت إليه حتى كادت تخـ.ــتنق، لكنها كانت تخشى أن يصده كبرياؤه مرة أخرى ، حتى اقتربت منه وهبطت بنصف جسد أمامه ونامت على قدميه الممدودة وهي تعاتبه بهمس ناعم :
ـ تعرِف أول مرة ادخل مكان متحسش بوجودي فيه ، ولا تشم ريحتي ولا تسمع صوت أنفاسي ، بقيت حاسة إني تَقيلة عليك قووي وانك معدتش تحبني ولا تحس بيا يا "عمران" وبقيت مشغول بغيري ومع غيري .

تردد صوته داخله قبل أن يخرج من شفتيه، مبحوحاً كأنما خرج من صدر مثقل بالخذلان، كان ينظر إليها بعين نصف حزينة ونصف غاضبة، كأنه يريد أن يعانقها ويبعدها عنه في الوقت نفسه:
ـ بحاول أأقلم حالي على وضعنا السئ دي ، بحاول أسيبك براحتك ومزعجكيش ولا اشيلك همي كفاية عليكي عيالك ، خلاص طاقة التحمل والصبر معاكي وعليكي خُلصت في اني ازاي أرجِعك لحضن عمرانك وانتي مفيش اي استجابة من ناحيتك فيئست وكنت حالي بَعيد علشان كفاية على قلبي اكده كسرة منيكي .

كانت الكلمات كصفعة ناعمة لكنها موجعة، كأنها تذكّرها بكل ليالٍ نامت فيها وهي تدير ظهرها له، سكنت عيناها للحظة ثم اغرورقت بالدموع، وارتجفت شفتيها كطفلة عوقبت على غفلة:
ـ ياه يا "عمران" كد اكده زعلان من "سكونك" وشايل كل الحزن دي في قلبك مني ؟
عارفة اني مقصرة واني خذلتك كَتير واني وجعتك في بعادي عن حضنك اكتر بس عمري ما اقدر على زعلك مني ولا بعدك عني ولا قلبي قادر يتحمَل تجاهلك وقسوتك علي ، ارجع لقلبي يا "عمران" ومتقساش على سكونك .

لكن عمران أدار وجهه عنها قليلاً، كمن يريد أن يخفي اضطرابه، وصوته اكتسى ببرود مقصود أراد به أن يستفز قلبها لتستفيق:
ـ وقت العتاب خلص يا بت الناس ممنوش فايدة لو تفتكري كام مرة اتحايلت عليكي وحايلتك اني محتاجك وانك تعتبريني كيف ولادك واني اكون بالنسبة لك طفل صغير زيهم ، وإن وضعنا دي ما يرضيش ربنا بس خلاص فقدت الأمل وفقدت حتى لذة الحياة ، هتصدِقي بالله كمان زهدت في العيشة والبيت بالنسبة لي بدل ما يوبقى مكان راحتي بقى مكان شقائي ، وهتصدِقي كمان ذكرياتنا الحلوة كلماتها هحاول أمحيها من دماغي علشان متوجعش اكتر من اكده يعني بحاول أنسى كل حاجة علشان الوجع من اقرب الناس ليا ومن ذكرياتهم ومن الانتظار للكلمة الحلوة والحضن الحنين تَقيل قووي وهينخر في صدري وقلبي وعقلي لحد من كتر الوجع أحاول أفوق وأعالج نفسي من حب ناس مشايفانيش واصل.

ارتجفت أنفاسها، وكأن الأرض تميد تحتها، لم تصدق أنه يفكر حتى في محو الذكريات، فكيف يمحوها هي من قلبه؟ كان العتاب في صوتها هذه المرة ممتزجاً بالغيرة والذعر:

ـ وه ! بقى عايز تنساني يا "عمران" ؟!
عايز تخرج قلبك وعينك من حياة "سكونك" وتطلعني برة قلبك ؟!
قول بقى إن الداكتورة حليت في عينيك وعقلك وقلبك خلوك ضعفوا وملت لها وبدأت تنسى "سكون" وقرفها وإهمالها فيك وفي حقوقك غصب عنيها ، قول بقى انك بدلت حب "سكون" بحب تاني وخلاص مبقاش ليا عازة عنديك ، بس يكون في معلومك الستات كلاتهم طبعهم كأم واحد وقت ما يخلفوا عيالهم هيلهوهم حتى أنهم يشوفوا حالهم يعني مهما تفر من الوضع دي هتلاقي زييه .

كان عمران يقاوم ابتسامة خفية أراد بها زيادة اشتعال غيرتها، ونبرته حملت مزيجاً من التهكم والصرامة وهو يرد بنظرة ثابتة تحفر داخلها الخوف والحنين معاً:
ـ خرفي اكتر في الحديت وملي عقلك بالخرافاات ، وبعدين مالها الداكتورة ، متعلَمة وهتحب شغلها وعمرها ما تتخلى عنيه ولا عن نجاحها ، وعمرها ما هتفكِر تتخلى عن كونها داكتورة حتى لو بقيت أم ، متهيألك إن كل الستات اللي هتخلف هتنسى حالها وهتنسى الدنيا باللي فيها .

كان الليل ثقيلاً على صدر الغرفة، وصوت أنفاسهما يتقاطع كأنه صدى حوار لم يبدأ بعد، "عمران" جلس في مكانه، ينظر بعيداً عنها وكأنه يريد الهرب من عينيها اللتين تحملان أوجاعاً ساخنة وألماً دفيناً، قلبه يصرخ شوقاً لها، لكنه يرفع الجدار بينهما بإصرار عنيد، يحاول أن يقنع نفسه أنه لن ينهار أمام ضعفها مهما كان حبه لها جارحاً حد النزيف،

أما "سكون" ، فقد اقتربت منه وفي قلبها خليط من الخوف والاعتذار والغيرة القاتلة، لم تصدق أنه يمكنه أن يذكر امرأة أخرى أمامها دون أن تلمح في صوته أي اكتراث بجرحها، شعرت أن كل ذرة أنوثتها تتمرد في وجهه وتصرخ 'لن أتركك مهما حاولت' :

ـ كيف هياجيلك قلب توجعني اكده وتتحدت عن واحدة تانية وعن مميزاتها قدامي اكده بدون ما تراعي شعوري وغيرتي ، حرام عليك الوجع ليا يا "عمران" حرام عليك مستحقش منك اكده ، والله ما أستحق .

كان عمران يحاول التماسك، يحاول ألا يمد يديه ليضمها فوراً كما يشتاق، يحاول أن يخفي انكسار قلبه أمام دموعها، لكنه يرد بنبرة جافة مقصودة رغم أن صدره يشتعل حنيناً:
ـ هتبكي ليه يا بت الناس عاد، بزياداكي إنتي الوجع اني كنت قاعد لحالي ومع حالي وسايبك لحالك ولدنيتك الجديدة اللي رتبتي نفسك وعيشتك عليها ، ولا إنتي هتقولي بيك هم ولا أزيدك .

في تلك اللحظة لم تعد "سكون" قادرة على تحمل هذا البرود المصطنع، ألقت بنفسها في أحضانه دفعة واحدة، التصقت به كأنها تريد أن تذيب المسافة كلها التي صنعها بينهما في لحظة واحدة، كانت تمسح وجهها في صدره بقوة، تبحث عن نبضه، عن أنفاسه، عن أي علامة تقول إنه ما زال يحبها كما كان وأكثر،

أما "عمران" أحس أن صدره يخـ.ـتنق شوقاً من اقترابها، حاول أن يبعدها بلطف، لكن ذراعيه خذلتاه للحظة واحتضنها رغماً عنه، قبل أن يعود ليقاوم، يشد نفسه عنها، يذكر قلبه بأن هذه اللعبة ليست لعبته بل حربه التي اختارها ليعيدها إليه بكامل إرادتها لا خوفاً من فقدانه،

عينيه أغمضتا قهراً وهو يحاول التنفس وسط دفء جسدها ورائحة عطرها الذي يطارده في وحدته، يداه ترتجفان بين الرغبة في الإمساك بها للأبد والرغبة في الإفلات منها حتى تدرك قيمته، كانت تتلوى بين ذراعيه بطفولة أنثوية، تحاول كسر حاجز الجليد بلمساتها، تقرّب وجهها من عنقه، تبحث عن قلبه قبل أن تبحث عن عقله،
أما هو، فكان يحبس أنفاسه كمن يقف على حافة جرف بين السقوط والنجاة، يقول في قرارة نفسه؛ تحمَّل يا رجل ولا تضعف في اقترابها ولكن كيف تتحمل وعشقك المحروم منه يطلب عناقك بين يديك ؟
آه والف أه سكوني ، عذبتيني أشتاقك بشدة وقلبي يحذرني الاقتراب ،كيف لي أن أقاومكِ يا "سكون"؟ وأنا الذي صنعتكِ بقلبي مأوى وأمسى كل ما فيّ مسكناً لكِ؟
كل خفقة في صدري تناديكِ، وكل نفس يخرج مني يحمل عطركِ ولو كنتِ بعيدة عني دهراً ،
أُقنع نفسي بالقسوة حتى أراكِ تعودي إليّ بإرادتكِ، لكن قلبي يخونني مع كل نظرة منكِ ولو عابرة،
يا الله، كيف يعاقب العاشق معشوقته، وهو لا يستطيع العيش دقيقة بلا دفئها؟
أنا رجل يا "سكون" ورجال الأرض كلهم لا يعرفون أنين الحرمان إلا إذا عشقوا حتى الانكسار،
أقاومكِ لأنكِ سلبتِني النوم والراحة، لأنكِ جعلتِ حضني فراغاً لم يملأه غيركِ يوماً،
أهرب منكِ لأني إن بقيتُ بقربكِ سأذوب بين يديكِ وأغفر دون حساب ولا شروط وأرضى بالقليل من عشقك وأنا طماع أريد المزيد والمزيد ولن أكتفى من قربك ،
ما أقسى أن يكون عقلي عدواً لقلبي، وما أشد أن تكون كرامتي سيفاً على عنقي وأنا أشتاقكِ!
أستحلف الليل أن يخفف نار غيابكِ، فيسخر مني ويعيد إليّ ذكرياتكِ دفعة واحدة،
آه يا "سكون" أتحمل اليوم لأربّيكِ، لكن من يربّي قلب "عمران" على فطامه منكِ؟
لكن قلبه كان يخونه مع كل نبضة وهي تهمس بدموعها في صدره، وجسده يفضح اشتياقه مع كل رعشة يتمنى لو تخبئها عيناه عنها،

لعبة الحيرة اشتعلت بينهما، هي تصر على تذويب المسافة بأي ثمن، وهو يقاوم اشتياقه بأسنانه خوفاً أن ينهار كل ما بناه من جدار التجاهل، كأنهما عاشقان على طرفي نهر، كل منهما يمد يده للآخر، لكن "عمران" يحاول أن يبقي الجسر مرفوعاً قليلاً ليعاقب قلبها قبل أن يمنحها العفو.

تعليقات