رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و التاسع عشر 219 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و التاسع عشر


وقفت سيرين للحظات ساكنة عند أطراف الفناء تتأمل المكان كمن يسمع نداء قديما لا يعرف مصدره بينما كلمات مارلين أخذت ترددت في ذهنها كأغنية لحنها غامض لكنه يثير شيئا قابضا في صدرها وتسائلت
لم قالت لها ذلك وما الذي ينتظرها هناك
تقدمت سيرين بخطى متوجسة حتى شعرت الأرض تنكمش تحت قدميها من وطأة التردد.
الفناء كان نظيفا بشكل مريب فعلى ما يبدو أن أحدهم حرص على إبقاءه حيا رغم نفيه من ذاكرة القصر.
رائحة الليلك ملأت الأجواء عطرة ومألوفة كأنها تفتح نافذة قديمة في الروح.
تلك الشجرة... عرفت سيرين أنها رأتها من قبل لكنها لم تجرؤ على الاعتراف بذلك لنفسها حتى الآن.
ذكريات من الطفولة عبرت كطيف سريع.
زيارتها القديمة مع والدها لعائلة نصران حين كان كل شيء يبدو أبسط وأقل خطورة.
وقفت تحت ظل الليلك تنظر إلى المبنى الخشبي القريب الأحمر بلون الدم الهادئ تقدمت نحوه ببطء كمن يمشي في حلم ثقيل ثم مدت يدها إلى المقبض استجاب الباب لأنينها بانفتاح بطيء وصوت الصرير اخترق الصمت كصرخة مكبوتة.
في الداخل كان الغبار غائب لكن الأرواح حاضرة.
كل شيء مغطى بقماش أبيض كأن المكان يرتدي كفنه الخاص كأنهم أرادوا أن يدفنوا الذاكرة حية.
لم تفهم سيرين بعد ما الذي أرادت مارلين لها أن تكتشفه لكنها شعرت أن هذا المكان يخفي قلب الحقيقة لا مجرد أطرافها.
اقتربت من أحد الأثاث

وخلعت الغطاء.
لحظة فقط وسمع ارتطام مكتوم سقط شيء ما على الأرض انحنت سيرين تلتقطه كان إطار صورة نظرت إليه... ثم انعقد الزمن في مقلتيها.
صورتان لطفلين يقفان جنبا إلى جنب كانعكاس يقف أمام انعكاس لكن الفرق كان في التفاصيل.
أحدهما جامد النظرة كأن البرودة خلقت من عينيه والآخر طفل مبتسم يشرق من وجهه الدفء.
أسفل الصورة كتبت عبارة بخط يدوي واضح
ظافر الأخ الأكبر جاسر الأخ الأصغر.
تسارعت أنفاسها وارتجف قلبها كما لو ضربه اسم لم تسمعه من قبل لكنه عاش طويلا في الظل خلعت غطاء آخر ثم آخر...
المزيد من الصور ظهرت كأن الذاكرة قررت أن تنتقم دفعة واحدة.
صور لأخوين شابين هذه المرة ملامحهما أكثر نضجا لكن الاختلاف بينهما لا يزال صارخا
الأول يقف على اليمين يرتدي بذلة أنيقة وملامحه يكسوها الصقيع.
أما الآخر فبملابس بسيطة عيناه تحكيان عن قلب صاف
وظلت العبارة ذاتها مكررة في أسفل كل صورة
ظافر الأخ الأكبر جاسر الأخ الأصغر.
تسمرت سيرين في مكانها حالما ضربت فكرة مروعة عقلها كصاعقة في ليلة رعدية.
هل كانت مخطئة كل تلك السنوات
هل كان قلبها يخدعها
أمسكت بالصور بين يديها المرتعشتين محاولة التشبث بما تبقى من يقين لكن الوقت لم يمنحها فرصة التأمل الطويل.
فجأة سمعت صوتا من الخارج يقترب يتحدث فأخفت إحدى الصور بعجلة ثم اندفعت نحو الباب الخلفي وخرجت تتنفس باضطراب
وقلبها
يركض أسرع منها.
صفعت الريح الباردة وجهها وهي تسير ممسكة بإحدى الصور تحمل دليلا على كذبة كبرى.
كان لظافر توأم...!.. ولم تعلم بذلك قط 
لماذا من أخفى الأمر ولماذا الآن فقط تنكشف الأسرار
كان يجب أن تواجهه أن تسأله أن تراه بعينيها وتعرف من هو حقا.
في الجهة الأخرى من القصر وقفت مارلين في شرفة مرتفعة كشاهد خفي على مشهد درامي مكتوم في يدها كأس نبيذ وفي عينيها لمعة انتصار لا تخفيها ومن ثم همست لنفسها
يبدو أن حدسي كان على صواب.
وضعت مارلين الكأس جانبا ثم استدارت بخفة وبدأت تسير نحو المأدبة
نحو الفوضى القادمة.
في بهو المأدبة حيث الأضواء تنكسر على الكؤوس كأنها نيازك عالقة في فضاء بلوري كان الضيوف غارقين في أحاديث نصف صادقة يحتسون مشروباتهم بأناقة مصطنعة ويخفون الملل خلف ضحكات مدروسة.
وفجأة كأن الريح اقتحمت المكان بلا استئذان عندما دخلت سيرين.
كل العيون ارتفعت نحوها في آن واحد كأن أحدهم مزق ستارة وهم معلقة أو أن حضورها جر خلفه عاصفة من الصمت.
شعرها المبتل تناثر على كتفيها والمطر الذي سبقها التصق بثوبها فجعله يلمع تحت الضوء كقطعة من الحنين الغارق.
كانت تمشي لا كانت تنزلق بهدوء الأرض لم تلمس قدميها وكأنها ليست من هذا العالم بل شبح امرأة أضاعها الزمان فعاد بها الآن لتطالب بحقيقتها.
رآها ظافر. ضيق عينيه كمن يحاول أن يميز ملامح حلم
مر به في يقظة سابقة يده التي كانت تمسك بالكأس تجمدت ثم وضعه على الطاولة بقوة خفية واقترب منها كالسائر نحو قدر حاول طويلا الهرب منه كل خطوة  كانت تحمل وزنا لا تراه العين لكنها تحس به الروح.
في الخلفية كانت النقاشات تتابع... همسات ضحكات سكاكين لفظية تتبادلها الأفواه على موائد مكسوة بالأسرار لكنه لم ينصت لأي منها بل تمنى في تلك اللحظة لو كان مثقلا بصمم يشبه صمت سيرين تمنى لو استطاع أن ينسحب من ساحة الكلام أن يدفن سمعه في رمال العزلة فلا يسمع رأيا ولا يلاحق بنظرات تشكك أو تهمس.
وحين وصل إليها
قال بصوت منخفض متوتر لا يخلو من الحدة
لماذا أتيت إلى هنا
كانت نبرته غاضبة لكنها مكسوة بشيء يشبه الخوف كأن وجودها الآن يهدد نظاما داخليا بنى جدرانه بصعوبة فهيأتها لا تبشر بالخير ولا تدعو إلى الفخر.
رفعت سيرين عينيها إليه ببطء كمن يصعد من قاع غرق.
نظرت في عينيه
عينيه التي كانت تعرفهما أو تظن أنها كانت تعرفهما.
لكن من وقف أمامها الآن
لم يكن هو.
كان يشبه ظافر خاصتها في الملامح
لكن لا في النفس ولا في اللمعة.
ذاك الفتى الذي أسر قلبها تلاشى منذ زمن وربما لم يكن موجودا قط ربما كانت تراه فقط من خلال انكسارها.
امتلأت عيناها بالدموع ليست دموع ضعف بل دهشة دهشة امرأة أدركت متأخرة أن الحقيقة لم تكن يوما كما روتها لها الأحلام.
قالت سيرين بصوت مختنق
من بقايا نفس مرتجف
أريد أن أسألك شيئا شيئا واحدا فقط.
تعليقات