رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والثلاثون 236 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والثلاثون

تبدل وجه ظافر للحظة كأن ظلا عابرا مر على قسماته وبحركة طفولية غاضبة ركل إحدى العلب المزركشة لتتدحرج على الأرض ثم قال بصوت ممتلئ بالتمرد وهو يتجه نحو الحمام
لن أعيد شيئا خذيها أو اتركيها.
أغلق الباب وراءه وما إن لامسته العزلة حتى اجتاحت جسده موجة حارقة من الحكة كما لو أن آلاف الإبر الدقيقة تنغرز تحت جلده فتناول حبتين إضافيتين من مضادات الحساسية ثم وقف تحت ماء بارد يتساقط على جسده في محاولة يائسة لإطفاء ذلك الاشتعال الداخلي.
في الخارج جلست سيرين على طرف الأريكة تحدق في الغرفة الغارقة بفيض من الألوان والشرائط والعطور ومئات الصناديق الصغيرة والكبيرة تراصت كجدار يفصلها عن حقيقتها. كل هدية كانت تلمع في عينيها مثل مرآة تعيد إليها انعكاس سنوات أهدرتها.
سنوات كانت فيها تخفي ضعف شركته خلف مالها الخاص إذ كانت تقتر على نفسها وتسطر قوائم طويلة بأحلام صغيرة مؤجلة حقيبة بعينها ساعة فاخرة عطر بعينه. كانت تكتبها بدقة تحفظ الأسعار وتخبئ الورقة في درج مغلق على أسرارها.
يومها لم تكن تعرف أن الرجل الذي أهدته قلبها  قادرا على شراء الدنيا بكبسة زر ومع ذلك تركها تقايض أنوثتها بالانتظار.
يا لحمقها! كم غاصت عميقا في وهم الحب حتى أعمتها العاطفة عن أبسط الحقائق.
طال غياب ظافر خلف الباب حتى تسللت الريبة إلى ملامحها وما إن انفتح أخيرا حتى شهقت فقد كان وجهه مغطى بانتفاخات حمراء وجسده يعج ببثور متورمة فبدا كمن خاض حربا ضد أشباح وخرج منها مهزوما.
اقتربت

منه بخوف
ظافر ما بك
ابتسم ابتسامة ساخرة لكن صوته خرج متقطعا مثقلا بالهواء
لا شيء يبدو أن أنفاسي تثمل من فيضان الزهور حولنا.
كان صدره يعلو ويهبط بسرعة وكأن كل زهرة في الغرفة تتحول إلى شوكة تختنق بها رئتاه.
مدت سيرين يدها نحو هاتفها بتوتر
سأتصل بماهر ليأخذك إلى المستشفى لا يمكن أن تظل هكذا.
لكنه أوقفها بقبضة حاسمة على معصمها وجاء صوته ثابتا رغم صعوبة تنفسه
لا داعي سأكون بخير أحتاج فقط إلى أن أستريح الليلة غدا غدا سترين شيئا كنت أعده لك.
ترددت بين خوفها ودهشتها غير أن نبرته حملت ثقلا جعلها ترضخ فأعادت الهاتف إلى مكانه.
دخل ظافر إلى غرفة النوم مترنحا يتمدد على الفراش لكن ملامحه لم تهدأ كان يقطب جبينه بين الفينة والأخرى وصدره يصفر بصوت عال مع كل شهيق.
اقتربت منه سيرين قلبها يضج بالقلق
ظافر!
أجاب بنصف وعي بصوت أشبه بآهة طويلة
هممم
وبقيت تنظر إليه تتساءل إن كان الغد سيحمل لها مفاجأة أم فاجعة. 
بعد مرور نصف ساعة اخترق صمت الليل صوت سيارة الإسعاف وهي تتوقف أمام المبنى كصافرة قدر جاءت لتعلن شيئا أكبر من مجرد مرض عابر.
هناك على مقعد خشبي بارد في ممر المستشفى جلست سيرين متصلبة الجسد يداها متشابكتان حتى بدت مفاصلها كالحجارة ووجهها يحمل خليطا مربكا من الذهول والقلق والخذلان. عقلها يصرخ
متى صار ظافر ضعيفا أمام حبوب اللقاح! لم يكن في ذاكرتها شبح إشارة واحدة تقول إنه عانى من ذلك يوما.
اقترب منها ماهر بخطوات مترددة صوته يخترق غيمتها الثقيلة
لم يخطر
ببالي أن مضادات الهيستامين لن تؤثر... أنا ممتن لأنك اتصلت بي في الوقت المناسب.
رفعت سيرين رأسها ببطء بعينين تشعان بأسئلة لا تريد لها أن تجاب
قل لي يا ماهر... هل كان ظافر يعاني من حساسية تجاه حبوب اللقاح دائما
ارتسمت على وجه ماهر علامات دهشة خفيفة كمن يواجه مفارقة غير منطقية
ألم تعلمي
كان غريبا أن تغيب عنها هذه المعلومة بالذات هي التي عرفت بحرصها المفرط على كل ما يخصه كيف لامرأة تحيط رجلها بهذا القدر من العناية أن تجهل شيئا متأصلا في جسده
ومع ذلك لم تقل شيئا أومأت برأسها بصمت فتنفس ماهر بعمق ثم أردف
السيد ظافر يعاني من حساسية تجاه حبوب اللقاح منذ طفولته الأمر ليس جديدا.
في تلك اللحظة ارتج قلبها فإن كان ذلك صحيحا فهذا يعني شيئا واحدا... أن الرجل الممدد الآن في غرفة الإنعاش ليس ذاك الذي عرفته يوما ليس الطفل الذي كبر معها ولا الصديق الذي ضمد جراحها الأولى.
انطلقت ذكرياتها نحو ذلك اليوم البعيد... حين صفعتها سارة ودخل عليها ظافر حاملا باقة زهور بين يديه عيناه تبتسمان قبل شفتيه وقال لها
أحب الزهور كثيرا لكن لسوء حظي عائلتي لا تطيقها وحدك يمكنك أن تحمليها عني وتعتني بها من أجلي.
ومنذ تلك اللحظة غرست الزهور في قلب بيتها كأنها تربطها بخيط خفي بذاك الحب الأول.
لكن اليوم.. كل شيء بدا أنه مجرد خدعة فتمتمت بصوت مبحوح بالكاد يسمع
إذن... ليس هو.
لاحظ ماهر شحوبها الغريب ذلك الحزن الذي لم يكن مجرد قلق على مريض بل كان أشبه بحداد صامت على حقيقة تهشمت بين
يديها. فحاول ماهر أن يطمئنها ظنا منه أن اضطرابها سببه خوفها على ظافر
لا تقلقي الطبيب أكد أنه بخير هل ترغبين برؤيته الآن
لكنها هزت رأسها نافية بعينين غارقتين في بعد موحش
لا... لا أريد أن أراه أريد أن أكون وحدي.
لم يجد ماهر ما يقوله لذا عاد بخطوات مثقلة إلى الجناح حيث كان ظافر يستعيد وعيه فاقترب منه وهمس
سيد ظافر... السيدة تهامي رفضت المجيء يبدو أنها مثقلة بالذنب.
أما الحقيقة... فكانت سيرين مثقلة بما هو أعمق من الذنب مثقلة بالشك.
ارتفع حاجبا ظافر لا إراديا حين التقطت أذنه ما قاله ماهر... فهو لم يكن بحاجة إلى يقين آخر إذ كان يعرف أعماق قلب سيرين أكثر مما تعرف هي نفسها عنادها ليس إلا قناعا هشا يخفي خلفه خوفا من الانكسار وحنينا لا تستطيع دفنه.
كان واثقا أنها رغم كل شيء لن تغادره بعد عشرة أيام... فخيوط القدر قد رسمت ولا مجال للهروب من فصولها.
وفي الخارج جلست سيرين على مقعد خشبي صامت يئن تحت وطأة ليل طويل كمن تتأمل فراغا لا ينتهي لم يغمض لها جفن والبرد يلسع وجنتيها كما لو كان يذكرها بمرارة الحقيقة التي بدأت تنكشف فبقيت هناك ساهرة سجينة أفكارها.
وحين انبلج الفجر تقدم ظل طويل نحوها يلقي بظلاله فوقها كستار ثقيل فرفعت رأسها ببطء ودموع السهر والخوف ما زالت تلمع في عينيها المحمرتين.
اقترب منها بخطوات هادئة وكأن الصمت يخشى أن ينكسر بينهما وعندما التقت عيناه بعينيها لم يتردد بل انحنى ظافر نحوها بوجهها المرتجف يلمان شظاياها المتناثرة ثم بلا كلمة ترك
قلبه يتحدث عنه تحمل وجع الليل ووعد الصباح معا.


تعليقات