رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والثلاثون 235 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخامس والثلاثون

لم يكن التحقيق محصورا في منزل كوثر وحده بل الحي بأسره قد وضع تحت المجهر. رجال الأمن ينتشرون كظلال ثقيلة في الأزقة والهمسات تختبئ بين جدران البيوت حتى الخادمات في فيلا كوثر اقتيدت كل واحدة منهن على حدة كأنهن بيادق تنقل على رقعة شطرنج غامضة إلى استجواب بارد لا يرحم.
أما زكريا فقد خطف منذ البداية على يد طارق وكأن القدر نفسه دفعه إلى مصير آخر.
جلس ظافر يحدق في سيرين بعينين يختبئ خلفهما سؤال لا يعرف الصبر
كم يوما متبقيا
لم تفهم للوهلة الأولى ثم أدركت قصده فأجابت بصوت خافت
عشرة أيام.
ثم صححت تحدث ذاتها بل ثلاثة أيام قبل أن يحين موعد المغادرة فعليا.
أغلق ظافر المسافة بينه وبينها بكلمة واحدة حاسمة
لقد حجزت رحلة إلى الخارج.. إلى جزيرة تينكو سنغادر الليلة.
تسمرت ملامحها وقد زاغت نظراتها المندهشة
الليلة! لكن متى سنعود
أجاب ببرود مختصر يقطع أي مجال للنقاش
بعد غد.
تدفقت الكلمات في ذهن سيرين كسيول متضاربة إذ لم تتوقع أن ظافر ما زال مصرا على لعب دور الزوجين أمام العالم.
لكنها حين تذكرت جزيرة تينكو ذلك الحلم المخبأ في دفاترها القديمة حيث الليالي المشعة بألوانها الغريبة واللوحات التي خطها رسام الكاريكاتير الذي لطالما أحبته أحست أن قلبها يستجيب بخفقة مختلفة.
قالت بنبرة مستسلمة تحمل

في طياتها شيئا من الامتنان
حسنا سأجهز أمتعتي.
أوقفها صوته قبل أن تخطو
لا حاجة لذلك كل شيء معد هناك.
أومأت باستسلام هادئ كمن تلقي بحالها إلى  مصير غامض واكتفت بالقول
تمام.
كان في نيتها أن تخبر كارم غير أن السفر المفاجئ أجل رسالتها حتى وصولها إلى تينكو.
بعد نصف ساعة فقط وجدت نفسها إلى جوار ظافر على متن طائرة خاصة تلامس أجنحتها السحاب كأنها ترسم ممرا مضيئا في السماء.
جلست قرب النافذة عينها تلتقط الأضواء المتناثرة تحتها كجواهر صغيرة تنام على صدر الأرض.
امتدت الرحلة ثلاث ساعات كاملة وبينما التعب كان يثقل أجفانها وحملها يزيد من وطأة النعاس استسلمت لأحضان النوم أما ظافر الذي أنهكته ليلته السابقة بكؤوسها الثقيلة وساعاتها الطويلة فلم يغلق عينيه بل ظل يراقبها بصمت ملامحها الوديعة مسافرة في حلمها ووجهها الغافي يضيء في عتمة المقصورة كنجمة تأبى أن تنطفئ.
لاحظ ماهر تلك النظرات المترددة في عيني ظافر حين مد يده ليتسلم البطانية.
وكمن يخشى أن يفتضح ما يخفيه خلف ستار البرود المصطنع أخذ البطانية على عجل ليغطي جسد سيرين الغارق في النوم بحركة أشبه بلمسة عابرة من الحنان حاول أن ينكرها على نفسه وما لبث أن استدار مبتعدا نحو كابينة أخرى مع ماهر ليستريح بعيدا عنها.
سأله ماهر بصوت منخفض
هل جرى تجهيز
كل شيء في الفندق
أجابه الرجل بصوت حاسم
كل شيء مرتب كما طلبت يا سيدي.
لكن ماهر لم يستطع كبح فضوله أكثر فتردد قليلا قبل أن ينطق بما يثقل صدره
سيد ظافر... هل ستترك السيدة تهامي ترحل فعلا إذا ما أصرت على المغادرة بعد عشرة أيام
ارتفع حاجب ظافر في برود كأن السؤال لم يمس شيئا في داخله
بالطبع فأنا لست عاجزا عن العيش من
دونها.
تجمد الكلام على شفتي ماهر لكنه اندفع رغم ذلك
في هذه الحالة لماذا إذن...
قاطعه ظافر بصرامة وفي صوته قسوة مكتومة
مثلها تماما لن أضع نقطة النهاية قبل أن أرى بعيني بعد كل ما مررت به أريد أن أختبر ما تريده هي حقا... إلى متى ستظل تتمسك بهذا الوجه البارد
ابتلع ماهر كلماته غير أن فكرة واحدة كانت تصرخ بداخله حتى الآن لم يعترف سيده ولو مرة واحدة أنه يحبها بينما كانت أفعاله تفضح ما يخبئه قلبه فلو لم تكن تعنيها لم اقترح أن يعيشا كزوجين حقيقيين لم يبذل هذا الجهد الجنوني ليستعيدها
لم يشأ ماهر أن يندفع أكثر فاكتفى بالتمتمة
سيدي... السيدة تهامي لا تستحقك لا تضيع نفسك عليها.
عندها جمدت ملامح ظافر وصار صوته أشبه بنصل بارد
أنت تتحدث كثيرا.
ارتبك ماهر على الفور وقال بخضوع
اعتذاري يا سيدي.
...
هبطت الطائرة بعد ثلاث ساعات ثقيلة كانت سيرين قد استيقظت نصف غارقة في النعاس كأن النوم صار
رفاهية تفتقدها.
نزلت من الطائرة مع ظافر وما أن أمر رجاله بالانصراف حتى تركا وحدهما يسيران في شوارع تينكو الليلية.
لكن ملامح سيرين لم تحمل أي بريق بل بدت متعبة غير مبالية كأنها لم تعد تلك الفتاة الحالمة التي كانت تتلهف على نزهة رومانسية معه يوما ما كل ما تريده الآن... هدوء حياة بلا زوابع.
قرأ ظافر صمتها فأخذها إلى مطعم كانت قد ذكرت رغبتها بزيارته من قبل وتناولا العشاء ثم عادا إلى الفندق الفندق ذاته الذي كانت قد خططت للإقامة فيه في رحلاتها السابقة.
فتحت سيرين باب الغرفة فتفجرت أمامها باقة من الألوان والروائح... زهور تملأ المكان وصناديق هدايا مصطفة بعناية كان المشهد ساحرا حتى بدت الغرفة كأنها لوحة رسمتها يد مهووسة بها.
التفتت نحوه بدهشة مشوبة بالريبة
ما كل هذا
قال بثبات
هدايا.
اقتربت تلتقط أحد الصناديق وفتحته بلا اهتمام لتجد داخله قلادة صممت خصيصا لها من دار المجوهرات المفضلة لديها لحظتها ارتجف عقلها بتساؤل
أخبرني... هل قرأت مذكراتي القديمة
تجنب عينيها وهو يرد
ظننتها ملاحظات عابرة... ألقيت نظرة واحدة فقط.
ازدادت حيرتها لم تعد قادرة على سبر أعماقه أو فهم نواياه فأعادت القلادة إلى مكانها بعزم حاسم
لا أريدها أعد كل شيء كما كان.
كانت تعلم أن قيمة ما يحيط بها من هدايا قد تساوي منازل
بأكملها... ومع ذلك كل ما أرادته هو كلمة صادقة لا صناديق من ذهب.


تعليقات