رواية اشتد قيد الهوي الفصل السابع عشر بقلم دهب عطية
وقفت أبرار في مكانها تُصفّق بحرارة وسعادة وهي تنظر إلى التلفاز صارخة....
"مش قولتلكم..... بكرة رمضان..... بكرة"
وقفت ملك على الأريكة التي كانت تجلس عليها ثم بدأت بالقفز وهي تقول بحماس
"الرؤية بانت..... وهنروح نصلي التراويح!"
ضحكت شروق عليهما هي والجدة أبرار بينما كان ياسين متمدّدًا على الأريكة ينظر إلى هاتفه بلا اهتمام وقال....
"كل سنة وانتوا طيبين."
ثم صمت فزمّت أبرار شفتيها بقرف قائلة بتوبيخ....
"ده لو عيد الكريسماس كنت هتفرح فيه أكتر من كده !"
ردّ بصوتٍ أجوف...
"الأيام كلها بقت زي بعضها بالنسبة لي..."
قالت بابتسامة لامعة كغمازتيها الجميلتين:
"بس رمضان ليه بهجة..."
"طيب..." اكتفى بابتسامة باهتة...
مما جعلها تمتعض بغضبٍ منه فالمفترض أن يفرح الإنسان بحلول هذا الشهر الكريم ففيه الخير والبركة....
تشعر أنه مختلف عن بقية شهور السنة تمر أيامه سريعًا تاركة بصمة في قلوبنا وحنينًا لا ينتهي حتى يعود من جديد... وندعو
ألا نكون لا فاقدين ولا مفقودين.
"شوف الواد الكئيب..."
قالتها أبرار لكن في اللحظة التالية دوّى صوت فرقعة عالية بجوار قدميها جعلها تنكمش في مكانها صارخة بفزع !
ضحك ياسين بقوة وهو يُلقي واحدًا آخر من "البُمب" عليها قائلًا....
"كده بقى أقدر أقول كل سنة وانتي طيبة يا أبراري... "
صرخت أبرار بغضب وغيظ وهي تهرول خلفه وملك خلفهما تلهو وتضحك عليهما.
وقف ياسين في الشرفة وهو يضحك فبدأت أبرار في لكمه في كتفه.
كتم ياسين ضحكاته وهو يدّعي الحزم...
"لو مدّيتي إيدك تاني مفيش صواريخ ولا بُمب والله... "
توقفت عن ضربه وسألته...
"جايب كتير؟!"
أخبرها وهو يقرص وجنتها بحب...
"الدرج تحت مليان عشانك... كل سنة وانتي طيبة يا أبراري... السنة الجاية..."
ثم توقف وأكملها سرًا بحسرة....
(السنة الجاية تكوني في بيتي... يااا رب...)
عندما لم يُكمل جملته قالت هي بوجهٍ محتقن بالغضب....
"السنة الجاية إيه؟!.... أنا قاعدة على قلبكم، مش هسيبكم.. "
هزّ رأسه باستياء وهو ينحني على عقبَيه ناظرًا إلى ملك وقال بمداعبة لطيفة...
"كل سنة وانتي طيبة يا ملوكة."
ردّت ملك بابتسامة جميلة:
"وانت طيب يا عمو ياسين... أنا متحمسة أوي أشوف رامز!"
عقد ياسين حاجبيه بعدم فهم...
"رامز؟!..... رامز مين؟!"
قالت ملك باندفاعٍ مبهج...
"رامز جلال يا ترى عامل إيه السنة دي؟!"
برمت أبرار شفتيها باشمئزاز قائلة...
"انتي طفلة أوي على فكرة... مستنية رمضان عشان رامز؟!"
انكمشت ملامح ملك بوجوم...
"أمال انتي مستنية رمضان عشان إيه؟"
اتسعت ابتسامة أبرار وهي تقول بحماس شديد...
"عشان أشوف المداح! بيقولوا أول حلقة هتنزل النهاردة على النت يا لهوي في كمية مسلسلات نازلة رهيبة... أنا هتابع ده كله إمتى؟!"
نظر إليهما باستهانة معقبًا وهو بينهما...
"يعني انتي مستنية رمضان عشان المداح وانتي عشان رامز..."
رفعت أبرار رأسها للأعلى بإباء لتحفظ ماء وجهها وقالت نافية...
"لأ طبعًا ! رمضان بالنسبة لي صلاة وصوم وعبادة... بس مفيش مانع من شوية فواصل في النص..."
قال ياسين وهو يعود إلى الداخل...
"استنوني شوية هنا..."
نظرت أبرار وملك إلى بعضهما باستغراب...
ثم عاد ياسين بعد لحظات وبين يديه لفة أسطوانية طويلة متوسطة الحجم في أولها خيطٌ خشبي رفيع يتم إشعاله...
"عشان تعرفوا إني مش حارمكم من حاجة..."
صاحت أبرار مبتهجة....
"أنا الأول يا ياسين!"
قال ياسين وهو يشير إلى الأسطوانتين في يده...
"هما اتنين انتي واحدة.... وهي واحدة."
تراجعت ملك مترددة...
"خلي أبرار تجرب الأول..."
"آه يا جبانة..."
قالتها أبرار وهي تضحك عليها بينما اقترب ياسين من أبرار بالأسطوانة وأخرج القداحة وأشعل الفتيل ثم أمرها أن تمسكها جيدًا وتوجه الجزء المشتعل إلى السماء من خلال سور الشرفة.
وقف ياسين خلفها دون لمسها وأمسك معها الصاروخ بحذر خوفًا عليها.
ارتبكت أبرار وعلى هدير قلبها من هذا القرب مالت بوجهها ناحيته تنظر إلى عينيه ووجهه الجذاب القريب جدًا منها...
همس ياسين وهو ينظر إلى الصاروخ بين يديهما....
"بُصي قدامك يا أبراري... الصاروخ هيفرقع!"
في اللحظة التالية انطلقت صافرة حادة اخترقت صمت المكان معها خطٌ من نارٍ
انفجر بلونٍ ذهبي وأحمر في شكلٍ بديع خاطفٍ للأنظار.
اتسعت ابتسامتها بسعادة وهي ترى الأضواء النارية تلمع أمامهما بينما رائحة البارود تتصاعد ممزوجة بدخانٍ خفيف....
"أنا مش عايزة..."
قالتها ملك بخوف وهي تنسحب من أمامهما.
ضحك الاثنان عليها بينما قال ياسين بغمزةٍ مشاكسة....
"إيه رأيك نولّع التاني؟"
غابت الضحكة عن وجه أبرار فجأة كأنها لم تكن ثم قالت بوجهٍ مكفهر وهي تدفعه بعيدًا عنها....
"ولعه انت...... إنت بقيت عيل ملزق!"
"يا أبراري... استني بس..."
لم ترد عليه فانفجر ضاحكًا وهو يُشعل الصاروخ الثاني وحده مستمتعًا بالأجواء... وبقُربٍ يخطفه خاطفًا منها كالصوص !...
سمعت صوت سلسلة المفاتيح فانتفض قلبها بين ضلوعها وهي ترفع عينيها نحو الباب
لترى صالح يدخل محمّلًا بين يديه الأكياس.
لم تُطل النظر إلى ما بين يديه بل تعلقت عيناها به ترنو إليه بشوقٍ لم تقدر على إخفائه...
كان عائدًا من العمل للتو. يرتدي حُلّة أنيقة وشعره مصفف للخلف بعناية. من يراه لا يصدق أنه قضى يومه في العمل... كما يبدو نظيفًا ومرتبًا وطيب الرائحة طوال الوقت...
وعندما رفع عينيه الخضراوين إليها. ارتبكت وعادت بعينيها إلى شاشة التلفاز...
"السلام عليكم..."
ردت وهي تضبط الوشاح فوق رأسها أكثر...
"وعليكم السلام... حمد لله على السلامة..."
سألها صالح وهو ينظر حوله...
"فين الحاجة؟!"
أجابته شروق باستحياء...
"في الأوضة بتاعتها... وجاية..."
ورغم معرفته المسبقة سألها وهو ينظر إلى جانب وجهها....
"الرؤية ظهرت؟!"
قالت شروق بابتسامة مليحة كنظرة عينيها
"آه بكرة رمضان... كل سنة وانت طيب..."
"وإنتي طيبة... اتفضلي..."
وضع أمامها على الطاولة كيسًا من ضمن الأكياس التي دلف بها. سألته بهدوء...
"إيه ده يا شيخ؟!"
أجابها بنظرة هادئة ونبرة تماثلها...
"افتحيه وهتعرفي..."
فعلت كما أمرها لترى عباءتين أنيقتين إحداهما باللون الأسود والأخرى بالبني. عادت إليه بعينيها بتساؤل
"دول لمين يا شيخ؟!"
رد صالح بنبرة هادئة...
"ليكي يا شروق... مش ناوية تنزلي تصلي التراويح في الجامع؟"
سألته متعجبة....
"أصلّي في الجامع؟!"
أومأ برأسه مؤكدًا فخفضت عينيها أرضًا قائلةً بحرج....
"بصراحة... آخر مرة دخلت الجامع أصلي كان من زمان أوي مع أمي -الله يرحمها- أيام ما كانت بصحتها..."
عقّب دون مواربة...
"شكلك مقصرة من زمان..."
قالت بصوتٍ أجوف بإيماءة بسيطة...
"بصراحة آه... بس البركة فيك وفي خالتي... بقيت أول ما بسمع الأذان أجري أتوضى وأصلي... كمان بقيت أفتح المصحف وأقرا صفحة أو اتنين... الكدب خيبة مش كل يوم بس بحاول..."
سألها بنبرة هادئة كبلسم....
"والذكر؟...... بتذكري الله؟"
لعقت شفتيها بتردد وأجابت بخفوت....
"لا إله إلا الله... ساعات وساعات بصراحة بنسى بس أنا بحاول يا شيخ... وربنا يقدرني وأنتظم في كل حاجة قولتلي عليها..."
اكتفى صالح بابتسامة حنونة وهو يقول بيسر
"بإذن الله... خدي الخطوة وسيبي الباقي على ربنا..."
قالت بعفوية دون حذر....
"كتر خيرك... وجودك غير حاجات كتير
في حياتي..."
ردّ عليها وهو ينظر إلى عينيها البنيتين ونظرة الامتنان التي تلمع فيهما...
"إحنا مجرد أسباب يا شروق... وكلنا بنكمل بعض..."
ورغم الحديث الهادئ وشعور الألفة ردت بنفس الحرج....
"بس أنا مش هقدر أقبل الحاجات دي...
دي باين انها غالية أوي..."
ابتسم صالح ابتسامة جذابة فتنت قلبها وعينيها وقال بتوضيح....
"لا غالية ولا حاجة... ده شغل المصنع بتاعنا وده موسم وموديلات جديدة عشان رمضان... وإنتوا أول ناس هيلبسوها..."
قالت بنبرة حانية صادقة...
"ربنا يوسع رزقك ويزيدك من فضله..."
ثم عادت تعترض بصوت أهوج...
"بس برضه ده كتير..."
نظر إليها بعتاب قائلاً....
"متبقاش دماغك ناشفة... النبي قبل الهدية..."
ردت بنبرة متورّدة....
"عليه أفضل الصلاة والسلام... تعيش وتجيب..."
عضّت على باطن شفتيها وهي تدرك ما تفوّهت به للتو فرفعت عينيها عليه لتراه يطيل النظر إليها أكثر من المعتاد وهذا ليس من شيمه. فقالت بتلعثم...
"أنا قصدي يعني..."
أومأ صالح بابتسامة جذابة يرفع عنها الحرج قائلاً برفق....
"فاهم قصدك... مبروك عليكي... لو شغلنا عجبك هنعتبرك زبونة عندنا..."
هتفت بصدمة...
"يا خبر..... هو أنا أطول؟!"
وقبل أن يرد ويكمل حديثه بالألفة التي اعتادها معها وباتت ملاذه ظهرت أبرار تقول بحاجب معقود بعد رؤيتهما يتحدثان بكلمات أقرب للهمس !...
لكنها سرعان ما تناست الأمر وجلست بجواره بتساؤل...
"بابا... إنت جيت؟ جبتلي العبايات؟!"
ضحك صالح وهو ينظر إلى شروق...
"شوفتي... دي عارفة حاجاتها متهوش عنها..."
سحبت أبرار الكيس الخاص بها وهي تدعي
البهجة قائلة....
"أيوه أمال إيه... دي الحاجة الوحيدة اللي بستفيد منها من المصنع بتاعك العبايات...
مش ناوي تصنع حاجة غير العبايات؟!"
ردّ صالح...
"ما إحنا عندنا قسم للأطفال..."
هتفت بتذمر....
"وبالنسبة لينا إحنا؟.... للشباب اللي زيي؟"
رد بأسلوب حازم....
"بالنسبة ليكم في عبايات... ومتنكريش إنها بتعجبك..."
تشدقت أبرار بنزق....
"بتعجبني عشان ده وقتها غير كده مش استايلي... أكيد مش هروح الجامعة بعباية!"
ظهرت أمارات القنوط على وجه صالح
بينما قالت أبرار بدلال....
"بس تحفة يا بابا... تعيش وتجبلي يا حبيبي..."
مالت عليه تُقبّل وجنته فردّ عليها صالح وهو يربت على كتفها....
"تتهني بيهم يا برتي..."
ثم رفع صالح عينيه ليرى "ملك" تقف عند أحد الجدران تتابع ما يحدث بنظرة حزينة وابتسامة تشي بالكثير من الحرمان المرير...
أشار لها أن تتقدم وهو يعطيها الكيس الخاص بها...
"ملك... واقفة كده ليه؟ تعالي... خدي إسدال الصلاة بتاعك..."
غاب الحزن عن ملامحها الصغيرة وابتهجت بشدة. واقتربت منهما بحماس...
"بجد إنت جبتلي زيهم يا عمو؟!"
شعرت شروق بوخزة في قلبها فأغمضت عينيها بألم مرير بينما أومأ صالح مؤكدًا
بحنو...
"جبتلك حاجة تليق بسنك... إيه رأيك؟"
نظرت إلى إسدال الصلاة الأنيق. والذي يلائم سنها ويليق بها فقالت وهي تضعه على جسدها الصغير بسعادة غامرة....
"الله جميل أوي... حلو يا أبرار؟"
سألت صديقتها وأختها الكبرى كما تعتبرها بعيون منبهرة فردت أبرار ببالٍ رائق...
"حلو أوي يا لوكا تعالي نتوضى ونلبسهم... العشا مفضلش عليه كتير..."
وقبل أن تبتعد مالت.... "ملك" على صالح
تضع قبلة رقيقة على خده بامتنان..
"شكرًا يا عمو..."
لمعت عينا شروق بالدموع وهي تقول بامتنان حقيقي....
"مش عارفة أقولك إيه يا شيخ صالح على كل اللي بتعمله عشنا... ده كتير أوي..."
ردّ بصوتٍ عميق...
"مفيش حاجة تكتر عليكم يا شروق..."
ارتفعت نبضات قلبها بين ضلوعها وهي تنظر إلى عينيه الخضراوين اللامعتين تزداد لمعتهما كلما تلاقت بهما...
هل هذا يعني شيئًا... أم أنها تتوهّم؟!
"بقيتي أحسن؟!.... "
سألها صالح وعيناه لا تحيدان عن بنيّتاها فأومأت برأسها بخفوت....
"الحمد لله... بخير... وعايزة أنزل شقتي تحت..."
سألها عابسًا...
"ليه؟........ أبرار زعلتك؟"
ابتسمت وهي تهز رأسها نفيًا قائلة....
"لا محصلش... هي بتحب النكش صحيح
لكن كلامها كله هزار..."
ثم استرسلت بجدية....
"بس كفاية كده.... أنا تقّلت عليكم أوي..."
عاد يسألها بوجه واجم....
"واحنا حسسناكي بده؟"
هزت رأسها نفيًا...
"لا....... بس..."
قاطعها صالح قائلًا....
"مش هضغط عليكي... نقضي أول رمضان سوا.... وبعدين اعملي اللي انتي عايزاه..."
لم يضغط عليها أكثر فهو يشعر أنه يزيد الأمر تعقيدًا بإصراره على تواجدها هنا كفرد من العائلة...
لماذا تغيّر إلى هذه الدرجة؟!...
كان في السابق يرفض وجودها في بيته ولو حتى في شقة منفصلة... واليوم يسعى بإلحاح لأن تظل في شقته بينما يظل هو بالخارج
ماذا يحدث لك يا شيخ؟!
هل بتّ مسحورًا بها؟!
بامرأة لا تمتّ لك بصلة ولا تشبه طباعك لا
من قريب ولا من بعيد؟!
أخفض رأسه مطلقًا تنهيدة تحمل بين طياتها الكثير...فقالت شروق بلهفة حنونة...
"خير؟!..... فيك حاجة؟!"
رفع عينيه إليها مجددًا وهز رأسه دون أن يضيف كلمة واحدة...
عيناكِ كانت بداية كل شيء بينما عنفوانكِ الأنثوي كان القيد الذي جذبني إلى فخ الهوى...
فهل من خلاص؟.... أم أن الاستسلام لكِ هو تفادي الخسائر؟!.....
.................................
بعد فترة خرجت أبرار من الغرفة متأنقة
ترتدي عباءة بإحدى درجات اللون الأخضر وتلف الحجاب بلفة عصرية تليق بوجهها الصغير الجميل....
ابتسمت عندما التقت عيناها بعينيه المنتظرتين لها...ابتسامة رقيقة كشفت عن نجمتين منقوشتين في منتصف وجنتيها.
بلع ياسين ريقه وهو يملأ عينيه العاشقتين بها وبجمالها المميز وطلّتها البهية....
أما هي فكانت تنظر إليه أيضًا... إلى عباءته البيضاء الناصعة التي ارتداها للصلاة وكيف صفّف شعره الأسود الناعم إلى الخلف وتأنق بعطره الفاخر إحدى سمات الوسامة والجاذبية التي تكتمل في ياسين الشافعي....
قال ممازحًا....
"إنتي وقعتي في طبق ملوخية ولا إيه؟"
كان الهيام والإعجاب يطوف على ملامحها نحوه لكن كل شيء جميل تبخّر بعد جملته السخيفة فقالت بغيظ....
"يا تقل دمك... بجد وحشة.... دي عجبتني
أوي وبالذات لونها تركواز."
عاد يضايقها بأسلوب صبياني....
"تركواز؟! أمال ليه قالب على لون الملوخية؟"
أشاحت بعينيها عنه بضيق...
"دمك تقيل... ممكن تسكت؟"
ابتسم ياسين وهو يقترب منها ومال عليها هامسًا بمداعبة....
"مش قبل ما أتغزل في الجمال اللي قدامي ده... العباية هتاكل منك حتة... إيه الطعامة
دي يا أبراري؟... "
رفعت رأسها بكبرياء وقالت
"عشان تعرف بس حتى لو لبست خيش جمالي يغطي على كل حاجة."
أومأ برأسه مؤكدًا بغمزة مناغشة
"مش محتاجة تقولي..... أنا لماح."
قالت مبتسمة....
"طيب يا لماح اعدل الياقة.... "
رفض وهو يرفع يده ليريها السيجارة بين أصبعيه ثم سحب منها نفسًا طويلًا وقال
"طب اعدليها إنتي... عشان السجارة في إيدي...."
زمت شفتيها الصغيرة باستياء وهي تتقدم نحوه وتضبط الياقة برفق....
قالت متأففة....
"مش ناوي تبطّل الزفتة دي؟ صدرك هيبوظ
يا بابا..."
أغمض ياسين عينيه مستمتعًا بقربها وهمسها الناعم وهمس مداعبًا....
"الله... أحلى (بابا) سمعتها... ما تقوليلي بابا على طول... وأنا أقولك يا نونتي."
اكفهرت ملامحها ولكمته في صدره وهي تزمجر...
"جاك نُووو... اتلمّ إنت بقيت ملزّق بجد!"
فتح عينيه حانقًا وهتف بنفاد صبر
"اللزقة دي البنات بيحبوها... البنات ها؟!"
وقفت في مكانها ووضعت يدها في خصرها بتساؤل ينذر بالخطر....
"يعني أنا مش من ضمن البنات؟!"
هز رأسه نافيًا وقال بغلاظة
"أشك بصراحة... إنتي فاضلك شنب وتبقي حسين صاحبي."
اتسعت عيناها بصدمة وجاشت مراجل الغضب في صدرها واصطبغ وجهها بحمرة كمن صُفعت للتو... كانت كلماته كصفعات قاسية تلقّتها على حين غرّة....
بحثت بعينيها المنهارتين عن أي شيء أمامها وما إن رأت إحدى التحف الثقيلة التي لا تُكسر بسهولة لكنها تفتّت الرأس بالتأكيد حتى قذفتها عليه بكل قوتها.
قال ياسين وهو يتفاداها بأعجوبة متسع العينين بصدمة أقرب للهلع...
"يا بنت المجنونة !"
خرجت شروق على صوت الضجيج متأنقة أيضًا بعباءتها السوداء الجديدة وتلف الحجاب حول وجهها الخالي من الزينة وعاد الكحل الأسود الصريح يحيط بعينيها الجميلتين خالقًا سهامًا حادّة تخترق حصن القلوب دون هوادة.
وقفت شروق حاجزًا بينهما بينما أمسكت ملك بذراع أبرار تحاول منعها من الاقتراب بقدر المستطاع....
قالت أبرار باستياء....
"بقا أنا شبه حسين صاحبك؟!"
هتف ياسين بأسلوب مستفز...
"والله حسين صاحبي فيه أنوثة عنك!"
اتسعت عيناها بصدمة ثم انفجرت ضاحكة بغضب....
"ألوان بقى على كده... مصاحب ألوان!"
هزّ ياسين رأسه وقال بأسلوب جارح...
"لا صحابي كلهم رجالة... بس إنتي أرجل واحدة فيهم.... "
تأففت شروق وهي ترمقه شزرًا
"عيب يا ياسين كده!"
رد بهدوء...
"هي اللي بتزعل من الصراحة... الصراحة بتزعل."
ثم صاح غاضبًا وهو يلوّح بيده...
"اشمعنا دي يا حلوة اللي فهمتيها؟! مانا في حاجات كتير بلمّح ليها بقالي سنين وانتي
طور الله في برسيمه... "
جحظت عيناها بملامح مصدومة...
"أنا طور؟! أنا طور يا شروق سامعة؟!"
ربّتت شروق على كتفها بملاطفة وقالت
"يا حبيبتي ميقصدش... قصده يقول إنك حمارة...."
أبعدت أبرار يدها عنها بانفعال
"حمارة!...... إنتي بتقولي إيه؟!"
أولت شروق ظهرها لياسين ثم نظرت لأبرار وبدأت تغمز لها وهي تعضّ شفتها السفلية
"هفهمك بعدين... معلش هو جاب آخره."
صاحت أبرار باستهجان توزع نظراتها الحانقة عليهما....
"جاب آخره من إيه....و بتغمزيلي ليه إيه
اللي عندك يا ياسين؟!"
زمجر ياسين بوجه محتقن...
"أقول؟!...... أقول واطلّع اللي جوايا؟!"
أوقفته شروق بنظرة حادة محذرة...
"الحاجات دي مبتطلعش كده يا ياسين."
توقفت أبرار مفكرة لوهلة ثم قالت
ببلاهة....
"تكونش اتجوزت ميار من ورانا؟!"
صاح ياسين وهو يخبط رأسه في أقرب
حائط بغليان....
"لسه بتقولي ميار... لسه بتقولي ميار!!"
صرخت شروق بخوف عليه ونظرت إلى
أبرار شزرًا....
"اهدوا ونبي الواد اتجنن... منك لله."
رفعت أبرار شفتها العليا باستياء وقالت
"أنا عملت إيه؟! هو اللي بيلعب ببنات
الناس... يستاهل."
خرجت الجدة على صوت الضجيج تسأل بنظرة غاضبة
"إيه الغاغة اللي إنتوا عاملينها دي.. مش هتروحوا تصلوا؟! صالح اتصل ومستنيكم تحت."
سألتها شروق...
"مش هتيجي معانا يا خالتي؟"
ردّت الجدة عليها بحنو....
"لا مش هقدر يا شروق أنا هصلي في البيت. متعودة على كده. روحي إنتي مع أبرار ربنا يتقبل منكم يا رب."
ثم نظرت إلى حفيدها بوجهه ابمحتقن والعابس بشدة... فعقدت حاجبيها وسألته
"مالك يا ياسين؟!"
قال باقتضاب....
"مليش... أنا هسبقكم."
ضربت الجدة كفًّا بكفّ وسألت حفيدتها المتجهّمة...
"قوليلي إنتي في إيه يا أبرار؟! كنتوا بتتعاركوا صح؟!"
قالت أبرار بانفعال وهي تخرج من باب الشقة
"لما أرجع هقولك عمل معايا إيه... والله لو ما جبتيلي حقي منه هقول لبابا عليه... "
كانت تنزل على الدرج خلفه مباشرة وبمنتهى العصبية دفعته ليبتعد من أمامها....
فتوقف ياسين أمامها وهو يصيح بغيظ
"متزقيش يا بت.. هتوقعيني من على السلم"
قالت أبرار بنظرة شريرة...
"اللهي تقع وتتفتح دماغك!"
ابتسم ياسين بسمة سفاح وهو يضم قبضته أمام وجهه مهددًا...
"ولما أديكي بونية أطير مناخيرك الكبيرة دي؟!... "
أطلقت شهقة عالية وقالت بتجريح...
"مناخيري أنا؟!... يا أبو ودان قد طبق الدش"
ابتسم ياسين قائلاً بزهو.....
"يا بت ده أنا مفيش حد في حلاوتي ولا وِسامتي... دا البنات بيقطعوا بعض عليا برّا!"
لوحت بيدها باستنكار ساخر...
"فين ده؟! ده أنا ماشوفتلكش غير ميار
وكام بنت أدوك بلوك... "
وقبل أن يرد عليها بأسلوب لاذع أتت شروق ومعها ابنتها. وأشارت لهما بهدوء كي يبتعدا ليتابعا طريقهما على الدرج
"عدّونا بس كده وكملوا عراك."
ابتعدا عن الطريق فعلًا وتابعت شروق طريقها دون تدخل مما جعل أبرار تصيح بغيظ....
"عجبك كده؟!... فضحتنا قدام اللي يسوى
ولا ما يسواش... "
غمغمت شروق وهي تهز رأسها دون أن تكلّف نفسها عناء الرد على تلك الطفلة المشاغبة التي اتضح أن ملك ابنتها تفوقها عقلًا وحكمة !....
(فعلاً... ما ينوب المخلص غير تقطيع هدومه).
بينما هدر ياسين وهو يلكز أبرار في كتفها
"ما كله منك... يا أم لسانين بتفهمي اللي
على مزاجك... "
"براحة ياملك هتوقعيني....."
قالتها شروق وهي تترك يد ابنتها التي سبقتها ثم وقفت بجوار صالح....
رفع صالح عينيه الخضراوين نحوها وكذلك فعلت شروق وهي تنزل آخر درجة من السلم.
وكأن الزمن توقّف للحظة وهو يتأمل حُسنها الطاغي...
قد طغى حضورها على كل شيء من حوله فوقف مكانه مشدوهًا عيناه متعلقتان بها
لا تنويان الابتعاد...
"بسم الله ما شاء الله..."
توردت وجنتا شروق وهي تسمع هذا التعليق
الساحر... وتعثرت خطواتها مرتبكة من نظراته التي لا تغادرها...
"حاسبي..."
قالها صالح منبهًا إياها بخوف وهو يتمعّن النظر فيها بعد أن اقتربت منه.
كان بهاؤها خالصًا وملامحها تأسر القلب خصوصًا تلك العينين الكحيلتين...
انعقد حاجباه بشدة وهو يرى الكحل يرسم حدود عينيها ويزيدها جمالًا...
"اتأخرنا عليك؟"
قالتها شروق بسؤال خافت محاولة تهدئة تلك الحرارة المتوهجة في وجنتيها...
هتف صالح بنبرة خشنة...
"ليه حاطة كُحل في عينك؟... إحنا قولنا إيه؟"
تلعثمت شروق في الرد...
"أصل... أصل بحس إن عيني وحشة من غيره..."
تجهمت ملامحه أكثر وقال بسخط...
"وانتي عايزة تحلي شكل عينك ليه؟ إنتي رايحة تصلي... ولا رايحة فرح؟!"
صعدت الغصّة إلى حلقها فجأة فكادت تخنقها وقالت دون أن تنظر إليه...
"تحب أطلع أمسحه؟..."
جاءت أبرار عليهما تقول بوجه مكفهر...
"يلا بينا يا بابا... الصلاة بدأت..."
وبّخها صالح وهو يوزع نظرات الغضب بينها وبين ياسين...
"ما كلو منكم... كنتوا فين كل ده؟!"
نظر الاثنان إلى بعضهما ولم يردّا
تقدم صالح أمامهم فلحق به ياسين وسارت شروق وأبرار بجوار بعضهما وملك تمسك بيد أمها....
زمت شروق شفتيها وكبحت غضبها وهي تغمغم سرًّا...
(وهو ماله أصلًا؟)
ليتها قادرة على قولها له...
فهي تكره تلك التحكّمات الذكورية لكن ضعفها ما زال يقيّدها. متى تتخلص من سطوة الرجال عليها وتصرخ بـ لا...
تركت حذاءها في الخارج وخطت أولى خطواتها إلى هذا المكان..
تسللت السكينة إلى قلبها مع عبق رائحة طيبة تداعب أنفها...
مكان هادئ بعيد عن صخب الحياة ومتاعبها يعمّه السلام والطمأنينة...
تشعر أن وجودها بين جدران المسجد يعيد تشكيل النفس براحة وسلام.
سجدت مع الساجدين وأغمضت عينيها في لحظة سكون وإيمان بالله...نزلت دموعها على سجادة الصلاة والقلب يدعو دون توقف
يُلحّ في الطلب... بالدموع.
..............................................................
رفع كوب الشاي إلى فمه أخذ رشفة ساخنة منه ثم أنزله ورفع عينيه إلى شاشة العرض الكبيرة في قهوة السوق ليلًا حيث تُعلن
الرؤية أن غدًا أول أيام شهر رمضان...
ابتسم سلامة ابتسامة حزينة تقطر مرارة كالعلقم في حلقه وهو يسمع سعادة البعض على القهوة بحلول الشهر الكريم...
هو لا يحب هذا الشهر!!
هل يتم تقييده كالشيطان؟!...
رغم أنه اعتاد الوحدة واليُتم منذ الصغر إلا
أن هذا الشهر يجعله أكثر وحشة وظلمة...
في النهار يعود من العمل مبكرًا يُعد العصير والطعام وأحيانًا يشتري شيئًا جاهزًا وسريعًا
لا يُعد وجبة كاملة لكنه يفعله كي ينهي الأمر...
ثم يجلس أمام الطعام بشهية مفقودة وحيدًا ينظر إليه بنظرة فارغة من الحياة بينما يسمع الأذان دون أن يصيبه أي شعور بالبهجة...
الجميع لديه عائلة إلا هو...
هو من بين فئة صغيرة لا تُرى بالعين المجردة يسمّونهم "أولاد حرام"...
لا يحق لأمثالهم العيش أو تكوين أسرة...
وإن حدث فعليهم أن يختاروا أشخاصًا ظروفهم أسوأ حتى يكون هناك تكافؤ بينهما !...
لا يحق لأمثاله أن يطمحوا إلى الأعلى وإن حدث فلا يلومنّ إلا أنفسهم فالعذاب وشقاء القلوب نهاية المطاف...
فالحكايات الوردية الخيالية لا تناسب هذا العالم ولا حبهما يليق به...
فرك مؤخرة عنقه بغضب فقد بات شعره الطويل يزعجه أكثر من اللازم...
أخرج تنهيدة طويلة بملامح مكفهرّة لماذا كلما نسي الأمر عاد إلى نفس النقطة؟ هل سيظل يعيش في تأنيب الضمير والعذاب النفسي طالما يتواصل معها؟...
ماذا عساه أن يفعل؟...
إنه يعشقها بجنون ويتمنى أن تتبدل الحياة وتضحك له الدنيا ولو لمرة واحدة...
لكن ابنة الكئيبة تبتسم في وجوه الجميع وتأتي عنده وتوصد بابها على أنفه...
نظر إلى السماء مناديًا فليس له سواها...
"حلها من عندك يا رب..."
"كل سنة وإنت طيب يا سي سلامة..."
أتى هذا الصوت الأنثوي الصغير مخرجًا إياه من ظلمات أفكاره...
تهللت أساريره بالفرح عندما رآها فقال بود...
"وانتي طيبة يا وزة... عاش من شافك..."
ضمّت الصينية إلى صدرها وهي تقول بنفس البسمة المتألقة...
"عاش من شافك إنت! من ساعة ما سي أيوب مشي من السوق وإنت معاه لا حس ولا خبر... نِسيتونا ولا إيه؟"
نهض سلامة عن مقعده واقترب منها وأمسك ذراعها ليبعدها عن القهوة التي تعجّ بالرجال ثم أجابها بعد أن سحب يده عنها...
"مشاغل والله يا عزة... منقدرش ننساكي... المهم إنتي عاملة إيه؟ لسه واقفة على نصبة الشاي؟"
لم تغب ابتسامتها وهي تقول بنبرة مرهقة مستاءة....
"هو أنا ليا غيرها أهوه واقفة وخالتي بقالها جمعتين بتنزل تساعدني... أصل بعيد عنك اتحرقت إيدي من أسبوعين الغلاية وقعت عليا..."
قال بنبرة متلهفة وهو يسحب يدها المصابة لينظر إليها....
"لا ألف سلامة عليكي... وريني إيدك خفت؟"
أحست عزة بقشعريرة قوية سرت في جسدها وهي تترك له يدها ببلاهة بينما قلبها على غير هدى وعيناها متعلقتان به هائمتان.....
قالت بصوتٍ متحشرج....
"آه مع المراهم بقت أحسن هتاخد وقت بس هتسيب علامة..."
ترك سلامة يدها قائلًا بشفقة...
عليه أن يعترف... ان لا أحد يثير شفقته مثل تلك الفتاة وحياتها التعيسة.... مثله تمامًا !
"إمتى ترتاحي من المرمطة دي؟ مش ناوية تتجوزي؟"
ضحكت عزة وهي تتحسس يدها من مكان لمسته قائلة بسخرية...
"وهو في حد عدل دق بابي وقلت له لأ؟ كل اللي بييجي يا جاي عايز عُرفي ياخد غرضه كام شهر ويرميني...
يا إما يكون صايع وحشاش وعايزني أطلع أشتغل وأصرف عليه... هو أنا بتجوز عشان أريح نفسي ولا أتعبها أكتر؟"
زاد شعور الأسى في قلبه نحوها فقال
يواسيها بنبرة حانية...
"معلش... اصبري يمكن ييجي الراجل اللي يسترك ويعرف قيمتك...إنتي بنت حلال يا
عزة وتستاهلي كل خير..."
نظرت إلى الأرض بحرج وهي تقول...
"ادينا مستنين صاحب النصيب... وسي أيوب عامل إيه؟ بتشوفه؟"
ردّ عليها بهدوء...
"أيوب زي الفل..... أنا على طول معاه..."
قالت عزة بمحبة...
"والله ليه وحشة أوي... السوق بقى ضلمة
من غيره..."
ردّ سلامة مبتسمًا....
"هو نفسه يرجع والله... يخلص المصلحة اللي في إيده وهنرجع لكارنا تاني بس على تقيل... ادعيلنا يا وِزّة..."
انطلقت الفرحة من عينيها قبل أن تنتشر على وجهها المُرهق...
"بِسم الله ما شاء الله... ربنا يزيدكم من فضله...إنتوا ولاد حلال والواحد ما شافش منكم غير كل خير..."
ثم اختنقت عباراتها قليلًا وهي تقول بامتنان حقيقي...
"أنا عمري ما أنسى... أول ما دخلت السوق هنا وفتحت نصبة الشاي الكل بقى يلسن عليا ويوقفلي في الراحه والجاية إلا إنتوا...
وقفتوا معايا كأنكم إخواتي لحد ما
خدت وضعي في المكان..."
مدحها سلامة محاولًا رفع الحرج عنها...
"إحنا ما بنعملش كده غير مع الناس الجدعة بس...وإنتي بت بمية راجل وتستاهلي الخير كله..."
قالت بخفوت:
"ربنا يجبر بخاطرك يا سي سلامة..."
صدح هاتف سلامة فنظر إلى الشاشة ورأى رقمها ينيرها...
أشرق صدره بالسعادة وأشار إلى عزة بالوداع ثم أولاها ظهره ورفع الهاتف إلى أذنه هامسًا بنبرة خاصة لم تسمعها منه يومًا....
"آي..... يا حبيبتي..."
وقعت الصينية من بين يدي عزة وأصدرت ضجيجًا عاليًا على الأرض...
ومع ذلك لم يلتفت سلامة لها ولو لمحة بسيطة وكأنه انعزل في عالمٍ آخر بعيدًا عنها وعن الجميع...عالمٌ يضمّه هو فقط... وحبيبته...
هبطت دموع عزة وهي تنحني لتأخذ الصينية عن الأرض بجسد خارت قواه فجأة وكأن الكلمة وقعت عليها كالصاعقة...
همست بصوتٍ أجوف أتى من أعماق قلبها الجريح بعدم تصديق....
"حبيبتك؟!..."
كانت تسير في الشارع بخطوات ثقيلة وعيناها فاقدتان بريقهما فجأةً حزينتين متألمتين...
وعندما وصلت إلى نَصبة الشاي جلست على أقرب مقعد قابلها بتعب وحزنٍ صامت على غير عادتها...
في البداية لم تنتبه خالتها إلى تلك الحالة التي يُرثى لها وقالت....
"كويس إنك جيتي يا عزة... القهوة على النار أهيه تخلص تروحي توديها للمعلم ضاحي بتاع الأحذية..."
وحين لم تجد منها ردًا نظرت إليها لترى تلك الحالة فرفعت حاجبها متوجسة....
"بِت يا عزة... مالك يا بت؟"
ردّت بصوتٍ شبه ميت...
"مفيش يا خالتي... خلّصي القهوة وأنا هوديها..."
"قهوة إيه... إدي القهوة مش وقتها... يبقى يطفحها بعدين..."
اقتربت منها خالتها وسحبت مقعدًا وجلست بالقرب منها تسألها بقلق...
"مالك يا بت؟... جاية وشك مقلوب كده ليه حد من المعلمين لسّن عليكي بكلمة؟"
ترقرقت الدموع في عينيها مجددًا وقالت بانفعال...
"قولتلك يا خالتي مفيش..."
لكزتها خالتها في كتفها والقلق ينبش في أحشائها....
"بتعيّطي ليه يا حزينة؟!... يا بت انطقي"
قالت بصوتٍ مختنق بالبكاء...
"سلامة طلع بيحب يا خالتي..."
عقدت الخالة حاجبيها باستفسار ودهشة...
"سلامة مين؟!..... سلامة الحرامي؟!"
هتفت عزة وهي تنتحب بشدة...
"مسمهوش سلامة الحرامي... اسمه
سلامة بس... "
ارتفعت شفتا الخالة معقّبة باستهجان
وتقريع حاد...
"سلامة بس ياختي اتنَيلي وانتي زعلانة أوي كده ليه ما يحب ولا يتجوز حتى إحنا مالنا"
همست من بين دموعها وأنفاسها المتقطعة
"إحنا مالنا إزاي ما أنا قايلالك إني بحبه..."
ضربت الخالة على صدرها بصدمة تشعر أنها ستُصاب بنوبة قلبية من تلك الغبية...
"بتحبي الحرامي يا مايلة؟!... سايبة رجالة السوق كلهم وبتحبي خريج الإصلاحية... اللي ساكن في أوضة فوق السطوح انتي غاوية
فقر يا بت؟!"
مسحت دموعها بظهر يدها وقالت بعدم اهتمام...
"وماله أحط فقره على فقري... ونبدأ من الصفر..."
عقبت الخالة بسخط كبير....
"صفر إيه اللي تبدأوا منه؟!... ده انتوا
تحت تحت الصفر.... "
تململت عزة بعصبية وهي تصيح...
"يا خالتي بلاش تريقة لحسن نقوم ونسبلك الدنيا كلها ونمشي !"
سألتها ببرود...
"هتمشي تروحي فين يا مايلة؟"
قالت بتهديد...
"هنرمي روحي في البحر... "
حرّكت الخالة شفتيها يمينًا ويسارًا متبرّمة وقالت
"يبقى هترجعيلي مبلولة... البحر ما بيخدش الفقري.... وانتي طول عمرك فقر... "
تركتها خالتها وعادت إلى مكانها تُعد القهوة فسألتها عزة بخوف وهي لا تزال على وضعها
"تفتكري هيتجوز قريب؟"
سخرت منها الخالة قائلة
"يتجوز هو لاقي ياكل؟!... اتوكسي تلاقيه بيتسلى بيها..."
قالت بلهفة حزينة...
"يعني هيرجعلي تاني يا خالتي؟"
صفعت الخالة خدها بحسرة وقالت بتوبيخ
"هو كان معاكي عشان يرجعلك... يا بت فوقي وبصي حواليكي... السوق مليان معلمين الواحد فيهم يعيشك برنسيسة...ويطلّعني أنا وانتي من الفقر اللي موحلين فيه ده.. "
زمت عزة فمها بكراهية...
"يا سلام....ده كل معلم من دول متجوز اتنين وتلاتة عايزاني أدخل على ضرة؟!"
ثم استأنفت الحديث بمرارة...
"وبعدين مفيش حد بص ليا غير اتنين
واحد عايز يتجوز في السر...والتاني عايز يتسلى بيا..."
قالت الخالة بملامح واجمة غير راضية أبدًا...
"ما هو طول ما انتي لابسة العباية السودة
دي وسايبة وشك باهت كده ومفيهوش نقطة مكياج حالك هيفضل واقف...آه لو تتلحلحي هتوقعي أكبر شنب في السوق.... وهتشوفي العز وأكل الوز... "
رفضت عزة وهي تهز رأسها بعصبية...
"مش عايزة حاجة... أنا عايزة سلامة ياخد
باله مني... "
نظرت الخالة الى السماء داعية بحرقة...
"يا رب يفضل معمي عنها العمر كله يا رب..."
اندفعت عزة واقفة في مكانها وهي تقول بعذاب...
"يا خالتي حرام عليكي بقولك بحبه..بحبه.. "
"حبك برص يا مايلة خدي القهوة للمعلم ضاحي بلا حب بلا دلع مرق..."
أشارت لها على فنجان القهوة بنظرة حازمة فزمت عزة شفتيها وهي تضعه على الصينية وتتحرك بها على مهل بملامح متجهمة وقلب مضطرم بنيران الهوى وعذابه...
شعرت بأن خفقات قلبها تصل إلى عنان السماء بعد كلمتين قالهما أول ما فتح الخط....
"إيه... يا حبيبتي..."
بللت شفتيها وهي تستريح على الفراش بمشاعر تنصهر بحرارة العشق بين أحرف الكلمة...
(حبيت أكون أول واحدة أقولك كل سنة
وانت طيب...)
أجابها وهو يصعد درجات السلم الطويلة وصولًا إلى السطح لأنه ممنوع من استخدام المصعد كغيره من سكان العمارة بسبب عدم دفعه فواتير الصيانة...
لذلك بدلًا من أن يصعد بضع درجات يصعد أحد عشر طابقًا...
"مش أول واحدة... عزة سبقتك..."
انتفضت في نومتها جالسة وتبددت كل مشاعرها العاطفية ليحل مكانها الغضب والغيرة...
"عزة؟!...... مين عزة؟!"
التقط نبرة صوتها الحانقة والغيرة التي تفوح منها فقال بعبث....
"واحده حلوة أوي..."
ظن أنه سيسمع صرختها وغيرتها عليه لكنها فاجأته بإغلاق الهاتف في وجهه ورنين الإنهاء يصفع قلبه المتلهف...
"قفلت السكة... يا نهار اسود..."
أعاد الاتصال بها مجددًا بإلحاح شديد... مرة اثنتان... عشر مرات... حتى وصل إلى السطح وألقى بنفسه على الأرض بتعب أسفل البساط الذي يفترشه أحيانًا هناك ثم ظل ينظر إلى السماء المظلمة ونجوم الامعة منتظرًا ردها...
حتى جاء بعد معاناة صوتها المختنق بالبكاء:
(عايز إيه مني؟... إياك تتصل بيا تاني... خليك مع عزة بتاعتك...)
هتف معتذرًا...... "أنا بهزر..."
سألته من بين نحيبها...
(يعني مفيش عزة؟!)
هتف بسرعة موضحًا...
"لأ فيه... بس استني ما تقفليش دي بنت غلبانة شغالة على نصبة شاي في السوق لما لقتني قاعد على القهوة قالتلي كل سنة وانت طيب عشان كده بقولك انك مش أول واحدة قالتها..."
قالت بتبرم....
(ولما قولت إنها حلوة؟...)
قال سلامة بصوت أجش....
"مفيش حد أحلى منك يا نهاد ولا عيني تقدر تشوف غيرك... أنا بس كنت عايزك تغيّري..."
اعترفت نهاد بنبرة حزينة....
(بس أنا غيرتي عذاب ليا مش لحد... أنا مش هستحمل أشوفك مع أي حد يا سلامة... ده ممكن يموتني...)
هتف بفزع وهو يحاول إرضاءها...
"بعد الشر عليكي يا دكتورة... وأنا أقدر
أبص لحد غيرك؟!"
قالت بشجن...
(توعدني يا سلامة؟...)
سألها بعدم فهم... "أوعدك بإيه؟"
قالت باختناق...
(إنك متكونش لحد غيري...)
أتى صوته خائفًا أكثر منها... لكن ليس منها
بل من المستقبل وخفاياه...
"المهم... إنتي اللي متكونيش لحد غيري..."
رفضت الفكرة مبتسمة بسخرية...
(مش هقدر طبعًا... ده من رابع المستحيلات...)
سألها بحنو...... "لسه زعلانة؟!"
أومأت مؤكدة......(أيوه...)
هتف بحرارة محاولًا إرضاءها...
"طب أصلحك إزاي؟"
قالت مبتسمة...
(عايزة هدية...)
هتف بسرعة دون تردد....
"اطلبي وأنا أجبها لك حالًا..."
قالت نهاد بصوتٍ رقيق...
(فانوس خشب صغنّن في ميدالية ويكون عليه حرفي وحرفك...)
هتف مستنكرًا..... "إنتي عايزة تكشفينا؟!"
دون اكتراث قالت...
(عادي لو حد خد باله هقول إنها هدية من واحدة صاحبتي...)
أطلق سلامة تنهيدة حارة وهو يقول بهيام..
"طلباتك أوامر يا دكتورة اعتبريها عندك... بس هبعتها إزاي... "
قالت بجرأتها المعهودة...
(لما أشوفك...)
سألها ببلاهة...
"وإمتى هتشوفيني؟!"
ضحكت وهي تقول بشقاوة...
(رمضان ٣٠ يوم ولازم أفطر معاك يوم...)
برقت عيناه بالسعادة وهو يسألها بتلهف...
"بجد يا نهاد؟.... هتفطري معايا في يوم؟!"
رق قلبها إليه أكثر وهي تقول بنبرة حنونة كأم تربّت على صغيرها بعطف لا ينضب داخلها...
(بجد يا حبيبي... بس على البحر... هطبخلك بإيدي عشان تعرف إني ست بيت شاطرة...)
سألها وخفقات قلبه تعلو بشدة بين
أضلعه...
"إنتي قولتي بجد يا... إيه؟"
لم تدلل عليه بل قالت بصوت رقيق يحمل حب وحنان العالم ليغرق فيه....
(يا حبيبي...)
تأوه بتعب وهو يضع يده على صدره...
"آه يا نهاد... قوليها تاني..."
قالت بمشاعر فياضة....
(حبيبي... وكل حاجة ليا...)
سيطرت عليه المشاعر بشدة فقال لها بنبرة عاشق متيم....
"إنتي اللي حبيبتي ونور عيني..أمي وأختي وصاحبتي وكل حاجة... بحبك... بحبك أوي..."
لمعت عيناها بالدموع بعد سماع كلماته والامتنان المختلط بالحزن في نبرة صوته فقالت بعطف....
(أنا كمان بحبك... سلامة خد بالك من نفسك وبلاش تنسى تتسحر... ولو هتنام قولي وأنا أصحيك على وقت السحور...)
قال بصوت خافت مذاقه كالصدى على
شفتيه...
"هستناكي تصحيني...أهو حتى أحس إني مش لوحدي..."
قالت نهاد بمناغشة محاولة تبديد هذا
الحزن....
(لو عليا... عايزة أجي أتسحر وافطر معاك ومسبكش لوحدك أبدًا... بس إنت عارف اللي فيها...)
رد عليها وهو ينظر إلى السماء داعيًا بعينيه قبل قلبه....
"بُكرة حلمنا يبقى حقيقة... بس ساعتها هشتريلك أحلى شقة في إسكندرية على البحر... مش أوضة فوق السطوح..."
قالت نهاد بتحفيز...
(أنا راضية بأي حاجة معاك... بس تتعلم...)
بلع مرارة الهزيمة أمام المستحيل وقال
بوعد يصعب الوفاء به....
"حاضر... هتعلم... هعمل كل اللي إنتي عايزاه..."
ومن منا لم يختر الحب ويتشبث به؟...
من منا لم يقف في وجه المستحيل متحديًا كل الصعاب؟....
حاولنا... وحاولنا... حتى صار السعي خلفه وهمًا لكننا تمسكنا به كأمنية وحيدة لا نتمنى سوى تحقيقها !..
.............................................................
وصلت إلى المشفى وسارت في الرواق بخطوات أنيقة تقرع الأرض بكعب حذائها العالي...
كعادتها تتأنق في طقم أنيق من اللون الأبيض وتترك شعرها منسدلًا على ظهرها بجمالٍ....
كانت تخفي معظم ملامحها بنظارة سوداء...
يظهر الحزن والضيق على ملامحها فمنذ يومين لم يتبادلا الحديث يواصلان العمل
في صمتٍ جاف...
يلتزم هو الصمت والنظرات المعاتبة بينما هي توَدّ الانفجار في وجهه مما بدر منه تجاه "جيداء" التي وجدتها منهارة عندما دخلت عليها بسبب سوء معاملة أيوب لها...
قالت جيداء بانفعال شديد:
(ده عايز يوقع بينا يا نغم... مش شايفة كلامه؟)
لكن نغم وقفت مكانها تحدثها بمنتهى
الهدوء...
(أكيد ميقصدش.... انتي كمان بتتعمدي تقللي منه يا جيداء وده مش صح.... أيوب إنسان ناجح في شغله وموهوب... المفروض نقول كلام يشجّعه..... مش يحبطه.)
ارتفع حاجب جيداء واتسعت حدقتاها وهي تقول بضجر...
(انتي بتدافعي عنه جامد أوي كده ليه انتي مقتنعة أصلًا إنه ممكن يكسب في المسابقة دي؟..)
قالت نغم ببساطة....
(وليه لا؟...)
تبرمت جيداء بعناد....
(وليه آه؟)
فقالت نغم بقوة....
(بس أنا واثقة فيه.)
هاجت مراجل جيداء بالغيرة والحنق
وقالت
(تثقي في مين؟....... في الحرامي؟)
رمقتها نغم بضيق معاتب...
(دي غلطتي إني حكتلك. وبعدين أيوب مش حرامي... ده كان سوء تفاهم وانا حكيتلك كل حاجة وقتها.)
هزت جيداء رأسها بعصبية وهي تتحدث بشراسة محتدة
(مفيش حد عاقل يصدق إنه كان سوء تفاهم بعد ما نطّ على الفيلا بتاعتكم!.... وبدل ما تحبسوه ترقّوه من بودي جارد لمصمم أزياء في شركة كبيرة زي دي... مكنش يحلم يعدّي من جنبها.... بجد أنا مبقتش فاهمة... إيه آخر العبث ده؟!....)
أطلقت نغم زفرة استياء وهي تقول بملل...
(انتي أعصابك تعبانة... خدي إجازة كام يوم لحد ما تهدي... وبعد كده نتكلم ونتحاسب
على اللي قولتيه.)
هبت جيداء واقفة تصيح بحِمية...
(واسيبك في الشركة لوحدك معاه يستفرد بيكي؟!.... لا يمكن يا أنا يا هو واختاري يا نغم... واحد منّا يفضل هنا.)
زجرتها نغم بغيظ....
(لا ده انتي اتجننتي رسمي)
قالت جيداء بصدمة...
(اتجننت عشان خايفة عليكي منه..)
أغمضت نغم عينيها بعصبية لعدة لحظات تعد من الواحد إلى العشرة ثم فتحت عينيها وقالت بصبر....
(اتجننتي عشان أنا محتاجة لأيوب معايا في الشركة أكتر من أي حد تاني الشركة بتقع يا جيداء وبابا محجوز في المستشفى وممنوع من أي إجهاد... يعني لا هيقدر يشتغل ولا هيقدر يمشي التيم حسب المطلوب... ومفيش حد هيعمل كده غير أيوب...)
سألتها جيداء بسخط...
(يعني انتي مخلياه عشان المسابقة والشركة؟)
أومأت نغم مؤكدة.... بارتباك خفي..
(أمال عشان إيه؟..... دماغك راحت لفين؟...)
قالت جيداء دون مواربة..
(انتي ميالة له يا نغم... وشكلك بتحبيه.)
أبعدت نغم عينيها عنها بتوتر وقالت
بتلعثم
(حب إيه بس؟!.... أنا مفيش حاجة تهمني دلوقتي غير الشغل... الشغل والمسابقة وبس...)
هل حقًا هذا كل شيء؟
أم أنها ما زالت تكابر وتكذب على مشاعرها رغم أنها باتت مكشوفة أمام الجميع... وخصوصًا أمامه؟....
هو الذي أخبرها بعينيه قبل لسانه أنه لا يعني لها مجرد حارس شخصي... ولا مجرد منقذ لشركة والدها...
بل يعني لقلبها أكثر من ذلك بكثير....
وفي اليومين اللذين خاصمها فيهما اكتشفت أنها ليست بخير في غيابة...
بدونه تشعر بأنها طفلة تائهة في زحام الحياة.
أصبح يعني لها كل شيء وكل يوم تتسع مشاعرها ويزداد تعلّقها به...
فأين الخلاص من قيدٍ يحكمنا؟...
وقفت أمام غرفة والدها وضعت يدها على مقبض الباب وقبل أن تدلف سمعت صوت ضحكاته مع شخصٍ ما...
طلت برأسها وقالت بشقاوة....
"عيني عليك باردة... إيه صوت الضحكة الحلوة دي.... "
أشار لها والدها مبتسمًا وهو يجلس على الفراش....
"تعالي يا نغم..... اتأخرتي عليا ليه؟"
أعطت أيوب نظرة جانبية....وكان يجلس بالقرب من سرير والدها يتحدث معه وعلى ساقيه طبق صغير من التفاح يبدو أن والدها كان يتناوله وأيوب يساعده على ذلك وسط بعض الأحاديث الفكاهية.
اشتاقت إلى الحديث معه... والشوق أضنى قلبها....
بلعت ريقها وهي تقول...
"معلش غصب عني... ما أنت عارف الشغل
في الشركة."
أشار والدها إلى أيوب بفخر....
"طب ما أيوب شغال في نفس الشركة وقاعد معايا بقاله ساعتين... "
جزّت نغم على أسنانها قائلة له...
"مقولتش يعني يا أيوب إنك جاي؟"
رد بأسلوب جاف....
"وإنتي مقولتيش إنك هتيجي."
وزّع كمال النظرات بينهما متسائلًا...
"إنتوا زعلانين ولا إيه؟!"
رد أيوب عليه بخشونة...
"ربنا ما يجيب زعل يا باشا... إحنا كل اللي بينا شغل وطالما الشغل تمام... يبقى إحنا تمام."
هتف كمال معترضًا...
"كلامك ده بيأكدلي إنكم زعلانين. في إيه يا نغم؟"
قالت بوجه محتقن....
"مفيش حاجة يا بابا.... "
عاد كمال يسأل أيوب...
"قولي انت يا أيوب.. إنت مش بتخبي عني حاجة.... "
دبت الأرض بحذائها هاتفه بغيرة...
"وكأنه هو اللي ابنك مش أنا... "
ضحك كمال.... بينما قال أيوب بتهكم...
"نغم هانم زعلانة على صاحبتها... زعلانة إني بقولها تحذر منها... لأنها مش مريحة."
صاحت نغم منزعجة...
"برضه هتعيد نفس الكلام؟!... جيداء دي أعرفها من قبل ما أعرفك... "
عبس أيوب قائلاً باستنكار...
"مش هتفرق تعرفي مين فينا الأول... المهم مين اللي عنده أصل وبيحبك وخايف عليكي."
ظهر التوتر في عينيها وهي تسأله بحدة...
"وإنت بقى بتحبني وخايف عليا؟!"
أومأ مؤكدًا وهو يقف أمامها بطوله المربك لكيانها... وسطوة عينيه تخلق شعورًا آخر كلما تلاقت أعينهما ولو في لمحة خاطفة....
"لو مش كده هحذرك منها ليه احضرنا
يا باشا..."
تحدث كمال بنبرة مرهقة...
"أيوب عنده حق... أنا طول عمري مش برتاح للبنت دي وقولتلك زمان أيام الجامعة إن البنت دي بتغير منك.... وابعدي عنها."
أبعدت عينيها عنه بصعوبة وقالت بدفاع...
"جيداء ما عملتش حاجة غلط يا بابا... وبعدين دا كان زمان... دلوقتي هي بتخاف عليا أكتر من نفسها."
هتف أيوب بحدة يخبرها للمرة الألف بما رآه منها....
"أمال أنا ما شوفتش ده ليه؟!.. دي كانت قاعدة بمنتهى البرود وشايفة العربية هتخبطك وما اتحركتش من مكانها... "
قالت بتردد...
"أكيد ما خدتش بالها..."
تأفف أيوب وشدد على كلماته بنفاد صبر...
"إنتي اللي مش واخدة بالك من اللي حواليكي... إنتي محطوطة في حوار كبير... وبقت روحك وروحي على كف عفريت!"
امتقع وجهها بضجر...
"وإنت مالك.... الحوار ده يخصني لوحدي"
أشار بعينيه إليها ثم إلى نفسه...
"الحوار ده يخصنا إحنا الاتنين."
نظرت نغم إلى والدها بعجز حقيقي....
"إنت سامع كلامه يا بابا؟!"
رد والدها بنبرة متعبة....
"اسمعي كلامه يا نغم... أيوب خايف عليكي."
اتسعت عيناها بصدمة وهي تنقل نظراتها بينهما بريبة...
"إنت بجد مش مغلطه؟ وموافق كمان؟! هو فيه إيه بيدور بينكم... ومخبّيين عني إيه.. "
زفر كمال باستياء وهز رأسه بملل...
"مفيش حاجة مخبيينها... كل اللي بيتقال لمصلحتك مش ضدك... وكفاية صداع... أنا تعبت اخرُجوا وسبوني أرتاح."
أغلقت نغم الباب خلفها ثم رمقته شزرًا وهي تجلس على أقرب مقعد....
اقترب أيوب منها وجلس بجوارها سائلاً...
"هتقعدي تستني إيه؟..... أبوكي نام."
قالت نغم بوجوم....
"هستنى الدكتور وأطمن على حالته
أشوف وصلت لفين..."
رد أيوب بصبر...
"أنا سألت الدكتور وطمني... في تحسن
الحمد لله... ومع الوقت هيبقى أحسن."
لم تعقّب على حديثه وظلت تنظر إلى باب الغرفة بملامح مكفهرّة فسألها أيوب...
"هتفطري فين النهاردة؟"
ردت بغلاظة...
"هفطر في أي حتة... شاغل بالك ليه؟"
قال أيوب بنبرة دافئة لينه...
"النهاردة أول يوم رمضان... مينفعش تفطري لوحدك... تعالي افطري معانا."
رفضت بضيق أكبر....
"شكرًا..... مش عايزة."
"متبقاش دماغك ناشفة... سايبك يومين سايقة العوج بس النهاردة مش هسيبك."
استدارت إليه بكليتها تنظر إليه بغضب لا يخلو من العتاب....
"أنا اللي سايقة العوج؟!... ولا حضرتك اللي قالب وشك عليا وكل ما تيجي عيني في عينك تبعدها؟!"
شقت الابتسامة شفتيه وهو يقول بغمزة شقية....
"على كده أنا وحشتك."
هزّت رأسها نفيًا وقالت بارتباك...
"أنا مش بتكلم في كده."
سألها بصوت عذب....
"أمال بتتكلمي في إيه؟"
"فـ..."
توقفت بخجل وهي ترى نظراته تكاد تبتلعها فقالت بتلعثم...
"ممكن بلاش تبص لي كده؟"
توسعت الابتسامة على محيّاه وهو يعقّب بتعب حقيقي...
"بتزعلي لما أبعد عيني... وتشتكي لما أبص
تعبتيني... إنتي عايزة إيه مني؟"
أخفضت نظراتها واجمة وسألت مثله...
"إنت اللي عايز إيه مني؟"
ردّ بصوتٍ أجش...
"هقولك... بس مش دلوقتي. إنتي بقى
عايزة إيه؟... "
قالت دون تفكير...
"مش عايزاك تخاصمني."
أطلق تنهيدة حارة وهو يستغفر الله في نفسه قبل أن يعترف بصوتٍ عميق...
"يعني أنا اللي قادر على خصامك؟! دا أنا كنت في اليومين دول هموت وأكلمك..."
عقدت ذراعيها أمام صدرها....
"آه..... ما كان باين..."
لم يُطِل الحديث معها وهو يقول بتأكيد...
"مقدرش أستغنى والله... قولتي إيه؟
هتفطري معانا؟"
سألته نغم بوجوم....
"وهتقول لمامتك إيه إني جاية أفطر عندكم؟"
أخبرها أيوب مبتسمًا...
"متقلقيش... أنا حكيت لصفصف كل حاجة."
ضاقت عيناها بشك...
"كل حاجة؟!"
نظر لها قليلاً ثم هزّ رأسه معترفًا...
"مش كل حاجة يعني..قولتلها إني شغال في الشركة عندكم وإن موضوع القضية بتاعك خلص..وإن الأمور بقت تمام."
تنهدت نغم بحزن قائلة...
"أنا حاسة إن القضية دي عمرها ما هتخلص... وهفضل عايشة في قلق كده."
هتف أيوب ممازحًا....
"قلق وأنا موجود؟!... دا حتى عيب في حقي."
مشاعر الحزن والقنوط داخلها كانت أكبر من أن ترد عليه بابتسامة صغيرة.
لذلك طمأنها بنبرة حانية واعدة...
"كل حاجة هتبقى تمام طول ما أنا معاكي... بس ابعدي عن صاحبتك دي."
تأففت نغم...
"تاني يا أيوب؟!... "
لم يتراجع أيوب وقال بثبات...
"اسمعي الكلام... وبكرة هتتأكدي إن عندي حق.... "
.....
تولّى أيوب قيادة السيارة وجلست هي بجواره.... شغّل الراديو على صوت القرآن الكريم تخللته بعض البرامج الدينية التي
تأتي في الفواصل....
قال لها أيوب وهو يركز عينيه على الطريق..
"لما بسمع الإذاعة القرآنية بحس إن الزمن واقف عندها هي بس... كل حاجة اتغيرت
إلا هي... خصوصًا في رمضان بيبقى ليها إحساس تاني..."
أومأت له نغم برأسها دون تعليق بينما هو حاول فتح أحاديث معها سائلًا....
"إيه أكتر حاجة بتحبيها في رمضان؟"
اختنق صوتها بغصّة حزينة ولمعة عينيها بالحنين قائلة....
"ماما... ماما كانت أحلى حاجة في رمضان
لما راحت.... مبقاش لأي حاجة طعم..."
قال أيوب بنبرة مواسية حانية...
"ربنا يرحمها... تعيشي وتفتكري... الأم هي عمود البيت... والأب كمان هو السند. ربنا يباركلك فيه."
سألته نغم دون تعبير واضح...
"كانت إيه علاقتك بباباك يا أيوب؟"
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهه تقطر حنينًا وألم الفقد...
"الحاج عبد العظيم... دا كان صاحبي وحبيبي. كنا بنتكلم ونضحك سوا... وحتى لما نزعل من بعض نخاصم بعض كأننا اتنين صحاب مش أب وابنه..... كان حبيبي... ربنا يرحمه."
سألته نغم بتردد..
"الحِمِل تقل عليك من بعده؟"
نظر لها رافضًا وقال بنبرة دافئة محبة....
"إخواتي وأمي مش حِمِل تقيل ولا حاجة بالعكس... أنا اللي محتاج لهم أكتر ما هم محتاجين لي.
العيلة بتكمل بعض يا نغم...مفيش حاجة اسمها مين شال أكتر من مين. كلنا بنكمل بعض وكلنا محتاجين نكون مع بعض."
أومأت برأسها وقد غامت عيناها بالحزن وقالت بمرارة....
"أنا كان نفسي تكون عيلتي أكبر... بابا وماما خلفوني بعد سنين من العلاج والعمليات. عشت لوحدي... قريبنا رغم إنهم كتير بس مفيش حد فيهم كان بيحبنا. كلهم كانوا بيغيروا من بابا ومن كفاحه ونجاحه."
طال نظر أيوب إليها وودّ لو يضمّها ليخبرها أنها لن تكون وحدها بعد اليوم....
قالت بنبرة ضعيفة
"عشت لوحدي... واتعودت على الوحدة لدرجة إن دايرة صحابي كانت محدودة. حتى الحب كنت بتهرب منه..."
أبعد أيوب عينيه عنها بصعوبة بينما تابعت
هي بوهن....
"كنت بتخيل إني ممكن أكون زي ماما... صعب أخلف.... ويمكن معرفش أخلف خالص وأموت لوحدي... بيقولوا إن البنات بتورث علّة أمهاتها...."
ضحك أيوب ساخرًا وهو يخفف من قتامة الحديث بعفوية...
"يا مجنونة... علة إيه بس بكرة تخلفي سبع عيال وطلعي عيني انتي وهما.... "
رفعت نغم حاجبيها بصدمة والتفتت إليه بسرعة متشدقة....
"نعم؟!....وطلع عينك ليه انت مالك بيهم؟!.. "
غابت الابتسامة عن وجه أيوب تدريجيًا واتسعت عيناه بصدمة فقد انتبه للتو إلى
ما قاله وإلى نظراتها المنتظرة لتفسير
مقنع....
صحّح الموقف سريعًا وهو يمازحها...
"أنا مالي صحيح.... أبوهم يتولاهم... المهم إنك هتخلفي سبعة اطمني... "
أبعدت عينيها عنه ونظرت من النافذة
بوجوم....
"وأنت تعرف الغيب؟"
"أستغفر الله العظيم... مين يعرفه؟! أنا بس بتفائل معاكي بدل الغم اللي دخلتينا فيه ده."
"استني هجيب حاجة من هنا."
توقّف أيوب بالسيارة أمام أحد المحلات وظلت نغم مكانها تراقب دخوله ثم خروجه بعد دقائق وهو يحمل علبة هدية أنيقة....
استقل السيارة وشدّ حزام الأمان على صدره ثم وضع العلبة على ساقيها قائلاً بابتسامة جذابة...
"كل سنة وانتي طيبة."
سألته بدهشة....
"دي عشاني؟"
أجابها بغمزة شقية...
"أمال عشاني؟ افتحيها... وقوليلي رأيك."
انطلق بالسيارة بينما مدت نغم يدها نحو شريط العلبة بتردد....
وسرعان ما انعكست الدهشة والانبهار على ملامحها وعينيها الرماديتين البديعتين...
كان في العلبة فانوسٌ نحاسي صغير بواجهات زجاجية ملوّنة تعكس الضوء بألوان الطيف.
محفور على قاعدته اسمها بحروف رقيقة..
حين أدارت المفتاح الصغير على جانبه أضاء الفانوس بنور دافئ خافت يشبه ضوء الشموع في ليلة شتوية ساكنة.....
بدأت نغمة موسيقية قديمة تتسلل منه... كانت لحنًا رمضانيًا مشهورًا....
توقّف الزمن للحظة وهي تحدّق فيه وفي تفاصيله المبهرة...
رغم أن شكله تقليدي لكنه كان جميلًا يبعث الحنين في النفس وكأنه يحمل في جوفه زمنًا ولى مع أصحابه...
همس لها وهو يراقب انبهارها....
"عجبك؟"
نظرت إليه ولمعت عيناها بالدموع وقالت بإعجاب....
"تحفة طبعًا... تفاصيله واسمي ده انت
عملته مخصوص... "
ضاقت عيناها بشك فتنحنح بحرج قائلًا...
"أنا جبت لنهاد وندا زيه... وجيتي في بالي وقتها فوصّيت على واحد ليكي ولسه مخلص."
عادت بعينيها إلى الفانوس وقالت بامتنان....
"بجد شكرًا يا أيوب... حلو أوي. كل سنة
وانت طيب."
مطّ شفتيه ممازحًا....
"أخيرًا افتكرتي إننا في رمضان... وانتي طيبة...."
ابتسمت بخجل فقال وهو يعدل ياقة قميصه
"لما نطلع فوق سيبيه في العربية... عشان مش عايزين سين وجيم..."
ردّت بنظرة جانبية ساخرة...
"وطالما خايف أوي كده... جبت الهدية ليه؟"
هزّ رأسه نافيًا وقال ببرود....
"أنا مش خايف... أنا عليكي انتي مش
هيسألوا حد غيرك..... انتي حرة."
فكّرت نغم قليلًا ثم قالت بتراجع...
"لا وعلى إيه... أنا كده كده هسيبه في العربية... "
عاد يركز على الطريق قائلًا بهدوء...
"إحنا قربنا نوصل... هعدي بس أجيب قطايف وكنافة عشان البنات."
سألته بفضول....
"بتعرف تعملها؟"
ردّ مبتسمًا وهو يتحدث باستفاضة لا تخلو
من الألفة...
"نهاد عندنا أستاذة في الحلويات بتجيب الوصفات من على النت ودلعنا... مرة عملت لنا كنافة بالنوتيلا... ومرة القطايف من غير قلي
حشيتها كريمة ونوتيلا... صفصف يومها كانت عايزة ترمينا من البلكونة... "
ضحك بملء شدقيه فزاد جاذبية مما جعلها تراقبه بفمٍ فاغر وعينين مسحورتين به بينما أضاف....
"عندها قناعة إن طالما القطايف مش مقلية في الزيت... تبقى كده عجينة وهتوجع
بطنكم...."
..............................................................
فتح أيوب الباب بالمفتاح وصاح بصوته الخشن....
"السلام عليكم... معايا ضيفة.... "
"أهلًا وسهلًا بيك...إنت وضيوفك يا بوب. "
قالتها ندى وهي تقترب منه وكانت قد أنهت لتوها صلاة العصر وما زالت مرتدية إسدال الصلاة....
مدّت يدها إلى نغم قائلة بحبور...
"إزيك يا نغم؟.... كل سنة وانتي طيبة."
بادلتها نغم المصافحة وهي تقول بمحبة..
"وإنتِي طيبة يا ندى."
اقتربت نهاد منهما بخطوات سريعة..
"جبت القطايف والكنافة يا أيوب؟"
وعندما انتبهت لوجود نغم اتسعت ابتسامتها بحفاوة وقالت....
"أهلًا يا نغم نورتينا... رمضان كريم."
صافحتها نغم كذلك بمحبة...
"عاملة إيه يا نهاد؟... "
"الحمد لله بخير." ثم أشارت لها على الأريكة قائلة....
"ادخلي استريحي من المشوار."
قال أيوب وهو يعطي أخته الأكياس...
"القطايف والكنافة أهي... أسيبكم مع بعض وأروح أصلي العصر...."
ابتعد أيوب بينما جلست الفتيات معًا فقالت نغم بتلقائية...
"خسيتي أوي يا نهاد عن المرة اللي فاتت... شكلك بترهقي نفسك في المذاكرة."
(ربما هذا تأثير الحب...)قالتها نهاد في نفسها وهي تكتم ضحكتها قبل أن تقول...
"أكيد الامتحانات قربت يدوب بعد رمضان فتلاقيني على أعصابي... عايزة أجيب امتياز زي السنة اللي فاتت...."
قالت نغم بود...
"إن شاء الله... ربنا يوفقك وتحققي كل أحلامك."
قالت ندى فجأة....
"والبوب عامل إيه في الشغل معاكي يا نغم؟"
أجابتها نغم بعينين تلمعان....
"الحمد لله كويس أوي... وموهوب جدًا."
قالت نهاد بنبرة رزينة...
"ربنا يوفقكم... إحنا فرحنا أوي إن موضوع قضية الانتحار اتحل وإن أيوب بيشتغل معاكي في الشركة.... "
قالت ندى بسرعة...
"وماما أكتر واحدة فرحت وارتاح قلبها."
امتقع وجه نغم وقالت باستحياء...
"شكلي كنت عملالكم توتر الفترة اللي فاتت..."
قالت ندى باندفاع دون تفكير.....
"بصراحة... آه. بس أكيد مش إنتي السبب."
رمقتها نهاد بنظرة تحذير...ثم عدّلت الحديث بحكمة....
"ندى قصدها تقول إن اللي إنتي فيه مش بإيدك... وإحنا حبناكي جدًا بعيد عن أي حاجة."
قالت نغم بابتسامة ودودة...
"أنا كمان حبيتكم أوي... كأنكم إخواتي."
هتفت ندى بنبرة لائمة...
"مش كأننا... إحنا إخواتك فعلًا ولازم تيجي تزورينا مش كل شوية البوب يجيبك
بالعافية... اعمليها من نفسك لو مرة... "
جاءت صفية إليهن وأكدت على كلام
ابنتها...
"والله عندهم حق... المرة الجاية المفروض تيجي من نفسك مش محتاجة عزومة..."
وقفت نغم بتأهب وهي تمد يدها قائلة
بحرج...
"أهلًا يا طنط... وحشتيني من آخر مرة."
لم تبادلها صفية المصافحة بل ضمتها إلى صدرها بحنان قائلة...
"وانتي كمان ليكي وحشة... نورتينا يا حبيبتي.... "
فصلت نغم العناق مكتفية بابتسامة فقالت صفية بحفاوة....
"اقعدي استريحي...."
ثم نظرت إلى ابنتها وقالت..
"يلا يا نهاد روحي احشي القطايف... واعملي الكنافة.... "
اعترضت نهاد وهي تنظر إليهن...
"مش هعمل كله لوحدي ندى ونغم يساعدوني..."
عقبت صفية بضحكة لئيمة...
"بلاش نغم... ضوافرها غالية عليها... "
احمر وجه نغم بحرج شديد ثم قالت
نافية...
"لا يا طنط.... أنا ممكن أساعدهم عادي."
قالت ندى بمزاح...
"خليها تساعدنا... أهي تسلي صيامها."
قالت نهاد وهي تبتعد إلى المطبخ...
"آه عشان الوقت يعدي بسرعة... أنا هجيب الحاجات اللي هنحتاجها على السفرة ونشتغل بدل ما نقف في المطبخ... تعالي ورايا يا ندى."
قالت نغم وهي تنظر إلى يديها...
"وأنا هروح أغسل إيدي الأول."
أشارت لها صفية برفق...
"على إيدك الشمال يا حبيبتي."
خرجت نغم من الحمام وهي تُجفف يديها بالمنشفة فسمعت همسًا خشنًا يأتي من إحدى الغرف.... اقتربت منها بفضول فرأت الباب مواربًا وأيوب يجلس على مقعد وبين يديه المصحف عيناه مركزتان عليه وشفتيه تتحركان بتأنٍ دون تعجل...
سمعت تلاوة خافتة بصوتٍ رخيمٍ خاشع مست قلبها قبل أذنيها....
كان يقرأ الآيات بخشوع وكأنها تخرج من قلبه قبل حنجرته !....
رقت عيناها في النظر إليه ولم تقدر على المغادرة... ظلت واقفة في مكانها نصف ساعة كاملة تستمع إلى كلمات الله بقلبٍ مأخوذ وعينين مبهورتين برجلٍ تكتشف كل يوم عنه شيئًا جديدًا يأسرها في هواه...
"واقفة عندك بتعملي إيه؟"
انتفضت نغم في مكانها وهي تنظر إلى نهاد بتوتر وحرج...
نظرت نهاد إلى الباب الموارب ثم ابتسمت وغمزت بشقاوة...
"بتعملي إيه عند أوضة أخويا؟ اعترفي فورًا!"
تخضّبت وجنتاها وقالت بصراحة...
"صوته في تلاوة القرآن شدني ففضلت
واقفة مكاني..."
قالت نهاد بصوت خافت ونظرة عينيها تحمل الامتنان والحب....
"صوته حلو في التلاوة... بابا كان حريص يخلّينا نحفظ القرآن...وكان بيودينا نتعلم ونحفظ... وأيوب كان أول واحد فينا... ربنا يرحمه ويجعل ده في ميزان حسناته."
أومأت نغم برأسها وعادت بنظرها إلى أيوب فقالت نهاد وهي تسحبها من ذراعها...
"المهم يلا تعالي احشي معايا القطايف لحسان... ندى الندلة سابتني وراحت تعمل العصير... "
زمت نغم فمها بإحباط وأعطت نظرة أخيرة إلى أيوب قبل أن ترحل...
وبعد ساعات طويلة من الانتظار والتحضيرات الرمضانية يعلو صوت الأذان المكان وبعد سكون الشوارع يخرج الرجال لأداء فريضة الصلاة... بينما النساء يجهزن موائد الطعام التي تحمل كل ما لذ وطاب...
اجتمعت العائلة على سفرة الطعام... سحب أيوب مقعدًا بالقرب منها وجلس فأهدته نغم أرق وأجمل ابتسامة لديها...
بدأ الجميع بتناول وجبة الإفطار وسط ضحكات ومناكفات التوأم وأخيهما بينما الأم تتابعهم بابتسامة حنونة.. ونغم مندمجة معهم في الحديث وشعور الألفة والراحة يطغى عليها...
..............................................................
"الورقة اهي اللي طلبتها..."
قالت عبارتها تلك المرأة وهي تجلس بجوار أيوب في أحد المقاهي المطلة على البحر.
أخذ أيوب الورقة منها وبدأ في تفحصها بعناية بينما جلست المرأة في مكانها تتلفت يمينًا ويسارًا بقلق وهي تقول...
"إنت عارف إن خروج الورقة دي من العيادة ممكن يأذي الدكتورة مروة إزاي..."
رد أيوب دون أن تحيد عيناه عن سطور الورقة...
"عارف... وعارف برضه إن المبلغ اللي هتاخديه مش قليل..."
قالت المرأة و التي تعمل منذ سنوات بشكل يومي في عيادة مروة العياط...
"أنا خايفة تشك فيا... مفيش حد يقدر يدخل مكتبها غيري..."
زمّ أيوب فمه وقال يطمئنها بلا اكتراث...
"حتى لو شكت معندهاش دليل... من بين كل الأوراق اللي عندها تاخدي ورقة عبيطة زي
دي مش هتفيد بحاجة..."
هتفت المرأة بخوفٍ وتوجس بصوتٍ خافت..
"إزاي دي عملية إجهاض... وعملتها في عيادتها خدمة لوحدة صاحبتها..."
لملم أيوب أشياءه من على سطح الطاولة ثم وضعها في جيبه وقال بهدوء بارد....
"هي صاحبتها دي... هي اللي أنا عايزها مش الدكتورة بتاعتك. الورقة هتكون مكسب ليا وهتفيدني في اللي جاي..."
وضع أمامها المبلغ المتفق عليه ملفوفًا في كيس بلاستيكي ثم قال مبتسمًا...
"ودي فلوسك..عديها على مهلك والحساب مدفوع...."
خرج أيوب من المقهى بخطوات ثابتة هادئة ثم استقل سيارته وعاد يرفع الورقة أمام عينيه يدقق في التاريخ متمتمًا بتفكير
"من سبع شهور... يعني قبل موت آسر العزبي بشهر واحد..."
أنزل الورقة وبدت علامات الحيرة والتوجس تعلو ملامحه المتحفظة وهو يحدث نفسه بصوت مسموع...
"يا ترى ده ليه علاقة بموته... ولا ملوش علاقة.... وأنا بدور ورا الشخص الغلط؟"..