رواية اشتد قيد الهوي الفصل الخامس عشر 15 بقلم دهب عطية

   

 

 رواية اشتد قيد الهوي الفصل الخامس عشر بقلم دهب عطية



أصبح لكل لغات العالم قاموس ترجمة يُسهِّل علينا فهم بعضنا البعض فلم نعد نجد صعوبة في التواصل...

إلا تلك اللغة المعقّدة داخلنا مشاعرنا.
كثيرًا ما نجهل كيف نُترجمها من أين نبدأ وكيف تكون... تصبح لغةً يصعب ترجمتها أو شرحها أو تفسيرها فنبدأ رحلة معاناة في سبيل الوصول إلى ركيزة المعرفة !...

أخذت نفسًا حادًا ثم أخرجته بنفس الحدة والحنق وهي ترمق حماتها السابقة بامتعاض وعدم ترحيب بوجودها هنا...

"عرفتي مكاني منين يا عنايات؟"

ارتفع حاجب عنايات فوق عينين مليئتين بالكراهية...

"عنايات؟!.. ونعمة التربية يا مرات ابني!"

تأهبت شروق في جلستها بأعصاب مشدودة وهي تطالعها بقرف هاتفه بغضب...

"أنا وابنك اتطلقنا...واللي بيني وبينكم ملك..."

التوى فمها في ابتسامة ساخرة هازئة بالقول

"طب كويس إنك واخدة بالك إن اللي بينك وبينا لحم ودم مش حتة ورقة بكلمة ترجع"

قالت شروق بازدراء..

"مفيش حاجة هترجع... الله يسهل لكم بعيد عني."

ثم استرسلت مقطبة جبينها...

"وبعدين إنتي عرفتي طريقي منين؟!"

"أنا قولتلها يا ماما..."

أتت ملك لتوها من المطبخ حاملة كوب ماء كانت جدتها قد طلبته منها منذ لحظات.

"وليه تتصرفي تصرف زي ده من غير ما ترجعيلي؟!"

انكمشت ملك بخوف بجوار جدتها التي ضمّتها إلى صدرها مدافعة عنها بلؤم...

"وهي البِت عملت إيه غلط؟... عرفتني طريقك عشان لما ممدوح يخرج ما يدورش كتير عليكم..."

هبت شروق واقفة بعصبية....

"ويدور علينا ليه؟!"

مصمصت عنايات شفتيها زاجرة...

"حكم... مش مراته وبنته؟!"

لوّحت شروق بيديها بعد أن فقدت صبرها أمام هذه المرأة الوقحة...

"انتي اتجننتي يا ولية.... أنا خالعة ابنك... خالعاه في المحكمة... "

"وماله؟! لسه في بنته هتخلعيها إزاي منه؟!"

خبث شديد فاح من بين كلماتها المبطنة ثم نظرت إلى حفيدتها الغالية مفتاحها لكل الأبواب المغلقة....

كل باب تغلقه شروق في وجهيهما ملك قادرة على فتحه... وهي لن تتنازل عن هذا المفتاح مهما كلفها الأمر !....

"مـلـك..."

نظرت إليها ملك ببراءة والخوف يتربع في أعماقها بعد غضب أمها منها ونظراتها المعاتبة...

"نعم يا تيتة..."

دفعتها بخفة كي تنهض قائلةً بحنو زائف...

"ادخلي أوضتك دلوقتي... شوية وهنادي عليكي..."

"إنتوا هتتعاركوا؟..."

سألتها ملك بنظرات مترددة من تركهما وحدهما...

نفت عنايات قائلةً بضحكة بشعة...

"أنا أقدر دي أمك... دي حبيبتشي !"

ابتعدت ملك نَاكِسةً رأسها للأسفل حتى لا تنظر إلى أمها الغاضبة منها....

سألتها عنايات بنبرة حاقدة...

"مين الراجل اللي كنتي داخلة البيت معاه ده؟.. "

ردت شروق ببرود وهي تعرف مغزى هذا السؤال والاتهام المنبثق من كلماتها....

"ده صالح الشافعي... صاحب البيت وابن الست اللي اتوسطتلي عنده عشان أسكن هنا."

ضحكت عنايات وبغمزة ماكرة قالت...

"اتوسطتلك؟! آه... طب وكان إيه المقابل يا مرات ابني؟!"

هاجت شروق في وجهها...

"مقابل إيه يا ولية يا مخبولة؟! ما تحترمي نفسك... "

وقفت عنايات أمامها تقارعها بعدوانية...

"وليه مخبولة يا مرا يا ناقصة؟!... ماشية على حل شعرك وعملالي فيها الشريفة العفيفة؟!"

هتفت شروق بحرقة...

"أنا أشرف من الشرف ومفيش حاجة بيني وبينه... ده شيخ وعارف ربنا مش بيسلم 
حتى بالإيد..... اتقي الله!"

تفوهت عنايات بدهاء لئيم...

"وطالما هو شيخ... خارجة معاه ودخله معاه بامارة إيه؟! بيصلي بيكي أفهم؟!"

تلون وجه شروق بغضب مكتوم وانفلتت الكلمات من بين أسنانها بنفاد صبر...

"إن شاء الله عنك ما فهمتي... إنتي مالك ومالي؟! ليكي إيه عندي عشان تحاسبيني؟!"

عقبت عنايات بنبرة حانقة مشبعة بالشر...

"ليا حفيدتي اللي هاخدها منك ومش هخليكي تشوفي ضُفرها... عشان تعرفي تاخدي راحتك مع الشيخ !"

اهتز كيانها بالخوف مع ارتباك طفيف تلبّسها للحظات قبل أن تصيح في وجهها محتدة..

"احترمي نفسك ولمّي لسانك...وطلعي الأوهام دي من دماغك ولعلمك بنتي هتفضل معايا العمر كله لا إنتي ولا أبوها هتقدروا تاخدوها مني... "

قالت عنايات باستهجان....

"ومين اللي مقوي قلبك أوي كده الشيخ أبو سبحة؟!.... ده لو حنّش ابني نفخ في وشه هيطيروا !"

أوغر صدر شروق بالغيظ فقالت بكره...

"ابنك الحشاش الجبان ده ميجيش جنبه حاجة !"

توسعت عينا عنايات بصدمة...

"ابني حشاش وجبان؟!... طب ورحمة الميتين لكل ده هيوصله يا شروق... "

هزّت رأسها دون اكتراث هاتفة ببسالة..

"وصّلي اللي يعجبك وزودي التحبيش من عندك أنا عارفاكي مش بتتوصي... من زمان أوي... من أيام ما كنتي بتسخنيه وتتبلي عليا وتطعني في شرفي !"

اهتز جسد عنايات بميوعة لا تناسب سنها وهي تهتف بسخرية ناقمة...

"شرفك؟!.... شرف مين يا أم شرف؟! ما كل حاجة واضحة زي عين الشمس!"

قبضت شروق على ذراع عنايات بقسوة تنوي البطش بها...

"لمّي نفسك يا ولية لحسان وديني وما أعبد أكون حطاكي تحت رجلي !"

ثم بعينين مشتعلتين بالنيران أضافت..

"والحساب بقى يجمع !"

نفضت عنايات ذراعها بغل والشر في عينيها يسبق الفعل...

"هو هيجمع بس؟! ده هيجمع ويجمّع!"

رفعت عنايات الهاتف إلى أذنها صارخة بعبثٍ مجنون....

"إنتي فين يا مرا منك ليها..ادخلوا روّقوها.."

بعد لحظات قليلة، وجدت شروق من يقتحم باب شقتها... ثلاث نسوة ضخام البنية يتشحن بالسواد وعلى وجوههن علامات القسوة والشر.

بلعت ريقها بارتعاب وهي تتراجع إلى الخلف تسأل بنبرة مهزوزة وقد تملك منها الخوف رغمًا عنها....

"إنتوا مين؟... إنتوا مين وعايزين إيه؟!"

تولت عنايات الرد بنبرة ونظرة تنبئان بالخطر القادم...

"دول اللي هيعلموكي الأدب يا شريفة... شوفي النصيب!... عدّيت عليكي وهما معايا كنا طالعين مصلحة قريبة من هنا..."

ثم أضافت بضحكة خبيثة متشفية...

"بس أهو نصيبي الحلو خلاكي إنتي أول مصلحة... صحيح مش مدفوع ليهم بس يكفي إنهم هيخدموا ستهم عنايات... اللي علمتهم الكار وفتحت بيوتهم... "

نطقت إحداهنّ بنبرة غليظة تشبه صوت الرجال....

"إحنا تحت أمرك يا ستنا...تحبي نبدأ منين؟"

أمسكت اثنتان من النسوة بذراعي شروق وبقيت بينهما تتلوى تحاول الفكاك من قبضتيهما القويتين بينما قالت عنايات 
بغلٍّ والشرر يتطاير من عينيها الكارهتين...

"مش عايزة حتّة فيها سليمة عايزاكوا تكسروا رجليها اللي ماشية بيهم مع كل راجل يعجبها وسطها اللي معووجّ وعاجب الرجالة!"

ثم صرخت بهياج أشد...

"مش عايزة حتة فيها سليمة كسّروها
كسّروها وشفوا غليلي منها... من ساعة ما شوفت خلقتها العكرة وأنا في نار... في نااار بسببها !"

زاد تنفسها حدّة وقالت بقهر...

"وآخرتها كمان حفيدتي تطلع من واحدة فاجرة زيها..... آه يا ناري"

ثم صرخت فيهنّ بجنون...

"اخلصي يا ولية منك ليها إنتوا لسه واقفين؟!"

بدأ النسوة في تنفيذ مهمتهن، قيّدن شروق
ثم بدأن في ضربها ولكمها بأيادٍ كأنها مطارق حديدية !...

صرخت شروق في البداية مستغيثة تحاول المقاومة لكن الضرب لا يتوقف والإهانات تتوالى بأقذع الكلمات...

وفي داخل الغرفة كانت ملك تطرق على الباب بقوة تصرخ تحاول فتحه وهي ترتجف...

"تيتاااااا... افتحي يا تيتة... ماما مالها؟!
تيتة في إيه..... تيتاااااااا... "

أمسكت عنايات بمقبض الباب بقوة تمنع فتحه وعيناها تستمتعان  بمشهد شروق المُهانة الذليلة وهي تُضرب بمنتهى القسوة أمامها.

وكم تمنت هذا المشهد منذ زمن !...

لكن خوفها من حنش هو ما كان يمنعها سابقًا أما الآن فلديها سبب قوي يجعلها تفعل ما تفعل.

سبب تعلم جيدًا أنه سيجعل حنش يُكمل ما بدأته هي !...

قبل ذلك بالحظات قليلة....

"ومين الست دي ياصالح...."

سألته والدته وهي تجلس أمام التلفاز وبين يديها حبّة بطاطس تُقشِّرها بتركيز وعيناها تنتقلان بين ابنها الكبير الذي يستعد للخروج بعدما عاد للتو من الخارج بصُحبة شروق متذكّرًا أمرًا هامًا عليه فعله قبل أن يذهب للمصنع....

"مش عارف يا أمي... أنا سبتها وطلعت. أكيد قريبتها."

ثم صوّر أحد الأوراق بهاتفه وأرسلها إليه مُرفقًا برسالة صوتية...

"دي بنود العقد اقراها كويس... وياريت تِصحصح شوية معايا دي فلوس ناس يا 
ابن أخويا !"

انتبهت والدته إلى الغضب البادي عليه فقالت بشك...

"دا ياسين؟!"

ردّ صالح بتأفّف..."أيوه هو."

سألته والدته بقلق...

"مالك؟.... هو عمل حاجة؟!"

زمّ صالح شفتيه بضيق وقال...

"عمال يغلط في الحسابات وفي بنود عقود مكتوبة ومضيين عليها سوا... أنا مش عارف مالُه الفترة دي!... بعد ما اتعدل رجع خاب تاني..."

همست والدته بأسى...

"يمكن رجعت تِكلمه تاني... ياسين ما بيرجعش خطوة لورا غير لما تكون هي السبب فيها."

امتقع وجه صالح وتمتم بغيظ...

"وليه ما تقوليش إن شِلّة السُّوء اللي ماشي معاهم هما السبب؟!"

هتفت والدته بحرقة ودموعها تترقرق في عينيها...

"لأ هي!.... ما فيش غيرها ربنا يحرِق دمها وينتقم منها زي ما حرقت دمي على ابني البِكري... وناوية تكمل على حفيدي !"

ثم أضافت بصوت مختنق بالحزن...

"إحنا لازم نكلم الست دي يا صالح هنفضل ساكتين على عمايلها السودة دي لحد إمتى
لازم نوقفها عند حدها."

استنكر صالح الفكرة مُعقبًا...

"مش إحنا اللي هنوقفها عند حدها... حفيدك هو اللي المفروض يعمل كده."

خرجت أبرار من غرفتها وهي تفرد ذراعيها للأمام بتكاسل وتتثاءب في نعاسٍ طفولي...

"صباح الخير... إيه؟ فيه اجتماع طارئ ولا إيه؟"

مالت على والدها تُقبّل خدّه وفعلت المثل مع جدتها....

فردّ والدها عليها بحنو...

"صباح النور يا أبرار... مفيش حاجة أنا شوية ونازل الشغل... شوية وأفطري عندك جامعة النهاردة؟"

هزّت رأسها نفيًا وهي تُركّز نظراتها نحو
الجدة...

"تيتة كلمتي ياسين؟.... واطمنتي عليه؟"

هزّت الجدة رأسها نفيًا مُعقّبة بهدوء...

"متقلقيش يا أبرار هتلاقيه كويس. السخنية الحمد لله من ساعتها نزلت وبقاله يومين بخير."

"ماشي بس برضو هكلموا وهشوفه...."

  
قالت أبرار ذلك وهي تُخرج هاتفها من جيب منامتها أمام عيني والدها الغير راضي  عن تصرفاتها ولا عن تقاربها المبالغ فيه مع ابن
أخيه...

فمنذ طفولتهما وهو يسعى جاهدًا لإبقاء العلاقة بينهما في حدود أبناء العمومة فقط. لكنه في كثير من الأحيان كان يراقب تلك العلاقة وهي تنحرف عن المسار الذي رسمه
لها لتأخذ منحًى أكثر دفئًا وصداقة عميقة جذورها تمتد في أعماقهما مع مرور السنوات... حتى أصبحت بهذا الشكل الصعب محوه....

ازدادت ملامحه عبوسًا وهو يلمح اللهفة في عيني ابنته... تلك اللهفة ذاتها التي يراها في عيني ياسين ويخشى ترجمة تلك المشاعر الواضحة....وضوح الشمس بينهما 
  

قالت أبرار بحرارة...

"فينك يا سينو؟"

رد عليها ببرود أشبه بالصقيع...

"في الشغل..."

سألته بقلق وحاجبين معقودين..

"مالك؟"

رد على مضض...

"مفيش... كنتي عايزة حاجة؟"

قالت أبرار بمشاكسة...
"الله!.... إنت بقالك كام يوم مش في المود. ليه.... السخنية أثّرت على مخك؟"

رد باقتضاب

"مليش مزاج أهزر... "

قالت بدهشة

"الله! ده إنت مكتئب بقى!"

أكّد بشق الأنفُس...

"بظبط... ومش طايق حد."

سألته بزهوّ أنثوي...

"ولا حتى أنا؟!"

ردّ بأسلوب الثيران الناطحة...

"ولا حتى إنتي تطلعي مين سيادتك في حياتي؟!"

جحظت عيناها بصدمة وهي تحاول استيعاب جملته الجافة حتى جاء صوت إغلاق الهاتف المفاجئ كصفعة على وجهها...

أنزلت الهاتف عن أذنها ببطء وعيناها تنظران إلى الفراغ تملؤهما الدموع شيئًا فشيئًا...

سألتها جدّتها بقهر...

"قفل السكة في وشك.... صح؟"

أومأت أبرار برأسها والدموع تسيل من عينيها بصمت فقالت الجدة بنبرة ملتاعة...

"هي مفيش غيرها اللي قلة راحته ومعكرة مزاجه.... دي أم دي؟! منها لله... منها لله.. "

اقترب منها صالح وجلس بجوار ابنته على الأريكة يسألها باهتمام...

"اللي قاله جرحك أوي كده وخلاكي تعيطي؟"

رفعت عينيها الحزينتين إلى والدها وقالت ببراءة...

"أحيانًا بيبقى كويس معايا وطيب ودمه خفيف... وأحيانًا بيبقى شخص لا يُطاق ردّه ناشف."

زفر صالح عنوة ثم استغفر عدة مرات
متحدثًا بهدوء يفتقده الآن وكل المخاوف تحاصر قلبه...

"كذا مرة أقولك يا أبرا حُطّي حدود بينك وبين ياسين... ما بقيتوش صغيرين عشان تتكلموا مع بعض طول الوقت وتهزروا وتضحكوا..."

لاحَ التعجب على وجهها وهي تسأله...

"وإيه الغلط في ده يا بابا؟ ده ابن عمي!"

هتف صالح مزمجرًا بعدم رضا....

"ده مش مبرر إنكم تاخدوا على بعض أوي كده ومفيش حدود حتى وقت الزعل"

تدخلت الجدة مدافعة...

"بلاش تحبكها يا صالح... ده ياسين يخاف عليها أكتر من نفسه !"

هتف صالح بنظرة غامضة....

"عارف... وعارف إنه ما عندوش مشكلة يجرحها زي ما بيجرح نفسه."

لامست الجملة أبرار بشدة حتى اقشعرت وسألت والدها برهبة....

"تقصد إيه  يابابا...." 

مد صالح يده الى شعرها الاملس يمسح عليه برفق ثم حدق فيها بنظرة والد لا يرى في الدنيا سواها....

"انتي غالية عندي اوي يا أبرار ومش هستحمل أشوف دمعه في عينك حتى
لو كانت بسبب ياسين اللي غلوته من
غلاوتك عندي....."

ارتسم التساؤل في نظراتها الحائرة  بينما
همس صالح سرًا وهو يبعد عيناه الخضراوان
عنها....

(لكن انتي بنتي ووصية جميلة ليا...اني اسلمك
للشخص اللي يؤتمن عليكي...) 

سمعوا فجأة صراخًا واستغاثة فهتفت الجدة بهلع.....

"بسم الله الرحمن الرحيم... مين بيتعارك في الشارع؟!"

اقتربت من النافذة لتتبيّن الأمر لكن صالح انتفض واقفًا حين تكرر الصوت وتأكدت شكوكه....

"ده صوت أم ملك... "

ركض بخطوات واسعة نحو باب الشقة ولحقت به والدته ثم ابنته بعد دقيقة واحدة...

عندما وصلوا إلى الشقة المجاورة ووجد بابها مواربًا دفعه بعنف دون تفكير بينما كان صوت الصراخ يتعالى ممتزجًا بسباب نسوة غليظ.

تسمرت عيناه وتجمد في مكانه...

رآها !

كانت بين يدي امرأتين ضخمتين وثالثة تنهال عليها بالضرب بينما هي تنهار تحت قبضتهن شاحبة الوجه كالأموات والدماء تنزف من أنفها وفمها بطريقة توجع القلب...

وعند باب الغرفة كانت تقف امرأة ظنّها قريبتها تمسك المقبض بقوة وملك الصغيرة تطرق على الباب من الداخل صارخة بفزع..

تلك المرأة كانت تستمتع بنشوة مريضة بمشهد الضرب الدموي لكن حين رأت صالح أمامها انكمشت بخوف حقيقي وشعرت أنها وقعت في مأزق لا مهرب منه....

تراخت قبضتها عن الباب وفي اللحظة التالية خرجت ملك وعيناها حمراوان من الفزع وعندما وقعت عيناها على المشهد شهقت مصعوقة وتجمدت مكانها...

"مـ... مامااااا..."

شعر صالح وكأن قبضة جليدية تعتصر قلبه ودماؤه تغلي في عروقه... ملامحه قَسَت ونظرات عينيه تحولت إلى جحيم....

اقترب منهم ودفع المرأتين عنها بعنف لم يعرفه في نفسه من قبل... لم يكن هذا من شيمه لكن معها يصبح شخصٍ لا يعرفه من
قبل.....

في تلك اللحظة دلفت والدته وأبرار إلى المكان وما إن رأتا ما يحدث حتى تجمدتا مكانهما وأفواههما مفتوحة من شدة الصدمة.

"شـروق..."

همس صالح باسمها وهو يقبض على كتفيها يلمسها لأول مرة رغمًا عنه دون تفكير...

نظرت إليه بعينين نصف مفتوحتين يملؤهما الإعياء وشفاه زرقاء ترتجف. حاولت أن تتكلم أن تقول أي شيء لكنها لم تستطع...

كان ألمها الجسدي أقسى وما تعرضت له من مهانة وذُلّ أقسى من أن يُحتمل خاصة أمامه هو وعائلته....

نظرت إليه ثم إلى والدته وابنته بحرج ووجع قبل أن تخذلها قدماها وتسقط في هوةٍ سوداء ترحمها من مرارة ما عاشته للتو...

أثناء سقوطها وانشغال الجميع بإغمائها هربت النسوة معًا بإشارة من عنايات التي نظرت إليها ملك بكراهية لا تخلو من الخذلان...

فقد اكتشفت أن والدتها كانت على حق 
لكن بعد ان تسببت لها في التعرّض 
للضرب والإهانة....

نكّست رأسها بندم وهي تبكي عاجزة عن الاقتراب من أمها بينما صالح لم يتردد لحظة فحملها بين ذراعيه القويتين وخرج بها من الشقة الى الطابق الثالث هاتفا بأمر حازم..

"اتصلي بالدكتورة نرمين يا أبرار..."

أومأت أبرار برأسها منتفضة بفزع بعدما رأت والدها يحمل شروق وكأن لا توجد حواجز تمنعه من فعلها !...

كانت شروق في عالمٍ آخر بعيدًا عن الجميع جسدُها يرتخي بضعف بينما شعرها الطويل يتدلّى خلف كتفي صالح بتموّجٍ يشبه الأمواج الثائرة......

صعد الدرج بخطى حذرة ينقل عينيه القلقتين بينها وبين الدرج حتى لا يتعثّر ويسقط بها.

حينها انتبه.... إنها لا تضع غطاء الرأس.

وانتبه أيضًا إلى أن رغم بشاعة الموقف وحساسيته فقد شُغل بالنظر إلى شعرها الغجري... بتموّجٍ فاق أبيات الشعر جمالًا.

غزالة هي...شعرها غجري بعينان بنيّتان
وجسدٌ غضّ بين ذراعيه... جسدٌ يحكي عن أنوثةٍ هاربة من مآسي الحياة ووقعت بغتةً 
في طريق الشيخ....

الشيخ الذي يختبره الله في هذه المرأة...
أفَرَسَب في الامتحان وسلّم للشيطان أم
مزال متماسكًا ؟...

لكن كيف؟

وهو يحملها بين ذراعيه الآن يتأملها مسحورًا وهي في هذا الوضع...وكأنها أجمل النساء وآخرهن على الأرض !...

تعثّر صالح في إحدى درجات السلم وكاد أن يسقط...

"اسم الله عليك يا بني... على مهلك."

صوت والدته خلفه أعاده للواقع أدرك أنه ليس وحده فهما خلفه مباشرة.... 

لذلك تماسك وحافظ على رابطة الجأش وهو يستغفر الله حتى وصل إلى الطابق الثالث ثم  بأمر من والدته وضعها في الغرفة التي تقيم فيها أحيانًا عند تواجدها هنا...

جلس على المقعد على غير هُداه عيناه تراقبان الباب المغلق بين الحين والآخر....

حتى خرجت الطبيبة بعد ساعتين كاملتين، فسألها صالح وهو يقف بثبات ظاهر يُخفي اضطرابه وقلقه عليها...

خرجت خلف الطبيبة والدته التي كانت قد حدّثتها الطبيبة بمنتهى العملية...

"الراحة التامة... ويا ريت تاخد العلاج اللي كتبته ليكي..."

اقترب صالح منهما ومدّ يده يأخذ الورقة من والدته وسأل الطبيبة بهدوء...

"محتاجة أشاعات نعملها لها يا دكتورة؟"

ردت الطبيبة بأسلوب عملي..

"لأ الحمد لله... أنا اتأكدت بنفسي. شوية كدمات وخدوش بسيطة وعملنا اللازم وإن شاء الله يومين كده وهاجي أطمن عليها."

بعد مغادرة الطبيبة تأوهت والدته بشفقة عليها وهي تجلس على الأريكة لتقول بلوعة...

"لا حول ولا قوة إلا بالله... حمالة أسية من يومك يا شروق... ربنا يتولاكي برحمته يا بنتي..."

سألها صالح...

"هي فاقت؟"

أومأت والدته برأسها وقالت بحرقة...

"فاقت يا نور عيني... وطلع اللي عملت فيها كده أم طليقها الولية المفترية مش مكفيها بهدلتها طول الست سنين جواز وجريها في الاقسام والمحاكم على ابنها..."

وأضافت بأسى...

"جاية تكمل عليها... وتهددها إنها هتحرمها من بنتها... يا كده يا ترجع لعصمة ابنها !"

شعر وكأن نارًا اندلعت فجأة في صدره حين علّق على الكلمة التي اخترقت أذنيه كسهم حاد....

"ترجعله؟!... "

ظنّت أنه يقترح الأمر فقالت والدته باحتجاج شديد...

"ترجعله إزاي بس يا صالح؟!.. دي خلعاه من المحكمة مكنش عايز يطلّقها...قال إيه بيحبها"

ثم ضربت كفًا على الأخرى بحسرة وقالت..

"دا حب إيه دا يا ربي... اللي كله بهدلة وقِلّة قيمة؟!.... احمينا يا رب..."

ثم نظرت إلى ابنها الواقف كجبل شامخ مهيب لكنه داخليًا ضعيف يتفتت دون أن يراه أو يسمعه أحد...

"هنعمل إيه يا صالح؟... هنسيبها كده؟! دي اتهانت واتضربت في بيتنا... إحنا لازم نبلّغ البوليس... "

رفع عينيه الخضراوين إلى أمه وفيهما تعبير مريع قاتم وهو يعلّق على حديثها...

"قبل ما ناخد أي خطوة... نعرف رأيها الأول. يمكن تكون ناوية تسامحها... وترجع لطليقها."

هزّت والدته رأسها وعيناها متسعتان بعدم تصديق...

"معقول بعد اللي حصل فيها دا كله؟!... 
لا... شروق مش كده أبدًا."

ثم نظر إليها بنظرة يعلوها تعبير أكثر قتامة وأفصح عما في قلبه...

"أسمع ردّها... وبعدين أبقى أقرر هعمل إيه."

سألته والدته بحيرة...

"يعني هتفضل قاعدة هنا؟!"

رد عليها صالح بهدوء...

"أيوه خليها وسطنا أحسن... وأنا وقت المبيات هنزل تحت عند ياسين... "

ارتاح قلب والدته ووافقت رأيه بنبرة يملؤها الحنان...

"عداك العيب يا ابني... خليها وسطنا أنا وأبرار لحد ما تهدى وتقوم بالسلامة... وكده كده رمضان كمان كام يوم.. اهي تبقى وسطنا في الأيام المفترجة دي."

سحب نفسًا طويلًا ملأ به صدره محاولًا تخفيف النيران المشتعلة داخله وهو يقول بارتباك...

"المهم أبرار تعقل و..."

بثّت أمه الطمأنينة في قلبه وقالت برفق..

"متقلقش من ناحية أبرار... هي عقلت من ساعة آخر مرة وإن شاء الله مش هتعمل حاجة. دا أنا شوفتها حتى خدت ملك في أوضتها وقاعدة معاها تهديها..."

زَمّ صالح فمه وقال بتأفف...

"البنت مكنش لازم تشوف أمها في الوضع ده..."

عقبت والدته برجاحة عقل...

"كده أحسن يا صالح... شروق كانت بتقول
إنها ميالة لأهل أبوها وكانت بتيجي عليها عشانهم... يمكن اللي حصل ده يفتح عينيها على حقيقتهم."

رد عليها بأسلوب واقعي حكيم...

"معتقدش يا أمي... البنت صغيرة وكلمة تجيبها وكلمة توديها. وسهل يشوّهوا الحقايق من تاني..."

أطلقت والدته زفرة استياء وهي تقول بوله..

"والله عندك حق... بس هقول إيه ربنا ينوّر بصيرتها ويحفظها لأمها..."

ردّ مُكمّلًا دعاءها بتلقائية حارة...

"ويحفظ أمها.... ويبعد عنها كل سوء..."

نظرت إليه والدته بصدمة فاغرة الفم وقد انتبهت إليه أخيرًا... إلى عينيه القلقتين اللتين تحملان أكثر من معنى يخصّ واحدة فقط... تختبئ خلف هذا الباب.

جسده المتشنج أعصابه المشدودة... لم يكن على هدوئه المعتاد منذ أن سمع صراخها من الأسفل فسبقهم إليها ليخلّصها من براثن تلك النسوة...

ماذا يحدث مع ابنها؟.... لقد حدث ما كانت تتمناه لكنّها لم تتوقّع أن تكون شروق أكثر من امرأة مطلقة مكسورة الجناح... تبيّن أنها امرأة تصارع الشرور... أناس لا تتمنّى أن تقابلهم ولو صدفة. والآن وضعت ابنها في طريقهم دون أن تدرك فداحة ما فعلته !...

"أنا هروح أجيب العلاج..."

خرج صالح بعد أن ألقى تلك العبارة هاربًا من نظراتها المتفحّصة... بينما بقيت هي في 
مكانها تغمغم بحزن أثقل صدرها ولسانها...

"يعني يوم ما أختارلك واحدة منكسرة ويميل قلبك ليها يطلع وراها كل ده؟! لو كنت أعرف مكنتش جبتها لحد عندك..."

ثم رفعت رأسها للأعلى بصدر يرتجف خوفًا من القادم...

"استرها يا رب... والله كانت نيّتي خير..."
..............................................................
أطلقت أبرار تنهيدة عالية ثم بطرف عينيها نظرت إلى ملك التي تجاورها في الجلسة على حافة
❤️❤️❤️
 

أطلقت أبرار تنهيدة عالية ثم بطرف عينيها نظرت إلى ملك التي تجاورها في الجلسة على حافة الفراش صامتة واجمة الملامح بعد أن توقفت عن البكاء منذ دقائق معدودة...

زمت أبرار فمها بإحباط فالصغيرة لا تشعر بها تنظر أرضًا بينما عقلها ذهب مع الأحزان في رحلة خانقة لن يعود قبل أن يستنزف ما 
تبقى منها...

تعرف تلك الرحلة جيدًا رحلة نذهب إليها بالإكراه... مجبرين على الانفصال عن هذا العالم وناسه...

رحلة خاضتها هي في عمر التاسعة وبقيت داخلها لعامين وأكثر حتى استجابت للعلاج بعدما اكتشفت أنها تسبب العناء للجميع وأولهم ياسين الذي يحمل نفسه ذنب صمتها لعامين كاملين...

تنحنحت أبرار محاولةً قتل الصمت فهي لا تريد للصغيرة الألم رغم حنقها الزائد منها هي وأمها في السابق لكنها لم تكن تتمنى لهما الأذى...

تشعر بالأسى نحو شروق وتشعر بالعطف نحو ابنتها ملك... وكل هذا خارج نطاق الواقع لكن الإنسانية أحيانًا تفرض علينا تلك المشاعر...

مثل أنها لا تحب الكلاب لكن إن رأت كلبًا جريحًا أو يتعرض للأذى ستتأثر وتحزن
عليه...

هل شبّهتهما بالكلاب ؟!...

هزّت رأسها بقوة محاولة التركيز في أمر الصغيرة...الصغيرة التي نظرت إليها وسألتها باهتمام...

"انتي تعبانه ؟!...."

تنهدت أبرار طويلًا وعينيها تراقبانها بنظرة مناغشة......

"اخيرا اتكلمتي.....انتي كويسة..."

قالت ملك باقتضاب....

"مش بظبط هي ماما فاقت...."

اجابتها ابرار بعطف....

"الدكتورة عندها...اكيد هتعمل اللازم....انتي
حاسه بحاجة في حاجة وجعاكي...."

"لا بس هنا وجعني....."

اشارت ملك على صدرها فقالت أبرار بحنو..

"اكيد من كتر العياط والزعل...مامتك هتبقا
كويسه...."

عادت تنظر ارضًا بألم مكبوت...

"ازاي وانا اللي عملت فيها كده....."

سالتها بترقب..... "مش فاهمه؟!...."

قالت ملك بندم شديد....

"انا مكنتش اعرف ان تيته وحشة...."

وضعت ابرار يدها على فمها وعيناها متسعتان 
بدهشة لا تصدق.....

"هي جدتك هي اللي عملت كده ؟!..."

اومات ملك براسها بحرج شديد....

"ايوا...بس هي قالت انها بتحب ماما وهتقنعها
ترجع لبابا...."

قطبة ابرار جبينها بتساؤل....

"طب وبابا ليه مجاش هو بنفسه يقنعها..ليه
باعت أمه ؟!....."

مالت ملك على ابرار هامسة بخوف....

"فيكي مين يكتم السر...."

نفحات من الراحة والألفة تحيط بها مع تلك الصغيرة وكأنهما أختان تتبادلان الأسرار العائلية لحل المشاكل العصيبة التي يواجهها البيت...

لماذا هذا الوصف تحديدًا؟... لا تعلم لكنها 
تشعر معها بشعور مختلف عن تلك الصداقة التي تنشأها في الخارج !....

ربما لأن ملك صغيرة... ربما...

أجابت أبرار بالهمس نفسه...

"في بير....قولي.... "

قالت ملك باستفاضة....

"بابا في السجن....هو سرق بس قال انه تاب...
ماما سابتوا عشان كده...."

سالتها ابرار ببلاهة....

"عشان تاب....ولا عشان سرق...."

قالت ملك بسرعة....

"اكيد عشان سرق...بس ماما مش مصدقة انه
تاب فهمتي....."

لوت أبرار فمها مستهجنة...

"يارتني ما فهمت...وانتي بقا مقتنعه انه فعلا
تاب وتغير...."

"اكيد بابا مش بيكدب عليا...."

ضاقت عينا ابرار وهي تحدق فيها بقوة ثم
سألتها.....

"تعرفي واحده اسمها نهاد عبدالعظيم ؟!..."

هزت راسها نفيا.... "لا ليه ؟!...."

اجابتها بوجوم....

"اصلك بتفكريني بيها...نفس العبط...."

زمت فمها بقنوط..."الله يسامحك...."

قالت أبرار بجدية قاسية بعض الشيء..

"انا بكلمك لمصالحتك اه انتي  عندك عشر سنين بس احنا جيل مخنا سابق سنين عمرنا وأكيد مش بالغباء ده انك تصدقي ابوكي وجدتك اللي هي كانت شوية وهتخلص على
امك لولا لحقناها في اخر لحظة...."

ترقرقت الدموع في عيني ملك وهي تقول
بغيرة طفولية.....

"ليه مصدقش بابا....انتي عارفه انا محتاجة لوجوده قد إيه....إزاي هتفهمي انتي عندك
أب....أب مثالي كمان تفتخري بيه في اي
حته....وعندك جدتك طيبة وبتحبك...وابن
عمك صاحبك الانتيم وبيضحكك كمان...."

لوحت أبرار بيدها مستنكرة وهي توبخها
بمزاح...

"إيه بيضحكني ديه شيفاه بيوزع نُكت...
وبعدين عينك جبتنا الارض ياست ملك...
الواد دخل في إكتئاب من تاني وياعالم هيخرج منه إمتى..."

تاففت ملك بضجر....

"انا مش بهزر ياخالتو أبرار....."

شهقة أبرار بصدمة صائحة تعبر عن 
صدمتها....

"خالتو أبرار ؟!...خالتو مين ياولية انتي كل اللي بينا تسع سنين عُمي قوليلي يابيري...."

سالتها ملك ببراءة.... "يعني ينفع ؟!...."

اكدت بشفاه ملوية بجزع...

"ينفع ونص....قال خالتو قال....."

نظرت ملك أمامها ولم تعقب ثم عادت إلى قوقعتها مجددًا. فقالت أبرار بجدية...

"نتكلم جد شوية....."

نظرت لها ملك موافقة....فقالت أبرار...

"يمكن عملتي ده كله بنية انك ترجعي مامتك لباباكي....بس ليه مسألتيش مامتك هي عايزة
إيه...."

علقت ملك بعدم فهم.... "تقصدي إيه....."

واجهتها أبرار بنظرة حازمة....

"أقصد ليه تنفذي رغبة جدتك وباباكي وتنسي تسألي مامتك هي عايزة إيه...."

مطت فمها باحباط....

"هي مش عايزة ترجع...."

قالت أبرار بضجر....

"يبقا تسبيها براحتها....تدخلك ملوش غير تفسير واحد انك أنانية....."

عقبت بدهشة....."أنانية ؟!..."

أكدت أبرار بصوت متزن....

"متزعليش مني بس هي أكبر منك وفاهمه 
عنك.... وشايفه الصورة واضحة...." 

تململت ملك واجمه.... "بس انا عايزة بابا....." 

قالت أبرار ببرود....

"خلاص لم يخرج روحيلو وعيشي معاه هو وجدتك....." 

حدقت بها بصدمة....."بتهزري...." 

لتقول أبرار باسلوب واقعي....

"لا... بس لازم تعرفي ان الحياة مش بتدي
كل حاجة....أحياناً الظروف بتجبرنا نختار بينهم...ولما بنيجي نختار...بنختار اللي مصلحتنا هتبقا معاه...."

سالتها ملك بعد تنهيدة....

"وتفتكري بقا انا مصلحتي مع مين...."

نظرت لها أبرار ولم ترد لكن نظرتها كانت كفيلة بالإجابة التي تعرفها ملك جيدًا...

لذلك سألتها ملك بعد لحظة صمت..

"هو إنتي عمرك اختارتي بينهم؟"

لمعت عينا أبرار ولاحت الابتسامة على ثغرها حتى ظهر ثقبان في منتصف خديها يشبهان نجمتين منقوشتين عليهما....

قالت بنبرة حالمة تحكي عن والديها بمنتهى الحب والانتماء...

"جميلة وصالح؟!.. مستحيل دول كانوا كيان واحد حاجة كده زي روميو وجولييت..."

عبست ملامح ملك وقالت بتناقض...

"بابا وماما كان طول الوقت في بينهم مشاكل... وضرب."

عقّبت أبرار بصدمة...

"ضرب؟!.. وعايزاه ترجعلُه ده انتي جبّارة.. "

قالت ملك بسذاجة...

"قال إنه اتغير..."

زمت أبرار فمها قائلة...

"خليني أقولك حاجة للزمن... حاجتين مستحيل يتبدلوا في بني آدم القسوة والحرام...

يعني اللي اتعود على القسوة والتعامل بيها استحالة يتغير ويبقى ملاك رحيم باللي حواليه مش ممكن...وكذلك اللي خد على الحرام بكل أنواعه صعب يمتنع عنه مهما قاوم..."

"ده شيء زي الإدمان... حاجة اتعود على وجودها فبقت علاج لمرض خلقه بنفسه.
فاهمة حاجة؟"

زادت ملامح ملك تعقيدًا وهي تقول بحرج...

"بحاول أفهم... أنا بحب القراءة وإنتي بتتكلمي زي الناس اللي في الكتب... بيقولوا عنهم فـ... فلسفة..."

"آه ما ياسين بيقولي إنتي فيلسوفة عصرك!"

ابتسمت أبرار وهي تقف مكانها تحرّك خصرها يمينًا ويسارًا بارق وكأن جسدها تشنّج بعد تلك الجلسة الطويلة....

سألتها ملك بلهفة...

"إنكل ياسين؟... هو فين صحيح؟"

أجابتها أبرار باقتضاب....

"إنكل ياسين عايش مع أحزانه اليومين 
دول... يخلّص وهيرجع يضحكنا كلنا."

"كلنا؟!... "

أومأت برأسها موضحة...

"أنا وإنتي يعني... وده استثناء أنا ما بحبش حد يشاركني سينو أصلًا."

ثم تناولت الهاتف بين يديها وقالت...

"تحبي نتفرج على حاجة على نت تركي 
ولا كوري؟"

تهللت أسارير ملك وكأن اقتراح أبرار لها فتح أبواب السعادة باب يفصل بينها وبين الأحزان والمشاكل لذلك قالت لها بحرارة...

"أنا بحب الأنمي أوي.. كنت بتفرج على تليفون صاحبتي على مسلسل ا..."

ألقت أبرار الهاتف في حجرها وقالت وهي تفتح باب غرفتها...

"خدي اكتبي اسمه وأنا هروح أعمل سندوتشات جبنة بالخيار...بس عارفة
لو القصة عبيطة... هتنامي على الأرض..."

سألتها ملك ببراءة...

"طب ولو عجبتك؟"

قالت أبرار بابتسامة متعجرفة...

"هتنامي جنبي على السرير... ودي مش بعملها مع أي حد !... "

ذهبت أبرار إلى المطبخ بينما بقيت ملك على الفراش تبحث عن المسلسل المنشود...

وفي كل درب نلتقي بصداقة جديدة لكن الحياة حين تمنحنا صداقة استثنائية تكن برتبة أخٍ لم تلده أمي بل جاء من رحم الحياة خلقته المواقف واصطفاه القلب استثناءً عن الجميع !....
..............................................................
دفعت الباب بقدمها ثم خطت خطواتها إلى داخل غرفة السطح لتراه جالسًا عند أحد الزوايا المظلمة دون جيتاره وكأنه قد 
هجره كما هجر الجميع...

زمّت شفتيها بضيق وقد وخزها قلبها على حاله فكلما اقتربت منه أمه وصل إلى تلك الحالة من اعتزال العالم أجمع...

وهي أول شخص يتجنب وجودها وكأنها تشكّل عالمًا آخر بأسره !..

وضعت الصينية جانبًا ثم اقتربت منه وافترشت الأرض بجواره 

سندت ظهرها على الحائط ولم تشعل الأنوار واكتفت بالإضاءة المتسرّبة من الباب الموارب. عيناها تنتقلان من جانب وجهه إلى سقف الغرفة حيث مجرّة من الكواكب والنجوم تضيء وتلقي انعكاسًا جميلًا عليهما...

وكأنهما يطوفان في المجرّة معًا دون أحد...

طال الصمت ونفد صبرها فاعتدلت في جلستها لتكون أمامه مباشرةً...

تشعر اليوم أنها تقوم بدور الأم على أكمل وجه. كانت بالنسبة لها لعبة مسلية في الصغر لكنها الآن باتت مهمة يجب إنجازها بإخلاص...

خصوصًا مع ياسين فالوضع يختلف. صغيرها منذ الطفولة... كانت تحب هذه( اللعبة) لأنها معه. ولعبة الأمومة تحوّلت إلى شعور حقيقي بينهما. هو صغيرها منذ الطفولة حتى الصبا...

هل سيظل هكذا؟ أم ستغيّرهما الأيام وتفرّق بينهما؟

"هتفضل ساكت ياسينو.....انا جبت الغدا..."

دون النظر إليها أجاب باقتضاب....

"مليش نفس.....خدي الصنية وانزلي...."

ارتفع حاجبيها مع إتساع عينيها وهي تقول
بحنق بالغ....

"انزلها بعد ما طلعت بيها....دا أنا دراعي وجعني...." 

بأسلوب الثيران الناطحة تحدث.....

"خلاص انا هبقا انزلها..... يلا انزلي...." 

تمردت بشراسة على أمره صائحة....

"هو كان السطح بتاعك لوحدك ولا إيه ياجدع
انت.... دي اوضتي زي ما هي اوضتك ويامه
لعبنا وذاكرنا فيها ولا ناسي...." 

ثم خففت من حدتها واضافت بلطف...

"كمان هزرنا وعيطنا فيها.... فاكر ياسينو..." 

زداد وجهه قتامة وهو يزدرد ريقه ثم أجاب
بخشونة....

"مش عايز افتكر كنت صغير مش بلاقي غيرك
اترمي في حضنه و...... واعيط....." 

تأججت نيران الغيرة في صدرها فسألته بضيق....

"ولما كبرت بقيت بتترمي في حضن مين
وتعيط؟...." 

التوى فكه بسخرية ثم أجاب بنزق....

"مبقاش في حاجة تستاهل ان الواحد يعيط عشانها...." 

ألمها قلبها بشدة لرؤيته في تلك الحالة فاقتربت منه أكثر وضعت يدها على ركبته تسأله برفق....

"إنت كلمتها يا ياسين؟ شوفتها؟ طيب؟!"

صاح ياسين فجأة على نحوٍ أفزعها....

"مالكيش دعوة... متدخليش.."

لكنها لم تهتم بجملته بل صرخت بجنون كما صرخ....

"لا هدخل طالما وصلت للحالة دي هدخل.. "

صاح يجادلها بعناد..

"مالي أنا ؟.. "

فأجابته دون تراجع...

"زي الزفت... ورجعت تبعد عننا تاني"

ثم عادت تُلحّ عليه....

"قولي قالت لك إيه... إيه مضايقك احكيلي مالك؟!.. "

رد بأسلوب فظ غالبًا ما يستخدمه حين يريد الهروب منها...

"ما ليش إنتي حاشرة نفسك معايا ليه خليكي في حالك... "

ضمّت قبضتيها وضربته عدة مرات في صدره هادرة بغضب...

"إنت حالي إنت حالي يا متخلّف.. وكل حاجة ليا لو ما اتكلمتش معايا أنا وفضفضت... هتفضفض مع مين؟.... قولي.. "

أمسك بقبضتيها بقوة بين كلتا يديه يمنعها صارخًا برفض...

"مش عايز أفضفض سبيني يا أبرار... اطلعي برا !"

رفضت بغضب هائل متشنجة...

"مش هطلع برا وهفضل قدّام عينك كده.. ورّيني هتعمل إيه... "

قفز من مكانه واقفًا ثم هتف وهو ينوي الخروج بتشنّج...

"خلاص همشي أنا... وسيبلك الدنيا كلها"

ذهبت أبرار خلفه تمسك بذراعه تمنعه قائلة بترجٍّ....

"لا بالله عليك خلاص... متسبنيش مش هتكلم خلاص..."

"سبيني يا أبرار..."

قالها وهو يرفع عينيه أخيرًا نحوها منذ أن دلفت إلى الغرفة فرأت عينيه كبركتين من اللهب حمراوين كالدم ووجهه مظلم بشدة وملامحه مشدودة بانفعالٍ ملحوظ.

مالت عليه تتحسس ذراعيه بكفّيها الصغيرين وبنبرة حنان العالم وعطفه همست بوله...

"عملتلك إيه بس يا حبيبي؟..... قولي..."

لم يقاوم رقتها وحنانها كثيرًا لطالما كانت عاطفتها جزءًا من حبه لها... مال على كتفها يُلقي بثقل جسده عليها فتلقّفته بين ذراعيها وسقطا معًا أرضًا جالسين.

يعلو صوت بكائه على كتفها وتنهمر هي دموعها تشاركه الألم أضعافًا مضاعفة...

همست من بين دموعها بصوت مرتجف...

"اهدأ... اهدأ يا ياسين... أنا جنبك..."

أخبرني كيف للجبل أن يستند على وردة؟

كيف تراوض فراشةٌ جميلة وحشًا ثائرًا؟

أخبرني أيضًا متى وكيف تصبح الأنثى بهشاشتها ورقتها مصدر أمان وراحة لرجلٍ
لا يهاب أحدًا ؟!....

بعد فترة من الوقت كانا جالسين في نفس الوضعية السابقة كلاهما في أحد الزوايا يسندان ظهريهما إلى الحائط...

تحدث ياسين بنبرة تقطر ألمًا وقهرًا...

"مش قادر أسامحها... مش قادر أنسى خمستاشر سنة من عمري عدوّا من غيرها...
موت أبويا بحسرته بسببها...

"وجعي وأنا كل يوم بسمع عن قصة جديدة
ليها مرة طلاق ومرة جواز...كلام الناس عنها تشكيكهم فيها وفي أخلاقها... نظرتهم ليا...
حتى قريبنا مفيش حد فيهم اتوصّى يسمعني كلمتين...مرة بهزار ومرة وسط الكلام..."

نزلت دموع أبرار على وجنتيها فمسحتها سريعًا....

فأضاف هو بغصّة مريرة...

"كل اللي عرف وجعي اتّكى عليه بطريقته، وكانوا يبرروا قلة أصلهم بـ(ماخدناش بالنا)... (أصل إنت حساس)... (وفاهم غلط)..."

همست أبرار بنبرة حانية...

"أنا جنبك يا ياسين... ومش مهم أي حد تاني..."

وكأنه لم يسمعها أضاف بنبرة مثقلة بالجراح..

"لا قادر أكرهها... ولا عارف حتى أسامحها..."

هتفت أبرار غاضبة بكراهية...

"بس هي مش بتحبك... هي بتقرب منك عشان فلوسك..."

ثم ربتت على كتفه بتوسل قائلة...

"متدهاش الفرصة إنها تكسرك يا ياسين... بالله عليك بلاش تعمل فينا وفي نفسك كده..."

كان الصمت ردّه على حديثها فسكتت هي أيضًا ولم تجد كلمة تُقال وسط هذا الجو المشحون بالكآبة...
.......................................................... 
وصلت الشاحنة إلى المخازن الخلفية داخل مقر الشركة حيث كانت الأيادي في انتظارها لتفرغ حمولتها الثقيلة...

هبط سلامة من أعلى السيارة مستخدمًا سلّمًا صغيرًا وعندما وصل إلى الأرض ألقى المصافحة الخشنة على صديقه مشيرًا إلى الشاحنة الكبرى...

"الحاجة اهيه كاملة مكملة... وعم حميد بعتلك رسالة معايا بيقولك...... زارعها غير أكلها."

ضحك أيوب مع اهتزاز طفيف في حاجبيه مستغربًا...

"يعني إيه زارعها غير أكلها؟"

هزّ سلامة كتفيه بحيرة تماثله...

"معرفش... بس لما سألته زيك كده قالي 
هو هيعرف بعدين."

عقب أيوب بقنوط...

"غريب الراجل ده... هيجنني معاه."

هتف سلامة بتكهن...

"معروف إنه عليه جِن... بيقولوا مسلم."

ضحك أيوب باستخفاف....

"الله أكبر عليك المرة الجاية هات اسم الجِن ورقم تليفونه كمان..."

عقب سلامة بجدية وفطنة...

"والله ما بهزر يا أبو الصحاب. الراجل ده عليه جِن وطالما بيصلي وبيقرأ قرآن يبقى اللي عليه مسلم وتقي."

استنكر أيوب قائلًا..

"وليه ما تقولش إنه هو اللي راجل الصالح
وقريب من ربنا... "

هتف سلامة معترضًا بشك...

"بس ده بيشرب شيشة !... "

"وده منكر يعني؟.... ولا إيه؟"

تساءل أيوب فأجابه الآخر بلؤم وغمزة من عينيه....

"ممكن يكون بيشربها بنكهات..."

أرجع أيوب رأسه للخلف قائلًا بخبث...

"آه... لا النكهات دي محدش يعرفها غيرك أخلص خلينا ننزل البضاعة وتتوكل."

"طب هات سيجارة... نشربها وبعدين ننزل."

أخرج أيوب علبة السجائر من جيبه وألقاها إليه بأكملها قائلًا بقلة صبر....

"اتفضل... أم نشوف آخرتها."

أشعل سلامة سيجارته وكذلك فعل أيوب. ومرت الثواني حتى أتت نحوهما إحدى العاملات كانت ترتدي الزي الرسمي للشركة تنورة قصيرة وسترة تحتضن قوامها الأنثوي...

ترك سلامة السيجارة في جانب فمه بينما عيناه تسيران بجرأة على تلك الحسناء المتأنقة في زي عملي متعارف عليه لكن بالنسبة له هو... أحدث الصيحات !....

"أيوب....البضاعة وصلت..."

نغمة موسيقية ناعمة جدًا جدًا اخترقت أذنيه فاكتملت صورة الفتنة أمامه فبلع ريقه وهو يشعر بسخونة جسده...

ردّ عليها أيوب بهدوء....

"أيوه لسه واصلة... نادي العمال بقى عشان يساعدونا."

"أوكي ثواني وهبعتهم."

عند ابتعادها عنهما هتف سلامة معلقًا بصبيانية...

"مين الحتة الطرية دي؟"

نهره أيوب بملل....

"ما تلمّ نفسك بقى..."

هتف سلامة حاسدًا....

"واضح إنك هايص جوا..."

أكد أيوب بملامح جادة...

"مليطة يا صاحبي... نسوان ومنكر وفيه شيشة بنكهات كمان... "

ضاقت نظرات سلامة نحوه....

"بتحلو يا أبو الصحاب..."

تأفف أيوب بحنق بالغ...

"ما إنت حمار... ده أنا مطحون شغل!"

ابتسم سلامة بعبث قائلًا...

"آه... انت هتقولي مطحون شغل مع نغم هانم... حلو الشغل مع نغم؟!.. "

"جااامد..."

ثم تراجع مدركًا معنى الكلمة:

"قصدي... زي الزفت.... "

"مش قوي كده..."

قالها سلامة بلؤم وهو يرى نغم تقترب منهما بينما كان أيوب يتحدث وهو يوليها ظهره.

تابع الآخر باستفاضة دون توقف متذكرًا تلك الأيام التي بدأها بالعمل معها حتى انتهت بمصالحتها له في بيته...

"لا قوي... أقولك إيه بس دي مش رحمة حد في الشركة الكل بيشتكي منها... تشخط وتنطر في الكل وكأنهم عبيد عندها... "

سأله سلامة متظاهرًا بعدم رؤيتها خلفهما

"وإنت إيه اللي مصبّرك يا صاحبي؟"

زفر دخان سيجارته وهو يقول محتقنًا...

"قـلـبـي..."

ارتفع حاجب سلامة مشدوهًا بينما هي توقفت مكانها بملامح محتقنة بالغضب.

"إلعب...... مالُه قلبك؟!"

وضح أيوب كمن يحاول إقناع نفسه قبل الآخرين...

"أهوه... عشان خاطر أبوها التعبان دا موصّيني عليها... وهي خد في بالك عصبية ومجنونة بس بنت حلال وغلبانة..."

"واضح إنك مستحمل بقالك كتييير أوي..."

جاء هذا الصوت الأنثوي الحانق من خلفه فاستدار أيوب جافلًا...

"نـغـم..."

جزّت على أسنانها ومن بينهما قالت بجفاء بنظرة شرسة...

"نـغـم هـاااااانـم !"

نظر أيوب إلى صديقه فرآه يبتسم بمكر الأفاعي فعضّ على شفتيه مغمغمًا...

"آه يا ابن الـ..."

سألته نغم بحدة...

"البضاعة وصلت؟"

ردّ عليها أيوب...

"وصلت وهنزلها دلوقتي."

نظرت إليه ببرود ثم قالت بأمر...

"وليه تنزلها إنت؟... العمال هيعملوا شغلهم. ورايا على المكتب."

وقبل أن ترحل تعمّدت أن يكون أسلوبها فظًا مع من لا تطيق...

"فرصة سعيدة يا سلامة... خلينا نشوفك تاني!"

امتقع وجه سلامة متمتمًا بقرف...

"خير تعمل شر تلقى... أنا غلطان إني جيت وفي يوم إجازتي كمان..."

ثم نظر إلى أيوب سائلاً...

"عايز حاجة؟"

"اتفو عليك..."

بصق أيوب أرضًا بغضب بنظرة متوعّدة له
ثم رحل خلفها...

مسح سلامة على وجهه بيده قائلاً بوئام...

"حبيبي... دي أقل حاجة أعملها والله! في أي وقت هتلاقيني رنّ انت بس..."
..............................................................
(شايفِك واقفة في نُص البحر... طوق نجاتك في إيدك بس سايبة نفسك للموج ياخدك ويرميكي... ومستنيّة حد ينجدك...)

ما زالت تلك الكلمات تتردّد في أذنيها كجرس إنذار ينبهها... وفي الوقت نفسه يربكها !...

أطلقت تنهيدة طويلة وهي تعيد النظر إلى تلك الملفات بينما صوته هو اخترق ضجيج أفكارها بسؤالٍ لم يملّ من تكراره خلال النصف ساعة التي جلس فيها أمامها يرسم أولى التصاميم...

"في حاجة مضايقكي...."

مطت نغم شفتيها وبنظرة باردة قالت....

"ابدًا بفكر في طريقة جديدة اقرف بيها الموظفين بتوعي....عشان تبقا الشكوة
عامة...."

هتف أيوب معترضًا بمداهنة.....

"قلبك أسود.....ما قولتلك كنت ببعد عين الود سلامة عننا أصله قر دكر.... وأحنا لسه بنقول بسم الله...."

عادت تنظر الى اوراقها قائلة بعجرفة..

"على فكرة ممكن تروح تكمل شغلك في مكتبك في هدوء أكتر..."

سالها بنظرة بريئة....

"زهقتي مني بسرعة دي...."

هزت رأسها بتأكيد فقال أيوب معتذرًا.....

"نغم قولتلك مقصدش...."

احتقن وجهها وهي تندفع بغضب....

"علطول تكلم عني بطريقة وحشه وفي الاخر
تقول مقصدش....."

رد عليها بصوت أجش....

"محصلش وبعدين في آخر الكلام قولت
إيه انك بنت حلال وغلبانة....."

صاحت معترضة بنبرة انثوية حادة...

"بنت حلال اه....بس مش غلبانه....ومش هتضحك عليا بكلمتين...بص في ورقتك
لو سمحت...."

تأتأ معترضًا وعيناه تتفحصان ملامحها الغاضبة بتمهل كمن ينقّب عن كنزٍ ثمين...

"هو احنا في امتحان إيه بص في ورقتك دي
مانا لازم ابصلك عشان الإلهام يشتغل..."

ارتبكت تحت وطأة نظراته القوية نحوها فقالت بضيق....

"يسلام....ليه شايف التصميم مرسوم على
وشي....."

عاد يتأملها بنظرة نافذة وهو يؤكد بثبات...

"حاجة زي كده....اسكتي بقا وسبيني اركز..."

تخضبت وجنتاها وهي تشدد على حروف إسمه بتحذير....

"أيوب...."

"عيونه...."

رد عليها وعينيه تلتهمان تفاصيل حُسنها الآخذ وارتباكها الذي زادها فتنة.. 

"انت.....انت مش سهل......"

قالتها وهي تحرك أهدابها بتوتر فكرر الرد نفسه لكن  بنبرة أكثر حرارة....

"ولا انتي والله....."

قال أيوب فجأة....

"تعرفي نفسي في إيه....."

سألته بصوتها الناعم...... "إيه...."

ردد بنهم واضح.... 

"أكل.....أكل طبق كشري...."

تشدقت بصدمة...... "كشري ؟!..."

هتف أيوب مؤكدًا بثقة....

"انا حاسس اني لو كلته من هنا هتاخدي مني أحلى شغل....."

سألته بشك..... "متأكد ؟!  ...."

اوما مقترح...... "بس تجربي معايا...."

ضيقت نغم عينيها باستنكار معقبة...

"بيقول انها أكلت العظماء وكل اللي بدأوها
من الصفر كانت دي اكلتهم المفضلة....تفتكر دي إشارة...."

التوى فمه بقرف وقال بنبرة تهكمية.....

"لا إشارة ولا نيلة دي أكلت الغلابة... أكله بتسند معانا لحد ما نروح بيتنا...."

نظرت إليه نغم بدهشة ثم انفجرت ضاحكة فضاع هو في تلك النغمة العذبة المرحة لبرهةٍ من الوقت. وحين انتهت....قال أيوب بغمزة شقية....

"يلا بقا ياحلاوة اطلبي طبقين كشري من عند ابو طارق وخليه يكتر الدقه....والحساب عليا
آه..."

بعد فترة كانا يجلسان بجوار بعضهما هو على الأريكة الجلدية وهي على المقعد المجاور.
فتح أيوب العلبة يشمّ رائحتها بافتتان قائلاً بشهية مفتوحة...

"سيدي يا سيدي... هو ده الكلام.."

بينما نظرت نغم إلى العلبة وإلى الطبقات التي تحويها من عدس ومكرونة وأرز...

ربما تذوّقت الكثير من الأطعمة العالمية والغريبة بمكوّناتها المختلفة وغير المعقول دمجها لكن أمام الطعام المصري تقف مشدوهة ومنبهرة لهذا التراث مكانة خاصة ولكل طبخة قصة وحكاية ترتبط بنا وبذكرياتنا...

قال أيوب وهو يهمّ بإضافة شيء إلى 
العلبة....

"استني... أحطلك صلصة والدقّة... بتحبي الحَرّاق؟"

ردّت نغم بشفاه ممطوطة....

"الـSpicy مش قوي... بلاش تكتر."

"شوية... أصله ما يحلاش غير بالدقّة 
استني هقلّبهولِك..."

أخذ العلبة من أمامها ثم بدأ يُقلّب المكوّنات بالمعلقة تحت نظراتها المراقِبة ولم تنتبه إلى نفسها وهي تبتسم أثناء ذلك...

مشاعر دافئة كانت تحتضنها بقوة كلّما نظر إليها بعينيه العابثتين باللهو أو اهتمّ بها بطريقة غير مقصود إظهارها...

وضع الطبق أمامها مجددًا بينما سألته وهي تبدأ في الأكل...

"واضح إنك بتحب الكشري أوي؟"

رد أيوب مستمتعًا بتناول الطعام...

"أوي كنت بخلص مصروف المدرسة عليه... وأنا مروح أضرب الطبق من هنا والكمالة... وأروح جعان برضه!"

ارتفع حاجب نغم بصدمة ضاحكة بينما سألها أيوب بفضول...

"انتي بقى... إيه كانت أكلتك المفضّلة؟"

أجابته نغم وهي تشعر بالألفة تُحيط بهما في حوار تعريفي بسيط....

"الباستا... كنت بحبها أوي ولسه بحبها... ساعات بالسي فود وأوقات بالمشروم... أنا شاطرة فيها أوي... أكيد في مرة هدوّقها لك."

وافق أيوب بملامح عابسة قليلًا...

"وِماله... أهو ناخد فكرة عن أكلكم. وبتحبّي إيه من الفاكهة؟"

أجابته بعفوية سعيدة....

"عادي يعني... الكيوي الفراولة الدراجون فروت... وانت؟"

ردّ والطعام يملأ وجنتيه....

"البطيييييخ!"

ضحكت نغم وهي تنظر إلى طعامها بينما سألها أيوب باهتمام..."عجبك الكشري؟"

أجابته بفتور ثم نهضت واقفة....

"آه... كويس. هقوم أغسل إيدي."

عقد حاجبيه وهو ينظر إلى علبتها التي لم تأكل منها إلا القليل....

"طبقك زي ما هو..."

قالت وهي تهمّ بالانصراف.....

"بس أنا خلاص شبعت...."

ابتعدت نغم عنه ودلفت إلى الحمّام ثم بعد لحظات عادت إليه وهي تجفّف يدها بمحرمة ورقية...

سمعت صوت شخير عالٍ فتوقفت جافلة ورأته قد استلقى على ظهره فوق الأريكة رأسه مائل إلى أحد الجانبين ملامحه مرتخية وأنفاسه منتظمة...

اقتربت منه نغم بحذر وعدّلت وضعية رأسه فتوقّف عن إصدار الصوت وقد تحرّك في نومه ومال على جانبه...

همست نغم في سرّها أثناء تأمله...

"ودي طلعت أكلة العظماء فعلًا... ولا منوّم؟"

لم تُرِد أن تفسد حلمًا يسكن ملامحه الهادئة الآن لذلك جلست على المقعد المجاور للأريكة وعيناها لا تفارقانه...

ربما كانت تنتظر أن يستيقظ أو أحبّت رؤيته هكذا... هادئًا مسالمًا كطفل أنهكته لعبة الغميضة فقرّر أخذ قسط من الراحة... لعلّ اللعبة تنتهي ويعود إلى بيته...

متى سيعود أيوب إلى بيته؟

ومتى ستعود هي أيضًا؟

لا يعلمان...

................................................................
عندما توقّف الترام تحرّكت نهاد بخفّة فراشة بين الجمع للنزول ولحق هو بها دون أن تلاحظ وجوده كالعادة...

فيبدو أنه أحبّ مراقبتها من بعيد وبات يتفنّن في عذاب قلبه صباحًا ومساءً حتى أصبح يحيا على تلك اللحظات النادرة والمسروقة...

اختفت من أمام عينيه فجأة وكأنها تبخّرت! عقد حاجبيه وخفق قلبه بلهفة وخوف عليها وهبط من الترام يبحث عنها بين الزحام يمنةً ويسرة فلم يجدها....

تسارعت نبضات قلبه بشدة وعيناه تفتّشان عنها دون أن يجدا لها أثرًا... حينها تحرّك الترام أمام عينيه متابعًا سيره...

ليراها تقف هناك في الجهة الأخرى من الطريق عيناها متعلّقتان به بينما ملامحها الجميلة جامدة.... لا تُقرأ...

تحوّلت خفقات قلبه من لهفة وخوف إلى ارتباك وذعر وكأنه تمّ القبض عليه متلبّسًا في قضية غير أخلاقية...

وأمام تلاطم الأمواج الصاخبة ونسيم البحر البارد جلست على الصخور تضع كتابها على حجرها بينما عيناها تُبحران مع زرقة المياه بشرودٍ حزين...

"جبتلك چلاتي من عند عزّة..."

جاء صوت سلامة بلهفة وسعادة لم يستطع إخفاءها...

نظرت نهاد إليه بطرف عينيها ثم أخذت منه العلبة على مضض... 

كانت تحوي نكهات متنوّعة بدأت تأكل منها بواسطة الملعقة البلاستيكية الصغيرة...

شاركها سلامة الجلسة وجلس بجوارها على الصخرة الكبيرة وبدأ يأكل مثلها لكنه لم يلتزم الصمت كما فعلت لم يكن صبورًا مثلها لذلك نطق اسمها بمنتهى العاطفة الجياشة...

"نـهـاد..."

رجفة خفيّة عن عينيه أصابت جسدها وقلبها المتعطّشين للهوى فحرّكت أهدابها ثلاث مرات ثم تابعت الأكل وهي تسأله ببرود...

"بتراقبني ليه يا سلامة؟ عايز مني إيه بالظبط؟"

ردّ بنظرة حائرة...

"مش عارف..."

نظرت إليه بغضب...

"يعني إيه مش عارف؟!"

أجابها سلامة وعيناه تكتسحانها ككلماته...

"كل اللي أعرفه إني بحبك وببقى مبسوط لما بشوفك ولو حتى من بعيد..."

أبعدت عينيها عنه مرتبكة ورافضة...

"بس أنا مش عايزة كده..."

عاد إلى البحر الهائج هو أيضًا مستسلمًا
لطلبها وقال....

"عارف... أوعدك مش هقرب منك تاني ولا هـ..."

قاطعته متحدثة بجرأة، لطالما كان أمامها كالأبله...

"اللي بيحب حد بيعمل المستحيل عشان يوصل للي بيحبه... مش بيصبر نفسه بنظرة من بعيد..."

اتّسعت عيناه وفتح فمه ببلاهة جافلًا...

"إييييه؟!"

بلّلت نهاد شفتيها بحرج ولم تقوَ على النظر إليه أكثر لكنها حسمت أمرها منذ الأمس بأنها ستواجه مخاوفها من هذا الحب...

أهو النجاة أم الغرق معه؟!...

"لو بتحبني زي ما بتقول تحاول تصلّح من نفسك وتتغيّر عشاني..."

هتف سلامة بلهفة يستجديها...

"أعمل إيه يا نهاد عشان تصدّقي إني اتغيّرت وبُعدت عن أي حاجة حرام؟!"

قالت بحزم....

"تتعلم..."

تشدّق بدهشة...

"أتعلم؟!.. "

أومأت مؤكّدة وقالت بتحكّم...

"أيوه... تدخل محو أمية ومنها تكمل تعليمك..."

التوى فكه بتشنّج معترضًا...

"أنا عندي تلاتين سنة!... عايزاني أكمّل تعليمي بعد تلاتين سنة؟!"

هزّت كتفيها بلا اكتراث وأكّدت بمنتهى الجدية....

"ليه لا؟.... أنا أعرف ناس بدأوا من الخمسين ونجحوا واشتغلوا في أعلى المناصب... مفيش حاجة بعيدة طالما الإنسان بيسعى..."

استهجن حديثها... استهجن هذا المستحيل الذي تطالبه به بمنتهى البساطة...

كاذبون من قالوا إننا إذا طُلب منا نجمة من السماء لجلبناها فورًا...

عفوًا يا شعراء كيف نأتي بشيءٍ صعب المنال؟!

ما تطلبه "الدكتورة" يصعب على أمثالي الوصول إليه ولو سعوا في الأرض ليلًا 
ونهارًا...

فكيف تأخذ شيئًا لست مؤهلًا له؟!

"بس أنا ماليش في التعليم... في الإصلاحية حاولت وفشلت... مش كلنا غاويين قراية وكتابة يا دكتورة..."

قالت بإلحاح أكبر...

"حاول تاني والمرّة دي عشاني..."

سألها باستنكار...

"وتفتكري هو ده بس اللي مانعني عنك؟ التعليم؟!"

نظرت إليه بقوة لا تخلو من الجرأة وقالت بتحدٍّ سافر...

"مافيش غيره لو قدرت تتغيّر في النقطة دي سيب الباقي عليا... هأتحدى العالم كله وهقف قصاد الكل عشانك... بس اثبتلي إنك بجد عايز تتغيّر وتبقى إنسان جديد!"

تأفّف سلامة قائلًا بإحباط...

"بلاش تحاولي يا نهاد... مش هينفع..."

قالت بحرارة...

"هينفع والله هينفع... حاول عشاني..."

ردّ عليها بنظرة قانطة...

"هحاول بس هحارب... مش هحارب على معركة خسرانة..."

رفعت حاجبها متأثرة...

"أنا معركة خسرانة؟!... "

بلع غصّته وقال بيأس...

"حبي ليكي قصاد مستقبلك وحياتك هو اللي خسران..."

هتفت نهاد باعتراف جريء:

"بس أنا متأكدة إن حبي ليك كسبان... من 
غير معركة..."

ارتفعت وتيرة أنفاسه وبدأ قلبه يقفز بجنون من بين أضلعه يكاد يقع بين يديها الآن بدلًا من علبة المثلّجات...

"حبك؟!... "

أومأت برأسها مؤكدة بوجنتين حمراوين وهي تعود للبحر الثائر وللمثلّجات التي بدأت تذوب في علبتها لكنها لم تتوقف عن أكلها بمعلقتها الصغيرة الوردية مثل لون شفتيها المبتسمتين برقة...

"موافق... موافق أتعلم من أول وجديد..."

نظرت إليه بصدمة وقلبها يقرع كطبول الأعراس من الفرحة...

رأت الجدية مرتسمة على ملامحه والصدق يلمع في عينيه...

"وده هيكون مهري منك... تعليمك..."

قالتها نهاد كأنها توقّع عقد اتفاق تم بينهما... إن خالفه أيٌّ منهما ستكون النهاية محسومة !

............................................................ 
ظهر خيط من التوتر في عينيها مع ارتجاف طفيف في يديها التي تمسك بقدح القهوة. عادت تتأكد من صحة ما تسمعه للتو...

"هتدوري في قضية أسر العزبي... بنفسك؟!"

أومأت نغم برأسها وهي تأخذ رشفة من فنجان قهوتها الساخنة بينما عيناها تتجهان إلى الواجهة الزجاجية المطلة على بوابة الشركة. كانتا تجلسان في المقهى الخاص بالشركة وقت الاستراحة كما اعتادتا...

أطلقت زفرة ثقيلة من صدرها وقالت دون أن تنظر إلى صديقتها...

"لازم أمشي ورا إحساسي... أسر ما انتحرش. أكيد حد قتله.. "

هتفت جيداء باستهجان...

"قتله إيه بس!... ده مختل عقليًا... أكيد انتحار. كفاية الرسالة اللي كتبها"

قالت نغم بتفكير عميق محاولة فك شفرات تلك الرسالة...

"الرسالة هي الحاجة الوحيدة اللي مخلّياني أتأكد إن ده مش انتحار... ده حد قتله وحطني في الصورة."

زمت جيداء فمها مستنكرة...

"ومين المجنون اللي يعمل كده؟ ما كان قتله وخلص بدل اللفة الطويلة دي كلها؟!"

أحنت نغم رأسها ونظرت لقدح القهوة وهي تقول بوهن...

"وده اللي عايزة أوصله... مين ده؟ وعمل كده ليه؟ وليه حطني في الصورة؟ إيه اللي بيني وبينه؟"

قالت جيداء بلا اكتراث...

"بلاش تدوري وتتعبي نفسك. سيبي البوليس يشوف شغله.. وهم أكيد هيلاقوا اللي عمل كده أو يسجلوها انتحار ونخلص."

هتفت نغم معترضة...

"وتفتكري لو اتقفلت انتحار هرتاح؟! شكري العزبي مش هيسبني في حالي... أنا بعمل ده كله عشاني قبل ما يكون عشان أعرف الحقيقة."

ثم بدت نغم في هزّ رأسها باستياء مضيفة باختناق حقيقي...

"أنا تعبت من الهروب يا جيداء وشبعت خوف... هفضل لحد إمتى ساكتة وبتفرج؟!"

سألتها جيداء بريبة...

"هتعملي إيه يعني؟... بتفكري في إيه؟"

أخذت نغم نفسًا طويلًا ثم أجابتها...

"هبدأ أدور على أصحاب أسر... أقرب ناس ليه وآخر واحد شافه قبل ما يموت. أكيد عندهم معلومة تفيدني."

تململت جيداء بعدم اقتناع لكنها قالت أخيرًا بمساندة...

"والله انتي بتتعبي نفسك على الفاضي... بس خليني معاكي للآخر. عايزاني أساعدك إزاي"

مدّت نغم يدها وأمسكت يد صديقتها بقوة وكأنها تستمد منها الدعم ثم أخبرتها...

"يكفي إنك تكوني جنبي وتبقي عارفة كل حاجة خطوة بخطوة... وأكيد لو احتجت حاجة منك هقولك."

ربّتت جيداء على كف نغم وقالت بنظرة حانية....

"حبيبتي أنا معاكي. انتي أختي يا نغم... ونفسي نخلص من الكابوس ده قريب 
ونرتاح بجد."

صدح الهاتف في تلك اللحظة فاعتدلت نغم في جلستها وأخذته لترى المتصل ثم نظرت إلى صديقتها وقالت بابتسامة سارّة..

"ده عدي... واحد من أصحاب أسر. هطلع أكلمه برّه بعيد عن الدوشة."

أومأت لها جيداء برأسها وعادت لاحتساء قهوتها بينما خرجت نغم وسارت في ممر الخروج أثناء المكالمة....

"أيوه يا عدي... أنا نغم الموجي فاكرني؟"

"محتاجة أشوفك يا عدي. لو سمحت ممكن أعرف هتبقى فاضي إمتى؟"

توقفت أمام بوابة الشركة ثم زمت شفتيها بإحباط...

"مسافر؟... وهترجع إمتى؟"

"الموضوع ضروري أرجوك... لازم نتكلم."

جاء صوته عبر السماعة متهكمًا...

(لو الموضوع يخص أسر فأنا معرفش أكتر من اللي قولته في النيابة.)

حاولت نغم معه بنبرة راجية....

"بس انت أقرب واحد ليه... وكنتم متفقين تروحوا حفلة (××××) قبل موته واشتريتوا التذاكر سوا... أكيد تعرف حاجة ولو معلومة بسيطة ممكن تفيدني."

هتف عدي بنفور وكأنه يتهرب من ذكر شيء ما...

(كل اللي أعرفه قولته في النيابة... ومفيش حاجة تانية هتفيد القضية.)

انتهت المكالمة سريعًا ودوى صوته في أذنيها كصفارة إنذار...

مطّت نغم شفتيها بسأم ونوت عبور الطريق نحو الجهة الأخرى... رفعت الهاتف على أذنها وأجرت مكالمة جديدة محاولة باستماته أن تصل لنقطة تبدأ منها...

"ألو سمير؟... أنا نغم الموجي... كنت عايزة أشوفك وندردش شوية بخصوص أسر العزبي. يمكن تكون عندك معلومة تفيدني."

أتاها صوته الرجولي ساخرًا...

(وإنتي بقيتي شغالة في النيابة؟! أنا أعرف إنك شغالة في شركة والدك... الموجي للأزياء!)

برمت فمها ممتعضة وهي تعبر الطريق...

"مش وقت استظراف يا سمير... لما أقابلك هتعرف كل حاجـ..."

توقفت عن المتابعة حين سمعت صوت بوق سيارة يقترب منها بسرعة قاصدًا إياها دون غيرها...

تجمدت في مكانها وقد تيبّس جسدها من هول الصدمة واتسعت حدقتاها بهلع كبير وهي ترى مصيرها المحتوم أمامها...

قصتها تنتهي هنا. سينتهي خوفها وشعور الذنب لن يثقلها مجددًا... سينتهي كل شيء وهي معه.

"نغاااااااام..... "

صرخة قوية باسمها ثم سحبة عنيفة وضمة من نوع آخر... لم يكن اصطدامًا بالسيارة القادمة بل اصطدامًا بين ذراعي رجل ثم سقوط على صدر ينبض بجنون أسفل رأسها...

ذراعان يحيطانها بجنون وأنفاس عالية خشنة وخفقات عنيفة كمضخة قوية تضخ فيضانًا من المشاعر تستشعرها بجنون...

بينما الدماء هربت من وجهها وقواها خارت ونبضها أصبح ضعيفًا كعصفور مذعور... كان بينها وبين الموت ثوانٍ معدودة لكن ما زال في العمر وقت...

وقت؟!

هل حقًا لديها وقت للعيش؟ أم أن الخوف لن يفرّط في فريسته بسهولة؟

رفعت عينيها الرماديتين إليه ببطء لتقابل اللهفة في عينيه بينما قسمات وجهه مشدودة ولونه شاحب كشحوب الأموات. همست بشفاه مرتجفة مع رجفة جسدها وهي محاطة بين ذراعيه الدافئتين...

"أيــوب..."

همس بصوت متهدج معاتبًا...

"مصيري في يوم ميت من الخوف عليكي..."

أرخت جفنيها وطيف ابتسامة بالكاد يُذكر لمس شفتيها الزرقاوين...

عاد يسألها بحمائية...

"وبعدين معاكي مش كل مرة هتسلم... ليه بتعملي كده؟!"

سألته وهي تنظر في عينيه مجددًا وقد أحبت تلك اللهفة المجنونة فيهما...

"وليه انت بتعمل كده؟!"

رد أيوب على مضض...

"مش بقبض بالدولار أستاهل أعيش على أعصابي..."

يبدو أن الرد لم يعجبها... ذكر (الدولار) بينهما بات يشعرها بالضجر لذلك انتصبت في وقفتها أكثر وقالت بحنق...

"سبني..."

رد بلهفة لم يقدر على إخفائها...

"أخاف تقعي..."

"أنا كويسة اطمن..." قالتها وهي تبعد ذراعيه عنها. فابتعد عنها خطوتين ورفع عينيه نحو وجهة معينة.. وكأنه شعر أنه عرضة للمراقبة...

وبالفعل رأى (جيداء) تجلس في مكانها بمقهى الشركة أمامها الواجهة الزجاجية مكان كافٍ يجعلها ترى السيارة وهي تقترب من نغم ومساحة كافية لتحذرها... لكنها لم تفعل !...

لم تتحرك من مكانها وكأن الأمر لا يعنيها !

عقد أيوب حاجبيه مستغربًا الوضع فكانت تجلس بمنتهى الأريحية تنظر إلى عينيه بقوة وبسمة باردة مستهينة ترتسم على شفتيها المطلية بالأحمر القاني...

يشعر بعدم ارتياح لهذه المرأة... كأنها حرباء تغيّر ألوانها حسب المكان...

هل حقًا تخفي شيئًا؟.... أم أنها تغار من تقاربه من نغم كما يحدث كلما تصادفا ؟...
تعليقات