رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع و العشرون
أطفأ ظافر سيجارته ببطء وكأن شرارتها الأخيرة تلاشت معه لا بيده بل بغياب الأمل. كان ينتظر انفجارا دموعا تهدر أو صرخة تتفجر في وجهه كصفعة وربما الصفعة ذاتها التي سبق وتذوق لذعتها من قبل... لكنه لم يلق شيئا من ذلك.
بل خرجت إليه بهدوء أربكه كأن العاصفة قررت أن تهمس بدلا من أن تعوي.
قالت بصوت خافت أجش وبداخلها ألف حريق كتم تحت رماد
سأخرج قليلا... أحتاج إلى نزهة.
ثم استدارت ورحلت دون أن تلتفت دون أن تنتظر منه حتى نظرة أو إذنا.
مرت من بين جدران الشركة كطيف شارد والوجوه القليلة المتبقية في المكاتب التفتت نحوها بدهشة كأنها شاهدت شبحا يمر لا بشرا.
نظرات لا تعلم أكانت شفقة أم تساؤلا أم مجرد فضول... لكنها شعرت بها تخترقها وحين خطت خارج الباب كان المطر قد بدأ يتسلل من بين الغيم.
قطرات خفيفة لكنها باردة تهطل من سماء كئيبة بدت وكأنها تبكي بصمت بدلا عنها.
رفعت وجهها قليلا فأخذ الماء يبلل رموشها ليمتزج المطر بدمع لم يسح بعد.
سارت بخطى بطيئة لا تدري إن كانت تائهة في الشارع أم هاربة من نفسها فلم تلاحظ السيارة السوداء التي تبعتها تسير خلفها ببطء محكم كما الظل.
ومن خلف زجاج السيارة كانت عينان ترقبنها بقلق صامت ونفس محتقن بين اللهفة
والخوف.
قف هنا.
جاء الأمر حازما فجاءه الرد خانعا
حاضر سيدي.
توقفت السيارة بهدوء على جانب الطريق وانفتح الباب الخلفي فخرج منه كارم.
كان يلف جسده بمعطف داكن وبين يديه مظلة سوداء رفعها على عجل ثم خطا نحو سيرين بخطوات سريعة.
وصل إليها واقترب منها دون أن ينبس بكلمة. أسند المظلة فوق رأسها كأنها سماء بديلة أكثر رحمة من السماء التي بللتها.
رفعت عينيها فرأته... كارم.
كان واقفا أمامها مبلل الشعر لكن عينيه ما زالتا جميلتين تملأهما نظرة دفء لم تتغير رغم كل شيء.
مد يده بالمعطف نحوها يقول بنبرة هادئة ملغومة بالحنين
ارتدي هذا... ستصابين بالبرد.
نظرت إلى ملابسها التي التصقت بجسدها من المطر ثم تناولت المعطف منه بصمت تضعه على كتفيها دون أن تدخل يديها فيه كأنها تستعير حضنه لا قماشه.
همست وهي ما تزال تحدق فيه
شكرا لك... ولكن ما الذي تفعله هنا
أتى كارم من أجلها... فقط من أجلها.
ورغم أن اشتياقه كان يفيض من عينيه إلا أنه اختار أن يتنكر خلف قناع المصادفة. ربما كي لا يثقل على قلبها المرتبك أو لعله خاف أن يفزع مشاعرها التي لا تزال تتعافى من عواصف ظافر.
قال وهو يدس الحقيقة في ظل جملة مهذبة
انتهيت لتوي من بعض الأعمال القريبة وصدف أن رأيتك.
نبرة صوته
حاولت التماسك لكن خيطا من الحنين كان يسحب الكلمات من قلبه لا من لسانه.
رفعت سيرين عينيها نحوه وبصوت خافت كأنه يخرج من عمق السكون سألته
وكيف حال عملك
أجابها بابتسامة كتبت على شفتيه بالطمأنينة لكن تحتها خبئت فوضى
ناجح جدا... ولهذا أظن أنه وقت الاحتفال. ما رأيك أن نتناول وجبة سويا
لكن سيرين كعادتها تحرس الخطوط الحمراء التي خطها ظافر حولها.
هزت رأسها سريعا والخوف يسكن بين نبضاتها.
ظافر... يرسل حراسا خلفي دائما. إن علم بأمر العشاء... سيجن جنونه.
ابتلع كارم الغصة التي باغتت حنجرته ثم قال بصوت أشبه بعاصفة مستترة
سيرين... ألا تثقين بي
نظرت إليه وعيناها تحاربان ترددا لم تعتد عليه. لم يكن الشك فيه بل الخوف عليه.
الخوف من أن تدفعه معها إلى حفرة ظافر السحيقة... وهو لا يستحق أن يؤذى بسببها.
أكمل كارم يحاول أن يمسك بها قبل أن تفلت مجددا
أنا لا أخشاه سيرين. لقد نجحت خطتك. انتهى الأمر. لم نسمح له أن يقرر بعد الآن
سكتت.
كان الصمت مثل حاجز شفاف لا يرى لكنه يفصل بينهما.
صمتها لم يكن رفضا بل خوفا ناعما خجولا من أن تفسد كل ما بينهما بكلمة وكارم يعرفها... يعرف تماما ما يدور خلف جبهتها الصامتة.
تذكر تلك السنوات الخمس التي قضتها بعيدا في عالم غريب
دون أن تلجأ إليه ولو مرة.
رغم أنها استعانت به لمساعدتها في السفر إلا أن كل شيء بعدها... كان صراعا صامتا خاضته بمفردها.
حتى حين تعرضت لمضايقات في الغربة لم تطلب حمايته. لجأت للشرطة لا إليه.
لم يكن يعلم شيئا عن قلق فاطمة أو عن المحاولات التي كادت تحاصرها بوظيفة كانت
ستكسر كرامتها.
ذات يوم جلست فاطمة معه في زاوية هادئة وقالت كمن تفتح صندوق أسرار
سيرين عنيدة منذ الطفولة. لا تطلب المساعدة إلا من والدها... أو من ظافر لأنها تعتبره عائلتها. فهي قد لا تعتمد عليك إلا إذا أصبحت لها حبيبا وزوجا.
حينها ضحك كارم باهتا لكنه أخفى الجملة في صدره وحملها منذ ذلك اليوم كقلادة لا يراها أحد.
والآن وهو يتفقد جيبه تحسس شيئا لطالما تردد في تقديمه لها لكن صوتها أعاده إلى الحاضر
حسنا... لنخرج. سأرافقك.
ثم ابتسمت ابتسامة بها بعض الزيف وبعض الحنين وقالت
كنت أود التحدث معك.
شعر كارم أن ما قالته أقسى من الصمت نفسه.
فعبارة كنت أود التحدث معك تعني أنه لا يزال في خانة الأخ والصديق لا أكثر.
هو يعرف ذلك.
يعرف أن قلبها إن أحب يعلن ولا يخفي. يشهر مشاعره كمن يشهر سيفا.
لكنها الآن... تخفي تتهرب وتبتسم كي لا تجرحه.
فأعاد الشيء إلى جيبه وكتم كل شيء.
لم يكن خائفا من
ظافر...
بل كان خائفا من خسارة سيرين...
حتى ولو كانت فقط كصديقة.