رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن و العشرون
سارا معا في صمت خفيف حتى وصلا إلى مطعم هادئ تتراقص أنواره على زجاج النوافذ كأنها شموع خجولة في حضرة اعتراف كبح لم يكن في خطوات سيرين ما يشي بعجلة أو ارتباك ولم تكن تكترث لأعين ظافر التي تراقبها من بعيد هي وكارم لم يخطئا فما الداعي للخوف إن كانت النوايا بريئة لكنها في قرارة قلبها كانت تدرك أن البراءة لا تكفي لتجنب السقوط في محاكم القلب.
في تلك اللحظة حيث يجلس ظافر في ركن ساكن من قصره الذي عاد اليه علها تأتيه راضخة كان يحدق في هاتفه وملامحه تسقط في هوة الصمت الصور أمامه كانت أوضح من أن تنكر وأكثر قسوة من أن تحتمل. ضغط على الهاتف بقبضة جعلت عروقه تنتفخ وعينيه تشتعلان بشرارة من الغضب المكتوم.
هكذا إذن.. لا عجب أنها أرادت الخروج فقد كانت على موعد غرام
همس لنفسه وكأن جرحا قديما استيقظ داخله دون إنذار لم يعلم إن كان يؤلمه كونها خرجت مع رجل سواه أم أن شيئا آخر أكثر عمقا قد تمزق فيه بعد رفضها له ومغادرتها.
رن الهاتف... واسم شادية أضاء الشاشة كضوء خافت في ظلام مضطرب.
أجاب بصوته الغليظ الذي حاول أن يخفي التوتر
نعم
جاءه صوتها متقطعا بالبكاء والفرح
ظافر... ظافر هناك أخبار! قالوا... قالوا إنه قد يستفيق! جسده بدأ يظهر إشارات استجابة!
سقط قلبه لحظة ثم استعاد صلابته في لحظة أخرى يقول بجمود غريب
فهمت.
وأغلق الخط دون كلمة أخرى كأن الجدران كلها سمعته واختنقت معه.
في المطعم كانت الأطباق معدة بعناية كلوحات فنية على مائدة لا شهية لها. نظرت سيرين إليها لكنها شعرت بانقباض مفاجئ في معدتها شيئا ما في جسدها يرفض الطعام أو يعلن
عن حياة جديدة لم تتأكد منها بعد.
هل السبب هو القلق من ظافر أم أن هناك احتمالا بأن روحا صغيرة قد بدأت تنمو داخلها
لم يكن الوقت مناسبا لاختبار حمل ولا المكان مناسبا للسؤال عن الحقيقة حتى الاختبار الصغير في صيدلية محلية كان رفاهية محفوفة بالخطر عليها أن تنتظر السفر... حيث الغياب أمان.
قطع كارم شرودها قائلا
بحثت عن جاسر شقيق ظافر التوأم لكن ما وصلت إليه لا يكاد يلامس سطح الحقيقة المعلومات عنه نادرة... وكأنهم محوا أثره عمدا.
رفعت عينيها إليه ببطء
أليس هناك ما يدل على مكانه الآن أي خيط مهما كان دقيقا
هز كارم رأسه بعينين تشيان بالعجز
ليس الآن. من الواضح أن عائلة نصران أتقنت لعبة الإخفاء حتى أكثر مما فعلته حين أخفيتك في الخارج.
سألها بعد برهة من الصمت
لكن... لماذا
طلبت مني التحقيق بشأنه أصلا
قبضت على الشوكة بين أصابعها كما لو كانت تتشبث بشيء أكبر من مجرد أداة طعام.
قالت بهدوء متأرجح
أشعر أنني ربما... أخطأت الفهم ذات مرة. وربما آن الأوان لأن أفهم الحقيقة.
لم يفهم تماما شيء ما في كلماتها ظل غامضا كمن تخاطب طيفا في داخلها لا يسمعه سواها.
هل ثمة خطر سألها متوجسا.
لا شيء خطير لا تقلق ردت وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة على كل حال سنغادر قريبا لا حاجة للمزيد من البحث.
لكن كلماتها بدل أن تطمئنه أوقدت في داخله نار شك لم يفلح في إطفائها فهو يعرفها من نظرة عينيها وطريقتها في الهروب من الأسئلة أن جاسر ليس مجرد اسم عابر في الماضي... بل لعله المفتاح لكل شيء لم تفصح عنه بعد.
بدت سيرين وكأنها تمسك خيوط الحوار بخفة أنثى تعرف تماما كيف تتلاعب
بالسكوت قبل الكلمات إذ بدلت ملامح
الحديث فجأة تسدل الستار على مشهد يؤلمها تحدثت عن نوح ذلك الصغير الذي يسكن قلبها كما تسكن الروح جسدها تحدثت عن ذكائه المبكر ونظراته التي تشبه دهشة الحكماء. ابتسمت نعم لكن تلك الابتسامة لم تخدع كارم كان الحزن يطفو بعينيها كجمر يتوهج خلف رماد خادع.
عادت إلى الموضوع الأثقل ومن ثم قالت بهدوء يخفي العزم
قررت أن أغادر مع نوح بعد خمسة أيام.
رفع كارم حاجبيه متسائلا
خمسة أيام لما خمسة تحديدا
أجابت كمن يحفظ سيناريو نجاة كتبته ألف مرة في رأسها
كان الاتفاق مع ظافر أن أبقى معه شهرا ومن ثم يسمح لنا بالمغادرة بقي أحد عشر يوما فقط لكني لا أظنه سيفي بوعده... لن يتركني أرحل ولا ابني.
قرأ كارم بين السطور وعيناه اكتسبتا حدة الصقر فبادرها
إذا... تنوين أن توهميه بالبقاء بينما تغادرين قبل الموعد
هزت رأسها في اعتراف
صريح وابتسامة هادئة استقرت على شفتيها
نعم. بعد خمسة أيام تماما سيقام حفل إطلاق البرنامج الجديد لدينا وستحرص على تعطيله. حينها ستكون دينا أول من يسارع للاتصال بظافر وتلك ستكون فرصتنا. سيشغله زيفها وسيلاحق صورتها البراقة ولن يلتفت لغيابنا.
لم يكن هدفها الانتقام من دينا بل فضح الكذبة التي تبني شهرتها عليها. كانت تريد من ظافر أن يرى الحقيقة أن يعلم إن كانت دينا أنقذت شادية حقا... أم أنها خدعته كما خدعت الجميع.
لم تكن سيرين تسعى لابتزاز مشاعر الذنب ولا إجبار شادية على الاعتراف بجميل. ما كانت تريده ببساطة أن ينتزع النور من يد من لم تصنعه أن يرد الفضل لأهله.
أليس من العدل أن لا تنسب البطولة لمن لم تخض المعركة أصلا وفوق كل ذلك كيف له أن ينسى!
كيف ينسى تلك اللحظة التي أخذت فيها سيرين سكينا عنه ليبقى
حيا كيف يتجاهل وجعها يتجاهلها هي
كان كارم يراقبها في صمت وشيء داخله يتبدل. كان يخشى أن تكون تائهة مترددة لا تريد الرحيل حقا... لكن الآن
الآن تأكد رأى تصميما جليا في صوتها خطة ناضجة في عينيها وإصرارا يتسلل من كل إيماءة في جسدها.
فقال أخيرا بصوت خفيض لكنه حاسم
حسنا... أنا معك.
وما إن أغلقت دفة الحديث حتى وقف كارم يرافقها إلى قصر ظافر كظل يمشي خلف ضوء يدرك تماما أن مستقبله معها بات أقرب من أي وقت مضى.
فتحت سيرين الباب ببطء كأنها تفتح صندوق باندورا لا تعرف ما قد ينفجر منه كان الصمت يسبقها يمهد لها الطريق نحو عاصفة خافتة رائحة الكحول اختلطت بالهواء تنبهت لها قبل أن ترى المشهد ظافر جالس في العتمة على الأريكة كأنما الوقت قد علق حوله. قميصه نصف مفتوح صدره يعلو ويهبط بانفعال مكبوت وفي يده كأس يتمايل
كأنه مرآة مقلوبة لغضبه.
كانت عيناه حمراوين كجمرتين لا تزالان تتوهجان تحت رماد الخيبة. نظر إليها مطولا كأنما يطعنها بصمت تمتم بصوت مخنوق بالكحول والخذلان
أخيرا... قررت العودة
تقدمت نحوه بخطى باردة كثلج محترق متماسكة رغم ارتجاف الداخل.
تناولت العشاء معه فقط... إن لم يكن بمقدورك حتى احتمال ذلك فليس لدي ما يقال.
كان صوتها ثابتا لكن عينيها تقولان أكثر مما تنطق.
استدارت لتصعد الدرج لكن يدا قوية جذبتها فجأة كأنما تحاول اقتلاعها من نفسها العاجز الذي يخاف فقدان ما تبقى.
أمسك معصمها وأصابعه تطبق عليه كأصفاد من نار حتى كادت تشعر بنبضها يتباطأ تحت ضغطه ومن ثم اقترب منها وهمس بصوت منخفض يحمل بين طبقاته هدوءا مرعبا
من الأفضل لك أن تصدقي أنني قادر على قتله.
كلماته لم تكن تهديدا بل اعترافا عارما بأن الغيرة
حين
تتجسد لا تشبه شيئا إلا الجنون.
