رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والثلاثون
ارتجف قلب كوثر كطائر سقط فجأة من علياء الأمان إلى هوة لا قرار لها إحساس غامض انساب في عروقها كجليد مفاجئ دفعها لتفتح هاتفها على عجل تضغط الأرقام بأصابع مرتجفة.
وضعت السماعة على أذنها فجاءها صوت المعلمة هادئا فقالت كوثر بتوجس
مرحبا معلمة زاك هل يمكن أن تتيحوا له الرد على الهاتف
ترددت الإجابة لحظة ثم انطلقت كطلقة تخترق صدرها
هل أنت والدة زاك والده جاء قبل قليل وأخذه إلى المنزل.
تجمد الزمن للحظة وقد اتسعت عينا كوثر حتى كادتا أن تقفزا من محجريهما ولفظت الكلمة وهي تكاد تختنق
والد
همست لنفسها وكأنها تخاطب شبحا
هل كان ظافر لا مستحيل! ظافر لا يعلم حتى أن زكريا ابنه! إذا من
ارتسمت على وجهها دهشة ثقيلة تتداخل مع خوف أسود يزحف إليها من الأعماق وها قد عاد صوت المعلمة يقطع شرودها
سيدتي هل ما زلت على الخط
انفجرت كوثر وصوتها يشبه زجاجا يتكسر
كيف تسمحين لشخص غريب أن يأخذ ابني! ماذا لو كان مجرما! من هو كيف كان شكله!
بينما انسابت العديد من الأسئلة إلى رأسها كسيل لا يوقف
إذا اختفى زكريا ماذا سأقول لسيرين
كانت تعرف أن سيرين تذوب في أبنائها حنانا تخشى على أنفاسهم قبل أن تخشى على حياتها والآن زكريا بعيد مجهول المصير
والمعلمة التي كان يفترض أن تحميه تركت الباب مفتوحا للغريب.
شعرت كوثر أن قلبها سقط في بئر لا ضوء فيه فقط صدى اسم صغير يضيع زكريا
تجاهلت كوثر الفوضى المبعثرة على أرضية الشقة وكأن الأشياء المرمية قد فقدت حقها في الوجود أمام جنون اللحظة وخرجت مسرعة تستوقف سيارة أجرة وألقت على السائق وجهة واحدة
روضة الأطفال الدولية بسرعة.
في مكتب الروضة بدت المعلمة مضطربة تتفحص كوثر بعينين حائرتين ثم سألتها بلهجة مترددة
هل تعنين أنك لا تعرفين ملامح والد الطفل
اشتعلت وجنتا كوثر بحمرة الغضب عيناها تقدحان شررا وهي تقول
! أهذا يكفيك
شعرت كوثر أن في الأمر استهتارا فجا كيف يسمح لشخص مجهول بأخذ طفل دون أن يستأذن والديه كانت القصة بالنسبة لها صفعة منطقية على وجه أي نظام مسؤول.
رفعت المعلمة يديها في محاولة لتبرير موقفها
أرجوك سيدتي لا تغضبي لم يكن الأمر بيدي المديرة نفسها هي من أدخلته إلى هنا كان طويلا طويلا بشكل يلفت النظر ربما مترين وستة سنتيمترات وسيما وله عينان فيهما بريق غريب. أوه وأظن أن اسمه كان طارق
طارق لم يكن في عالم كوثر رجل بهذا الاسم سوى واحد.
أغلقت الخط فورا وضغطت زر الاتصال به لكن الرد جاء آليا
عذرا الرقم الذي تحاول الاتصال
به غير متاح حاليا.
ارتجفت أصابعها وهي تتمتم كمن يحارب فراغا يبتلعه
كيف يجرؤ كيف يجرؤ على ذلك ماذا الآن زاك
على بعد مسافة كان البحر الاصطناعي الممتد أمام فيلا طارق يلمع تحت شمس حادة كلوحة زرقاء مسحورة تتحدى الطبيعة فكان أول ما خطف انتباه زكريا حين أحضر إلى هناك عنوة هو أن هؤلاء الناس أغنياء حد الجنون.
في عقله بدأ يعيد الحسابات
لماذا أتعب نفسي بسرقة والدي الحقيقي بينما بإمكاني أن أستنزف جيوب هذا الأب الزائف الذي يظن أنني ابنه
داخل السيارة التفت طارق إلى الصبي بابتسامة شبه واثقة وقال
لم تكن تتوقع أبدا أن آخذك من مدرستك اليوم أليس كذلك
انعكست ملامح زكريا على عيني طارق اللوزيتين فوجد فيه برودا غريبا فأضاف طارق بصوت خافت وكأنه يختبره
إن كنت خائفا ابك لن أضحك عليك.
كان مقتنعا في قرارة نفسه أن زكريا هو ابنه وأن من حقه أن يهدئه أو يحتضنه إن بكى.
لكن عيني الصبي الداكنتين بعمق سبج صقيل التفتتا نحوه بثبات جعل قلب طارق يخفق دون إرادة كانت لحظة صمت مشبعة بالتوتر ثم تسلل سؤال غامض إلى رأس طارق
لماذا يذكره هذا الفتى بشخص يعرفه حد الارتجاف
لم يحتمل طارق تلك النظرة التي ارتسمت في عيني الصغير وكأنها تخترق صمته فمد يده يقرص
وجنتيه بخفة وقال بنبرة ساخرة تتوارى خلفها حدة مكتومة
ألم تعلمك أمك كيف تداعب والدك
كان زكريا مشلول اللسان غير أن قلبه يفيض بكلمات لم ينطقها لكنه لم يرد أن يكشف الحقيقة فآثر الانسياق مع الموجة مجيبا ببراءة تجرح أكثر مما تداوي
أمي قالت إنني بلا أب.
تجمدت ملامح طارق للحظة لكن الصغير واصل كلماته بثقة طفولية جارحة
قالت أمي
إنك مت يوم ولدت لأنني كنت ملعونا.
ارتج شيء في صدر طارق كمن تلقى طعنة من يد لا تدري حجم الألم الذي تزرعه إذ لم يصدق أن كوثر قد تصوغ لطفلها كذبة بهذا السواد ولم يدرك أو لعله أدرك متأخرا أن زكريا كان يلعنه بملمس من حرير.
سأله الصغير وعيناه تتقدان بدهاء طفولي
سيدي إن كنت أبي حقا أليس معنى ذلك أنك ميت الآن
تبدلت ملامح طارق وغشى صوته غيم من التهديد
إياك أن تدفعني لتمزيق لسانك هذا.
لم يجزع زكريا بل ومض في عينيه بريق ساخر
سيدي أأنت دنيء لهذه الدرجة معلمي دائما يقول إن الجبناء وحدهم هم من يستعملون العنف لينالوا من الأضعف وأنا طفل.
كانت كلمات الصغير كالملح على جرح مفتوح فارتخت قبضة طارق على وجهه ثم التقطه فجأة ورفعه على كتفه كما ترفع غنيمة وخرج به من السيارة بخطوات صامتة مشحونة بالمعنى وقال وهو يمضي
أيها
الصغير إن لم ألقنك درسا اليوم فأنا لست أباك.