رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و السابع عشر
لم يكن يخطر ببال سيرين أن ذاك الرجل الذي لطالما ارتدى قناع الجليد في كل ظهور علني يخفي خلف هدوئه طبقات من الجموح لم تتخيلهافقد اعتادت أن ترى في ظافر صورة المدير التنفيذي المتحفظ المتمرس على طقوس الصمت والانضباط لا رجلا تسعره المشاعر ويهوى اللعب على حدود الممنوع.
كان مستلقيا وعيناه تتأملان قسمات وجهها الناعسة كأنها خارطة للسلام المفقود وحدها اللحظة منحت له شرف الاكتشاف
أنه لو قدر له أن يختار امرأة تلازمه مدى الحياة... فلن تكون سواها.
نامت سيرين أخيرا بعد أن ابتلت السماء بلون الرماد الفاتح وفي لحظة لم يكن فيها الفجر قد استيقظ تماما ولم ينم الليل بعد كانت أنفاسها تنتظم شيئا فشيئا وكأنها تعلن استسلامها المؤقت في معركة الحنين.
وفي الخارج كان يوم العطلة قد أعلن عن نفسه بجرس صاخب إذ أضحى قصر نصران ينبض بالحركة كقلب عاد للتو من نوبة غياب تتقاطع فيه خطوات الأقارب وتتعدد فيه الابتسامات الرسمية والفضولية.
كان الحضور هذا العام مختلفا... ليس بسبب زخرفة المكان ولا أطباق العيد التي تزاحمت على الموائد الفخمة بل لأن ظافر قد جلب سيرين معه.
الهمسات بدأت تنتشر مثل دخان خفيف في غرفة مغلقة فالبعض كان قد عرف بالأمر منذ زمن لكنه لم يصدق أنه سيعلن بهذه الطريقة الصريحة أمام الأهل أمام العيون التي لا ترحم والألسنة التي تلوك السمعة كأنها وجبة دافئة.
قالت إحداهن وهي تمسح حافة فنجانها الذهبي بأنامل مزخرفة بالخواتم
لا أعلم بماذا يفكر ظافر... كان عليه أن يتخلى عنها منذ زمن تلك المرأة لا تصلح لبيت نصران.
ردت عليها
أخرى وعلى وجهها ابتسامة ملغمة بالتشفي
ربما عادت لتثير الفوضى كالعادة. هل تظنين أنها تغيرت فعلا أم أنها فقط تتقن دور الحمقاء التي لا تدري شيئا
أما سيرين فكانت في تلك اللحظة داخل الغرفة ما تزال نائمة ولا تدري أن العالم خارج الباب يرتب لها معركة جديدة... وأن اسمها في أفواههم صار أشبه بوردة يشككون في عطرها...
كان الخارج يعج بالحركة والضحكات كما لو أن النسيم ذاته يشارك في العيد برقصة خفيفة بين الأشجار.
أما الداخل فكان هادئا على نحو غريب كما لو أن الزمن توقف احتراما لامرأة استيقظت من نوم ثقيل بعد صراع مع قلبها.
فتحت سيرين عينيها على أشعة الشمس المتسللة من الشباك كأصابع من ذهب تداعب وجهها برفق. نعم لقد تأخرت عن الاحتفال لكن الزمن لم يعد يعني لها شيئا منذ أن صار قلبها يقيس الوقت بنبضات ظافر.
نهضت ببطء والذكريات متوهجة في خلاياها كشرارات لم تخمد.
تلفتت حولها فرأت الملابس الفاخرة معلقة كما لو كانت تنتظر أميرة تليق بها وبجانبها استقرت مجوهرات تلمع ببريق لامع تنتظر أن تزين امرأة قررت أن تبقى غير مقيدة.
رمقتها سيرين بنظرة عابرة ثم أدارت ظهرها لها وارتدت ملابسها البسيطة رافضة أن تكون جزءا من مشهد لا يشبهها.
نزلت بثبات لكنها كانت تحمل عاصفة في صدرها تتلاشى الجمع.
كان ظافر ينتظرها في الأسفل عيونه كعادتها ترصد التفاصيل لكنها اليوم كانت تبحث عنها بين الكلمات التي لم تقل.
تأملها للحظة وعيناه تائهتان بين الاستغراب وخيبة التوقع. فما إن لمح أنها لم ترتد الفستان الذي اختاره حتى تسلل الذهول إلى ملامحه.
سألها بنبرة حاول أن
يجعلها ثابتة
لماذا لم ترتديه
رفعت عينيها نحوه وصوتها كان كالسهم
لأني لا أريد أن أكون جزءا من وليمة عائلتك.
ظل يحدق فيها محاولا أن يقرأ في ملامحها ما خفي عليه.
أعطني سببا واحدا.
قالها بصوت خفيض لكنه كان يحمل قسوة غير مقصودة.
فأجابته بسؤال يحمل كل الإصرار
وهل أحتاج إلى سبب لأرفض المشاركة في مسرح لا يشبهني
تقدم خطوة نحوها فارتدت هي أخرى إلى الخلف كأن جسدها يرفض اقترابه وقال بما يشبه القسم
الأمر سيكون مختلفا هذا العام.
ضحكت بمرارة ونظرة الشك في عينيها أبلغ من ألف كلمة.. مردفة بتهكم
حقا وماذا سيكون المختلف طريقة السخرية شكل النظرات
لم تجد في نفسها طاقة لتبرير مخاوفها كل ما في قلبها كان ينبض بالرفض وذاك الرفض كان أصدق من كل الأعذار.
وقفت هناك صلبة كجدار قديم نسي معناه ثم أضافت بهدوء
أنا لا أريد الذهاب يا ظافر.
كان في صمت ظافر لحظة طويلة الذكريات تساقطت عليه كالمطر وأصوات بكائها القديمة تتردد في أذنه.
الناس يذهبون بأزواجهم إلى كل المناسبات أما أنا... فدائما أذهب وحدي.
كانت تقولها ذات يوم وصوته الداخلي يهمس له الآن
لم تعد تحتاجك.
تجمدت يده في الهواء تذكره بأنها لم تعد تبحث عن حماية بل عن نفسها.
مهما يكن.
قالها ببرود لم يقصده ثم استدار ومشى كأن ما بينهما لم يكن.
في الخارج كان الحفل قد بدأ والضحكات تصدح.
دخل ظافر وسط الجموع بمفرده فأثارت وحدته أسئلة صامتة ونظرات لم يخطئ تفسيرها.
في إحدى الزوايا كانت مارلين تتوسط حلقة من النساء تتحدث تبتسم ثم تصمت فجأة عند رؤيته.
سألت إحداهن
بسخرية لاذعة
مارلين ألم تقولي إن المرأة الصماء قد عادت فأين هي إذن
هزت مارلين رأسها ببطء لكن في عينيها احتدم الغضب
أنا أيضا لا أعلم ربما خشي ظافر أن يحرج نفسه أمام الجميع.
ضغطت مارلين على الكأس في يدها بقوة كأنها تقبض على خيبتها القديمة ثم قالت بنبرة باردة
أعذرنني لدي أمر عاجل.
مارلين لم تكن لتفوت هذه الفرصة ما دامت سيرين عادت فالعيد لن يكون عاديا.
سألت مارلين الخدم وتأكدت أن سيرين لا تزال وحدها فتركت الحفل في لهفة محمومة للعثور عليها.
في الطابق العلوي كانت سيرين قد صعدت مرة أخرى بعد أن أحضر كوب عصير وجلست أمام الخريطة التي أعطاها إياها نوح تدرسها بعين نصف شاردة. كأنها تبحث عن مخرج لا يوجد على الورق بل في داخلها.
فجأة دق الباب فوارت ما بيدها على عجل ونهضت بخطوات مرتابة نحو الباب تفتحه
وهناك عند العتبة وقفت مارلين بشعرها البني المجعد وعيناها تلمعان بملح الذاكرة. مضت خمس سنوات لكن الزمن لم يفلح في إذابة التعارف المتبادل بين الأرواح.
نظرت مارلين إلى سيرين بدهشة مشوبة بالحذر فهي لم تعد تلك الفتاة التي عرفتها قديما لم تكن ترتدي الثوب الفاخر الذي اختير لها بل كانت تلبس فستانا يبدو كأنه صنع لجسدها وحده وعلى شفتيها رسمت ابتسامة واثقة وفي عينيها بريق غامض كأنهما تخبئان حربا خاضتها وانتصرت فاستنتجت مارلين أن سيرين لم تعد تلك الزوجة المتواضعة المكسورة بل أصبحت شيئا آخر... شيء يصعب تفسيره لكنه بالتأكيد لا يشبه ما كانت عليه من قبل.
ترى ما الذي تخطط له مارلين ومن هو الحبيب الخاص بسيرين الذي تتحدث عنه
وهل
ستتمكن سيرين من تحرير نوح والأهم هل سيدعها ظافر تفر بغنيمتها