رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثاني والثلاثون
كان طارق يتقدم بخطوات وئيدة عبر بهو الفيلا حاملا زكريا على كتفه كما لو كان يحمل حقيبة متمردة ترفض الانصياع وللغرابة لم يكن الصغير في حالة فزع بل كان في عجب هادئ وعلى شفتيه ظل ساخر يقول بصوت ثابت يقطر استفزازا
سيدي إن كنت حقا أبي ألا يخالجك شيء من الخجل
تجمد طارق في منتصف الممر وارتفع حاجباه في دهشة
ماذا تعني بذلك
أجاب الفتى بعينين واسعتين يلمع فيهما الصدق الطفولي المتكلف
أمي ربتني وحدها لكنها لم ترفع يدها علي قط والآن بعد أن وجدتني للتو تريد أن تضربني ألا ترى في ذلك مهانة
تعمق طارق في عينيه فرأى فيهما شيئا يشبه المرآة عمق أربكه وجعله يتوقف لبرهة عن التفكير لكن زكريا الذي ضاق ذرعا بالوضع واصل حديثه بهدوء متعمد
كنت دائما أظن أن والدي
تلعثم لحظة وكأنه يستحضر من ذاكرته وصفا من حكاية قديمة ثم أتم
بطل خارق ينقذ العالم. يظهر فجأة كلما تعرضت للتنمر ويبعد عني الأذى لم أتخيل أن من سيقسو علي سيكون هو نفسه بطلي الخارق.
ردد طارق في داخله الكلمتين كمن يختبرهما على لسانه
بطل خارق ينقذ العالم
وكأن الجملة كانت ماء أطفأ جذوة الغضب في صدره لكن أثر كلمات الفتى الأولى ظل عالقا فتابع طريقه إلى غرفة الأطفال ووضعه هناك بلطف ثم قال
لن أعاقبك ليس لأنك لا تستحق بل لأن اليوم أول يوم لنا كأب وابن لا أريد أن أبدأه بصخب أحسن التصرف ولن يحدث ما تكره.
ارتسمت على محيا زكريا ابتسامة صغيرة تحمل مزيجا من الفخر والمكابرة
لا تقلق أمي غرست في الأخلاق منذ كنت صغيرا.
شعر طارق أن الكلمات أثقل من أن تبتلع بلا تعليق لكنه ابتلعها.
أخلاق
ثم التفت نحوه بنظرة فاحصة
أخبرني عندما كنا في الفندق هل كانت والدتك هي التي أمرتك بأن تصب المشروب علي ثم تخفي ملابسي وهاتفي خلسة
كان طارق يدرك أن إجابة الطفل بنعم ستمنحه ذريعة ذهبية لانتزاع حضانة ابنه المزعوم لكن زكريا وبدهاء يشبه ارتداء قناع قال ببرود
لا أفهم ما الذي تعنيه مشروب ملابس هاتف عن أي شيء تتحدث هل تملك دليلا
كان
طارق يشعر أن الغضب الذي يتأجج في صدره كلما نظر إلى ذلك الصغير سيفتك به يوما ما. كلمات زكريا وابتسامته الماكرة كانت كشرارات تسقط على برميل بارود داخله.
زفر طارق بحدة ثم قال بصوت يقطر حزما ووعيدا
الأطفال المشاغبون الذين لا يعترفون بزلاتهم لن يتذوقوا العشاء الليلة!
غادر طارق غرفة الطفل بخطوات حاسمة وكأن الأرض تحاول أن تلين تحت قدميه اتقاء لثورته واتجه إلى غرفة المعيشة يجلس على الأريكة ثم مد يده بعناية متعمدة ورتب قطع الحلوى الملونة في أكثر الزوايا وضوحا كما لو كان ينصب فخا بصريا ومع ذلك كان زكريا يشيح ببصره ملتقطا إحدى الألعاب الموضوعة على الطاولة يغرق فيها كأن عالمه يرفض أن يلتقي بعالم طارق.
في تلك الأثناء كانت كوثر في مكان آخر وقلبها يهبط ويصعد كأرجوحة بين الخوف والرجاء أصابعها المرتجفة قلبت الأوراق والعناوين حتى عثرت على ذلك العنوان الذي أعطاها إياه طارق ذات مرة فلم تتردد وأمرت السائق بأن يتجه مباشرة إلى الفيلا.
في
الطريق كانت تخشى أن تبلغ سيرين بما يحدث مخافة أن تشعل القلق في قلبها لكنها ظلت تتمتم بين أنفاسها الخائفة
زاك لا تدع مكروها يمسك إن كان لا بد من فاجعة فلتأخذني أنا بدلا عنك.
حين توقفت السيارة أمام أسوار الفيلا قفزت كوثر إلى الأرض قبل أن تنطفئ عجلاتها عن الدوران لكن الحارس عند البوابة مد ذراعه ليمنعها من الدخول جربت الاتصال بهاتف طارق لكن الإشارة الصامتة كانت كجدار أملس لا سبيل لاختراقه لذا لم تجد أمامها سوى أن تصرخ بصوت متوتر يخفي رعبا
طارق! أيها الوغد الوقح! اخرج وإلا سأستدعي الشرطة!
لكن قلبها كان يعرف أنها لن تفعل فالشرطة قد تجلب معها عاصفة أكبر ومن ثم ءيلتقط ظافر خيوطا لا ينبغي له أن يراها.
في الداخل كان طارق ما زال يلعب لعبته الخاصة لعبة شد الحبل بالعقول لا بالأيدي. مستلق على الأريكة يتصفح هاتفه بلا اكتراث فيما عيناه تراقبان زكريا من طرف خفي كصياد يترقب حركة الفريسة قبل أن ينقض.
في تلك اللحظة اندفع أحد الحراس الشخصيين
بخطوات مترددة ليبلغ سيده بوصول كوثر وقد تعالت أصواتها في الخارج محملة بالسباب والوعيد.
رفع طارق عينيه عن شاشة هاتفه ببرود يشي بسلطة لا يرقى إليها شك وقال بنبرة ثابتة كمن يصدر حكما لا رجعة فيه
أبعدها عن المكان فورا وأخبرها أنها إن أرادت مالا أو شيئا آخر فلتخطه على ورقة وتأتي إلي بعد أيام وسأتبادل معها ما تشاء لكن لا استثناءات وإن كان الأمر يتعلق بابننا فلتدرك
أن اللعبة انتهت وعليها أن تستسلم.
انحنى الحارس برأسه في خضوع وأجاب بصوت لا يكاد يسمع
أمرك سيدي.
وما إن انصرف حتى انفتحت أبواب الليل على وحشيتها لم تمض عشر دقائق حتى كانت كوثر قد تركت في منطقة مهجورة لا يؤنسها سوى صدى الريح وهي تعصف كأنها تضحك بسخرية على انكسارها.
ومع انطفاء آخر خيوط النهار جاهدت كي تعود إلى منزلها لكن المفاجأة كانت أقسى من
احتمالها إذ وجدت بوابة الفيلا موصدة في وجهها أطل عليها خادم جديد بملامح باردة وفي صوته نغمة مهذبة لكنها تحمل طعنات مبطنة
سيدتي كوثر والدك احضرني إلى هنا ويبلغك إنك إن كنت تريدين الحرية فعليك أن تقلعي عن استخدام أموال العائلة وتبحثي لك عن بيت آخر تعيشين فيه غير هذا أيضا.
تجمدت الكلمات في حلقها وارتجف قلبها بين ضلوعها كطائر اصطدم بشباك خفية.
راودها خاطر باللجوء إلى فندق لكن الصدمة الكبرى كانت حين اكتشفت أن بطاقتها البنكية قد جمدت أيضا كأن الأرض كلها قد أطبقت عليها بلا مفر.
في وجه الريح الباردة شدت معطفها على جسدها الهزيل بينما جرت دموعها على وجنتيها في انكسار ومذلة فلم تجد سوى رقم واحد يمكن أن ينقذها من هذه الهوة.
رفعت الهاتف المرتجف بين يديها ونادت بصوت متهدج محمل برجاء يائس
سيرين
أرجوك أنقذيني.