رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و العشرون 220 بقلم اسماء حميدة


 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان و العشرون

كان يشبه ظافر خاصتها في الملامح
لكن لا في النفس ولا في اللمعة.
ذاك الفتى الذي أسر قلبها تلاشى منذ زمن وربما لم يكن موجودا قط ربما كانت تراه فقط من خلال انكسارها.
امتلأت عيناها بالدموع ليست دموع ضعف بل دهشة دهشة امرأة أدركت متأخرة أن الحقيقة لم تكن يوما كما روتها لها الأحلام.
قالت سيرين بصوت مختنق
من بقايا نفس مرتجف
أريد أن أسألك شيئا شيئا واحدا فقط.

حين التقت عيناه ببؤس سيرين اختل توازنه الداخلي للحظة كأن شيئا ما ضرب وترا خفيا في روحه.
رأى في نظرتها انكسارا لا يفسره المطر ولا يبرره حضور مفاجئ.
بلا تردد أمسك بيدها كمن ينقذ قلبه من الغرق وساقها عائدا إلى غرفته كأن الطريق نفسه أراد أن يبتلع الأسئلة التي لم تطرح بعد.
عند الباب خلع قميصا من على المشجب ولفه حول كتفيها المرتجفتين وهمس بصوت حاول فيه أن يخفي اضطرابه
ماذا أردت أن تسأليني
.
أخرجت صورة كانت تمسك بها بشدة كأنها تحمل بين يديها الحقيقة والخذلان معا لكنها لم ترفعها إليه.
سألت ونبرتها كانت كالسكين المغموس في الذكريات
هل لديك أخ توأم
سكت الظل من حولهما حتى الجدران توقفت عن التنفس تجمدت نظراته كأن أحدهم أوقف الزمن داخل عينيه.
أسقط يده عن ذراعها وقال كلمة واحدة ولدت من رماد
نعم.
لكن الجواب لم يطفئ النار بل أشعلها أكثر.
لماذا لم أسمع عنه من قبل أين هو الآن
كانت كلماتها تنطلق بسرعة تحمل معها توترا لا يحتمل.
شد على شفتيه وغضب صامت بدأ يتسلل إلى ملامحه وقال بحدة غامضة
هل اقتحمت المأدبة لتسأليني هذا أهذا هو السبب
نظرت إليه مباشرة تتحدى سيفا بكف عارية فرسم ابتسامة ساخرة لا تشبه الدفء في شيء فبادر
ذلك أمر يخص عائلة نصران ولا داعي لك أن تعرفي عنه شيئا.
حين سمعت ذلك

أيقنت أن ظافر نفسه لا يملك الحقيقة كاملة أو لعله يخفيها حتى عن نفسه زفرت بضيق ودفنت الصورة في جيبها ببطء مدروس ثم تمتمت بصوت هامس
أفهم لن أسألك عنه مجددا.
لكنه لم يتركها تهرب بتلك السهولة بل استدار نحوها مجددا وصوته أصبح أكثر عمقا أكثر إصرارا
لماذا تسألين عنه فجأة
جاسر
ذاك الاسم الذي صار محرما بين جدران هذا القصر كأن ذكره يستحضر لعنة قديمة.
كل من خدموا في القصر كانوا يعرفون
أن ظافر يكره سماع اسمه كرها دفينا لم يفسر قط.
اقترب خطوة أخرى منها وسألها مجددا كمن يحفر في جلد السؤال
هل أخبرك أحد عنه
كانت الحقيقة معلقة على حافة لسانها لكن الخوف كبلها فأجابت بكذبة هشة
سمعتك تتحدث مع السيدة شادية ذات مرة وعندما عدت من نزهة قبل أيام التقطت أذني شيئا عن أخ لك فقررت أن أسأل.
كذبت وهي تعلم أنها كذبت
وهو كذلك الشك كان في عينيه لامعا وواضحا رآها حين دخلت
رآها تائهة مذعورة كمن فقد بوصلته في أرض تعرفها جيدا. كانت تحمل قلقا لا تفسره كلماتها المرتبة الآن.
لكنها أسرعت بترميم الجرح
أنا آسفة كنت قلقة جدا وأحرجتك دون قصد.
نطقت العبارة وهي تجر خلفها خيبتها تحاول أن تخفي ارتجاف أنفاسها داخل صوت ثابت.
طال الصمت بينهما.
وأخيرا قال ببرود اختلط فيه الألم بالرفض
لا تذكريه أمامي مجددا.
ثم استدار كأن كل
ما قيل للتو لا يهم
كأن الاسم الذي نطق للتو لم ينطق أصلا.
وفي الخارج كانت الوليمة ما تزال مستمرة.
الضحكات والأنخاب التهاني
الزائفة والموسيقى التي ترقص فوق جثث الأسرار.
عاد إليها ظافر لا كضيف بل كظل هارب من مرآته.
أما سيرين فوقفت هناك وحيدة وصورة جاسر ما زالت ترتجف في قبضتها
كأنها تنبض بالحقيقة.
بعد أن أغلق الباب خلفه غمر المكان صمت ثقيل كأنه ستار سميك أسدل على خشبة مسرح انتهى للتو من عرض مأساوي. لا أحد هناك... لا أحد سوى أنفاسها المتقطعة وصورتها المخبأة في جيب قلبها تلك التي ظلت تضغط عليها طوال الوقت وكأنها تخشى أن تهرب منها.
ترددت للحظة ثم أخرجتها ببطء يشبه خفق جناح فراشة خائفة من النور. حدقت فيها كأنها تمعن النظر في مرآة قديمة وجدت فيها ملامح ماضيها الذي ضل الطريق. وهناك... كان هو. فتى يافع يحمل في عينيه براءة العالم وعلى شفتيه ابتسامة من نور.
تقلص قلبها فجأة وكأن خيطا غير مرئي شده بقسوة نحو الوراء... نحو الطفولة. اغرورقت عيناها بدموع صامتة مدت يدها المرتجفة تلامس وجهه في الصورة كمن تترجى الورق أن يجيب
أنا لا أخطئ... أليس كذلك
لكن الرد جاء من الطبيعة وحدها. صفير الريح همس أوراق الشجر تراقص الظلال على الجدران... كلها ردت بالصمت ذاك الصمت القادر على تمزيق الروح.
جلست على
الأريكة ترتمي فيها كما لو أنها تحاول الاحتماء من نفسها. لكن الذكريات كانت أسرع أقوى أشد وقعا.
غمرت عقلها كفيضان اجتاح سد الوعي لتراها... طفلة صغيرة تجر حقيبتها الثقيلة وهو يمسك بيدها يعلمها يضحك معها يعزف على البيانو بينما تراقبه بعينين مبهورتين... يدافع عنها من المتنمرين يركض خلفها حين تهرب باكية ثم يجدها في منتصف الليل ويعيدها إلى البيت وكأنه ملاك أرسل لحراستها.
تذكرت صوته. كان دافئا كأنه يأتي من داخلها
سيرين... كلنا نواجه عقبة كبيرة في حياتنا وحين نتجاوزها تبدأ الحياة في منحنا المعنى.
ربما لهذا السبب قاومت كل شيء بعده. كانت تحاول أن تتجاوز... أن تصعد فوق الحافة التي رماها منها الغياب.
لكن... لماذا اختلطت عليها الوجوه كيف خلطت بينه وبين رجل آخر
أعادت الصورة إلى صدرها كما تعيد أم وليدها إلى حضنها ثم ارتمت على الأريكة ودفنت وجهها في الوسادة غارقة في ذهول ناعم كغيبوبة الحنين.
وعندما عاد ظافر كانت لا تزال هناك تغفو كما تغفو الأرواح بعد معركة طويلة.
اقترب منها ملامحه متجهمة عيناه تبحثان عن سبب فوجدها مستلقية بكامل ثيابها كأن النوم خطفها قبل أن تمنح الجسد حقه من الراحة.
انحنى قليلا يهم بأن يوقظها ليأمرها بتبديل ملابسها ولكن... يدها امتدت فجأة تمسك كفه بقوة غير متوقعة وهمست
دون أن تفتح عينيها بصوت مكسور يغلفه دفء لا يحتمل
لقد افتقدتك كثيرا...
تعليقات