رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد و العشرون
كان ظافر قد تلقّى سهام النقد بسببها طوال تلك المأدبة؛ كلمات لاذعة تناثرت حوله كقطع زجاج مكسور تجرح كبرياءه ولا تصيبه إذ ارتطمت بدرع من صمتٍ مهيب يكسو ملامحه لكن الآن وهو يراها مستسلمة للنوم على الأريكة، بدا له كل ما حدث سابقًا تافهًا، هشًّا، لا يساوي شيئًا أمام خيط الضعف الملقى أمامه.
لم يوقظها بل كما الأحلام الهشّة كأنّ أيّ لمسة زائدة قد تبدّدها وما إن اقترب بها من التخت حتى أحس بحرارة تتفجّر من جبينها.
شهق بقلق خالص.
"إنها الحمى..."
كمن انتُزعت من غيبوبة، فتحت عينيها نصف فتحة وقالت بصوت مُنهك:
"أوه... لقد عدتَ؟"
خفض بصره يميل إليها بعينين يتصبّب منهما القلق:
"أجل عدت… لكنكِ تحترقين… سأُحضر الطبيب في الحال."
كان على وشك أن يُنزلها ليأخذ هاتفه لكنها باغتته كمن يتشبث بطوق النجاة لمس قلبه:
"لا أريد طبيبًا... يكفيني قرص دواء وسأكون بخير صدقني."
كلماتها… تسربت إلى قلبه كما يتسلل الدفء إلى غرفة باردة ووجد نفسه يتنفس بصعوبة... كيف له أن يحتمل هذا الضعف المتوسل في صوتها؟!
ربّت على شعرها برفق كمن يُطمئن طفلةً ضلّت دربها.
"فقط كوني مطيعة… أنت بحاجة إلى الطبيب."
لكنها لم تُفلِت ذراعه أكثر تخشى أن يسقط عالمها إن تركته.
"لا أريد رؤية
طبيب زاف... أرجوك... أنا حقًا بخير."
صوتها كان خافتًا كهمس الريح لكنه اخترق صلابته… كان بإمكانه أن يُجزم أن هناك شيئًا تُخفيه ليس فقط مرضًا عابرًا. هناك ظل ثقيل يسكن عينيها... شيء أعمق من حمى.
"ما الذي يحدث معكِ اليوم؟" سألها وعيناه تتفحّصان ملامحها بتوجّس.
سيرين لم تكن تخجل أبدًا، كانت جريئة منذ عودتها من الخارج، تنظر إليه بثبات، تتحدث بلا مواربة. لكن الآن؟ نظراتها مترددة، صوتها مرتجف كأنها تعود إلى تلك النسخة القديمة منها... النسخة التي طالما حاولت أن تدفنها.
رأت الشك ينسل إلى قسمات وجهه حضن تقول متداركة الموقف:
"أبي... مات في المستشفى. وطفلنا أيضًا... مات هناك. لا أستطيع... لا أحتمل فكرة رؤية طبيب."
قالتها وانكسرت كل حروفها كأنها نواح مكتوم أجادت استحضاره.
صمت ظافر وقد انخلع قلبه مع اعترافها… لم يتكلم… فقط مسح على رأسها بحنان ثم همس بصوت موجوع:
"حسنًا... سأُحضِر لكِ الدواء."
نهض تاركًا بين يديها حرارة قلبٍ لا يزال تحترق.
جلست سيرين فوق الأريكة كأنها شبح يراقب العالم من خلف ضبابٍ كثيف… عيناها خاويتان كمرآتين انطفأ فيهما بريق الحياة، ترمقان ظافر بخدرٍ غريب.
عاد إليها بعد قليل، يحمل بيده كوبًا من الماء وبعض الأقراص، يتقدّم إليها كما لو كان يحمل السلام إلى أرض
أنهكتها الحروب.
تناولت منه ما جاء به ورسمت على وجهها ابتسامة واهنة كمن يزرع وردة فوق مقبرة.
همست بصوت مُختنق:
"لا بأس…. الآن سأكون بخير قريبًا."
ابتسم ظافر لكنه لم يشعر بالطمأنينة… شيء ما في نبرتها كان زائفًا كأن الكلمات خرجت على لسانها هربًا من الحقيقة لا إعلانًا عنها.
في تلك الليلة ظلت الحمى تجري في جسدها كطيف يرفض المغادرة وبعد أن اغتسلت وتناولت الحبوب محاولًا أن يعزلها عن العالم، أن يُخبّئها من ألمٍ لا يستطيع تسميته.
سكن كل شيء... ثم قالت فجأة، بصوت يشبه الهمس الوجودي:
"أريد أن أسألك شيئًا زاڤ... هل يُولد أصحاب الإعاقات ليكونوا مختلفين عن الآخرين؟"
كان سؤالها كالسهم أُطلق من زمنٍ سحيق لكنه عرف طريقه إلى القلب… لقد سألته ذات السؤال حين كانا طفلين حين كانا أبرياء بما يكفي ليؤمنوا أن العالم نُسج من نور… يومها، قال لها:
"الجميع ملائكة أرسلهم القدر لكن بعض الملائكة سقطوا بقسوة أثناء نزولهم فصاروا مكسورين. لكنهم ما زالوا ملائكة."
أما الآن فقد نظر إليها ظافر طويلًا، وتبدل الزمان في عينيه، ثم قال بصوتٍ متروٍ:
"بالطبع... لا أحد متساوٍ، الحياة لا تُوزِّع عدالتها بالتساوي."
بدت كمن تلقّى صدمة من صديق خيالي:
"هذا صحيح... كل شخص يولد مختلفًا."
راقبها ظافر باهتمام
ولاحظ كيف أن صوتها كان هشًّا، ونظرتها غارقة في بئرٍ لا قرار له. وضع يده على كتفها يحاول أن يعيدها من متاهاتها الداخلية:
"لهذا يجب أن نُجاهد لنصنع الحياة التي نريدها، لا تلك التي فُرضت علينا."
وكأنها تتشبث بآخر قطعة من الأمان:
"أجل، أعلم... أعلم."
في تلك اللحظة رأت فيه رجلًا غريبًا عنها شخصًا عبر ممرات الحياة واختبر مرارتها، ففقد شيئًا من دفء الطفل الذي أحبته ومع ذلك، لم تستسلم كأن قلبها يرفض أن يسلّم الراية.
"زاڤ... لا أستطيع النوم… أريد أن أذهب إلى القاعدة السرية التي كنا نملكها حين كنا صغارًا… هل يمكننا فعل ذلك؟"
حدّق فيها بدهشة، كمن طُلب منه أن يستعيد ذاكرة سُرقت منه، وقال بتردد:
"أي قاعدة سرية؟"
تجمدت نظرتها وانكمشت في مكانها كزهرة سقط عليها الصقيع.
أهذا هو ظافر؟ أحقًا نسي؟ أم من معها الآن لم يكن رفيق روحها بل يشبهه؟
وبعد صمتٍ طويل ابتسمت بمرارة تجرّ الحنين خلفها كظلٍ مثقوب:
"كانت هناك بركة صغيرة، قرب مسكن تهامي... كانت قاعدتي السرية… أظن أنني لم أخبرك عنها من قبل."
لم يعلّق ظافر فقط شعر أن الماضي يعيد ترتيب نفسه بداخلها. تساءل: لماذا كل هذا الانغماس المفاجئ في ذكريات مضت؟ لماذا بدت له اليوم كأنها تسكن في زمنٍ غير الذي يعيشه؟ مرّت السنوات وتآكلت الذاكرة
وزيفت الحقائق لكنه أدرك الآن أن بعض الذكريات لا تموت... بل تنام في الظل وتعود حين يُستدعى الوجع.
شارك