رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثامن عشر
يولد الشغف مع بداية كل شيء جديد كالصداقة كالحب كجمعة العائلة المحبة التي تحدث على فترات متباعدة كأول يوم إجازة أشتاق إليه بعد أسبوع من العناء.. كأول حلقة من مسلسل انتظرته طويلًا.. أو كرواية لكاتبي المفضل اقتنيتها بعد ادخار أشهر.
يولد الشغف بداخلنا مع أبسط الأشياء التي لا تحدث إلا نادرًا.. ولأن رمضان يأتي مرة واحدة في السنة شهرًا كاملًا فمن الطبيعي أن يأتي معه الشغف ونستقبل أول أيامه بفرحة من نوعٍ خاص....
تنهدت أبرار بتعب، وألقت جسدها على الفراش تاركة المصحف من يدها هاتفِة بانتصار عظيم...
"بقيت في الجزء التاني..."
قالت ملك التي كانت تجاورها على الفراش مرتدية إسدال الصلاة والمصحف بين يديها
"يعني لسه في سورة البقرة؟!... أنا في الجزء الخامس... سورة النساء."
جحظت عينا أبرار بصدمة متبرّمة...
"إيه إحنا لسه في أول يوم رمضان خلصتي الخمس أجزاء دول إمتى؟!"
ردت عليها ملك...
"قرأت امبارح بعد صلاة التراويح."
امتقع وجه أبرار وقالت بتقريع...
"ولَوْ... متخلصيش خمس أجزاء ده إحنا لسه الضهر إيه مطبقة على المصحف؟! ولا بتقري من غير تجويد؟!"
قارعتها ملك بالقول...
"لا أنا بقرأ ومتعودة أختم تلات مرات."
علت الدهشة وجه أبرار معقبة...
"تلات مرات في تلاتين يوم؟! احلفي... "
قالت ملك بنظرة بريئة...
"آه والله اسألي ماما. انتي بتختمي كام مرة في رمضان؟"
قالت أبرار بوجوم...
"مرة واحدة... بس بقرأ صح بتجويد مش بجري... بقرأ وبفهم... آه ده قرآن مش قصة
في كتاب... "
تجهم وجه ملك وقالت بغضب...
"أنا عارفة إنه قرآن... مدريش خيبتك فيا انتي اللي مش مجتهدة... ودي مش مشكلتي"
بدت علامات الانفعال والحنق على وجه أبرار وقالت بقرف....
"مجتهدة غصب عنك أنا بقرأ بتأني. انتي اللي لسه صغيرة ومش فاهمة. خلي أمك توديكي دروس دين تفهمي أكتر."
زفرت ملك باستياء وهي تغادر الغرفة..
"أوف بقى أنا هروح أقرأ في البلكونة... وسيبلك الأوضة.... اشبعي بيها.. "
هزت أبرار كتفيها وهي ترقص مدعية الأسى
"لا ونبي أوعي تسيبيني يا ملك... ده أنا
أضيع من غيرك يا ملك..."
ثم توقفت وبعد أن أدركت ما تفعله قالت وهي تمسك بهاتفها....
"اللهم إني صايمة..."
"أبرار..."
نادتها الجدة وهي تدلف إلى الغرفة فردت أبرار وعيناها على شاشة الهاتف...
"إيه يا تيتة؟"
قالت الجدة بضجر...
"قومي اعملي العصير... بدل ما انتي ماسكة النيلة ده... "
قالت أبرار وهي تنظر إليها...
"أنا قولت لياسين امبارح يجيب من برّا جاهز... تمر هندي سوبيا خروب..."
قالت الجدة بعد صمت...
"ماشي نعمل مانجا برضه من اللي في الفريزر. أمال أنا مخزناها ليه؟!.... ما عشان رمضان..."
ثم تذكرت وقالت...
"وخلي ياسين يجيب معاه عرقسوس بالمرة."
مطت أبرار فمها باشمئزاز قائلة...
"يعععععع... أنا مش عارفة انتوا بتشربوه إزاي بجد... "
أمرتها الجدة بنفاد صبر...
"اسمعي الكلام وقومي اعملي عصير المانجا."
صاحت أبرار بغيظ...
"مش عايزاني أبل بلح بالمرة؟! ما هي ميغة.. "
تبرمت الجدة معقّبة...
"اللي يسمعك يقول بتكبشي من جيبك وتدينا قومي اعملي عصير المانجا وكده كده شروق بلّت البلح."
رفعت أبرار حاجب الخطر قائلة..
"شروق؟! وهي فين ست شروق اللي مش باينة من الصبح؟!"
قالت الجدة بهدوء فاتر...
"راحت السوق مع أبوكي."
توسعت عينا أبرار بصدمة وهبّت من مكانها كمن لدغتها حيّة صارخة....
"نعااااااام؟!"
قالت الجدة ببرود......
"نِعِمْ الله عليكي... أبوكي إجازة النهارده زي كل سنة. بيأجّز في رمضان يروح يجيب لنا طلباتنا ويرجع يطبخ... ولا ده جديد عليكي؟"
قالت أبرار بوجه مكفهر...
"مش جديد عليا. عارفة إن بابا بيحب يطبخ أول يوم رمضان. بس السنة اللي فاتت خد ياسين معاه السوق... ليه ياخد اللي اسمها شروق دي؟!"
هتفت الجدة بنظرة لائمة...
"ياختي كتر خيرها إنها رضيت تروح معاه أنا لا قادرة أنزل ولا أطلع خصوصًا وأنا صايمة... والأستاذ ياسين نايم زي حالاتك.. هو انتي لسه صاحية غير من شوية.. "
قالت باحتجاج...
"عشان صايمة يا تيتة..."
أمرتها الجدة بغيظ...
"كلنا صايمين قومي انشري الغسيل واغسلي الطبقين اللي في الحوض وبعد كده اعملي العصير."
خرجت الجدة وتركتها بوجه محتقن وهي تتمتم...
"عصير... عصير إيه اللي أعمله الضهر ده؟!"
ثم برقت عيناها بالشر وقالت بغيرة...
"واضح إن اللي اسمها شروق دي بتشتغلني وبتلعب من ورايا... قبلي الجاي بقى يا ناصحة..."
أمسكت الهاتف مجددًا وأجرت اتصالًا به
وهي تقضم أظافرها بانفعال...
وعندما فُتح الخط صاحت باستهجان...
"ياسين.... ياسين انت لسه مخمود بقينا بعد الضهر... "
أتى صوته الناعس يقول بغضب مكتوم
(بتتكلمي كأنه بعد المغرب... وبعدين طالما أجازة ورمضان يبقى مترنيش عليا... وخلي عندك شوية من الأحمر...)
هتفت أبرار باحتقان...
"ياسين..... شروق راحت مع بابا السوق"
قال ياسين وهو يتثاءب...
(برافو عليها... إن شاء الله هتسوق تسويقة حلوة متقلقيش...)
جزت أبرار على أسنانها وقالت بكبت...
"هو أنا قلِقانة على التسويقة؟! أنا قلقانة على أبويا الولية دي مش سالكة... أقولك؟ إحنا لازم نرجع نخطط تاني إزاي نمشيها من البيت."
رفع ياسين حاجبيه قائلًا بتعجب...
(نخطط؟!... وإحنا في رمضان؟ إزاي نطردها؟! إنتي الشيطان اللي عليكي لسه ما تسلسلش)
تململت أبرار صائحة...
"يووووه ما هي اللي مش قد كلمتها..."
استنكر ياسين تفكيرها قائلًا بتعقل...
(انتي ليه محسساني إنهم راحوا يتجوزوا؟! دول راحوا السوق... السوق يعني طماطم وبصل... يعني مكان ما يشجعش خالص
على الارتباط...)
لم ترد عليه أبرار وظلت تفكر في الحديث بعقلٍ مشتت ونظرات قلقة..
..............................................................
لم تكن تلك المرة الأولى التي تستقل فيها السيارة بجواره بل كانت المرة الثانية لكن المشاعر بداخلها كانت مختلفة...
فكل يوم يمر مع "الشيخ" يزيد تعلقها وتأقلمها مع وجوده...
تصعب عليها مهمة الرحيل ويعذب قلبها حين يحين البعد...
نظرت إليه نظرة جانبية سريعة فرأت عينيه الخضراوين مركزتين على الطريق.
كانت قيادته سلسة وحذِرة تشبه طريقته في التعامل مع الجميع....
رجل وسيم وقور الهيئة حضوره طاغٍ كعطره الفوّاح... كلامه قليل ومع ذلك حين يتكلم تُؤخذ بكلماته ونظرته القوية رغمًا عنك.
أبعدت عينيها عنه وأطلقت تنهيدة طويلة لم تلاحظها إلا حين سألها مقطب الجبين...
"زهقتي؟... قربنا نوصل."
نظرت إليه شروق. بدهشة وهزت رأسها نافية
"مزهقتش ولا حاجة... إحنا مبقناش كتير في العربية."
وحين لم تجد منه ردًّا سألت بفضول...
"هو... هو أنت متعود تسوق لخالتي؟"
رد صالح بصوت هادئ
"في رمضان بحب أنزل أول يوم أشتري الحاجات اللي هطبخها بنفسي."
تشدقت بفضول أكبر...
"أول يوم رمضان بس؟"
ابتسم بخفة قائلًا...
"كفاية عليا... أنا مش عاطل برضه."
احمرت وجنتاها وهي تصحح...
"مش قصدي بس يعني... ليه أول يوم رمضان؟"
حانت منه التفاته إليها ثم عاد بنظره للطريق.
تغضّنت زاوية عينيه بحزن وبدت ابتسامته
يشويها الحنين وهو يقول بصوت هادئ..
"والدي الله يرحمه كان بيعمل كده...
كان أول يوم رمضان يروح يجيب لأمي طلباتها... وبعد كده يقف في المطبخ يطبخلنا،
وأمي كانت تبقى معاه تساعده تقطع له الخضار وهكذا..."
ثم قال بفخر...
"كان بيطلع أحلى أكل من إيده."
قالت وهي تشاركه الابتسامة وكأن عدوى الذكريات أصابتها...
"عشان معمول بحُب... ربنا يرحمه والعُمر الطويل ليك."
بعد لحظة صمت قال صالح ممازحًا...
"وعلى فكرة مكنش أول يوم رمضان بس...
كان برضه في العيد الكبير بيطبخلنا وأوقات في أيام إجازته لما باله يبقى رايق."
قالت شروق بعينين تلمعان بالامتنان...
"تعرف إن بيتكم فيه دفى كنت قربت
أنساه بعد موت أهلي..."
سألها صالح بعد فترة بتردد...
"كانت حياتك صعبة معاه؟"
سؤال هادئ وبسيط لكنه فتح أبوابًا من وجع يشوبه ظلم وافتراء أشياء كانت تتمنى لو لم تعِشها يومًا.
قالت بمرارة وعيناها الكسيرتان تعكسان خيبة أملها....
"أوي... مع إني وقفت قصاد أهلي والناس كلها عشانه.... مش هنكر إنه في الأول حاول يتغير بس الطبع يغلب التطبّع...مقدرش يكمل صح دخلنا في سكك غلط وتعبني وتعب قلبي معاه..."
اشتدت ملامح وجه صالح بصورة ملحوظة فقالت وهي تنظر إليه بحرج...
"صدعتك معايا..."
لم يرد عليها ولا حتى بنظرة عابرة فاحتقن وجهها وهي تنظر من نافذتها لائمةً نفسها على الإفصاح عن حياتها الخاصة بهذه الصراحة.
ربما لا يهتم... أو ربما يحتقرها على سوء اختيارها...
هي امرأة بلا عقل... ربما يقولها الآن.
"سمعت إنه عايز يرجعلك..."
توقف سيل أفكارها وتعنيفها لنفسها عندما سمعت صوته يقصف بهذا السؤال المفاجئ فبلعت ريقها ورفضت التعليق مثله...
نظر لها صالح يحثّها على الإجابة وسألها بصراحة كرصاصة تخترق صدرها...
"إنتي إيه رأيك........ عايزة ترجعي؟"
هل هو مهتم؟.... هل ينتظر منها إجابة تُشفي غليل قلبه... وهل ما تستشعره من نبرة صوته ونظرة عينيه صحيح..... هل يهتم؟
صدقًا... هل يهتم الشيخ أم أنها تتوهم من شدة الجفاف الذي تعيشه....
الجو حار جدًا... حار بشكل لا يُحتمل...
والصيام بات صعبًا فجأة....
"هو... هو انت ليه مش مشغل التكييف
الجو حر أوي..."
قالتها متجنبة النظر إليه فضغط صالح على
زرّ التكييف بنفاد صبر....
ساد الصمت من جديد وبدأ التكييف يعطي مفعولًا قويًّا في تبريد المكان... وربما جسدها كله.
إلا صدره هو بات كمرجل ناري ينتظر إجابة صريحة.... ينتظر على صفيح ساخن...
"مسمعتش ردك..."
سألته بأعصاب باردة....
"على إيه؟"
فأجاب بأعصاب مشدودة....
"إنتي فعلًا عايزة ترجعي له؟"
قالت شروق باستياء...
"الغريبة إنك بتسأل بعد كل اللي حصلي..."
وأضافت بعد تنهيدة طويلة تحمل وجيعة لا تنزع بسهولة...
"نجوم السما أقرب له مني...اللي أنا شوفته منه ومن أمه كان كتير أوي...وأنا ما صدقت خلصت...مفيش واحدة عاقلة ترجع توحل نفسها معاهم تاني."
نظرت إليه بعد ان إنتهت فرأت ملامحه عادت إلى طبيعتها حتى نظراته باتت أكثر هدوءًا...
هل نالت الإجابة رضاه؟!...
قالت شروق بعد لحظة صمت....
"عملت إيه في الشقة اللي قولت هتشوفها ليا... "
أجابها صالح...
"لسه بدوّر... أول ما ألاقي حاجة كويسة ومضمونة هقولك."
قالت شروق بتردد...
"ياريت بسرعة يا شيخ... أنا مش عايزة أعملكم مشاكل أكتر من كده..."
قال صالح بنفاد صبر...
"تاني هنرجع للموضوع ده يا شروق؟! ما خلصنا كل حاجة أنا هحلها... وقريب أوي."
قالت شروق بخوف...
"قلتلك بلاش تعملهم حاجة... أنا مسامحة."
رد بنبرة خشنة...
"سامحي في حقك... بس أنا مش هسامح لا فيه ولا في حقنا..."
سألته بنظرة مذعورة....
"هتعمل إيه يا صالح؟"
رد بخشونة....
"العمل عمل ربنا... في الأول والآخر إحنا أسباب لبعض."
"وصلنا السوق."
توقف بالسيارة أمام شارع مكتظ بالناس والبائعين...
قالت شروق وهي تنظر إلى النافذة...
"خليك أنا هنزل أجيب الطلبات اللي في الورقة... وهرجع على طول."
رد صالح وهو ينزع حزام الأمان...
"بس أنا نازل معاكي."
رفضت شروق وهي تنظر إلى عباءته الرمادية اللامعة وهيئته المرتبة...
"السوق زحمة... وإنت مش واخد على كده..."
"ماهو عشان زحمة...مينفعش تدخلي لوحدك....."
قالها صالح وهو يفتح الباب قبلها ثم التف حول السيارة وفتح لها الباب مشيرًا إليها بالخروج...
حركة بسيطة جعلتها فاغرة الفم كالبلهاء بحاجبٍ معقود...
وضع السبحة في جيبه قائلًا بهدوء
"يلا بينا... الورقة معاكي مش كده؟"
أومأت برأسها وهي تسير بجواره مشدوهة مبهورة...
ينظر إليها الجميع... لا بل ينظرون إليه هو فقط... ويقارنون وسامته وضخامته بجوار امرأة مثلها تفتقد كثيرًا من سمات الجاذبية...
هكذا ترى نفسها.
لكنه وهو يسير معها يخشى عليها من عيون الجميع..فهي امرأة من شدّة أنوثتها وجاذبيتها يجب أن تُخبّأ بين الضلوع وتبقى قريبة من القلب !...
وقفا أمام البائع وبدأت تنقّي الطماطم واحدة تلو الأخرى وهي تسأله عن السعر. أجابها البائع فتركت ما بيدها قائلة...
"ليه يعني؟..... ما هي عند الكل بعشرة..."
ابتسم البائع وقال...
"اللي انتي عايزاه يا ست الكل... الفرشة كلها بتاعتك."
قالت شروق بعفوية...
"تعيش... ربنا يوسع رزقك. عندك بطاطس؟ وفلفل؟"
رد البائع...
"كله موجود يا مدام."
أجابت شروق باستحسان...
"خلاص نشتري من عندك... حاجتك حلوة وصبحة.... مش كده؟"
ثم نظرت إلى صالح الذي كان يتابع حديثها بصمت مشدوهًا...
أحيانًا تكون امرأة خجولة تتحاشى النظر إليه وأوقات أخرى تبدو ضعيفة مهزومة.. وأحيانًا محاربة شرسة... أما اليوم فكان يراها بصورة مختلفة....
قطع سيل أفكاره بها حين اندفعت نحوه بجسدها كله تستند إليه بعدما دفعتها إحدى النسوة لتنقي الطماطم مثلها...
شهقت شروق ورفعت عينيها إليه بصدمة لتجد الدهشة والارتباك مرتسمين في عينيه وهو ينظر نحوها...
ابتعدت عنه بسرعة وقد انتفخت أوداجها
وهي تستدير نحو المرأة التي دفعتها قائلة بشراسة...
"في إيه يا ولية انتي... مش تحاسبي زقيتيني على الراجل... "
ردّت عليها المرأة بتبجح....
"والراجل ده يا أختي مش جوزك ولا حد
غريب عنك..."
تخضبت وجنتا شروق بالغضب وقالت بحدة
"انتي مالك جوزي ولا أخويا... مش تحاسبي ولا إحنا بنحارب.. "
زمت المرأة شفتيها وقالت بصبر
"مش بنحارب يا حبيبتي حقك عليا... ما خدتش بالي. خُدي جمب ناحية جوزك كده خلينا كلنا ننقي.... "
ابتعد صالح قليلًا وأشار لها بالوقوف بجانبه
"تعالي هنا يا شروق... حصل خير."
فعلت شروق ذلك على مضض بينما قالت المرأة بابتسامة لئيمة...
"شايفة الناس اللي عقلها كبير بسم الله ما شاء الله... هادي وراسي."
ثم مالت على شروق وهمست لها همسًا وصل إلى مسامع صالح...
"النصيب الحلو لما يريد... يا بختك."
ضحك صالح بخفوت وأسبل جفنيه. فزاد توهج وجنتيها فسألته بحدة...
"بتضحك على إيه؟"
"ولا حاجة..."
هز رأسه والابتسامة تتسع على محياه بينما توقفت هي عن انتقاء الخضروات قائلة بوجوم.....
"تعالى نشوف حد تاني... مش عايزة أقف هنا."
لم يجادلها وأومأ برأسه موافقًا وتحركا معًا إلى داخل السوق....
.............................................................
صعدت على الدرج وكان هو أمامها يحمل معظم المشتريات بين يديه في عدة أكياس بينما هي تحمل كيسًا واحدًا أخف وزنًا....
اعادة قول الجملة التي لم تمل من تكرارها
منذ أن خرجا من السيارة...
"هات طب كيس ولا اتنين أشيلهم معاك..."
رد صالح مبتسمًا دون أن ينظر إليها...
"مش تقال ولا حاجة... خليكي ورايا."
وكأنه يخشى أن تغادر إن غفل عنها بعينيه. ابتسمت وهزت رأسها بدهشة... أحيانًا يبدو غريبًا متملقًا وأحيانًا أخرى يتحول إلى شخص فظّ لا يُطاق....
تنهدت من خلفه بصوت مسموع...
"تعبتي؟!"
تلك المشاعر الجياشة متعبة... وكلما زادت عن حدّها زاد شقاء قلبي أضعافًا....
سألها صالح وهو يتابع الصعود فقالت شروق بفتور....
"لا... بس الجو حر شوية..."
وصلا إلى الشقة ووضع صالح الأغراض على الطاولة... أتت عليهما أمه وأبرار التي رمقت شروق بنظرة تقدح شررًا.....
قالت الأم.....
"جبتوا كل الطلبات يا صالح؟"
أجابها بنبرة هادئة....
"أيوه يا أمي جبنا كل اللي كان في الورقة..."
ثم تابع قائلاً...
"أنا هاروح أرتاح شوية وبعد صلاة العصر يحلّها ربنا."
وقرَص وجنة أبرار بملاطفة مضيفًا...
"حضري نفسك يا برتي الحبيبة... هتبقي مساعدة الشيف النهارده... "
رفضت أبرار بتذمر متململة منه....
"لأ اعفيني من تقطيع البصل وفرم الطماطم وغسيل المواعين من وراك... أنا من رأيي تيته تقوم بالمهمة دي السنة دي... "
لوت الجدة شفتيها بحسرة...
"تيته كل يوم بتطبخ ده يوم واحد هتريحوني فيه عايزني أقف برضو في المطبخ؟!"
تطوعت شروق قائلة بنبرة حنونة..
"خليكي إنتي يا خالتي أنا موجودة... أنا كده كده هنزل بكرة شقتي أنا وملك. مفيهاش حاجة لو ساعدتكم النهارده."
ردت الجدة عليها بمحبة....
"كتر خيرك يا بنتي."
بعدها انسحب صالح إلى غرفته واقتربت أبرار من شروق تلكزها في كتفها بغلّ وقالت من بين أسنانها بوجهها مكفهر....
"إنتي على طول كده حاشرة مناخيرك في كل حاجة تخصنا؟!.. "
تحسست شروق ذراعها وهي تكبح غضبها بصعوبة.... قائلة بصبر..
"والله لو مش عايزاني أساعد اقفي إنتي مع أبوكي وساعديه..."
ردّت أبرار برفض...
"بس أنا تعبانة... والصيام مفرهدني..."
امتقع وجه شروق وهي تقول بسخط...
"يعني الصيام مفرهدك إنتي؟ وخالتي بسنها ده تقف عادي مش كده... "
هتفت أبرار بشراسة وغيرة...
"خالتك منين إنتي؟ عايزة تحشري نفسك معانا وخلاص.. "
نمت غصة الإهانة في حلق شروق وتحاشت النظر إلى أبرار وهي تقول بتجهم...
"لمي نفسك يا أبرار... الدنيا صيام ومش عايزة أفطر عليكي."
لمعت عينا أبرار بالغيظ وهي تقول بصفاقة
"تفطري عليا أنا؟!... يا بِت ده أنا لو حطيتك في دماغي... مش هخليكي تنامي الليل"
زفرت شروق مستغفرة وهي تقول بملل...
"طب روحي العبي بعيد يا شاطرة... وكفاية رغي... ولا إنتي فاطرة... "
لم تبتعد أبرار بل ربتت على كتف شروق
بقوة هامسة لها بخطر...
"خدي بالك... أنا عيني عليكي وواخدة بالي من حركاتك القرعة دي. ولو... لو لقيت عكس اللي اتفقنا عليه يبقى يا وِيلِك مني... "
ثم توقفت عن التربيت وأمسكت بكتفها تشد عليه قائلة بتحذير....
"ياريت تكسبيني صاحبة... مش عدوة."
تركتها وغادرت إلى غرفتها بينما بقيت شروق مكانها يابسة الجسد بملامح جامدة ونظرة غاضبة... كارهة للجميع....
كانت تعمل كإنسانٍ آلي تقطع الخضراوات والبصل كما يأمرها تغسل الأواني خلفه وتُحضر ما يحتاجه أمامه بسرعة بديهية وأحيانًا قبل أن يطلب يجد الأشياء بالقرب
منه وكأن في صمتهما لغة حوار مفهومة بالعيون...
أراد صالح أن يقطع هذا الصمت ممازحًا إياها..
"تعالي دوقي كده.... ملحها مظبوط؟"
استدارت شروق تنظر إليه.. والمعلقة بين يديه. اقتربت منه خطوتين ثم توقفت فجأة متسعة العينين. قائلة...
"بس أنا صايمة!"
لاحَت ابتسامة تسلية على وجهه وهو يعيد التقليب بالمعلقة قائلًا...
"تقبل الله."
سألته عابسة....
"كنت ناوي تفطرني يا شيخ؟!"
رد عليها بلؤم.....
"وإنتي ناسية إنك صايمة؟!"
تجلى تعبير حزين في عينيها وهي تقول بنبرة ذات مغزى....
"أحيانًا بنغلط... وبننسى حاجات مهمة."
رد صالح وهو يشاركها نفس الإحساس..
"أحيانًا..."
ثم استرسل قائلًا بنبرة عذبة..
"تعبناكي جامد النهارده... سوق ووقفة في المطبخ روحي ارتاحي شوية."
رفضت شروق وهي تنهي غسل آخر شيء
في يدها....
"أنا من رأيي إنك إنت اللي تروح ترتاح شوية... وكده كده خلصنا والأكل على
التسوية... أنا هكمله."
رفض صالح وهو يقول بمناغشة...
"مقولتيش صحيح... إيه رأيك في الأكل؟"
هتفت شروق بابتسامة لعوبة...
"لما أدوق هحكم... بس الروايح بتقول إنه
لا يُقاوم."
قال صالح بصوتٍ أجش...
"مش هييجي حاجة جنب أكلك... والملوخية اللي بتعمليها..."
قالت شروق بنبرة حنونة...
"تحب أعملك طبق ملوخية جنب الأكل؟"
رد بنظرة خاصة تماثل نبرة صوته
معها....
"طالما من إيدك... أحب أوي."
قالت بلهفة وهي تجفف يدها في منشفة المطبخ مستديرة نحو الثلاجة....
"حالًا هعملهالك... تاكلها بألف هنا."
عقب صالح بنبرة حانية خلف ظهرها....
"تسلم إيدك... و.... وشكرًا."
التفتت إليه عاقدة حاجبيها بتساؤل...
"على إيه؟ أنا لسه ما عملتش حاجة."
رد صالح وعيناه الخضراوان تلتقطان عينيها في حوار طويل....
"على كل حاجة بتعمليها هنا... إنتي وملك خليتوا للبيت حس وطَعم تاني."
لمعت عينا شروق بدموع وهي تقول بصوتٍ شاجنٍ متأثر...
"لو في حد المفروض يتقال ليه شكراً يبقى إنت... كفاية وقفتك معايا أنا وبنتي من أول يوم جينا هنا. إنت وخالتي أبرار كنتم نِعمة الأهل والسند لينا... وأنا والله معاكم حاسة
إني وسط أهلي... مش غريبة... "
أسبل صالح جفنيه قائلًا بصدق...
"إنتي بنت حلال يا شروق... وتستاهلي كل خير. وإن شاء الله ربنا هيعوضك."
قالت شروق بعفوية صادقة...
"العوض الحقيقي إني عرفت وعشت مع
ناس زيكم...."
لم يجد كلماتٍ وافيةً للرد فاكتفى بإيماءة بسيطة ونظرة حنونة ثم عاد إلى ما كان
يفعله وكذلك فعلت هي....
امتلأت السفرة بعدد هائل من الأصناف الشهية.... جهزت شروق السفرة بمساعدة أبرار وملك وأحضرت العصائر بينما كان الأذان يُرفع في المسجد.
أمسكت كوب عصير وأعطته للجدة فقالت لها بود....
"ابعتي لصالح كباية بلح بلبن... بيحبه."
أومأت لها برأسها مبتسمة وهي تأخذ الكوب وتتجه نحو صالح الذي خرج لتوه من الحمام يجفف يديه ووجهه بالمنشفة...
"اتفضل البلح يا شيخ."
نظر إلى وجهها البهي وعيون الغزلان البنية. ثم تنحنح صالح وهو يأخذ الكوب منها شاكرًا مستغفرًا ليبدأ بقول دعاء الإفطار... أمام عينيها المراقبتين له من بعيد...
عيون في سحرهما عمق الغابات واسرارها عيون من قوة جمالها قادرة على سلب القلب والعقل في آنٍ واحد !....
...............................................................
بعد صلاة التراويح صعدت أبرار إلى شقة ياسين لجلب طلب خاص بالجدة...
لم يكن ياسين في الشقة وقتها فتحت الباب بالمفتاح ودلفت إلى غرفة الجدة التي تقيم فيها مع ياسين أغلب الأوقات...
أحضرت الغرض الذي أوصتها به ثم عادت أدراجها للمغادرة لكنها توقفت عند باب غرفة ياسين للحظات أخذتها قدماها إلى غرفته بشعور من الفضول... والحنين....
أحيانًا تسيطر عليها مشاعر غريبة غير مفهومة نحوه وأحيانًا أخرى يسيطر عليها العناد أمامه فتحب لعبة "القط والفأر" معه من باب التسلية والتغيير.
غريبة علاقتهما كثيرًا ما تأخذ منحنى غير مفهوم لكنها تضعها تحت مسمى الصداقة والأخوة بحكم أنهما تربّيا معًا عمرًا بأكمله
وما زالت تربطهما نفس المشاعر... وبقوة.
سارت داخل الغرفة وكان عبيره متشبّعًا بها شخصيته مطبوعة في كل ركن منها يطغى عليها بشكل مذهل.
ورغم كونه مهندس إنتاج إلا أنه فنان بالفطرة تجد هنا وهناك بعض الصور القديمة لفنانين أجانب احترفوا العزف على الجيتار والغناء وباتوا أيقونات في عالم الفن.
وكانت هناك أيضًا صورة لامرأة كانت أيقونة في الإغراء تُدعى "مارلين مونرو".
كان مغرمًا بها في بداية سن المراهقة وما زال يحتفظ بصورها على الحائط كنوع من التذكار.
لم تكن الصور فاضحة فهي تكتفي بإبراز وجهها الجميل فقط لكن الوضع كان مثيرًا للسخرية!... فمن الغبي الذي لا يزال مغرمًا بامرأة ماتت قبل أن يُولد والده؟!
زمت شفتيها بقرف. كم مرة طلبت منه أن ينزع تلك الصورة؟!
انها تشوّه الشكل العام للغرفة. لكن يبدو أن وجهها الصبوح يجلب له السعادة...
أخبرها ذات مرة أنه يحب الشعر الأسود الطويل... فلماذا يحتفظ بصورة تلك الشقراء؟!
أتغار من امرأة دُفنت تحت التراب وتفصل بينهما قارات ؟!...
"إيه اللي دخلك أوضتي؟!"
فزعت بعد سماع صوته الخشن المتسائل فقالت وهي تستدير إليه بوجل....
"مفيش احم دستور....كح حتى يأخي....
فجعتني... "
قال ببسمة جذابة وهو يتأمل وقوفها في غرفته......
"سلمتك من الفجعة.....جايه هنا ليه... "
ردت عليه بوجوم....
"عادي يعني... كنت فاكراها متكركبة."
ردّ متعجبًا وهو يقترب منها حتى وقف أمامها
بينما عيناه تتجوّلان فوق ملامحها الجميلة
الصغيرة ثم تنتقلا إلى اتساع عينيها السوداوين البراقتين أشبه بمجرة مذهلة تحوي كواكب ونجوم...
"ما شاء الله إيه الشطارة دي... دا انتي عمرك ما عملتيها... تتحسدي!"
قالت بمناكفة....
"عشان رمضان بقا وكده اخد ثواب...."
رد وهو ينقل عينيه بينها وبين غرفته النظيفة....
"صراحة ضيعت عليكي الثواب عشان
هي مترتبه وزي الفل......"
ابعدت عينيها عنه وهي تنظر الى الحائط
قائلة بغضب مستتر.....
"هو انت مش ناوي تشيل صور الولية دي..."
نظر الى وجه الشقراء الفاتنة ثم عاد إليها
بعيناه قائلا بأسلوب مغيظ....
"بذمتك دي ينفع يتقالها ياولية...."
امتقع وجهها وهي تقول بتبرم....
"اه عادي....أصلها مش حلوة أوي يعني..وانت
مش لسه صغير عشان تسيب صورها على الحيطه...."
رد عليها بصدق....
"هو انا بصراحة مكسل اشيلهم...."ثم ضاقت
عينيه بخبث...
"انتي بقا شاغله بالك ليه...."
قالت بتململ وهي تبعد عينيها الغاضبة عنه..
"هشغل بالي باللي فيا إيه.... دي مجرد نصيحة."
نظر إليها قليلًا بسأم ثم سألها بنبرة باردة...
"كنتي هنا بتعملي إيه صحيح؟"
أجابته أبرار بنبرة عادية...
"تيته كانت عايزة هدوم ليها طلعت أجيبها... بقولك معاك فكة ٢٠٠ جني..؟"
أومأ برأسه وهو يخرج المحفظة من جيبه....
"معايا.... عايزاها ليه؟"
أجابته أبرار بهدوء...
"بُكرة هنزل الجامعة..والصبح بدوخ على فكة..."
وأثناء ما كان يخرج الأوراق المالية وقعت منه ورقة صغيرة... قالت أبرار وهي تنحني لتأخذها...
"استنى.... في حاجة وقعت..."
توقف ياسين وهو ينظر إليها بحاجب معقود بينما رفعت أبرار الورقة والتي كانت عبارة عن صورة صغيرة فوتوغرافية تخصها... تم التقاطها منذ عام مضى تقريبًا....
"دي صورتي ؟!.."
قالتها أبرار وهي ترفعها أمام عينيه بملامح تلوح بالحيرة والدهشة منتظرة تفسيرًا....وقد اثارت الصورة في عقلها الكثير من الأسئلة
رد ياسين متوترًا قليلا....
"دي معايا من زمان..."
قالت أبرار بجدية....
"من زمان إزاي دي من سنة بظبط....انا فاكرة كويس..."
ظهر الضيق على ملامحه وهو يتهرب من نظرات عينيها اللتين تطاردانه بإلحاح...
"معرفش لقتها فـ فشيلتها عشان ادهالك ونسيتها معايا..."
ضاقت عينيها بشك أكبر.....
"يسلام هي دي كل الحكاية....."
"مفيش حكايات ولا روايات...وبلاش تسرحي بخيالك لبعيد..."
قالها بتهكم مصطنع..
يخفي خلفه اضطرابًا يسكن عينيه وقلبه المتلهف للاعتراف إلا يدرك هذا الأحمق أن
الحب كالسهام والاعتراف به يشبه التصويب نحو الهدف وان خاب التصويب خاب الوصول الى شيء !...
فجأة وفي لحظة سَهوة منه سحبت من يده المحفظة وركضت من الغرفة إلى الصالة.
صاح ياسين بغضب وهو يلحق بها...
"أبرار هاتي المحفظة ما بحبش الهزار البايخ ده... "
قالت بمزاح غليظ وهي تفتّش فيها بفضول..
"هتأكد... حاطط صورة مين كمان.. "
لحق بها بينما هي تدور حول الطاولة بشقاوة فالتفَت منه بين يديه...
"أبرار هاتي الزِفتة دي... وانزلي شوفي إنتي بتعملي إيه... "
ارتفع حاجبها بصدمة وهي ترى ثلاث صور أخرى تخصها في أعمار مختلفة فعلّقت بحيرة أكبر بينما قلبها ينبض بجنون وكأنه يلامس اعترافًا تجهله لكنها تريده...
"دي فيها صور كتير تخصني إنت بتقلب في صوري وتاخد اللي يعجبك؟!"
أسرع للحاق بها...
"أبرار...... هاتي"
فأسرعت هي الخُطى تلوح بالصور قائلة
ببرود....
"لما تعترف.... محتفظ بالصور دي ليه؟!"
"أبرار..."
قالت بمزاج مستفز وهي تعدل حجابها ثم أعطته أجمل وأرقى ابتسامة يلقيها المشاهير أمام المعجبين....
"لا تعترف مالك ومال صوري تكونش مُعجب بيا مفيش مشكلة... ممكن أتصوّر معاك"
توقف ياسين يمسح وجهه بيديه بنفاد صبر قائلًا....
"أبرار... هاتي المحفظة."
أخرجت له لسانها وقالت بعناد...
"خدها... بس من غير صوري... "
صاح بغضب أكبر...
"لأ..... هترجعيها بالصور.. "
وقفت مكانها تضع يدها في خصرها بتحدٍّ
"دي صوري... وملكش انك تحتفظ بيهم"
أجابها بنفس أسلوبها الطفولي المغيظ...
"ليا... ومالكِيش دعوة... "
هتفت بغضب وغيرة...
"ليا دعوة طبعًا هي صور مارلين مونرو بتاعتك؟!... "
عاد يتحرك خلفها حتى يمسك بها...
"أوف... أبرار كفاية استفزاز هاتي الصور"
بدأت هي أيضًا بالركض حول الطاولة بعناد
"لأ لو شاطر... خدها بنفسك.. "
"تمام... يبقى انتي اللي عايزة كده.. "
قالها ياسين بنبرة متوعدة وهو يمسك بذراعها بعد لحظات قليلة...
وعندما سحبها إليه بنظرات غاضبة خطرة ووجه مكفهر أغلقت عينيها قليلًا وهي تقول بخوف....
"آآآه يا ياسين إياك تمد إيدك والله هقول لبابا وتيتة... "
"عايزة تعرفي انا محتفظ بالصور دي ليه
في البطاقة....."
فتحت أبرار عينيها بصدمة وهي تراه يمسك بذراعيها بكلتا يديه ويقربها منه خطوتين. بلعت ريقها متوجسة من القادم وقالت باضطراب...
"ياريت... أصلها غريبة ليه صوري أنا بالذات؟"
نظر إليها نظرة خاصة وقال بصوتٍ أجش دون أن يحيد بعينيه عنها لحظة...
"معقول لسه مش فاهمة؟!... أنا بقالي سنين بلمح وبحاول معاكي إنك تفهمي وتحسي
باللي بحسه ناحيتك..."
تحركت مقلتاها بضيق والاضطراب يتشبع منها... تشعر أن ساقيها تتخبطان ببعضهما وقلبها يقرع بجنون وكأنه فقد السيطرة كما فقدت هي السيطرة على ترجمة اضطرابها الآن...
"انت عامل مقلب فيّا... إيه الكلام الكبير ده؟!"
اتكأ ياسين على ذراعيها هاتفًا بنفاد صبر...
"انتي هتفضلي عميه وغبية لحد إمتى؟!"
بلعت ريقها وعلى هدير أنفاسها فقالت بضيق وهي تتحاشى النظر إلى عينيه...
"احترم نفسك وبطل غلط... أنا عملت إيه يعني؟!"
أوغر صدره الغيظ منها فقال بانفعال لحظي..
"المشكلة إنك مش بتعملي حاجة... ولا فاهمة حاجة كل اللي حوالينا حاسين... إلا انتي أعصابك وقلبك تلاجة... "
عقدت حاجبيها بألم منزعجة منه...
"برضو هتغلط؟!.... أنا هنزل وأسيبك.. "
حاولت الإفلات منه لكنه رفض أن يحررها وسحبها إليه أكثر معترفًا أمام عينيها المندهشتين من تصرفه الجريء... الغريب...
"مش هسيبك تهربي المرادي ولا هاصبر تاني أنا تعبت وصبري نفد معاكي... وجبت آخري منك يا غبية!"
صاحت بانفعال...
"متقوليش ياغبية... "
صاح بصوتٍ أعلى أمام وجهها العابس...
"دي الحقيقة أنا دايب وواقع فيكي... يا غبية.... "
جزت على أسنانها بغضب...
"برضه غبية انت... بتقول إيه؟!"
اتسعت عيناها بعدم استيعاب فاغرة فمها ببلاهة...
فابتسم ياسين وزاد الوهج في عينيه وهو يقربها منه خطوة أخرى لكن برقة.سارت هي
معه مسلوبة الإرادة بينما عقلها توقف عند هذا الاعتراف طويلًا...
"بحبك يا أبرار... بحبك من ساعة ما وعيت على الدنيا واكتشفت إن عندي بنت عم زي القمر... عندها حنية تكفيني وتفيض وجدعة وطيبة وبتحبني وبتخاف عليا... وكانت معايا خطوة بخطوة في الحزن قبل الفرح."
استرسل في هيامه بها أكثر قائلاً وعيناه لا ترى سواها.... وأخيرًا تبدد الخوف من قلبه فاعترف علنًا بأنه مدله بحبها...
"بحبك من زمان وكنت مستني إنك تفهمي وتحسي بيا... بس واضح إنك لا فاهمة مشاعرك ولا مشاعر اللي قدامك. فالحل إني أقولها لك... وأشوف آخرتها معاكي."
كان قلبها يتفاعل في خفقات عالية بينما جسدها يابس وعقلها متوقف عن العمل بعد
أن عجز عن الفهم...
حتى أنفاسها تشعر أنها توقفت لا تتنفس كالبشر الطبيعيين كأن كل شيء توقف في هذا المكان وظلت دوّامة الحياة تدور بهما معًا....
عندما طال صمتها أمامه سألها مبتسمًا...
"أبرار.... انتي كويسة؟... أبرار انتي سامعاني؟"
سألته أبرار بحذر...
"انت... انت بتتكلم بجد؟"
رد ياسين وعيناه تداهمان عينيها كما داهمها الاعتراف بضراوة..
"هو دا كلام ينفع نهزر فيه؟! بقولك بحبك... إيه ردك؟"
قالت بسرعة دون تفكير...
"ردي إيه؟!.... إحنا إخوات يا ياسين..."
تبدلت الأدوار تلك المرة سقطت الابتسامة عن محياه وظل ينظر إليها بصدمة وعدم استيعاب فأضافت هي بسخط...
"إحنا طول عمرنا إخوات... مش مصدقاك بجد... "
سقطت يداه عنها إلى جانبه وقد انطفأ الوهج من عينيه وهو يسألها بخفوت للمرة الأخيرة بأمل مفقود...
"انتي متأكدة إنك مش حاسة ناحيتي بأي مشاعر؟"
تراجعت أبرار خطوتين للخلف وقالت بجمود
"مشاعري معاك هي هي... من يوم ما فتحت عيني على الدنيا... ولقيتك أخويا وابن عمي الكبير."
أومأ ياسين برأسه ناظرًا إلى الأرض دون أن يجرؤ على النظر في عينيها حتى لا ترى دمعة توشك على الخروج...
الرجل لا يبكي على امرأة هجرته فكيف يبكي على امرأة لم تحبه أصلًا؟...
"انسَي الكلام اللي قولته... كأني ما قلتوش. اطلعي فوق...."
ثم تحرك نحو الباب بخطوات ثقيلة قائلًا بصوتٍ متحشرج...
"ولا أقولك... أنا كده كده خارج. ابقي اقفلي الباب وراكي بالمفتاح."
كادت أن تفتح فمها لتتحدث لكنها أغلقته مجددًا. فماذا ستقول؟ إنها أفسدت الأمر برفضها... كان يجب أن تخبره بطريقة أخرى أنها
أنها لا تريد أن تفسد علاقتهما بهذا الحب المزعوم. لكنها لم تفسدها فقط... لقد أنهتها وأنهت ما بينهما للأبد. لم يعودا كالسابق مهما حاولت....
"يا ياسين..... اسمعني..."
نادته وهي تقترب منه لكنه أغلق الباب بقوة خلفه...ومعه هبطت دموعها وهي تستوعب نهاية القصة....
.................................................................
سحب نفسًا طويلًا يملأ رئتَيه من هواء البحر البارد بينما عيناه تراقبان الرجل الجالس أمامهماعلى المقعد المقابل.وفي الوسط تقبع طاولة مستديرة عليها المشروبات الساخنة...
كان جالسًا بجوار نغم في مقهى فاخر يطل على البحر أصرّ على التواجد معها في تلك المقابلة الخاصة بالمدعو (عدي) الذي بدا عليه التوتر وكثرة المماطلة في الحديث منذ بداية الجلسة...
أطرقت نغم رأسها أرضًا بإحباط شديد فمالت خصلة ناعمة على وجهها تخفي تعبير الانكسار الطاغي عليها وبدأت تنهيدة استياء تنطلق من بين شفتيها تعبر عن الكثير...
استرسل عدي بنفس المماطلة المكشوفة...
"ومش عشان آسر صاحبي يبقى لازم أعرف عنه كل كبيرة وصغيرة..."
تدخل أيوب والذي فضل الصمت طوال الجلسة لكنه عندما رأى بوادر انهزامها تلوح في المكان أراد أن يقوم بمحاولة أخيرة...
ربما يصل لشيء....
"لمؤاخذة على قطع كلامك... بس إحنا مش عايزين نعرف عنه غير اللي سألناك فيه."
رد عدي بسأم..
"إلا هو؟!"
مال أيوب قليلًا في جلسته متحدثًا بينما عيناه ترصدان كلّ ردّ فعل يصدر عن هذا
الـعدي....
"إلا هو... كان عنده أعداء حد كان حاطّه
في دماغه...... مرقّدلُه مثلًا؟"
التوى فم عدي بقرف معقبًا بتعالٍ...
"مرقّد له؟!... ممكن أعرف إيه دخل حضرتك في اللي أنا ونغم بنقوله؟!"
رفعت نغم عينيها تنظر إلى أيوب بعتاب...
فقد كانت ترفض تواجده من البداية وبطبيعة الحال فرض عليها وجوده بهيمنة ذكورية صارت تـ..... تُرضيها رغم تذمرها... يال
الجنون التي وصلت اليه معه !...
اكتفى أيوب بنظرة قصيرة نحوها ثم عاد إلى عدي قائلًا بخشونة...
"تقدر تقول إني تبع الحكومة فبعمل تحريات مع الهانم... خلّينا في موضوعنا في حد كان حاطط آسر العزبي في دماغه؟"
تنهد عدي بنفاد صبر قائلًا...
"اللي مكنوش بيحبوا آسر كانوا كتير... بس دول ولاد ناس... ومستحيل توصل معاهم للقتل."
عقّب أيوب ساخرًا...
"والله المصايب مش بتيجي غير من ولاد الناس... اللي زيكم."
ارتفع حاجب عدي بصدمة
"نعم؟!"
ابتسم أيوب باقتضاب وهو يقول بهدوء...
"نعم الله عليك... يعني مفيش أي معلومة عندك... ولو حتى صغيرة توصلنا لأي حاجة
فكر كده... دا برضو صاحبك وأكيد ميرضكش إن ذنب ناس تخلصه ناس... نغم محتاجة لأي معلومة تفيدها في القضية اللي مش عايزة تخلص...."
تململ عدي في جلسته بشكلٍ ملحوظ وهو يسحب ربطة عنقه إلى الأسفل بوجه عابس قائلًا بوجوم...
"والله أنا قولت كل اللي عندي في النيابة وقولته ليكم أول ما قعدنا... معنديش معلومات تانية تفيدكم... كمان أنا مش حابب اسمي يتجاب في النيابة تاني.... أنا موقفي حساس ونغم عارفة إن حمايا راجل سياسي معروف... ومش حابب شوشرة ولا توتر في علاقتي بمراتي وأهلها... "
تراجع أيوب في جلسته يسند ظهره إلى المقعد وهو يمط شفتيه بعينين ثاقبتين
على عدي...
"راجل سياسي؟!..... عشان كده؟!"
ظهر خط توتر واضح على ملامح عدي وصوته وهو يقول بحنق بالغ...
"هو إيه اللي... عشان كده؟!"
رد أيوب بنظرة باردة مستهينة....
"لا ولا حاجة... تعبناك وعطلناك عن مصالحك. ألف شكر..."
أطلق عدي زفرة طويلة وبوجه محتقن نهض عن مقعده يلملم أغراضه تاركًا نظرة غاضبة لكليهما قبل أن يغادر....
أشار أيوب عليه بعينيه وهو يقول
بغموض...
"الواد اللي حماه سياسي ده عارف كل حاجة..."
تبرمت نغم بعدم اقتناع...
"ياسلام!... ومقالش ليه بقى؟"
رد أيوب باختصار...
"عشان حماه سياسي."
مالت شفتيها في ابتسامة باهتة وهي تقول بسخط...
"والله برافو ذكي جدًا... يمكن يكون هو اللي قتله كمان.. "
عقد أيوب حاجبيه عابسًا...
"بتاخديني على قد عقلي؟!"
تنهدت نغم بتعب وعيناها تتطلعان إلى الواجهة التي تطل على البحر الداكن
بأمواجه الثائرة...
"مش بالظبط بس أنا تعبت... أنا لحد إمتى هفضل كده؟!"
قال أيوب بنبرة حانية وعيناه تتأملانها في وله.....
"كل حاجة بتاخد وقتها... وأكيد ربنا هينور بصيرتنا... صالح الشافعي كان دايمًا يقولي الصبر على البلاء عبادة."
عادت إليه بعينيها الرماديتين الحزينتين
تسأله بفضول...
"مين صالح الشافعي؟!"
تحدث أيوب وعيناه لا تحيدان عن عينيها البديعتين في حزنهما...
"ده راجل جدع اشتغلت معاه هو وأبوه وكبرت وسطهم في مصنع ملابس اسمه الأبرار... لو تسمعي عنه."
هزت رأسها برقة نافية....
"لا..... معرفوش بصراحة."
ابتسم أيوب وهو ينظر من خلال الزجاج الشفاف مقترحًا عليها بصوتٍ عذب...
"البحر بالليل حلو أوي... ما تيجي نتمشى؟"
نظرت إلى البحر ثم إلى عينيه المنتظرتين وتلك الهيمنة التي يفرضها على قلبها دون أن يدرك مدى تأثيره عليها....
أومأت برأسها موافقة وهي تبادله الابتسامة بعذوبة حلوة صبت على قلبه الولهان....
على جسر يمتد فوق البحر تتوزع أعمدته الحجرية على جانبيه يعلوها طراز معماري مُذهل... تتلألأ منها الأنوار ليلًا مع المباني الشاهقة من بعيد. يعلو هدير البحر في
الأسفل يشاركه صوت السيارات فوقه...
كانا يسيران بخطى متقاربة بجوار بعضهما النسيم الليلي يداعب وجهيهما برقة يحمل رائحة يود البحر وصوت الموج نغمة تداعب آذانهما...
قالت نغم وهي ترجع خصلة شعرها خلف أذنيها...
"أول مرة أمشي على كوبري ستانلي على رجلي... كنت دايمًا بعدي عليه بالعربية زيه
زي أي طريق... بس التمشية عليه مختلفة."
رد أيوب بزهو...
"عشان معايا بس..."
ضحكت معلقة
"مغرور!"
توقف أيوب وهو يستند على سور الجسر بجانبه بينما هي توقفت أمامه تأخذ نفس الوضعية وهي تنظر إلى البحر في الأسفل.
قال أيوب بعذوبة وهو ينتقل بعينيه بين عينيها الرماديتين الجميلتين وبين البحر
الثائر بلونه الداكن...
"إسكندرية إيه غير بحر وهوا... وناس بنحبها..."
ابتسمت نغم واحمرت وجنتاها قليلًا لتسمعه يتابع بذهن صافٍ...
"تعرفي أنا بموت في إسكندرية... بشوارعها بناسها ببحرها... بكل حاجة فيها.....
عاملة كده زي البت الحلوة اللي تخطفك من أول نظرة... تعلقك تشغلك ومن غبائك تفتكر إنك تقدر تحب وتعيش بعيد عنها. بس أول ما تبعد ترجع تاني وتترمي في حضنها... "
علّقت نغم بدهشة واعجاب...
"ده انت بتقول فيها شعر!.. "
رد أيوب ضاحكًا...
"كل الشعراء قالوا فيها شعر... جات عليّا أنا؟!"
اكتفت بابتسامة واسعة وهي تسحب أكبر قدر من الهواء المنعش لعلها تصفي ذهنها وروحها من تلك الشوائب التي تعكّر صفو حياتها لأشهر طويلة....
سألها أيوب...
"حاسة إنك بقيتي أحسن؟"
ردّت بإيماءة...
"شويّة..."
رنّ الصمت قليلًا بينهما والالفة والراحة تطغى عليهما معًا عادا يتحركان مجددًا على الجسر حتى قطع أيوب الصمت فجأة...
"كنت عايز أسألك عن حاجة..."
نظرت إليه منتظرة السؤال فقال هو بحذر
"هي جيداء متجوزة؟"
قطبت جبينها بحيرة وهي تهز رأسها نافية...
"لأ طبعًا... بتسأل ليه؟"
عاد يسألها بملامح متحفّظة...
"ولا مرتبطة بحد خالص؟"
أوغر صدرها الغيظ والغيرة وقالت بانفعال لحظي...
"بتسأل الأسئلة دي ليه؟! أنا كنت فاكرة ليان بس اللي شغلاك... بقت جيداء كمان؟!"
هز كتفيه متعجبًا وهو يخبرها بصوتٍ حازم
صريح...
"بس هما مش شاغليني...واحدة تانية خالص اللي شاغلاني ومطيرة النوم من عيني."
توقفت نغم مكانها مرتبكة بقلب مقبوض وهي تنظر إليه بتساؤل... فاكتفى هو بنظرة تحوي على كل الإجابات....
"مش عايزة تعرفي هي مين؟"
عاد إلى قلبها النبض مجددًا فتعالى بين أضلعها ومعه تحركت ساقاها تسير ببطء متحاشية النظر إليه وهي تقول...
"هو انت بتسأل عن جيداء ليه؟! جايبلها عريس؟"
رد عليها مقتضبًا...
"لأ.... بدردش معاكي مش أكتر."
قالت بقنوط...
"انت لسه شاكك فيها؟"
لم يرد عليها. فرفعت عينيها إليه تقول بدفاع..
"حرام عليك تظلمها يا أيوب... ده هي اللي أقنعت عدي يقابلني."
ارتفع حاجباه متوجسًا وهو يسألها...
"وهي تقنعه بمناسبة إيه؟! وتعرفه
منين أصلًا؟"
أجابته نغم موضحة...
"كلنا كنا زمايل في الجامعة طبيعي تعرفه وتعرف غيره...."
عاد الشك يعصف أكثر في صدره نحو تلك المرأة المتلاعبة....
"وهو أصلًا يرفض يقابلك ليه؟!"
قالت نغم...
"عشان موقفه حساس... حماه "
قاطَعها أيوب بازدراء....
"سياسي معروف... فهمت."
قالت نغم بصبر...
"طلع جيداء من التحريات بتاعتك دي وخلّينا نركّز في الهدف الأساسي."
هتف أيوب بخشونة...
"ما هي الهدف الأساسي!"
هزّت رأسها نافية وهي تغيّر مجرى الحديث
"مش قصدي على القضية... قصدي على المسابقة... "
دسّ يديه في جيب بنطاله وهو يقول
بفتور..
"احنا عملنا اللي علينا والفترة اللي فاتت اشتغلنا بإيدينا وسنانا... ومستنيين النتيجة."
قالت نغم بقلق..
"كمان يومين بالظبط التصاميم هتتعرض قدام لجنة التحكيم... مع مجموعة من مصممين أزياء ليهم وضعهم في مصر."
التفت أيوب إليها يسألها بهدوء فاتر...
"خايفة؟"
سألته بتعجّب...
"يعني إنت مش خايف؟!"
رد أيوب بصوتٍ أجش...
"هو من خاف سلِم... بس كل واحد بياخد على قد سعيه. لو لا قدّر الله ما توفّقناش ده مش معناه إننا أقل منهم في حاجة."
أومأت برأسها شبه مقتنعة وهي تقول بتفاؤل..
"فاهمك...وأنا متأكدة إننا إن شاء الله هنوصل لنتيجة مُرضية...."
"قولي يارب....."
قالها وهو ينظر إلى الأمام حيث نهاية الجسر ونهاية التمشية والحديث معها...
ينتهي الوقت معكِ سريعًا يا ابنة الذوات
لكن الحب يبدأ كلما تلاقيتُ بعينيكِ الشتويتين...
شتاءٌ يأتي في كل الفصول شتاءٌ يبث دفئًا وأحيانًا رعدًا وبردَ.... ألم أوصفكِ بالحب؟
أنتِ الحب...وكلَّ الحب.
.............................................................
في قاعةٍ فاخرةٍ تتلألأ بأضواءٍ خافتة ينساب دخان خفيف فوق الأرضية اللامعة كأنه سحابٌ يمرّ تحت أقدام الحضور...
على جانبي الممر الطويل يجلس الضيوف على مقاعد مخملية رجالٌ بأطقمٍ سوداء أنيقة ونساء بأثوابٍ فاخرة وعيون متلهفة تترقب العرض...
تُعزَف موسيقى ناعمة تتصاعد تدريجيًا ومع كل نغمة يظهر ضوءٌ كاشف يُسلط على طرف منصة العرض...
يبدأ العرض لأحد المصممين باسم
(جاسر العبيدي.)
تتقدم أول عارضة بخطى واثقة ترتدي تصميمًا جريئًا فستانًا أسود قصيرًا بقَصّةٍ واسعةٍ من الظهر... ومع كل خطوةٍ منها تحدث همسة بين الحضور ويتعقب وميض الكاميرات خطواتها الواثقة...
خلفها تظهر عارضة أخرى بثوبٍ أحمرَ ناريٍّ يُبرز كتفيها العاريتين.. وتاج بسيط يزين شعرها المنسدل... تتعالى همسات الحضور
بين الإعجاب وانتقاد بعض التفاصيل
الملفتة...
وعلى مقربةٍ من المنصة تجلس لجنة التحكيم بوجوهٍ جامدة تخفي تعابيرها بينما تتحرك أقلامهم ببطء على دفاتر الملاحظات
وأعينهم لا تفارق التفاصيل...
ترتفع الموسيقى أكثر مع دخول آخر عارضة بثوبٍ ذهبيٍّ يعكس الضوء في كل اتجاه...
يبدأ الجميع بالتصفيق بحرارة وإعجاب مع خروج جاسر العبيدي برفقة عارضات الأزياء اللاتي يرتدين تصاميمه... يكتفي جاسر بابتسامةِ زهوٍ وانحناءةٍ خفيفة وسط تصفيق الحضور...
تعود الأنوار لتُضاء في المكان بأكمله معلنةً انتهاء العرض في انتظار آخر مشاركٍ في هذا اليوم وهو(الموجي للأزياء) الذي يشارك بعد انقطاع سنوات والجميع متلهّف ومتَرَقب لتصاميم( كمال الموجي) المبهرة التي لاقت إعجابًا كبيرًا على مر السنوات...
في كواليس المنصة تتحرّك المصمّمات والمصففات بسرعةٍ وهدوء يُعدّلن ثوب تلك ويُربطن أشرطة هذه يُصفّفن تسريحاتٍ لتلك ويضعن الإكسسوارات للاخرى... وهكذا يعمل الجميع على قدمٍ وساق في تلك الساعة العصيبة.... حيث يزداد التوتر داخلهن بعدما شاهدن العروض الجبّارة لبقيّة المصممين عبر الشاشة...
عادت نغم تنظر إلى الشاشة ثم إلى العارضات اللواتي يرتدين خمسة تصاميم مبهرة ذات طابعٍ يختلف تمامًا عن المعروض في الخارج وكأنّ صاحبها أراد أن يصنع له طريقًا لم يَخطُه أحد من قبل...
ولهذا بالضبط يتميز أيوب عبد العظيم عن
غيره
عقدت حاجبيها بتذمر ونظراتها الحارقة
تتبعه وهو يربط شريط الفستان لتلك العارضة الشقراء بينما هي تبتسم له
شاكرة بلكنة إنجليزية قائلة...
"شكرًا لك أيوب... بالمناسبة تصاميمك رائعة.
أتوقع لك مستقبلاً باهرًا... فأنت مميز بطريقة يصعب على المرء مقاومتها..."
جزّت نغم على أسنانها بوجه محتقن واتخذت خطوة نحوه لكنها توقفت مبهوتة حين رأت عارضة أخرى فارعة الطول والأنوثة تطلب صورة معه بعد أن انتهت من ارتداء فستانها الذي أعجبها بشدة... وأعربت عن إعجابها بكلمات عدة بلكنة إسبانية..
والأغرب... أنه كان يفهمها ويرد عليهما !...
أحيانًا تقف أمام هذا الرجل مذهولة...
كيف يمكن لإنسان أن يدرس مجالًا واسعًا
كهذا ويبدع فيه ويعرف عدة لغات وفي الوقت ذاته يبيع الثياب على الرصيف؟
بل إنه كثيرًا ما يتحدث بسوقية كرجلٍ لم
يمر على مدرسة قط !...
علمت من نهاد أنه درس التصميم في جامعة الفنون التطبيقية وكان تخصصه آنذاك تصميم الأزياء والخياطة وكل ما يتعلق بذلك....
وبجانب دراسته كان يعمل في مصنع للملابس الجاهزة...
حتى تخرج ونوى البدء بمشروع صغير
لكن كل شيء توقف بعد ذلك الحادث
وأُغلق باب هذا المجال نهائيًا...
حتى عاد به القدر وبالحلم ليكون هنا من جديد...بعد رحلة طويلة قطعها ليتقابلا في أصعب الظروف وطأة....
"ماكنتش أعرف إنك ليك في الإنجليزي والإسباني..."
عقدت نغم ذراعيها أمام صدرها وهي تقف بجواره بعد أن غادر الجميع...
ضحك أيوب وهو ينظر إليها متأملًا حنقها الجميل ثم قال بصراحة...
"لغات مرة واحدة؟! أنا بردّ عليهم إنجليزي مكسر..."
سألته بدهشة...
"يعني إنت مش فاهم هما بيقولوا إيه؟"
هز رأسه نافيًا وقال ممازحًا...
"مش كل الكلام.. بس واضح إنهم بيشكروا في شغلي... لسه موصلتش للمرحلة دي بس
أنا قدها وقدود... هاخد كورسات معاكي."
قالت بوجوم....
"بس أنا مش باخد كورسات..."
غمز لها قائلاً بدعابة...
"قصدي إنتي اللي تعليميني... إيه رأيك أنا بستوعب بسرعة على فكرة!"
مطت شفتيها بدلال وهي توليه ظهرها
مبتعدة قائلة...
"أفكر..."
لحق بها مناديًا بشوق...
"نغم....... استني..."
توقفت وهي تحاول كتم ابتسامتها الخائنة منتظرة اقترابه منها بنشوة... لكن بوادر الحنق والانزعاج ظهرت على ملامحها حين رأت وجهًا آخر يسبق أيوب ويقف أمامها بابتسامة سمجة قائلاً...
"ماكنتش مصدق لما سمعت إنك معانا في المسابقة... شوقتيني أشوف تصاميم الموجي على الكات ووك تاني... بس أنا سمعت إنه في المستشفى بقاله شهر !.... غريبة..."
دون أن ترفع يدها لتصافحه قالت باقتضاب
"أهلا يا جاسر."
"أهلا بيكي يا نغم..."
مطّ اسمها بنظرة لعوب تثير اشمئزازها ثم مدّ كفه مصرًّا على مصافحتها لكنّه فوجئ بكف رجولي خشن يصافحه بدلًا منها بنظرة باردة
"أهلا وسهلا... بجاسر العبيدي."
عقد جاسر حاجبيه متوجسًا...
"إنت تعرفني؟!"
رد أيوب بابتسامة ذات مغزى...
"مين ميعرفش مصمم الأزياء جاسر العبيدي؟"
انتفخ صدر جاسر بالغرور وعدل ياقة قميصه بزهو وهو يلقي نظرة خاطفة نحو نغم التي زمت فمها بضيق معترضة....
استرسل أيوب بنبرة لئيمة...
"اللي عمل ضجة من سنتين لما اكتشفوا إنه سرق تصميم من مصمم إيطالي... اسمه... نسيت اسمه... فكرني كده اسم المصمم
اللي سرقت منه؟"
أخفضت نغم رأسها واضعة سبابتها على فمها محاولة كتم ضحكتها بينما تجهم وجه جاسر وقال باحتجاج...
"أنا ما سرقتش حاجة... دي كانت إشاعات ناس قاصدة توقعني... وبعدين ده مجرد
إلهام.... كلنا عندنا شخصيات ملهمة."
توسعت ابتسامة أيوب بمزاح ثقيل...
"أهو الواحد أول ما يتزنق.... يطلع يقول
دي مش سرقة... دي إلهام شاهين... "
اكفهرت ملامح جاسر أكثر وقال بغضب...
"نعم؟!.... إلهام شاهين؟!.... إنت مين أصلًا؟"
رد أيوب بنبرة هادئة باردة...
"واحد على الله... اسمه أيوب عبد العظيم."
استنكر جاسر الرد بعجرفة...
"ويا اللي على الله... إيه اللي جابك مكان
زي ده..... وسط ناس زينا؟!"
رد أيوب...
"ربك لما يريد بقى..."
مال جاسر نحو نغم قائلًا بتحفّز....
"تحبي أطلب الأمن يا نغم؟"
رفضت نغم بنظرة حانقة...
"أمن إيه؟! ده أيوب عبد العظيم... مصمم
أزياء معانا قي الشركة....."
تبرم جاسر ببغض...
"مصمم أزياء؟! ما سمعناش عنه في طبق اليوم حتى..."
رد أيوب بنظرة شرسة متحدية رغم هدوء ملامحه...
"ما هجو اللي زَيّي لو ظهر.. هيغطي عليك وعلى غيرك... فسيبكم تاكلوا عيش."
عقّب جاسر بنظرة مستهينة...
"ناكل عيش؟! حلو الكلام... بس الأفعال هي اللي بترد...."
قالت نغم بمقارعة....
"وإحنا هنرد بالتصاميم اللي عملها."
استفسر جاسر منها...
"يعني مجش كمال الموجي صاحب التصاميم؟"
تولى أيوب الرد عنها بصدر تضخم بالغضب والغيرة...
"كل حاجة تحت إدارة كمال الموجي... وإحنا فاهمين شغلنا كويس."
افتعل جاسر الابتسامة بصعوبة وقال
بتشجيع زائف...
"شوقتني أشوف شغلك يا... أيوب."
ثم لوح لنغم بوداع مؤقت...
"جود لاك يا نغم في الجاي..."
بعد أن غادر جاسر تبادل أيوب ونغم نظرة صامتة فقطعتهما جيداء وهي تقترب منهما بنظرة باردة...
"نغم إحنا جهزنا... لازم نخرج برا علشان نشوف التصاميم على الكات ووك....وردود افعال الناس واللجنة...."
أومأت نغم برأسها وقالت...
"خلي أيوب هنا.... يخرج آخر واحد..."
رفضت جيداء وهي تنظر إلى أيوب بعجرفة وكراهية واضحة....
"غلط..... إحنا كلنا هنا بنمثل الموجي للأزياء وانتي صاحبة الشركة والمسابقة باسمك... يبقى تخرجي إنتي بعد العارضات."
ترددت نغم وهي تنظر إلى أيوب الذي بادلها النظرات بصمت....
"بس لازم يعرفوا إن أيوب هو صاحب التصاميم..."
تأفّفت جيداء بمقت...
"ابقى قولي ده لما يعلنوا اسم الفايز... انتي ضامنة منين إن إحنا اللي هنكسب؟"
خفف أيوب من حدة الموقف وهو يهمّ بالانسحاب قائلًا بنبرة حانية...
"هي عندها حق... خليني أنا برا وانتي اطلعي معاهم... كده أحسن.... "
غادر أيوب من أمامهن بينما التوت ابتسامة جيداء بمكر خفي...
على منصة العرض تسير أول عارضة بخطوات واثقة أنيقة بملامح جامدة دون تبسُّم تُبرز تفاصيل ثوبها بحركات متقنة....
كان الفستان الأول وردي اللون قصيرًا من الأمام بذيل طويل من الخلف مزينًا بنقوش بارزة على شكل بتلات وكأن الأزهار تتفتح
منه أثناء العرض.
مما أبهر اللجنة وجعلهما يتبادلان النظرات المبتسمة المتفقة بينما الحضور في حالة ذهول وإعجاب شديد بالمصمم اللون القَصّة التفاصيل حتى النقشة أثارت التساؤلات...
خلفها ظهرت العارضة الأخرى على المنصة تسير مثلها بخطوات واثقة أنيقة ونظراتها للأمام لا تلتفت إلى أحد تكتفي بالتوقف ثم التحرك يمينًا ويسارًا حتى يتسنّى للجميع رؤية الثوب الآخر... والذي كان عبارة عن فستان طويل بلون الرماد الفضي ينساب
ذيله من خلف العارضة كخيوط الضوء...
له ياقة عالية شفافة مرصعة بأحجار صغيرة على شكل قطرات ماء.
ظلت التصاميم الخمسة تُعرض على المنصة وكل تصميم يحوي تفاصيل مذهلة فيما ظل الحضور واللجنة على حالهم ما بين إعجاب وانجذاب.
حتى انتهى العرض وظهرت نغم بين العارضات الخمس فوقف الجميع يصفقون
لها بحرارة تختلف عن كل ما سبق.
فاتسعت ابتسامتها بصدمة وخفق قلبها بتوتر وقد ترقرق الدمع في عينيها فحتى إن لم تفُز يكفي هذا التقدير الحار من الجميع....
إنها نجحت... لا هو من نجح ويستحق أن يقف مكانها الآن...
ظلّت تبحث عنه بين الوجوه حتى رأته يقف بعيدًا يرى ظهورها بين العارضات... أرسل لها ابتسامة جذابة مهنئة بينما يداه تصفقان مثل الجميع.
شعرت بالخزي من نفسها يجب أن تخبر الجميع الآن أن التصاميم من صنعه لا من صنعها أو صنع والدها...
لحظتها التفتت نظرة جانبية من أيوب ليرى جاسر يقف على صفيح ساخن على بعد خطوات يتابع العرض الجبار بملامح محتقنة بالغضب ونظرة مغتاظة....
شعر جاسر أنه عرضة للمراقبة فنظر باتجاه أيوب الذي رد عليه بتحية عسكرية ولمحة شقية. بالنسبة لجاسر كانت تلك استفزازًا وتحديًا.
لكنه علم الآن وبعد هذا العرض الجبار من هو أيوب عبد العظيم الذي ظهر من العدم والذي سيعلو قريبًا فوق الجميع في هذا المجال.
بعد دقائق معدودة انحسرت الأضواء على المنصة واقتربت مقدمة الحفل بكامل أناقتها بين يديها ورقة صغيرة.... وبدأت في إلقاء مقدمة منمقة...
"استمتعنا بجد بكل التصاميم اللي ظهرت على معانا.... واللي كانت بجد أكتر من رائعة والكل أثبت نفسه بجدارة... بس طبعًا انتوا عارفين شروط المسابقة... لازم يكون في فايز معانا. علشان كده بعد تصويت اللجنة وبعض الحضور المهمين أصبح عندنا فايز وهو
اللي نال المرتبة الأولى بجدارة..."
تتوقف عن الكلام للحظات ثم تعود بالنظر إلى الورقة بين يديها....
تصدر من الحضور همهمات خفيفة بينما الكاميرات موجهة نحوها تنتظر الإعلان
عن الفائز...
ثم استرسلت ببطء وبنبرة مشحونة بالحماس..
"الفائز... في عرض الليلة وبجدارة... هو شركة الموجي للأزياء واللي بتمثلها نغم الموجي!"
تعالى التصفيق الحار من الحضور ومن اللجنة وظهرت نغم من جديد على المنصة بين العارضات الخمس وبرفقتها جيداء.
ابتسمت نغم ابتسامة مهزوزة متوترة وهي تأخذ الميكروفون منها قائلة بامتنان...
"شكرًا لكل الحضور... شكرًا للجنة... حقيقي مش مصدقة إننا نجحنا... عايزة أوضح حاجة مهمة التصاميم دي تخـ..."
سحبت منها جيداء الميكروفون بشكل مفاجئ وقالت للجميع بسرعة وابتسامة واسعة براقة
"التصاميم دي تصاميم نغم الموجي اللي كتير ميعرفوش إنها ورثت الموهبة دي عن والدها كمال الموجي واللي بتكمل المشوار من بعده..."
نظرت إليها نغم بصدمة بينما أعطت جيداء الميكروفون إلى مقدمة الحفل وهي تعانق نغم بقوة هامسة بصوتٍ عالٍ...
"حقيقي يا نغم فرحنالك أوي... كنتي مخبية الموهبة الجبارة دي كلها فين؟"
ظلت نغم مكانها مبهوتة لا تصدق ما تسمعه أذناها وقلبها ينتفض بانفعال ونفور وهي تُبعد جيداء عن أحضانها بغضب مكتوم باحثة بعينيها القلقتين عن أيوب الذي كان يقف في نفس المكان... لكن شتّان بين الاثنين الآن...
كان يدسّ يده في جيب بنطاله يرمقها بنظرات فارغة من أي تعبير إنساني بينما ملامحه قاسية مظلمة...
هوى قلبها أرضًا بخوف وقد تجمدت ساقاها دون أن تقوى على الاقتراب منه بينما كان الجميع يهنئها لكنها لا تسمع ولا ترى شيئًا... سواه...
اقترب منه جاسر ومال عليه قائلًا بسخرية
"زارعها غير آكلها... يا... يا أيوب..."
ضحك بقوة متشفِّيًا وهو يخطو مبتعدًا عنه
بينما ارتفع حاجب أيوب للحظة متذكرًا الرسالة التي أرسلها العم حميد مع سلامة...
(زارعها غير آكلها)... الآن فقط فهم معناها.
...............................................................
جزّت على أسنانها بغلٍ وهي تتحدث إلى
إحدى النسوة شريكتها في الأعمال المشبوهة
وكذلك جارتها منذ زمن...
"آه يا ناري... بعد ما كانت بين إيديا تروح كده..."
ضحكت الأخرى وهي ترتشف من كوب الشاي
ببالٍ رائق بينما تستند بذراعها الممتلئ على
وسادة الأريكة مندمجة في الحديث...
"يا ولية ما خلاص ما إحنا ضربناها واديناها
اللي في النصيب..."
صاحت عنايات بحقد....
"هو إحنا لحقنا يا صباح.. ما طَب علينا الراجل ده هو وأهله..."
سألتها صباح بمكر...
"إلّا صحيح يا عنايات... مين ده؟ شكله كان محموق عليها أوي..."
صاحت عنايات بافتراء والغل يفوح من كلماتها....
"ما هو ده اللي خَلعت ابني عشانه ماشية
معاه في السر ولما الجو خَلَا ليها راحت
عاشت في بيته من غير جواز... شفتي الفُجر!"
ضاقت عينا صباح بلؤم وهي تبث سمها كالأفاعي....
"يا ساتر يا رب... تكونش البت ملك؟ يا أختي
بنته وابنك لبسها؟!"
أوغر صدرَ عنايات الغيظ فقالت بسخط...
"أنا برضو بقول كده دي بنت حرام... مش
بنت ابني أبدًا. أول ما شافت أمها بتضرب
قعدت تعيط وتشحطف عليها..."
فغرت صباح فمها قائلة بصدمة...
"ما هي أمها برضو يا ولية... بس الظلم حرام.
البِت برضو فيها من ابنك كتير..."
قالت عنايات بمقت....
"ما هي كانت بتعاشر اتنين في نفس الوقت..."
ادّعت صباح الدهشة وهي تحثّها على قول المزيد...
"أحييه يا ولية!... متقوليش كده... هو انتي شوفتي عليها حاجة؟!"
اختلقت عنايات الأقاويل قائلة بنقمة...
"شوفت شوفت كتير...وسترت عليها... كانت
بتبوس رجلي علشان ما قولش لحنش على عمايلها السودة... بس بعد النهارده والله
لا أكون فاضحاها في كل حتة..."
ارتفع حاجب صباح بارتياب...
"وابنك اللي قرب يخرج من السجن؟
هتعملي معاه إيه؟"
هدرت عنايات بشراسة...
"هقول له أول ما يكلّمني... هحكي له عن الفاجرة اللي دخلت بيتي وشالت اسمه
وجابت منه حتة عيلة ربطته بيها العمر كله!"
قالت الأخرى بنظرة خبيثة...
"بس ما تنكريش إن ابنك بيحبها..."
صاحت عنايات باشمئزاز...
"حبه برص ابن الهبلة... دي عاملاله عمل
بَالك في حد يبص في وشها العكر من غير
أعمال ودجالين؟!"
قارعتها الأخرى بصدق...
"بس شروق طول عمرها حلوة الحتة كلها
كانت بتتمنى نظرة منها..."
لوت عنايات فمها بقرف...
"يا أختي بلا قرف... يفيد بإيه الجمال وهي شمال وبنت... ****"
تنهدت صباح تنهيدة ذات مغزى وقالت...
"الله أعلم إيه اللي غير حالها وخلاها تمشي في السكة دي... المهم جِيبالك مصلحة إنما إيه... سَقْع !"
لمعت عينا عنايات وقالت بلهفة...
"مصلحة إيه؟!... الواحد مقشفر ومحتاج فلوس بأي طريقة... الواد عايز زيارة الشهر الجاي ومش عارفة أجيب منين..."
أخبرتها صباح وهي ترقص حاجبيها بظفر...
"واحده عايزة تسقط ضرتها... بس من غير
ما تيجي رجليها في الموضوع..."
قالت عنايات بفرحة عارمة...
"ومالُه يا أختي.... كلمي النسوان ونروّح..."
قالت صباح بنظرة قوية...
"بس المصلحة دي مش عايزة نسوان يا ولية
المصلحة دي عايزاكي إنتي وبس..."
قطّبت عنايات حاجبيها معترضة...
"وأنا هقدر عليها لوحدي؟! السن بقى بعافية
يا صباح..."
أقنعتها صباح بملاينة...
"أنا وإنتي قدها وقدود يا عنايات... قرشين
حلوين يتقسموا علينا...والبت اللي هنسقطها
دي عيلة سُوفيفة لا هتقدر تهش ولا تنش..."
صمتت عنايات قليلاً مفكرة ثم سألتها
بهدوء...
"طيب... إمتى المصلحة دي؟"
قالت صباح بابتسامة واسعة....
"الليلة دي يا حبيبتي... وقت صلاة التراويح.
هتبقى الدنيا هادية وهنعرف ندخل ونخرج براحتنا..."
علت ملامح القلق وجه عنايات وقالت
بهمس...
"بس يا صباح... إنتي عارفة إن العين بقت علينا من ساعة ما الكاميرات بقت تجيبنا وإحنا خارجين من أي عمارة أو محل... لولا وشوشنا المتخبية في الطُرح السودة كان
زمانا نايمين في التخشيبة..."
بثّت صباح الطمأنينة إلى قلبها قائلة...
"يا ولية ما يبقاش قلبك رهيف كده... هتعدي زي اللي قبلها... يلا أشوفك كمان ساعتين..."
ودّعتها صباح وخرجت من الشقة وعلى
السلم أجرت اتصالًا برقم لا تعرف هوية
صاحبه لكنها تعرف هوية المال الذي أرسله
لها طالبًا منها تسليم عنايات إليه كتخليص
حق قديم...
وأمام المبلغ الكبير الذي أتاها عبر الهاتف على دفعات وافقت... على أمل أن تأخذ أضعافه
كما وعدها المتصل...
"أيوه يا بيه... أنا عملت كل اللي قولتلي عليه...
إمتى هتبعتلي بقية المبلغ؟"
سال اللعاب في فمها بانتشاء وقالت بسعادة عارمة....
"كتر خيرك... بس أنا في السليم زي ما قولتلي... الحوار مفهوش حكومة مش كده؟"
ردّ عليها المتصل بنبرة هادئة لينة...
"(مفيش حكومة ولا حاجة... دا تخليص حق زي ما قولتلك... وصليها إنتي بس للمكان وسيبي الباقي علينا...)"
بعد ساعتين بالضبط كانت عنايات تقف أمام باب الشقة المنشودة تفتح بالمفتاح الذي
أعطته لها صباح وأخبرتها أنها ستأتي خلفها...
عندما دلفت إلى الشقة الفخمة متشحة بالسواد قابلتها إضاءة خافتة وامرأة توليها ظهرها في مقعدها تشاهد التلفاز...
شعرت بالريبة من عدم تحرك المرأة عند فتح الباب لكنها لم تهتم كثيرًا وظنت أن هذا يسهل عليها المهمة. اقتربت بخطوات حريصة هادئة أشبه بنمرة تنتظر اللحظة المناسبة لتنقضّ على فريستها...
كانت تتوقع أن صباح خلفها تحمي ظهرها
لذلك انقضت على المرأة بهجوم ضارٍ وهي
تنادي على صباح لتكبّل ذراعي المرأة كي
تكيل لها الضربات على بطنها لتفقد الجنين...
وربما تفقد حياتها إن لم يُلحق بها أحد...
أكثر من عشرين قضية قتل حدثت بتلك الطريقة المريعة نزيف شديد حتى الموت... وأكثر من ثلاثين قضية جنائية اعتداء بالضرب... وتهجم من قِبَل مَن يُستأجَرون بالمال لفعل تلك الأعمال الإجرامية...
ومع ذلك لم يستطع ضباط الأمن معرفة
هويتهما الحقيقية بسبب السواد الذي يغطي
رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم...
فجأة... انتشرت الإضاءة في المكان فتوقفت عنايات جافلة تنظر خلفها لترى رجال الشرطة حولها وهتف أعلى الضباط رتبة...
"وأخيرًا وقعتي في إيدينا..."
تراجعت عنايات خطوتين إلى الخلف قائلة برهبة...
"أنا ما عملتش حاجة..."
ابتسم الضابط بظفر قائلًا...
"هو إنتي فعلاً ملحقتيش تعملي حاجة هنا...
بس في القضايا التانية..."
انتفضت بفزع وازدادت الخطوط على وجهها
وكأنها كبرت فوق عمرها عمرًا وقالت بوجل...
"أنا... أنا بريئة يا بيه... هي فين صباح؟ هي
اللي سلّمتني ليكم..."
لم يفهم الضابط تمامًا ما تقول فقد جاءته
أخبارية بأن النسوة اللواتي يبحث عنهن سيهجمن الليلة على إحدى الشقق ليفعلن أفعالًا إجرامية...
ومع ذلك استغل الحديث لصالحه
وقال بثبات
"صباح سلمتك لينا... وهتبقى شاهد ملك..."
صاحت بغضب ووعيد....
"شاهد ملك إزاي؟.... دي كانت معايا في كل
مصيبة بنعملها.... شريكتي النص بالنص.. "
مط الضابط فمه بلا اكتراث وقال ببرود...
"والله... لو مش عايزة تشيلي المحاضر
لوحدك عرفينا مين اللي كانوا معاكي وقتها..."
لم تفكر مرتين وقالت بغليان.....
"طالما سلموني ليكم وباعوني... يبقى عليا
وعلى أعدائي آه.... أنا ما روحش أونطة.. "
أشار الضابط بأمر إلى رجاله وهو يتحرك...
"حُطّ في إيديها الكلبشات يا بني..."
كبّل يديها بالأصفاد الحديدية ثم تحركت معهما بخطوات أشبه بالزحف بعد أن خارت ساقيها من الخوف... فما تبقى من عمرها ستقضيه خلف القضبان...
يا لها من نهاية تليق بامرأة مثلها... عاشت
طوال حياتها تؤذي وتخوض في أعراض الناس قابضة الثمن !.....