رواية اشتد قيد الهوي الفصل السادس عشر بقلم دهب عطية
بعض المواقف تكسرنا لدرجة نتمنى لو ان النهاية كانت هناك....
فتحت عينيها ببطء تحدق في سقف الغرفة التي تبيت فيها منذ أمس..
أغمضتهما من جديد بألم بينما صداع رأسها يزداد حدة أمس قد أُهينت ضُربت وراها
الجميع...
رآها الشيخ مكبّلة بين ذراعي النساء بلا
حول ولا قوة تتلقى الصفعات والسبات
منهن...
خلصها من بينهن ثم فقدت وعيها بين ذراعيه خارت قواها وسقطت... وكم تمنت أن تكون تلك السقطة هي الأخيرة لها ألا تنهض بعدها أبدًا...
لكنها استيقظت... هنا في شقته داخل إحدى الغرف القريبة من غرفته...
نظن ان الاسواء قد مر في حياتنا حتى تأتي تلك اللحظة ونتمنى فيها لو لم نكن على قيد
الحياة.....
نزلت دموعها وهي تتذكّر كل ما مرّت بها منذ زواجها المشؤوم حتى هذه اللحظة...
ماذا تفعل؟ وإلى أين تهرب من تلك المرأة وابنها؟
كان عليها أن تضحي بابنتها لتلوذ بالفرار من وكر الأفاعي لكن قبل ذلك يجب أن تنتزع قلبها من موضعه حتى لا يكون الأمر أكثر صعوبة عليها....
عادت تبكي بحرقة قلب أشد... فابنتها لا تساعدها بل تقف لها بالمرصاد بينما تستخدمها "عنايات" و"حنش" كوسيلة ضغط...
لكنها لن تتخلى عنها حتى وإن قادها ذلك إلى الهلاك...ستقاوم حتى النهاية وهي متشبثة بها
للنهاية....
"صحيتي يا شروق؟"
حركت رأسها جهة الباب لترى السيدة أبرار تدخل الغرفة وبين يديها صينية طعام.
حاولت النهوض بسرعة لتأخذها منها لكنها شعرت بتخدّر في كامل جسدها... حتى الجلوس باستواء أخذ منها وقتًا وأطلقت
أنينًا خافتًا من شدة الألم...
قالت الجدة أبرار بلطف...
"على مهلك... انتي لسه تعبانة... والعلاج مهدّك."
سألتها شروق وهي تجلس بصعوبة..
"أنا نمت كتير صح؟"
أجابت الجدة بعطف...
"من إمبارح المغربية كده ودلوقتي بقينا بعد الضهر...."
ثم أضافت وهي تقترب منها بصينية الطعام..
"وده وقت الغدا... عملتلك حاجة خفيفة كده ترمّ عضمك."
رفضت شروق بحرج شديد فقد باتت تشعر بأنها عبء ثقيل على هذه العائلة منذ وطأت قدماها بيتهم....
"مليش نفس... أنا تقلّت عليكم أوي... أنا
هنزل تحت."
رفضت الجدة بنظرة معاتبة....
"تنزلي تحت فين... مفيش نزول. انتي هتفضلي هنا لحد ما تخفي وترجعي زي الأول."
حاولت شروق إقناعها....
"ما أنا هكمل علاجي تحت أنا بقيت كويسة..."
لكن الجدة رفضت مجددًا وقالت...
"مين هياخد باله منك؟! هفضل طالعة نازلة على السلالم.... انتي عارفة إن الخشونة مبهدلاني."
قالت شروق باستحياء ولهفة....
"ألف سلامة عليكي... أنا مش عايزة أتعبك كفاية اللي عملتيه معايا."
هتفت الجدة بنبرة مؤنبة...
"أنا لسه عملت حاجة... دا انتي يدوب بتي عندنا من سواد الليل...صبرك بالله كده تقومي بالسلامة وتنزلي شقتك زي ما انتي عايزة."
عادت شروق ترفض بعناد...
"ما يصحش يا خالتي..."
قرأت الجدة تردّدها واحمرار وجنتيها من شدة الحرج فقالت برفق...
"متقلقيش... صالح بات تحت مع ياسين...."
عضّت شروق على شفتيها تؤنب نفسها أكثر
"أنا كده لغبط الدنيا... وقلّيت راحة الشيخ."
ردّت الجدة بعتاب خفيف...
"أخص عليكي يا شروق... قلّيتي راحته إيه بس.... ما الأوض تحت كتير ما شاء الله... وسراير كمان."
ثم ابتسمت الجدة وهي تناولها طبق الحساء قائلة بسعادة.....
"دا تلاقي ياسين كان طاير من الفرحة إن
عمه بايت تحت معاه... "
البارحة ليلًا في شقة ياسين.....
فتح ياسين الباب بعد أن صدح الجرس ليجد عمه يقف أمامه شامخًا الطول كجبلٍ مهيب ينظر إليه بعينيه الخضراوين بهدوء بينما السُّبحة السوداء تتحرك بين أصابعه بتأنٍ
"خير يا عمي في حاجة؟"
سأله ياسين متعجبًا.
ردّ صالح بخشونة...
"جاي أبات هنا."
رد ياسين بتلقائية...
"ليه هي تيتة طردتك؟"
لكنه تراجع فور أن لمح نظرة صالح المهيبة فقال بحبور زائف...
"قصدي... اتفضل بيتك ومطرحك."
دلف صالح إلى الشقة ثم جلس على أقرب أريكة قابلته ووضع سبحته جانبًا وبدأ يفرك
ما بين عينيه بإرهاق شديد...
فاليوم كان مرهقًا بكل تفاصيله. بدأ بالاستغفار ثم رفع عينيه إلى ياسين الذي كان ينظر إليه بصمت ينتظر.
قال صالح....
"روح رتب أوضة أبوك... هبات فيها."
أومأ ياسين باحترام وتحرك نحو الغرفة ليبدأ في تنظيفها وترتيبها على مضض فهو متعب ومرهق ويريد النوم....
كما أنه غير مرحّب بعمه في شقته فهما ليسا على وفاق... كلٌّ منهما يسير في اتجاه معاكس للآخر ولا يتفقان أبدًا.
بعد لحظات خرج ياسين من الغرفة وهو يتثاءب وقال وهو يضع أدوات التنظيف جانبًا
"الأوضة بقت جاهزة يا عمي... عايز حاجة تانية؟.. "
نهض صالح من مكانه وهو يعكف أكمام الجلباب وقال بنبرة آمرة...
"حضّر السحور على ما أتوضّأ وأصلي ركعتين."
اتسعت عينا ياسين وسأله بصدمة...
"هو رمضان بكرة؟!.... الرؤية بانت إمتى؟!"
ردّ صالح مستنكرًا...
"رمضان إيه اللي هييجي ٢٤ شعبان؟!
بكرة الاتنين."
عقد ياسين حاجبيه باستغراب...
"طب وهتتسحر ليه... طالما بكرة الاتنين؟"
أفصح صالح بهدوء...
"من سنن النبي صلى الله عليه وسلم، صيام الإثنين والخميس. قال رسول الله ﷺ
«تُعرَض الأعمال يوم الإثنين ويوم الخميس، فأحب أن يُعرَض عملي وأنا صائم»."
قال ياسين بحرج وهو يفتعل الابتسامة وقد بدا كتلميذ خائب بليد أمامه...
"تقبّل الله يا عمي."
هتف صالح بوجه متجهّم...
"حضّر السحور."
ابتعد وترك ياسين خلفه... فبدأ ياسين يضرب الجدار بجواره هامسًا بغضب...
"إيه اللي جابه عندي... إيه اللي جابه عندي؟!"
ثم صاح صالح مجددًا قبل أن يدلف إلى الحمام...
"السحور يا ياسين.. "
تذمّر ياسين هادرًا...
"هو أنا الشغّالة الفلبينية بتاعتك؟!"
عاد صالح يناديه...
"ياااااااسين... "
انتفض ياسين في مكانه وسأله بخوف
"بيض مسلوق ولا نِيّ... "
ارتاب صالح منه وسأله من على بُعد...
"بتقول إيه؟!"
رد ياسين وهو يتجه إلى المطبخ بعصبية شديدة كمن يحفر الأرض بقدميه وهو يسير
"هعمل أومليت... خلاص.. "
ارتدى المريول فوق ثيابه، ثم فتح الثلاجة وبدأ ينظر إلى رفوفها بضياع واضعًا يده على ذقنه مفكرًا....
هل يُخرج الجبنة ويقطّع الخيار أولًا أم يقلي البيض؟
لم يفعل يومًا شيئًا لنفسه....
تعود أن يجد الطعام جاهزًا أمامه فقد اعتادت جدته أن تفعل ذلك دومًا. وحتى إن لم تفعل فالمطاعم كانت توفر عليه المجهود والتفكير في أمور الطهي المعقدة....
تقضي النساء أعمارهن في المطبخ يوميًا ثم نتعجب من نوبات الجنون التي تصيبهن فجأة...
وعلى سيرة النساء ومهامهن الشاقة يعرف أمًا صغيرة كانت تحب أن تقوم بتلك المهام "الخزعبلية" منذ صغرها !...
ابتسم ياسين باستحسان للفكرة... عليه الاتصال بها فهي من ستخبره ماذا يُعِدُّ للسحور...
رفع الهاتف إلى أذنه وباب الثلاجة ما زال مفتوحًا على مصراعيه...لو كانت الجدة تراه الآن لألقت المقلاة في وجهه وطردته من مملكتها !...
زمّ شفتيه وهو يتأمل تلك المملكة العظيمة...
إنه لأمر مرعب أن تقضي معظم أوقات يومك بين الطبخ والجلي....
أتى صوتها الرقيق عبر الهاتف بنعاس...
(الو في إيه يا ياسين.....)
هتف ياسين متذمرًا كطفلٍ في مأزق....
"ايوا نايمة في العسل وسيبينو يستفرد بيا.."
اعتدلت أبرار في فراشها ونظرت إلى من تجاورها فوجدت ملك تغط في نوم عميق بعد أن أنهتا سويًا حلقة من مسلسل أنمي شدّ انتباه أبرار بشدة...لم تكن تتوقع أن تجد في تلك"الدراما الكرتونية" قصصًا بهذا العمق والجاذبية....
سألته أبرار بنبرة مرتابة وهي تفرك عينيها الناعستين بتثاقل.....
(مين ده اللي يستفرد بيك؟!....)
رد ياسين بضجر....
"ابوكي جاي يبات عندي وقال إيه عايز يتسحر....أحضر سحور إزاي انا... وانا
مبعرفش اقلي بيض...."
اقترحت أبرار بحنو.....
"تحب اطلعلك اعمله أنا...."
تافف وهو يرفض على مضض....
"عشان يرميني انا وانتي من البلكونة...قوليلي
صحيح هو في إيه عندكوا تحت...."
قالت بهمسًا.....
"شروق وبنتها نايمين عندنا...."
سألها بريبة....
"بمناسبة إيه ان شاء الله...."
عادت تهمس إليه....
"بعدين هقولك عشان بابا ميسمعناش...."
فعاد يسألها بقلة حيلة.....
"طب اعمل سحور إيه....."
قالت أبرار بنباهة....
"اي حاجة معلبة عندك.....طلعها....."
عاد يحدق في رفوف الثلاجة ثم تمتم
ببلاهة....
"عندي جبنة...في صلصلة وفيه هريسة شطه....."
عقبت على الكلمتين بعينين متسعتين....
(هريسة شطه ؟!...هتحط لابويا هريسة شطه
يا ياسين !!....انت عايزة يموت....)
برم فمه بلا اكتراث.....
"والله الأعمار دي بقا بيد الله...."
هتفت من بين اسنانها بغضب....
(ياسين متهزرش.....)
تململ ياسين في مكانه ثم قال ببراءة لا تخلو من الخبث......
"مش انتي اللي قولتي طلع اي معلبات عندك......"
عقبت أبرار بلهجة حادة موبخة....
(وانت مفيش مخ خالص....هتحط صلصة وهريسة شطه على السحور....)
قال ياسين ببرود....
"عشان يبقا اخر سحور يطلبو مني....."
اغتاظت أبرار منه بشدة.....
(والله انت قليل الذوق ومعندكش حسن ضيافة....)
صاح ياسين بنفاد صبر....
"ما عشان عندي حسن ضيافة اتصلت بسيادتك تساعديني... لكن انتي رغي
رغي ومفيش اي مساعدة من أمك..."
تجهمت بشدة ثم صرخت بانفعال...
"احترم نفسك مالك ومال أمي؟!"
تحركت ملك إلى الجهة الأخرى من السرير وملامح الانزعاج بادية على وجهها.. جزّت أبرار على أسنانها ثم انسحبت من الغرفة بهدوء لتسمع صوته يقول بـ لين....
"ما انتي عارفة انها حبيبتي....خلينا في
المهم أعمل إيه يا أبراري الواقفه في
المطبخ خنقتني....."
تبرمت أبرار مزدرية....
(اتخنقت من خمس دقايق ؟!....انا بقضي معظم وقتي فيه مع اني دكتورة.....)
زفر ياسين عدة مرات قائلا بصبر....
"طب ياست الدكتورة ارحمي امي العيانه وقوليلي أعمل سحور إيه...."
قالت بمقت.....(اقلي بيض.....)
سألها بغباء..... "إزاي طيب...."
قالت أبرار...
(حط البيضة في الطاسه.....)
وقف ياسين أمام الموقد أشعله ووضع المقلاة ثم كسر البيضة وأسقطها كما هي. عبس مستغربًا وهو يشعر أن هناك شيئًا خاطئًا...
"بقشرها ولا من غير؟!....."
ارتسم الذهول على وجهها ثم ضربة جبينها
بسأم.....
(انت مفيش خالص كده اكسرها وحط اللي جواها.....استنى حطيت زبدة....)
سألها بسرعة.... "هحط قد إيه...."
ردت أبرار بشرح وافٍ.....
(مكعبين صغيرين.....طلع بقا الجبنة والمربى وحطهم في اطباق اغسل خيار وقطعه شرايح وحطه في طبق...وهتلاقي زبادي في التلاجة طلعها وحطها.....وكده السحور خلص...)
صاح ياسين فجأة بتوتر.....
"عيدي من الأول....."
هتفت بدهشة.....(ايييييييه ؟!....)
صاح مزمجرًا مع صوت ضجيج المقلاة والمعلقة....
"عيدي من الأول...البيض لزق في الطاسه..."
بعد فترة كان ياسين يجلس أمام سفرة الطعام التي أعدها بعد ساعة ونصف... ساعة ونصف وعمه ما زال على سجادة الصلاة.
تبرَّم ياسين واجمًا...
"بيصلي قيام الليل ولا إيه..."
خرج صالح واقترب من سفرة الطعام وهو يتنحنح بخشونة والمسبحة تتأرجح بين يديه يحرك حباتها بتأنٍ... وحين رأى ما أعده ياسين قال بعدم رضا...
"فين الفول يا ياسين؟.. هو ينفع السحور
من غير فول؟.. "
تمتم ياسين وهو يجزّ على أسنانه...
"فين هريسة الشطة دلوقتي..."
رفع رأسه إلى عمه ورسم ابتسامة صفراء
على وجهه وقال بأدب...
"معلش يا عمي مفيش فول في التلاجة... تحب أنزل أجيب؟"
رفض صالح وهو يربت على كتفه كي يجلس مجددًا...
"خليك مكانك... اتسحّر معايا."
رفض ياسين بنزق....
"بس أنا مش هصوم بكرة... كفاية عليا رمضان... "
ابتسم صالح ببشاشة متمتمًا وهو يقطع من الخبز...
"لا حول ولا قوة إلا بالله... ما طلبتش منك تصوم كُل معايا... عشان اللقمة تتهضم."
شعر ياسين بالحرج بعد كلامه فبدأ يأكل معه صامتًا حتى قطع صالح الصمت قائلًا برفق...
"عامل إيه يا ياسين في حياتك؟"
رد ياسين وهو يمضغ لقمة صغيرة على مضض.....
"الحمد لله مفيش جديد... زي ما إنت شايف."
سأله صالح....
"بتكلم أمك؟"
انكمش وجهه عابسًا بضيق..... "لأ....."
أمره صالح بهدوء...... "كلمها يا ياسين...."
تشدق ياسين وهو ينظر لعمه بذهول....
"انت اللي بتقولي كده....."
أوضح صالح بصوتٍ هادئ وقور....
"انا بقولك كلمها....بس حرص منها....كلمها
عشان هي أمك وليها حق عليك....بس حرص
منها عشان شيطانها غلبها وانت عارف كده
كويس....."
أغلق ياسين باب النقاش بـ....
"ربنا يسهل هبقا اكلمها حاضر...."
تفقده صالح مجددًا بعين الأب.....
"لسه ملموم على صحابكم اياهم ؟!...."
زم ياسين فمه واجمًا....
"ومالهم دول كمان؟....."
رد صالح بوجه مكفهر.....
"مش برتاح لهم... صحاب سو واللي بيمشي
معاهم بيبقا زيهم....."
هتف ياسين بعناد.....
"انا بقالي كتير معاهم ومحصليش حاجة..."
قارعه صالح بتهكم.....
"حصلك كتير اولهم انك بقيت عنيد وماشي بدماغك....."
صاح ياسين...."دا عشان كبرت...."
نظر له صالح بعتاب.... "يعني كبرت عليا...."
أنزل ياسين عينيه إلى الأرض وتراجع بالكلام قائلًا بصوت خافت.....
"مقصدش كده...."
قال صالح بصوتٍ رخيم.....
"دي الحقيقة انت شايفني عدوك...مع انك لو بصيت كويس هتعرف اني اكتر واحد بحبك
وخايف عليك...."
برم ياسين شفتيه قائلا بمكابرة....
"خايف عليا من مين من صحابي ولا من أمي....."
رد صالح بحزم.....
"من نفسك قبل اي حد....."
تطلع إليه ياسين بعينين حائرتين فلم يتردد
صالح بالقول بصوته العميق...
"فوق يا ياسين....انت العكاز اللي هتسند
عليه لو وقعت...انت مكان ابوك ومكان جدك..
ومكاني....انت عمود البيت ده من بعدي
لو بقسى عليك شوية فعشانك مش عشاني.."
شعر ياسين بتضارب في مشاعره فهو لم يتوقع سماع هذا الحديث من عمه لطالما كانا متباعدَين لأسباب كثيرة...
رفَّ جفنه قليلًا بتردد وما زال صالح ينظر إليه منتظرًا تعليقًا على الحديث لكن ابن أخيه لم يفعل.... ظل صامتًا عابسًا وعيناه تشكّان فيما تريانه وتسمعانه..
مما جعل صالح ينهض قائلًا بخفوت....
"الحمد لله... اللهم اجعلها نعمة واحفظها من الزوال."
ثم التفت إلى ياسين وهو يبتعد وأمره
بهدوء....
"لِمّ الأطباق دي وادخل اتوضى وصلي ركعتين قبل ما ننزل نصلي الفجر في الجامع."
رمق ياسين السفرة بنظرة حانقة ثم هوت قبضته على سطحها بغضب مكتوم....
"هو انا مش هنام في يومي ده ؟!...."
رفع الهاتف على اذنه مرة اخرى هاتفًا
بنداء مستغيث.....
"أبرار....."
صاحت عبر الهاتف بصوت يغلبه النعاس
والارهاق ويعلوه شيء من الضجر.....
(عايز إيه هو انت كل شوية ترن عليا ما صدقت عيني راحت في النوم.....)
اجابها باستفزاز.....
"بصحيكي عشان تصلي الفجر...."
شهقة أبرار ساخرة....
(بجد... بركاتك ياشيخ ياسين...دا من إمتى؟!....)
هتف هو متهكما بحدة....
"بركات ابوكي اللي مذنبني معاه لحد دلوقتي.....أنتوا بتعملوا معايا كده ليه..."
سألته بأستغراب....
(هو بابا عمل إيه تاني ؟!....)
رد ياسين بتذمر....
"عايزني اصلي معاه الفجر في الجامع...."
ارتفع حاجبيها معًا بصدمة معقبة...
(لا إله إلا الله....وفيها إيه يعني انت يهودي
ما تروح تصلي في الجامع زي الناس....)
تثاءب ياسين بتكاسل متحججًا....
"يا أبراري لسه فاضل ساعة الا ربع...."
هتفت أبرار بوجوم.....
(الشيطان هو اللي بيقولك كده تلقيه بيغنيلك ننه هووو دلوقتي.....)
مط فمه باستهجان معقبًا....
"ننه هوو ؟!....اقفلي انا غلطان اني اتصلت بيكي....."
................................................................
كانت تجلس في الشرفة في الهواء الطلق بعد أن تناولت وجبة الغداء التي أعدتها السيدة أبرار لها....
كانت ترتدي عباءتها وتُخفي شعرها بوشاح للرأس تضعه بعشوائية.لم تكن لتغادر الغرفة
لولا ألحاح السيدة أبرار التي اقنعتها بالجلوس
قليلا في الشرفة عل الهواء والضوء يساعدان
في تحسين حالتها النفسية....
التوى ثغرها في ابتسامةٍ باردة باهتة فليس هناك شيء قادر على التخفيف عنها...
حالتها أصبحت مزرية امرأة شديدة البؤس تتعرض للإهانة والضرب من أمّ طليقها أمام ابنتها وأشخاصٍ غرباء تعاطفوا معها في السابق لكونها بلا مأوى...
بلعت غصّة مسنّنة في حلقها وهي تذرف الدمع بضعفٍ وقلة حيلة. شعرت بلسعةٍ في المكان الذي جرت عليه الدمعة لمسته متألمة...
كانت وجنتها منتفخة وبها خدش صغير... آثار لكمةٍ تلقتها من إحدى النسوة....
ارتبكت شروق فجأة وعطر العود يغمر أنفها. لملمت نفسها في جلستها ومسحت دموعها بسرعة...
"السلام عليكم..."
أتى صوته بعد أن انتشر عطره بقوة احتواها كما يحتويها شعورٌ داخليّ كلّما تقابلت به...
ردّت بصوتٍ متحشرج وعيناها تحدّقان في الأرض...
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..."
جلس صالح على المقعد المقابل لها وسألها بصوتٍ حانٍ...
"عاملة إيه دلوقتي يا أم ملك؟"
نظرت إلى ساقيه الطويلتين والسبحة بين
يده الساندة على ركبته. لم تقوَ على النظر إلى عينيه وليس لديها نية لفعل ذلك. لذلك ردّت وهي على حالها...
"الحمد لله... بخير."
سألها بنبرة لا تخلو من الاهتمام...
"خدتي علاجك؟... "
همست بصوتٍ مرتجف...
"آه... كلت وخدته... كتر خيرك."
ردّ صالح بصوتٍ خشن وهو ينظر إلى رأسها المحني أمامه... لأول مرة تفعلها....
لماذا تخفي عينيها؟ عيون الغزلان ولمعتهما عنه؟...
"أنا عملت إيه؟ بلاش حساسية... إحنا جيران وانتي مسؤولة مننا. واللي حصلك... حصلك في بيتنا يعني غلطة محسوبة علينا."
قالت بوهن...
"بس انتوا مالكوش ذنب في حاجة..."
رفض صالح بوجهٍ متجهم...
"إزاي بس.... انتي عايشة معانا في نفس البيت وده معروف إنه بيت مين..."
ثم نظر إلى انحنائها المؤلم لقلبه بنظرةٍ نافذة...
"واللي اتعدوا عليكي فيه كأنهم اتعدوا علينا. واللي حصل معاكي مش يخصّك لوحدك... إحنا كمان لينا حق زيك."
ثم اتكأ على كلماته بتوعد....
"وأنا صعب أسيب حقي..."
ارتجفت برهبة وهي تسأله...
"هتعمل إيه بالضبط؟"
شعر بقبضةٍ قاسية تعتصر قلبه بعد سؤالها الملهوف فعقّب بغضبٍ مكتوم...
"خايفة عليها؟.... ولا على ابنها؟!"
هزّت رأسها وقالت بألمٍ مرير...
"هخاف عليهم ليه بعد كل اللي عملوه فيا..."
بلع ريقه بعنف وهو يحرك حبات السبحة بانفعال ملحوظ قائلاً...
"أنا سمعت من الحاجة إنهم... إنهم عايزين يرجعوكي..."
أومأت برأسها مجيبة باستهزاءٍ من حالها...
"آه... عايز يرجعني بعد ما يخرج من السجن وادي طريقة إقناعه مرسومة على وشي... بالك بقى لما أبقى مراته من تاني هيعمل فيا إيه؟!"
سألها بخفوت...
"وانتي... عايزة ترجعي؟"
ما زالت ترفض النظر إليه وهي تتحدث مكتفيةً بذلك الانحناء الكسير وصوتها يقطر ندمًا وحسرة...
"لو كنت عايزة أرجع هخلعه ليه من المحكمة؟ واتنازل عن كل حقوقي بس علشان أخلص منه؟!..
أنا بندم على كل دقيقة وكل لحظة وقفت فيها قصاد أهلي والدنيا كلها علشان واحد زيه."
أضافت بصوتٍ منزوي...
"أنا عشت اللي محدش عاشه وشوفت منه اللي محدش شافه... ست سنين من عمري قضيتهم وراه في المحاكم والأقسام غير الضرب والإهانة... منه شوية ومن أمه شوية..."
بلعت غصّة مسننة بالألم مضيفة بقهر...
"كرهني في الحب وسنينه... غلطة بدفع تمنها لحد دلوقتي... حتى بنتي ورثت العناد والغباء مني. وزي ما وقفت قصاد أهلي زمان علشان أتجوز واحد رد سجون بقت هي تقف قدامي دلوقتي علشان أرجع لنفس الغلب والعذاب..."
هتف صالح بصلابة....
"ما ترجعيش... ومتخفيش من حد، أنا معاكي..."
مسحت دموعها بظهر يدها وهي تقول...
"وانت ذنبك إيه يا شيخ؟ دي شيلتي... وهشيلها لوحدي..."
"شــروق... ارفعي عينك..."
أمرها صالح بنفاد صبر فقد اغتاظ من تلك الانحناءة... لم يعرفها يومًا امرأة ضعيفة تستسلم بكل هذا الخزي...
إنها تعجبه بقوتها... بعنادها... بمعافرتها مع الحياة...
تعجبه؟!
متى كان يكنّ لها الإعجاب؟!...
بلع ريقه بتوتر فهو ينجرف خلف عواطفه... وهي تحرك العواطف دومًا بدموعها حديثها ضحكتها... عنادها... وشجارهما... كلّ ما بها يتمحور حولها. واليوم يعترف أنه أُعجب بصفاتها التي كان ينفر منها يومًا...
رفعت شروق عينيها الحمراوين عليه لترى وجهه الأحمر العابس وهو يقول...
"من ساعة ما قعدت وانتي عينك في
الأرض... في إيه؟!"
قالت شروق بصعوبة وهي تبعد عينيها عنه مجددًا...
"فيه... إن مليش عين أبص في عينيكم بعد اللي حصل لي..."
عاد يأمرها بنبرة حازمة...
"ارفعي عينك يا شروق... انتي مالكيش ذنب في اللي حصل... دي ست وشّها مكشوف لا تعرف دين ولا أصول... دول اللي ربنا قال عنهم (في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضًا...)..."
"حقك هييجي... اطمّني اللي حصلك في بيتي مش هيعدي على خير..."
رفضت بصوتٍ ملهوف يملؤه الخوف...
"بلاش تدخل نفسك في مشاكل... حـنـ... ممدوح... ممدوح ابنها مؤذي ومش بيستحمل حاجة عليها... بلاش تعاديه بسببي... ده قرب يخرج من السجن، و..."
أجابها صالح بنظرة صارمة...
"هي اللي بدأت بالأذى... والبادي أظلم... وبعدين بلاش تشغلي بالك باللي هيحصل بعد كده... إحنا في دلوقتي."
بدأت شروق في البكاء وهي تترجاه بخوف..
"عشان خاطري يا شيخ ما تدخلش نفسك معاهم..."
ردّ بحمائية...
"عشان خاطرك... حقك هجيبه."
قالت بحدّة رافضة...
"أنا مستغنية عن حقي... الله يسامحها وخلاص..."
تجهم صالح وعقد حاجبيه متسائلًا...
"يعني إيه مستغنية؟! بتعملي كده عشان مين؟"
رأت الاتهام في عينيه الخضراوين فقالت دون أدنى تردد...
"هيكون عشان مين؟! عشانك والله... عشانك...
إنت غالي عندي يا شيخ ومش هستحمل أحطك في طريق ناس زي دي..."
تأفّف صالح وهو يسمع بكاءها يزداد حدّة وأمرها بصوتٍ حنون وقلبه يرنو إليها قبل عيناه...
"بطّلي عياط يا شروق..."
مسحت دموعها وهي تقول بلوعة والندم يقطر من بين كلماتها...
"يارتني ما جيت هنا... أنا بوّظت كل حاجة وهعملكم مشاكل إنتوا في غنى عنها..."
صاح فيها مستهجنًا...
"بس انتي ما عملتيش حاجة! هما اللي جم لحد عندك..."
"بنتي اللي جابتها لحد هنا... مكنتش تعرف عنواني... مكنتش تعرف..."
"بس خلاص أنا هاخد بعضي وامشي... هروح في أي حتة المهم أبعد عنها..."
نهضت كالملسوعة من مكانها تنوي المغادرة فعلًا فأوقفها صالح دون أن يلمسها اكتفى بالوقوف أمامها كجبلٍ مهيب يعيق تحركها...
"مفيش مروح في أي حتة... انتي هتفضلي هنا لحد ما أشوف أنا هعمل إيه..."
قالت بترجٍ والخوف قد تمكن منها أكثر...
"مش هتعمل حاجة... طلع نفسك منها عشان خاطري..."
زجرها صالح بصوتٍ مهيب...
"قولتلك عشان خاطرك... حقك هجيبه والست دي والناس اللي معاها هجبهم تحت رجلك..."
انتفضت شروق وهي تتوقع ما سيحدث بعدها....
"لا... لا بالله عليك..."
رفع صالح يديه نحوها لكنه أرجعهما جانبًا مجددًا وهو يحاول تهدئتها قائلاً....
"خايفة من إيه؟! اهدِي... اهدِي وبطّلي عياط..."
قالت بنبرةٍ معذبة...
"خايفة عليك... حنَش مش هيسيبك..."
عقّب باستغراب...
"حنش؟!... "
أومأت برأسها وهي تتوسّل إليه...
"ممدوح ابنها... بالله عليك، أنا مش عايزة حقوق... أنا مسامحاها... وسبني أمشي..."
رفض بنظرةٍ قاتمة...
"مش هسيبك تمشي....انسي المشيان دلوقتي....."
ارتبكت وسألته...... "يعني إيه ؟!....."
رد بصوت عميق.....
"يعني كملي علاجك وبعدها نتكلم تاني..."
سألت بلوعة.....
"مش هتعمل حاجة صح ؟!...."
أمرها صالح بضيق....."بطلي عياط...."
عادت تسأل بقلق أكبر...... "رد عليا...."
"وشك محتاج تلج....." قالها وهو يهم بمغادرة
الشرفة لكنها تشبثت فجأة في ذراعه هامسة بأسمه......
"صــالــح......"
أغمض عيناه في استسلام لتلك المشاعر... شعر بقشعريريه تجتاحه كـتيارٍ خاطف تسارعت معها دقات قلبه وكل خليه فيه انتبهت للمسة يدها الدافئة والمرتجفة
كصوتها الانثوي الحزين....
"بالله عليك متعملش حاجة تأذي بيها نفسك.."
استدر صالح ينظر إليها فراها تسحب يدها بسرعة وقد أدركت فجأة مافعلته...
فقال بنبرة عذبة ونظرة تجتاح كيانها....
"أوعدك مش هعمل حاجة لا تأذيني ولا تأذيكي...."
عادت تقف أمام سور الشرفة تتشبث به بيديها بينما عيناها اللامعتان بالدموع تحدّقان في الشارع والفكر شارد والخوف يستوطن قلبها عليه...
إنه الشيخ الوقور صاحب عطر العود والوجه البشوش والصوت الحاني والذكر الخاشع...
لماذا تكون هي سببًا في توريطه مع صعلوك يلهو مع الشيطان؟!
"ماما..."
استدارت شروق تنظر إلى ابنتها التي دلفت إلى الشرفة للتو وبين يديها كيس من الثلج ملفوف بعناية في منشفة صغيرة...
"عمو صالح قال إنك عايزة تلج..."
أخذته منها وكان باردًا جدًا...ثم ضغطته برفق على جانب وجهها المتورم أغمضت عينيها بألم وفلتت شهقة صغيرة متوجعة من بين شفتيها...
سألتها ملك بتردد وهي تقترب منها..
"بتوجعك يا ماما؟"
فتحت شروق عينيها مجددًا تتطلع إلى ابنتها وعندما رأت تورم عينيها واحمرارهما الشديد قالت بخوف وهي تسحبها إلى أحضانها...
"عينك ورمة كده ليه؟!.... كل ده عياط؟"
ارتمت ملك على صدرها تتشبث بها بقوة
وهي تبكي معتذرة...
"إنتي كويسة يا ماما؟ أنا آسفة..."
ضمتها شروق إليها أكثر وهي تقول بنبرة حنونة...
"أنا كويسة يا ملك متعتذريش... إنتي مكنتيش تعرفي حاجة... يمكن ده حصل
عشان تبطلي عناد وتعرفي حقيقتهم..."
قبّلتها ملك على وجنتيها وقالت ببراءة...
"حقك عليّا... أنا مش هعمل كده تاني... أنا مبقتش عايزة أتكلم مع تيته ولا بابا... أنا هفضل معاكي إنتي وبس... متزعليش...
حقك عليّا..."
ابتسمت شروق بحزن وهي تهدهدها في أحضانها وتواسيها...
"يا حبيبتي أنا مش زعلانة منك... إنتي كنتي تعرفي منين إنها ناوية على الشر؟ الحمد لله... الحمد لله على كل شيء... بطّلي عياط بقى..."
أبعدت شروق ابنتها عن حضنها وبدأت تمسح دموعها وتقبّلها وتراضيها وكأنها هي من أخطأت في حقها...
وبالفعل كانت هي من أخطأت في حقها
عندما اختارت لها أبًا مثله وربطت اسمها
به.
في تلك اللحظة دلفت أبرار إليهما وقالت بشقاوة...
"مساؤوو... خلّصتوا نكد ولا لسه؟"
ألقت شروق نظرة سريعة عليها ثم أنزلت وجهها تمسح دموعها ودموع ابنتها...
قالت أبرار بمناغشة وهي تجلس على المقعد المقابل لهما...
"جيبالكم بسبوسة من عمايل إيديا بالسمنة البلدي..."
مدّت قطعة لملك وقالت بمناكفة....
"كلي يا بت يا لوكا.... وسيبك من أمك النكدية دي..."
رمقتها شروق بضيق بينما أخذت ملك القطعة منها وأكلتها ثم انكمشت ملامحها سريعًا قائلة....
"سكرها كتير..."
ابتسمت أبرار بزهو انثوي.....
"لازم يكون سكرها كتير ما أنا اللي حطيت إيدي فيها..."
ارتفع حاجب شروق بضجر بينما نهضت ملك مبتعدة عنهما وهي تقول....
"أنا هروح أجيب ميّة..."
قالت أبرار بنظرة شقية...
"مش ناوية تدوقي يا أم بوز؟"
علّقت شروق بشفاه ممطوطة...
"أم بوز؟!"
أومأت أبرار بمناكفة...
"أيوه مش شايفة نفسك؟ بوزك ممدود شبرين إزاي..."
تململت شروق بانزعاج قائلة...
"بالله عليكي يا أبرار سبيني في حالي. أنا لا جاية معايا أعمل مشاكل معاكي ولا مع غيرك."
قالت أبرار بنظرة لئيمة...
"مين قال إني جاية أعمل مشاكل؟ أنا جاية أدوّقك البسبوسة."
رفضت شروق بامتعاض...
"مش عايزة..... مليش نفس."
نظرت لها أبرار بضيق ثم قالت بلا اكتراث...
"ما تفكي التكشيرة دي بقى وبطلي غم... علقة تفوت ولا حد يموت."
اتسعت عينا شروق واحتقن وجهها بالغيظ بينما قالت أبرار بسرعة...
"مش قصدي... بهزر معاكي. إحنا مش اتفقنا نكون صحاب ولا إيه؟... فكي بقى وبطلي غم."
لم ترد عليها شروق والتزمت الصمت مجددًا وهي تنظر إلى مكان آخر....
بينما حاولت أبرار فتح الحديث من جديد فقالت وهي تأكل قطعة من البسبوسة باستمتاع....
"بصراحة أنا قلبي وقع في رجلي لما أغمي عليكي وبابا شالك وطلعك فوق."
أدارت رأسها إليها منتفضة في مكانها بصدمة
وحياء....
"مين اللي شالني؟!"
"أكيد مش أنا يعني... بابا."
احتقن وجهها أكثر، وقالت بحرج شديد...
"وليه تسيبوه يشيلني؟!"
زمت أبرار شفتيها قائلة...
"أمال نشيلك إحنا يعني.... أنا عندي أنيميا وتيتا عندها خشونة في الركبة."
عادت تجادلها بغيظ...
"وليه تطلعوني فوق أصلًا؟ ما تسيبوني تحت."
هتفت أبرار دون تفكير...
"ولما يرجعوا يضربوكي تاني؟"
رمقتها شروق شزرًا فعضت أبرار على شفتيها قائلة...
"مقصدش... بس إحنا قولنا فوق أأمن ليكي بعد اللي حصل."
ثم استرسلت بنظرة شيطانية...
"سيبك إنتي... هتعملي إيه مع الولية حماتك السوو دي؟... أنا من رأيي نروح نضربها زي ما ضربتك."
سخرت منها شروق معقبة...
"نضربها؟!.... وبالنسبة للأنيميا اللي عندك؟"
قالت أبرار بنظرة مفعمة بالحيوية...
"ما ده علاج فعال للأنيميا الضرب عمومًا بيفك كل عضلات الجسم وفي الخناقة عضلة اللسان بتاخد سترتشينج!..... اسمعي مني وما ترجعيش."
لوت شروق فمها مجيبة...
"منك نتعلم يا دكتورة أبرار."
هتفت أبرار بنشوة...
"أيوه! يعني هتروحي تضربيها إمتى؟"
رفضت شروق بصيحة حادة...
"مش هضرب حد... "
نظرت لها أبرار بغضب وقالت بتهكم....
"نعم ياختي!.... مش هتضربيها ليه أمال راسمة الشبحنه عليا..... وانتي خِيخة؟!"
تأففت شروق بسخط...
"احترمي نفسك يا أبرار... وقومي من هنا."
ابتسمت أبرار بذهول ساخرة...
"يا سلام.... إنتي بتطرديني من بلكونتنا؟!"
"خلاص هقوم أنا..." نهضت شروق تنوي المغادرة فوقفت أبرار مثلها قائلة بتحدٍّ...
"هاجي وراكي."
علت أمارات الانزعاج وجه شروق...
"إنتي عايزة إيه مني بالضبط؟!"
اقتربت منها أبرار وقالت بصدق مفاجئ...
"عايزاكي ما تسيبيش حقك. طالما بقيتي صاحبتي لازم تكوني قوية وما تخافيش
من حد."
أطلقت شروق زفرة استياء وهي تخبرها...
"مش بخاف... إنتي مش فاهمة حاجة. أنا بتلشّاهم علشان ملك. مهما كان... دول أهلها."
حرّكت أبرار شفتيها يمينًا ويسارًا تقلّد حركة جدتها الشهيرة ثم قالت بتقريع...
"أهل عَرَر؟!... إنتي كان عقلك فين وانتي بترمي نفسك في حضنهم؟!"
ضربت شروق على سور الشرفة وهي تشعر بنار تضطرم في صدرها أكثر...
"كنت مغفلة منه لله قلبي ما تقلبيش عليا المواجع بقى."
سألتها أبرار بفضول...
"كنتي بتحبي جوزك ده؟"
جزّت على أسنانها وهي تجيب على مضض..
"طليقي... كُنت.... كُنت بقى واخدة ضربة شمس في راسي وبحبه."
علّقت أبرار بحاجب معقود بحيرة..
"دي مش ضربة شمس ده تان عشان يعمل المفعول الرهيب ده وتتجوزي واحد سوابق؟!"
صاحت شروق بنفاد صبر...
"هو إنتي جاية تقلبي عليا المواجع؟!"
قالت أبرار بوقاحة...
"يعني إنتي لحقتي تنسي؟.. ما المواجع كلها على الوش أهيه!"
ارتفع حاجب شروق مع اتساع عينيها لترى أبرار تبتسم لها ببراءة فقالت بغضب مكتوم..
"لسانك عايز القطع... إزاي إنتي بنت الشيخ صالح؟!"
قالت أبرار بمناكفة...
"خدي في بالك... فينا جينات من بعض"
تبرمت شروق نافية...
"والله ولا فيكي حاجة منه."
صاحت أبرار بغيرة تحذرها...
"لا فيا ومالكيش دعوة بأبوي عشان ما
أقلبش عليكي!"
لم تُبالِ شروق وهي ترمقها بحنق بالغ...
"لا اقلبِي اقلبِي خليني أخلص وتقومي من قدامي."
قارعتها أبرار قائلة...
"مش هقوم من قدامك غير لما تاكلي من البسبوسة اللي عملتها... وتقوليلي هنضرب الولية حماتك دي إمتى؟!"
زجرتها شروق بغيظ....
"مش حماتي... اسمها عنايات"
وضعت أبرار يدها على ذقنها وقالت بنظرة منتشية:
"اسم إجرامي فعلًا عنايات.... هنضربها إمتى بقى؟!... "
هزت شروق رأسها باستياء وهي تدعوها للجلوس بقلة صبر...
"مش هنضرب حد. اقعدي واهدي كده... عشان الأنيميا اللي عندك."
انفعلت أبرار حانقة...
"هو إنتي معلقة على الكلمة ليه؟! هو أنا بس اللي عندي أنيميا؟!... "
لم ترد عليها شروق بل أكلت من البسبوسة لتنهي الأمر ثم انكمش وجهها سريعًا وهي تقول بوجوم...
"إيه السكر ده كله؟!.... حطّة كيلو سكر؟!"
ردت أبرار بلا مبالاة....
"أنا بحبها كده."
"يبقى تاكليها لوحدك... محدش هياكلها أصلًا."
نظرت لها أبرار بخبث وقالت وهي تعود بنظرها إلى الطبق أمامهما...
"مين قالك؟... ده أنا هاخد الصينية بحالها واطلع بيها لياسين. بياكل أي حاجة من إيدي حتى لو محروقة !"
زمت شروق شفتيها بعدم رضا...
"والله حرام عليكي... هتوجّعي بطنه."
............................................................
الحركة المفضلة لديها في إزعاج الآخرين
هي الطرق على الباب بأسلوب غير آدمي حيث تضرب الباب بعنف وفي الوقت نفسه تضغط على الجرس بيدها الأخرى فتُحدث ضجيجًا وفوضى تُفزع من بالداخل....
فتح ياسين عينيه منتفضًا وقد كان ممددًا على بطنه فوق الفراش...
هربت الدماء من عروقه عند هذا الضجيج
فنهض مذعورًا يجر قدميه خارج الغرفة
مطلق السباب من بين أسنانه بغضب...
فتح الباب بعنف بوجه مكفهر ونظرة قاتمة ليراها تقف أمامه كالحمل الوديع ترتدي خمار الجدة الطويل عليها فوق منامتها البيتيه ذات الرسومات الكرتونية المستفزة.....
مالت أبرار تأخذ الصينية من على الدرج وهي تقول بابتسامة متسعة ظهرت معها أسنانها المصطفة وغمزاتها الجذابة...
"صحي النوم جبتلك بسبوسة..."
هتف ياسين من بين أسنانه بغيظ...
"ربنا يقل راحتكم زي ما قليتوا راحتي...
إنتي وأبوكي.... "
توسعت عينا أبرار بدهشة...
"الله...... وأنا وأبويا عملنالك إيه؟!"
ألقى ياسين جسده على أقرب مقعد وهو يشكو همه...
"أبدًا.... عملت السحور وغسلت المواعين ورُحت أصلي الفجر في الجامع... مش
يسيبني بقى في حالي أروح أتخمد.. "
ثم ضرب ذراع المقعد بقبضته مضيفًا بسخط
"قال إيه... تعالى نطلع ناكل الحمام.... حمام إيه اللي ياكل بعد الفجر..... وأنا أصلاً مالي ومال الحمام؟!..... إنت صاحب الحمام أكله وشربه إنت حر... أنا مالي؟!"
كبحت أبرار ضحكتها وهي تربت على كتفه محاولة إرضاءه...
"روق دمك يا ياسينو... طب والله دي محبة."
نفض يدها عنه قائلًا بوجوم...
"طب خدي شوية من المحبة وكفاية عليّا كده... "
قالت ببراءة....
"ما بابا عارف إني بخاف من الحمام..."
تبرم ياسين هازئًا...
"بتخافي من الحمام؟! ده المفروض الحمام
هو اللي يخاف منك.. "
اغتاظت من رده الجارح فتحركت نحو الباب والصينية في يديها...
"كده... طب والله خسارة فيك البسبوسة اللي جبتها لك... أنا ماشية... "
لحق بها ياسين يمنعها وعيناه على الصينية بجوع....
"سيبي الصينية وتوكلي على الله."
رفضت وهي تضمها بين ذراعيها بعناد....
"لا بتحلم يا أقعد أنا والصينية يا أمشي بيها... آه مش هتاكلها لوحدك..."
زمّ فمه باشمئزاز...
"جايبة الحاجة وعينك فيها !... "
لكزته في صدره بعنف....
"جايباها ناكلها سوا يا طفّس أنا رايحة
أعمل شاي بلبن."
أمرها ياسين بعد أن أدارت ظهرها له...
"معلقتين سكر... معلقتين بالعدد!"
هزت أبرار رأسها معترضة..
"معلقتين بس؟! قلبي مش هيطاوعني... خليهم أربعة.... "
صاح ياسين بضيق...
"يا ستي إنتي مالك؟! هي كوبايتك ولا كوبايتـي؟!.. "
دلف بعد لحظات فوجدها تقف أمام رخامة المطبخ تضع السكر في الأكواب. اقترب منها وجاورها في الوقفة وهو يقول بمناغشة...
"مش هتبطلي خبط البهايم ده؟!... وتخبطي
زي الناس العاقلة.. "
رفعت شفتيها للأعلى بسخط...
"مش لما تتكلم إنت زي الناس العاقلة الأول هو في بهايم بتخبط على الباب؟!"
عضّ على شفتيه بملل...
"والله أنا تعبت منك !"
قالت بابتسامة متألقة....
"أعيش وأتعبك..."
نظرت إليه بطرف عينيها ثم قالت بحرج...
"بقيت أحسن النهاردة؟!"
تغيرت ملامحه مئة وثمانين درجة وأشرق صدره بمشاعر دافئة حلوة كالهلام وهو ينظر إلى احمرار وجنتيها وعينيها المضطربتين اللتين ترفضان رفعهما إليه الآن تحديدًا...
قالها بعبث وقح وهو يتذكر ذلك العناق المجنون بينهما رغم أنه يحمل وجيعة مريرة
لا تزال عالقة في حلقه إلا أنه... عندما مال...
مال عليها دون غيرها كما كان يفعل منذ الصغر !....
استدارت تنظر إليه بغضب بينما وجنتاها تشتعلان وقلبها نهض من سباته ليقرع
بجنون في حضرة "الدنجوان" كما تلقّبه
"شكلك كنت بتستغل الفرص..."
حاصرها ياسين عندما وقف أمامها ووضع يديه على حافة الرخامة جوارها ثم مال برأسه عليها لفرق الطول بينهما هامسًا بصوتٍ أجش
"هستغلها ليه؟!.... إحنا مش أخوات زي ما بتقولي عادي... الأخ يحضن أخته !"
علت وتيرة أنفاسها وزاد ارتباكها وهي تقول باحتقان...
"بس إحنا ولاد عم... مش إخوات!"
صاح منتصرًا بابتسامة واسعة...
"الله أكبر... مخك بدأ يفتح معايا يعني نجوز لبعض على كده؟!"
"اللبن فار.... "
دفعت صدره فجأة تبعده عنها متهربة
فزمجر مغمغمًا....
"وهو دا وقته !... "
أغلقت الموقد ثم أدارت وجهها إليه تقول بنبرة حازمة مهددة...
"لو عملت حركات الملزقين دي تاني... أنا مش هاطلع هنا تاني ولا هكلمك سامع؟!"
لم يعقّب على تلك الترهات التي تفوّهت بها بل انسحب من المطبخ قائلًا بهدوء....
"تعالي نتكلم برا وبالمرة تحكيلي إيه اللي حصل مع شروق وليه بايتة تحت عندكم."
عندما خرج من المطبخ وضعت أبرار يدها على صدرها تأخذ أنفاسها المسلوبة من شدّة التوتر بينما قلبها النابض يتفاعل مع كل همسة ونظرة حدثت للتو... كما حدث عندما مال على كتفها وضمّها إليه باكيًا...
...............................................................
أطلق زفرة طويلة مستاءة وعاد ينظر إلى ذلك الكتاب
أطلق زفرة طويلة مستاءة وعاد ينظر إلى ذلك الكتاب الصغير وإلى الحروف التي يجب أن يحفظ شكلها واسمها. همس بامتعاض محاولًا مرة أخرى....
"ألف... باء... تاء..."
أبعد الكتاب عنه بوجه محتقن بالغيظ. ما الذي أوصله إلى هذه الحالة البائسة؟.. يتعلم كطفل في الرابعة من عمره وهو الذي أتم الثلاثين ينبت الشعر في وجهه وصدره ويعود لتلك التفاهات التي لم يفلح بها في السابق...
لماذا وافقها منذ البداية.... فهو على دراية
بأنه لن ينجح مهما حاول رأسه الصلب لا يستوعب هذه الأشياء السخيفة...
لماذا يحتاج إلى الشهادة؟!.... هو قادر على اكتساب الأموال أفضل من خريجي الجامعات.. هل الشهادة هي ما ستجعله ينال احترامها؟ واحترام الجميع؟....
هل الشهادة قادرة على كسر الحواجز بينهما؟ ربما نعم... أو ربما لا...
وكأنه يحفر في أرضٍ صلبةٍ لا تصلح للزراعة لكنه يصرّ بعنادٍ مؤلم على أن ينبت فيها
تفاحًا !....
هل يمكن لعقله هذا أن يبلغ يومًا درجة الدكتوراه مثلها ؟.... أو حتى يظفر بأي
شهادةٍ تُذكر؟...
لاحَت بسمة هازئة على وجهه الجامد فهو يعلم أنه لا فائدة من كل هذا... لكنه يريدها.. يريدها بجواره ولو لفترة من الوقت...
يريد أن يقتنص حلمه من هذا العالم ولو لأشهر معدودة.... ثم يرحل !...
صدح رنين الهاتف فرفعه ينظر إلى الشاشة.
هو لا يُسجل الأرقام على هاتفه لجهله بكيفية فعل ذلك ولأن الأمر يتطلب القراءة التي ينفر منها الان !...
لذلك يميّز أرقام أصدقائه بآخر رقمين فقط يحفظهم جيدًا....لكن رقم هاتفها هي... يختلف... يحفظه كاملًا كأنما نُقش في ذاكرته منذ سنواتٍ طويلة....
لمعت عيناه بالعاطفة وانتفض قلبه فرحًا وهو يتأكد من الرقم مجددًا...
فتح الخط وهتف بلهفة لم يقدر على
إخفائها...
"نـهـاد..."
جاء صوتها الرقيق تسأله بحياء...
(عامل إيه يا سلامة؟...)
هتف بحرارة....
"طالما سمعت صوتك يبقا اكيد كويس...."
على هدير قلبها وهي تبتلع ريقها بارتباك
قائلة....
(قولت اطمن عليك.....وشوفك عملت إيه...)
هتف بسرعة بعينين متسعتين.....
"بذاكر........باكل الكتب أكل...."
ضحكت برقة بغير تصديق معقبة...
(كتب مرة واحدة؟!.... طب وإيه الأخبار
الدنيا ماشية ولا في حاجة واقفة معاك؟)
قال بزهوٍ وهو ينظر إلى كتاب الحروف باستهانة....
"إيه اللي يوقف معايا يا نهاد؟ دي شوية حروف شغل عيال يعني ده أنا حفظتهم
صم من أول مرة كمان."
اتسعت ابتسامتها بجمال وهي تضيق عينيها بشقاوة قائلة...
(بجد؟ طب شاطر... سمعني بقى. إيه اللي
بعد الألف؟)
أطلق تنهيدة طويلة تحمل بين طياتها مشاعر عاصفة وهو يقول...
"بـ... بحبك."
ساد الصمت قليلًا منتظرًا ردًا منها وعندما تحدثت قالت بحزم...
(شكلك بتغش.)
امتقع وجهه معاتبًا...
"مردتيش يعني... بقولك بحبك بلّي ريقي وافتحي نفسي على المذاكرة يا دكتورة."
رنّ الصمت مجددًا بينهما فناداها بنفاد صبر وصدره يعصف بالحنين واللهفة إليها...
"نـهـاد..."
همست معترفة بتوله...
(أنا كمان بحبك.)
أغمض عينيه وهو يلقي نفسه على الفراش بنشوة وكأنه يعلو فوق السحب فتلك أول مكالمة عاطفية بينهما إنها أول مكالمة حب يخوضها في حياته كلها....
علاقته بها وحبهما هو أول شيء يختبره في حياته... قلبه البِكْر لأوّل مرة يقع في الهوى بينما جسده تشرب من النساء إلى حدّ الاكتفاء لكن أمام نهاد يشعر أنه لم يرتشف قطرة واحدة !...
"من إمتى؟"
سألها بصوتٍ خافت فقالت بنفس الهمس الرقيق....
(يمكن من وأنا في إعدادي... مش فاكرة من إمتى بالظبط بدأت أتعلق بيك وأحبك بس إنت أول حب يدخل قلبي وإن شاء الله الأخير.)
تأوّه وهو يستدير نائمًا على جنبه بينما عيناه تبرق بالهوى وقلبه مدلّه بحبها....
"آآآه يا نهاد... لو الظروف مساعدة كنت جيت اتقدّمتلك دلوقتي..."
أتى رفضها الحازم كحجر فوق صدره هوى على إثره أرضًا بمنتهى القسوة....
(تتقدّم إيه دلوقتي؟!.. إنت عايز تبوّظ كل اللي بنخطط ليه ولا إيه؟!)
سألها عابسًا....
"وإيه اللي بنخطط ليه؟!"
قالت ببساطة....
(إنك تكمل تعليمك.)
زفر بقنوط وهو يخبرها...
"الشرط ده صعب أوي يا نهاد... انتي كده بتعجزيني."
قالت بنبرة حزينة جادّة....
(أنا مش طالبة فلوس ولا قصور يا سلامة أنا طالبة شهادة... مش كتير عليا.)
أتاها صوته البائس عبر الهاتف....
"إنتي اللي كتير عليا يا نهاد... وشكلنا كده بنحلم وقريب أوي هنفوق من الحلم ده."
قالت بنبرة متفائلة محفّزة...
(هنفوق منه على حلم أجمل... بلاش تشاؤم. اعمل إنت بس اللي عليك وسيب الباقي على ربنا. ربنا ما بيضيعش سعي حد.)
وعندما لم تجد منه ردًا قالت بحب..
(اسعى عشاني يا سلامة... اسعى عشان أقف قصاد العالم كله وأقول هو ده جوزي وحبيبي اللي اخترته...)
لوى شفتيه بتهكم قائلًا بسوداوية...
"لو عايزة تقفي قصاد العالم كنتي وقفتي من دلوقتي يا نهاد..."
وكأنه وضع خنجرًا حادًا في ظهرها انكمشت ملامحها بحزن مجيبة....
(بتلومني عشان عايزة أشوفك في مكانة أحسن؟)
قال بصوت مختنق....
"مش قصدي..."
صاحت نهاد بانفعال...
(لا قصدك على العموم لو عايز تتقدّم دلوقتي تعالى أنا ما عنديش مشكلة أتجوزك وأعيش معاك في عِشّة... بس...)
سألها بتردد...
"بس إيه؟!"
قالت باستنكار...
(بس هما هيرضوا؟... أيوب وماما هيرضوا؟)
رفع سلامة القدّاحة أمام عينيه وأشعلها وأمام نارها اقترح عليها بنبرة مبهمة...
"إيه رأيك نـهـرب؟"
لم تُبدِ أي صدمة أو دهشة وكأنها على دراية أنه يتلاعب بها أو يؤلمها بطريقة غير مباشرة. يريد أن يجعلها تندم على هذا الحب والفرصة التي أعطتها له !...
(وأهرب ليه؟ اللي بيهرب بيكون عامل عملة. وأنا حبي ليك مش عملة تخليني أخاف وأهرب من أهلي والناس.)
(وبعدين مش دي كلمة "شكرًا" اللي هقولها لأهلي بعد كل اللي عملوه عشاني...)
أطفأ نار القدّاحة ثم ابتسم ابتسامة قاسية وهو يقول بقتامة...
"جدعة يا نهاد... بنت عبد العظيم بجد."
ثم عاد يسألها بنبرة خالية من التعبير...
"اتضايقتي صح؟!"
قالت بنبرة محتدة...
(بحس إنك بتتعمد تجرحني.)
لم يُنكر وقال بتجهّم...
"عشان أنا وإنتِي عارفين آخرتها وبرضو بنقاوح..."
آتى صمتها الحزين ردًا عليه ولم يرَ دمعةً انسابت على خدّها...
"متزعليش مني... أنا بحبك وخايف أخسرك."
لم ترد فأجاب بنبرة صادقة...
"خسارتك كبيرة أوي يا دكتورة... وأنا مش قدها."
غيّرت نهاد مجرى الحديث قائلة بهدوء...
(ذاكر كويس... وبلاش لعب.)
هتف بمشاكسة...
"تحبي أغسل سناني قبل ما أنام؟"
بإيماءة حنونة قالت...
(أيوه... واتغطى كويس كمان.)
هتف بمداعبة صبيانية...
"دي مهمتك إنتي بعد الجواز... هتغطيني وتدلّعيني وتغسّلي رجلي كمان..."
لوَت شفتيها باستهجان رافضة بكبرياء...
(أغسّلك رجلك؟!.... ده إنت بتحلم)
تأكد الآن من أنها لم تعد حزينة لذلك ضحك وبدأ يجاريها بنفس المداعبة الوقحة...
"مش مشكلة... أغسلك أنا رجلك وأي خدمات أخرى..."
على الجهة الأخرى تخضّبت وجنتاها بشدة وهي تعنّفه...
(احترم نفسك وكفاية لحد كده... أنا هقفل.)
هتف سلامة رافضًا بشوق...
"خليكي معايا شوية ما لحقتش أشبع منك..."
وقبل أن ترد سمعا معًا طرق الباب فقال سلامة وهو ينهض عن الفراش....
"استني... الباب بيخبط هشوف مين وهرجعلك..."
فتح سلامة الباب والهاتف على أذنه وعندما رأى أيوب أمامه يقف ثابتًا بملامح جامدة والشرر يتطاير من عينيه...
بلع سلامة ريقه باضطراب وهو يرى وجه صديقه ودخلته التي لا تبشّر بالخير...
نطق سلامة اسمه باضطراب لحظي...
"أيوب؟!..."
وعندما سمعت نهاد ذلك شهقت بفزع ثم أغلقت الخط بسرعة وخوف...
قال سلامة بابتسامة باهتة....
"عامل إيه يا بو الصحاب؟ اتفضل..."
رد أيوب بحدة...
"إنت خليت فيها أبو الصحاب؟..."
وعاجله بلكمة قوية أطاحت بسلامة أرضًا
تأوّه وهو يضع يده على فكه صارخًا بغضب
"يخرب بيت أم غشميتك!..."
اقترب منه أيوب وسحبه من ياقة قميصه حتى نهض فقال سلامة بخوف...
"اصبر بس... هفهمك أنا غرضي شريف..."
لكمه أيوب مجددًا بقوة فطاح سلامة على الفراش بينما قال أيوب من بين أسنانه
بغيظ....
"غرضك إيه وانت شايفها واقفة ورانا وأنا عمال البخ في الكلام ومش هاين عليك تلحقني بغمزة بنظرة بأي حاجة... أيه
بتعمل نمرة على قفايا؟!... "
على تعبير الصدمة سلامة فقال متشدقًا...
"إنت قصدك على كده؟!"
ضاقت نظرات أيوب بشك...
"أمال هيكون قصدي على إيه؟... إنت عملت إيه تاني؟!..."
اتسعت ابتسامة سلامة كالمخبول وهو يقف أمام أيوب مشجعًا...
"ولا أي حاجة... بصراحة عندك حق أنا عيل ما اتربّيتش اضربني تاني يمكن أفوق..."
تقلصت ملامح أيوب بنفور معقبًا..
"إيه الأُفورة دي... إنت كنت بتكلم مين
صحيح "
رد سلامة بهدوء...
"واحد صاحبي..."
نظر له أيوب بلؤم وهو يغمز..
"ولا واحدة من اللي تعرفهم؟..."
هتف سلامة بانفعال...
"ما تحترم نفسك يا أيوب وخليك في حالك!"
تبرّم أيوب وهو يلقي جسده على المقعد المتهالك....
"ما أنا في حالي... هشغل بالي ليه أنا بالنسوان السكة اللي تعرفهم..."
تأفف سلامة بغيظ..
"يا عم اخرس بقى.... إنت عندك ولاية؟!"
لم يُبالِ أيوب وهو يقول بازدراء...
"إنت أهبل؟!... هتجيب بنات الناس لبتوع الشوارع دول؟..."
ثم ألقى نظرة على كتاب الحروف قائلًا بمزاح ثقيل...
"وبعدين إيه ده.... إنت رجعت تروح المدرسة ولا إيه؟..."
قال سلامة بغضب مكتوم...
"حاجة زي كده يا خفيف... جاي ليه؟"
أجابه أيوب بهدوء...
"جاي أريح عندك ساعتين قبل ما أرجع للشركة تاني..."
"وما روحتش البيت ليه؟!"
رفع أيوب رأسه للسقف وبإرهاق واضح قال..
"بقالي يومين ما دخلتش البيت... ليل ونهار في الشركة. وصفصف إنت عارفها أول ما تشوف وشي هتبدأ تستجوبني كنت فين؟ وبِتّ فين؟... وسوق إيه اللي تفضل فيه يومين؟..."
سأل سلامة مستغربًا...
"وإنت مش ناوي تقولها إنك شغال معاهم؟"
هز أيوب رأسه نفيًا...
"مش وقته... خليها كده أحسن..."
"وتفتكر هي مش حاسة؟..."
رد أيوب بصوتٍ خافت...
"لا أكيد حاسة... من ساعة ما نغم جتلي البيت وهي بتحاول توقعني في الكلام..."
كشر سلامة عن وجهه بازدراء وغيظ...
"وامتى قضيتها دي تتقفل بقى؟! خلينا نركز في شغلنا ونفتح المحل.. "
نظر أيوب إلى نقطة بعيدة وهو يقول بعدم ارتياح...
"شكل الحوار مطول... بس أنا مش مرتاح للبت صاحبتها دي شكلها وراها حكاية كبيرة..."
"مين دي كمان؟!..."
أجابه أيوب بوجه ممتعض...
"اللي اسمها جيداء بت صفرا كده ونظراتها كلها غِلّ وكره للكل..."
هتف سلامة باستهانة...
"يا عم ما كل اللي معاه شوية فلوس بيبص للي زينا كده... تلاقيها مفكراك طمعان فيها..."
رفع أيوب رأسه بشموخ...
"هطمع فيها ليه..... أنا بإيدي أبقى أغنى من الكل بس أنا اللي مش عايز..."
صاح سلامة بسخرية...
"عشان فقري يا بو الصحاب لو تشتغل شغلانتك هتدوس على الكل وتعدي..."
رد عليه أيوب مفكرًا...
"ما ممكن المسابقة دي تكون البداية... مش التصاميم بتاعتي وهخيطها بإيدي؟ ممكن نغم تقدمّني قدام اللجنة إني أنا صاحب التصاميم كلها..."
أومأ سلامة بتأكيد وقال...
"المفروض تعمل كده وإلا هتكون بتستغلك وتروح تحط اسم أبوها عليهم... هتبقى خيبة يا صاحبي..."
أثار الحديث حفيظته للحظة ثم هز رأسه
نافيًا قائلاً بثقة....
"لا نغم ما تعملهاش... دي هي نفسها اشتغل واكمّل في المجال ده وانجح كمان..."
قال سلامة بنبرة متشككة...
"مش يمكن بتقولك كده عشان شركة أبوها
ما تقعش؟... خصوصًا إنه راقد في المستشفى زي ما قولتلي..."
رد بثبات لا يتزعزع...
"وليه ما تكونش بتقول كده عشاني؟..."
لم يُطِل سلامة الجدال واكتفى بـ...
"الله أعلم... خليك معاهم للآخر وبُكرة نشوف مين الظالم ومين المظلوم..."
تمهل أيوب للحظة قبل أن يقول بصوتٍ
خافت...
"بس أنا طالب منك طلب..."
لم يتردد سلامة في الإجابة...
"طلب إيه؟ أأمر يا بو الصحاب رقبتي ليك..."
أخبره دون مواربة...
"البِت صاحبتها الصفرا دي... عايزك تراقبها..."
عقد الآخر حاجبيه متوجسًا...
"وليه بقى إن شاء الله؟..."
صاح أيوب بضجر...
"ما أنا لسه قايلك... حاسس إن وراها حاجة..."
لوّح سلامة بيده متعجبًا...
"وراها ولا قدامها؟!..... إنت إيه دخلك؟..."
هدر أيوب بنبرة اشتدت فيها الحروف وظهر التملّك والحماية في عينيه العابثتين بالفطرة
"ما أكيد الحاجة دي تخص نغم... ونغم تخصني..."
ارتفع حاجبا سلامة إلى أقصاهما وهو يهلل بذهول...
"إلعب....ومن إمتى الكلام ده...ما تفوق ياصاحبي لتلبس في حيط...."
لم يُبالِ أيوب وهو يعترف لصديقه بصوتٍ لا يخلو من الشر متوعدًا......
"انا لبست خلاص واللي كان كان ومش هرتاح غير لما أعرف إيه اللي ورا البت دي....ولو إحساسي صح يبقا جت على حجري.....وانا اللي يجي على حجري بـ.....بمرجحه....."
كانت كلماته كسياج يُحذر به كل من يقترب من حدوده الخاصة...عند تلك النبرة صمت
سلامة للحظات ثم قال موافقًا....
"صورتها وعنوان بيتها وسيب الباقي عليا..."
ابتسم أيوب بارتياح وهو يقترب منه مربت
على كتفه بامتنان قائلا.....
"هو دا الكلام.... وعشان برضو القراية والكتابة عندك بعافية....اي مكان تروحه اي حد تقابله بالتلفون وصور.....ولغيني...."
لمعة عينا سلامة بنشوة وهو يقول بشيطنة...
"ماشي كلامك ياصاحبي....ولو تحب انط على بيتها واخد لفه فيه انا سداد....."
تشنج فك أيوب وامتعض وجهه وكادت قبضته أن تنطلق نحوه مجددًا لكنه تماسك
في اللحظة الأخيرة وقال بضيق مكتوم....
"مستغنين عن لفاتك اللي هتودينا في داهية....نفذ اللي قولتلك عليه وخلاص
ام نشوف اخرتها..."
ضحك سلامة وهو يتجه نحو ركن صغير في
قلب الغرفة يستخدم كمطبخ وقال له....
"طب استنى كل لقمة قبل ما تنام...."
مازحه أيوب بأسلوبه الفج المعتاد......
"طب ما تيجي اذكرلك ألف بَه...."
"ياعم اترزع هي نقصاك...."
قالها سلامة بوجه محتقن بالغيظ في حين ارتمى أيوب على الفراش بجسده المنهك
يضحك بلا مبالاة....
...............................................................
في غرفة تنفيذٍ مخصصة للتصاميم بين جدران أنيقة تكسوها لوحات الأقمشة ونماذج من أشهر التصاميم التي حازت استحسانًا كبيرًا بين النساء تنبعث إضاءة بيضاء ناعمة تُعين على التركيز بينما تنساب في الأرجاء موسيقى هادئة تُريح الأعصاب وتُجدّد الشغف بما يُنجز.
بيديه الرشيقتين رفع قطعة القماش بلون الياقوت ثم بدأ يُسدله فوق جسد الدمية بهدوءٍ وتركيز شديد...وأخذ يُشكّل الثنيات يد تُمسك القماش وأخرى تثبّته بدبابيس دقيقة في صمتٍ....
ثبّت الأكتاف أولًا ثم انسدل بالقماش على الجذع يُعدل انحناءه بدقة... غرس الدبابيس بإتقان على امتداد الخصر حتى بدا التصميم وكأنه يتنفس على جسد الدمية.....
تراجع خطوةً إلى الوراء يتأمل مليًا شكل التصميم ثم عقد حاجبيه قليلا وعلم ما ينقصه فبدأ بسحب خيطًا رفيعًا أعاد به تنسيق التموج حول الخصر... ثم ابتسم
برضا تام...
بعد لحظات من العمل على التمثال وتثبيت بالدبابيس...
رفع القماش من على الدمية بحرص شديد ثم انتقل إلى ماكينة الخياطة الموضوعة على الطاولة. جلس أمامها تأكد من أن الخيط مشدود جيدًا ثم ضغط على الدواسة.....
وبدأ بالعمل أصبح صوت الإبرة يخترق الصمت بنغمة رتيبة... كانت يده اليمنى تُوجه القماش واليسرى تُلاعب الحواف بخفة وعيناه تتابعان كل غرزة بتركيز وشغف لا يخفو....
يمضي الوقت طويلًا وهو منغمس فيما يفعل لا يشعر بشيء سوى صوت الإبرة. وكل غرزة تترك خلفها شكلاً متقنًا مستقيمًا على القماش الذي يُحيكه تمامًا كما رسمه على الورق.
كانت تجلس على المقعد تتأمله بصمت تارة ثم تعود بعينيها الرماديتين إلى القماشة بين يديها والتي تُزيّنها بحبات الخرز الصغيرة اللامعة كاللؤلؤ تُثبّت كل واحدة بإبرة دقيقة كما علّمها.
لم تضع يومًا يدها في شيء كانت تكتفي بالاشراف والمتابعة دون مشاركة فعلية... لكن معه الوضع يختلف.. فحينما رفضت فعلها قال بغلاظة متعمدًا مضايقتها...
(خلاص طالما رافضة أوي كده... نادي ليان تعملها....)
شعرت بنيران تشتعل في صدرها وحينها لم تشعر بنفسها إلا وهي تسحب منه القماشة وتبدأ بالعمل كما وجهها...دون كلمة واحده
ذلك الوقح يستغل الفرص كي يظل قريبًا من الموظفات... بحجة المساعدة والعمل الجماعي.
يريد عملًا جماعيًا؟ حسنًا أنا موجودة هنا لفعلها..
أطلقت تأوّهًا أنثويًا عاليًا من بين شفتيها فقطع سيل تركيزه وهو يرفع عينيه نحوها موقفًا الماكينة...
وضعت يدها على فمها متألمة بعد أن وخزتها الإبرة....
"مالك؟...... في إيه؟"
قالت بوجه ممتعض...
"ولا حاجة..."
"هاتي أعملها عنك..." مد أيوب يده لها.
لكن نغم رفضت بعناد...
"كمّل اللي بتعمله... أنا قرّبت أخلّص."
سحب القماشة منها برفق ومعها الأدوات التي كانت تستخدمها...
"أنا كمان خلّصت... هاتي."
قالت بفضول وهي تنظر إلى ما يفعل...
"ملاحظة إنك لما بتشتغل بتنسى كل اللي حواليك..."
ردّ بنظرة جانبية لئيمة...
"وأنا ملاحظ إن عينيكي منزلتش من عليّا..."
هتفت نافية...
"أنا؟... خالص على فكرة... "
رفع عينيه بتساؤل...
"أمال اتشكّيتي إزاي؟"
حاولت الحفاظ على ماء وجهها وقالت
بثبات...
"عشان مش متعودة على الحاجات دي."
عقّب أيوب بخبث....
"وإيه اللي خلاكي تعمليها؟"
حرّكت كتفيها بخفة وقالت...
"كنت قاعدة فاضية... قلت أساعدك."
ابتسم باستهزاء وقال بخشونة...
"بس انتي كنتي رافضة من الأول... أول
ما قولت ليان. وافقتي."
نظرت إليه بحنق...
"تقصد إيه؟"
اتسعت ابتسامته الباردة على محيّاه فشعرت برغبة في لكمه... كما انه يبدو وسيمًا حتى في برودته وتلاعُبه الفظ بالكلمات...
"انتي عارفة أنا أقصد إيه..."
هزّت رأسها ببلادة...
"دماغك ما تروحش لبعيد... هغيّر ليه أنا؟!"
ظهرت على وجهه تعابير دهشة وقال...
"مين جاب سيرة الغيرة؟!"
قالت باختناق...
"كلامك بيلمح لكده..."
جادلها بنبرة صارمة....
"كلامي بيلمح إنك مفكراني بلعب مش بشتغل... عشان كده عايز ليان معايا."
تململت بحنق مغتاظة من ذكر اسم (ليان) في الحديث فقالت بقنوط..
"يعني شُغلي مش عاجبك... الخرز مش مضبوط..."
ردّ أيوب بأسلوبه الساخر...
"لا الله ينور عليكي... محتاج بس يتعمل من أول وجديد.... "
ارتفع حاجبها بضجر وهي ترمقه شزرًا بينما قال هو بهدوء...
"على العموم أول تصميم جاهز... محتاج أشوف رأيك."
سألته بعدم فهم..
"رأيي في إيه؟.... مش فاهمة..."
اقترح ببساطة....
"مش هتقومِي تقسِيه؟"
أشارت إلى نفسها بدهشة...
"أنا؟!"
أومأ برأسه قائلًا بهدوء...
"أيوه.... يا إما تشوفيلي موديل."
قالت بتبرم ونبرة غيورة....
"مافيش حد موجود حاليًا."
زمّ فمه قائلًا دون اكتراث...
"خلاص قومي انتي بالمهمة دي."
قالت بتجهّم وهي تنظر إلى الدمية البلاستيكية...
"وانت متأكد إن مقاساتي هتكون زي المانيكان؟"
نظر مثلها ثم عاد ببصره إلى جسدها الأنثوي المرسوم كالمسطرة بانحناءات رائعة قادرة على سلب العقل والأنفاس كما حدث معه الآن... ومع ذلك ردّ بأسلوب مهين وغليظ...
"هو إنتي... أزيد شوية منها."
اتسعت عيناها بصدمة كأنها تلقت صفعة
مهينة للتو...
"نــعــم؟!"
ابتسم أيوب بتسلية وهو يقول بنبرة خفيفة رغم أنه بخبرته الواسعة في هذا المجال وبنظره إلى جسدها وطولها يعرف مقاساتها تقريبًا...
"بس انا ممكن اتأكد......"
قالها ثم بعد ثواني معدودة وقف أمامها بملامح رصينة ونظرة شاخصة وفي يده شريط القياس الذي بدا كقيدٍ ناعم يلتف
حول جسدها المرتبك...
همست بصوتٍ خافض متوتر بشدة...
"بتعمل إيه؟!"
"بتأكد..." قالها بلمعة خفية في عينيه العابثتين ثم بدأ في قياس طولها. وقفت ثابتة بينما هو انحنى أرضًا عند كعبها العالي وأمرها بهمس...
"اقلعي اللي في رجلك ده... عشان آخد الطول مظبوط."
قالت بوجه متخضّب بالحمرة...
"ممكن أقولك طولي قد إيه؟"
قال بصوتٍ أجش...
"أنا باخد الطول من عند الكتف."
كانت ستنحني لتنزع حذاءها لكن يديه الخبيرتين سبقتاها بخفة ونزعته من قدميها البيضاوين اللامعتين ذات الأظافر البراقة المطلية باللون الوردي...
شهقت دون صوت وهي تنظر إليه بعينيها الرماديتين المشتعلتين غضبًا فابتسم قائلاً بمداعبة....
"عنك يا حُب...اوقفي عدل وافردي ضهرك."
بماذا همس بـ"حُب"؟ هل كان يقصدها فعلاً؟ أم يسخر منها؟ أم لم ينطقها من الأساس؟
بعد أن أخذ مقاس طولها استقام بطوله الشامخ ينظر إلى عينيها الجميلتين... شتاءٌ يأتي في كل الفصول....
أخذ مقاس كتفيها ثم انتقل إلى محيط خصرها فشدَّ الشريط برفقٍ عليه لا ليأخذ الرقم... همست باسمه بنغمةٍ أنثوية ضائعة...
"أيوب..."
مال أيوب على أذنها هامسًا بصوتٍ عميق جعل وتيرة أنفاسها تعلو أكثر بينما قلبها ينتفض من موضعه....
"هششش... خليني أركز يا حب."
نطقها مجددًا... إنها لا تتوهّم. تتذكر أنه شبَّهها بالحب حين كانا يرقصان على الرصيف. لكنها لم تتوقع أن يناديها به !
لماذا لا تعنّفه؟ لماذا تصمت وتضيع في جمال اللحظة، ترتشف من كل قطرة هوى تأتيها منه؟
ماذا يحدث لقلبها؟ ولماذا أيوب عبد العظيم دون غيره؟!
ابتعد عنها خطوتين إلى الخلف ثم قال بهدوء بعدها....
"فرق في المقاسات حاجات بسيطة... هيطلع مظبوط عليكي...."
تنفست الصعداء وهي توليه ظهرها قائلة بارتباك....
"كـ... كويس هروّح أقيسه..."
سارت إلى حجرة القياس بخطوات سريعة ونسيت أمر الفستان ثم عادت وبمنتهى الغباء بحثت عنه بعينيها المتوترتين. وعندما رأته على طاولة الماكينة اتجهت نحوه وسحبته بسرعةٍ أقرب للانفعال ثم عادت أدراجها إلى الحجرة تختبئ بها...
أسندت ظهرها إلى الحائط وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة بينما عيناها تحدّقان في صورتها المنعكسة في المرآة... صورة لامرأةٍ تلمع عيناها بالعاطفة.... ووجنتان حمراوان كدم الغزال وجسد منهار تمامًا وقلبٌ فقد السيطرة على ذاته.....
"إيه اللي بيحصل ده؟..."
قالتها وهي تقترب من المرآة أكثر تنظر إلى ملامحها وحالة الهيام التي تطفو على وجهها.
صفعت نفسها عدة مرات بقسوة وهمست بغضب....
"لا مستحيل... ده أكيد تأثير حبوب الاكتئاب والمنوّم اللي باخدها..."
لكن... متى كانت آخر مرة تناولت فيها أقراص الاكتئاب والمنوّم؟... لقد توقفت منذ فترة...
منذ أن بدأ يشغلها أيوب عبد العظيم ويستحوذ على فكرها وهي بدأت تعاني
ألمًا آخر....ألمًا ليس له علاج إلا بقربه....
بعد لحظات كانت تخرج من حجرة المقياس تسير حافية الأقدام على الأرض اللامعة مرتديةً فستانًا من الياقوت اللامع يحتضن قوامها بجمال بينما ينسدل باتساع حتى آخر كاحلها.
كان مصممًا بعناية ونُفِّذ بدقة حتى أصبح
رغم بساطته تحفةً فنية لا يصل إليها الكثير!.
لملمت شعرها على جانب واحد واستدارت كي تريه التصميم أكثر قائلة....
"إيه رأيك؟...... زي ما توقعت؟"
اقترب أيوب منها بنظرات مشدوهة بجمالها الخلاب وهي ترتدي ثوبًا حاكه بيديه متخيّلًا إياها فيه دون غيرها !...
لذلك لاقَ بها... لاقَ بها بشدة لدرجة أنه وقف في مكانه فاغر الفم معجبًا وعيناه تلمعان بألق خاص....
قال بإعجاب...
"عليكي أجمل من اللي اتوقعته كمان..."
همست بخفوت...... "ا... Merci..."
أخرج أيوب الهاتف من جيبه وهو يقول بهدوء.... "خليكي واقفة مكانك... هصوّرك."
هتفت بتلعثم وارتباك.... "وليه تصوّرني؟!"
ردّ عليها بنبرة جادة....
"عشان أفتكر شكل التصميم... مش كل شوية هطلب منك تلبسيه."
ومع الموسيقى الخافتة الناعمة المنبعثة في الغرفة بدأ يلتقط عدة صور لها من زوايا مختلفة وعيناه تلتهمان كل لمحة تصدر
منها بانتشاء....
كانت تنفذ أوامره على مضض حتى انتهى وبدأ ينظر إلى شاشة هاتفه ليرى صورها وابتسامة جذابة تعلو محياه...
جعلتها تزم شفتيها بغيظ منه فلمَ عليه أن يكون بكل هذه الجاذبية والوسامة الفجّة؟
وقبل أن تتحرك ذاهبة إلى حجرة المقياس لتبدّل الثوب سمعت الباب يُفتح وتدخل إليه جيداء بخطوات سريعة والملف بين يديها...
"نغم.... محتاجين إمضتك هنا..."
توقفت جيداء في مكانها وهي تنظر إلى الفستان بدهشة لا تخلو من الإعجاب بتفاصيله مما شجع نغم على الدوران مرتين لتُريها التفاصيل أكثر وهي تقول...
"إيه رأيك؟... أول تصميم يعمله أيوب...
يجنن مش كده؟"
امتقع وجه جيداء وهي تلقي نظرة جانبية نحو أيوب ثم قالت ببرود
"مش بطال..."
التوى فكّ أيوب بسخرية بينما قالت نغم بنظرة ذاهلة....
"بتهزري يا جيداء؟ ده يجنن!"
ألقت جيداء نظرة حاقدة غاضبة على أيوب وهي تقول بمكر...
"انتي أي حاجة بقت تبهرك... اتغيرتي خالص يا نغم.... وذوقك بقى في النازل."
لم تفهم نغم ما الذي تشير إليه بحديثها فعادت بنظراتها إلى الفستان الرائع قائلة بثقة....
"تقصدي إيه؟.... أنا متأكدة إننا هنكسب
في المسابقة وهنبهر الناس كلها."
ضحكت جيداء بسخرية قاتمة وقالت بتقليل
"تصاميم أيوب عبد العظيم؟! هتكسب قصاد جاسر العبيدي وغيرهم من المصممين الكبار اللي ليهم اسمهم... والله إحنا بنحرج نفسنا..."
هتف أيوب بنبرة خشنة..
"مفيش حد هنا المفروض يتحرج ويحط وشه في التراب كمان... غيرك.. "
أدارت جيداء وجهها إليه بصدمة وحركت أهدابها عدة مرات بعدم استيعاب وهي تقول باحتقان
"أحط وشي في التراب؟!.... إنت بتقول إيه؟!"
أجابها بجفاء ونظرة قاسية
"بقول الصبر جميل... وبلاش تقللي من حد
ما تعرفهوش كويس."
رفعت جيداء أنفها بعجرفة قائلة...
"والله عال... ما فاضلش غيرك انت اللي
أحب أتعرف عليه... "
لم يُبالِ أيوب بحديثها بل قال بغرور أكبر...
"يزيدك شرف والله... بس أنا اللي مبحبش أتعرف على حد أقل من مستوايا."
احتقن وجه جيداء بالغيظ فألقت عليه نظرة غاضبة ثم قالت قبل أن ترحل....
"نغم..... أنا هستناكي في مكتبك... "
رأتها نغم تخرج من الغرفة فسارت خلفها وهي تقول لأيوب بنبرة معاتبة....
"إيه اللي إنت عملته ده؟"
أمسك أيوب بذراعها ليوقفها قائلاً بنبرة
حازمة...
"حرصي من البت دي... البت دي مش سالكة...."
حاولت نغم نزع ذراعها منه وهي تقول
بغضب...
"إياك تكلّـم عليها كده دي صاحبتي ومبحبش أبدًا حد يتكلم عليها كده... أيًّا كان هو مين!"
لم يحرر ذراعها من قبضته بل هزها بقسوة وهو يقول بخوف عليها....
"أنا بنصحك لمصلحتك... البت دي وراها
حاجة بلاش تديها الأمان."
بعينين عاصفتين بالغضب قالت بسخط...
"واشمعنا إنت.... إديتك الأمان والثقة؟!"
هتف من بين أسنانه بحدة....
"عشان أنا غير أي حد... ولا هتنكري ده.."
ظهر خط ارتباك رفيع في عينيها الرماديتين المشتعلتين مما جعلها تهرب من نظراته النافذة...
سحبها أكثر إليه وهو يقول بهمس محذر...
"إياكي تحطيني في كفه قصاد أي حد... ولو ده حصل كفتي أنا اللي هطب في الآخر."
لم تعجبها إجابته فقالت باستنكار...
"يا سلام!.... وجايب الثقة دي كلها منين؟!"
أجابها بثقة دون تراجع
"اسألي قلبك... وهو يقولك..."
بلعت ريقها باضطراب شديد وفي عينيه التي تحجبها عن العالم الآن، رأت حقيقة مشاعرها التي تنكرها منذ فترة طويلة...
................................................................
كان يجلس على دراجته البخارية على مسافةٍ من السيارة يخفي ملامحه تحت خوذة سوداء. رآها تترجل من السيارة تلتفت يمينًا ويسارًا
ثم ترفع عينيها نحو البناية الشاهقة أمامها وتتأمل لافته معينة في الطابق الرابع ثم
دلفت بعدها إلى البناية بخطواتٍ سريعة.
عقد سلامة حاجبيه بتفكير وهو ينزع الخوذة عن رأسه محدقًا في البناية التي دخلتها.
طوال أسبوع كامل وهو يراقبها ولم يسبق له أن رآها تتردد على هذا المكان. كانت تذهب إلى شركة "الموجي" ثم إلى الشقة التي تقطن بها... وأحيانًا تقابل بعض الأصدقاء في النادي أو في مقاهٍ ومطاعم فاخرة....
ظنّ أن أيوب يضخّم الأمر بعدما يئس من الوصول إلى أي شيء خلف مراقبتها... لكن يبدو أن ثمرة المراقبة ستظهر أخيرًا وقد
يأتي بالخبر المنتظر.
اقترب سلامة من حارس العقار بملامح هادئة بشوشة....
"سلام عليكم.... إزيك يا ابن عمي؟"
رفع الرجل عينيه إليه بملامح مكفهّرة
وسأله بتوجس...
"إنت تعرفني؟"
هتف سلامة وهو يخرج سيجارة ويعطيها للرجل....
"ومين في المنطقة ميعرفش عم مسعد؟"
انكمشت ملامح الرجل بريبة وهو ينظر إلى السيجارة.
"بس أنا اسمي ربيع..."
ظهرت أمارات التعجب والحيرة على وجه سلامة بإتقان ثم قال....
"بجد؟! أمال فين عم مسعد؟ دا كان واقف قبلك هنا..."
احتد صوت الرجل بعصبية....
"واقف فين؟! أنا بقالي خمستاشر سنة شغال هنا.... "
ضاقت عينا سلامة بلؤم وهو يقول...
"ما شاء الله... وعلى كده بتبقى عارف كل
اللي بيدخل وبيخرج من العمارة دي..."
أومأ الرجل برأسه مشددًا على الأحرف بعصبية...
"أيوه أمال إيه أعرف أصحاب العمارة وضيوف أصحاب العمارة كمان..."
حرّك سلامة حدقتيه بخبث قائلاً...
"لا بس فيه وجوه جديدة... يعني الست اللي لسه داخلة قدامنا دي أنا أول مرة أشوفها
هنا... هي بتزور مين؟"
حكّ الرجل رأسه وهو ينظر إلى مدخل العمارة متذكرًا وجه المرأة التي دخلت منذ دقيقتين...
فقال بتلقائية دون حرص....
"دي أكيد طالعة للدكتورة مروة. جت لها كذا مرة قبل كده وشوفتها عندها في العيادة."
ادّعى سلامة الصدمة حتى لا يُثير ريبة
الرجل.....
"اي ده هي العمارة دي فيها عيادة؟!"
أومأ الرجل بتأكيد وقال باستفاضة...
"أيوه دكتورة مروة العياط... دكتورة نِسا وتوليد... دكتورة كبيرة أوي أوي والناس بتجيلها من كل حتة."
ابتسم سلامة بانتشاء وهو يتمتم بخبث...
"والله كويس أصل مراتي على وش ولادة وعم مسعد قالي تعالى ومتشلّش همّ حاجة..."
تجهمت ملامح الرجل بغيظ وقال بحدّة...
"عم مسعد مين؟!.... ما قولتلك أنا اللي ماسك العمارة.... إنت ملغبط ولا شارب حاجة؟!"
قال سلامة وهو يضحك...
"خلاص يا ابن عمي متزوّقش... نهارك زي العسل..."
أعطاه سيجارة أخرى قبل أن يعود أدراجه متمتمًا بعدم فهم....
"دكتورة نِسا؟!...... بتعمل عندها إيه دي؟!"
رفع سلامة الهاتف والتقط عدة صور للبناية وللافتة التي تحمل اسم(مروة العياط...)