رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والثلاثون
توقف ظافر فجأة حين ابتعدت عنه سيرين بسرعة كأنها تفر من سر لا تريد أن ينكشف.
علقت يده في الهواء للحظة ثم سحبها بهدوء وصوته ينساب إليها كنسمة دافئة تحاول أن تذيب جليد قلبها
أنا بخير الآن... ولكن لماذا جلست هنا طوال الليل أيتها الغبية الصغيرة
كانت كلماته أقرب إلى العتاب المغلف بحنو يربك الحواس تذكرت أنها بالأمس رفضت دعوة ماهر باصطحابها إلى جناح ظافر رفضا قاطعا لم تعرف سببه سوى أن قلبها لم يطاوعها.
لكن صوته الآن... تلك النبرة اللطيفة المغايرة لصلابته المعتادة جعلتها ترتجف من الداخل وألقى في روحها شكوكا جديدة هل يمكن أن تكون قد أساءت فهم كل شيء
انطلقت التساؤلات في رأسها كأصوات متقاطعة لو كانا توأمين أما كان من المستحيل أن يتشابها حتى في الأسماء ومن عرفته منذ الطفولة ذاك الذي كان يرفض دوما أن يستبدل بأحد أو أن يكون بديلا لأحد هل يعقل أن أراه أمامي الآن
رفعت بصرها إليه وشفتيها ترتعشان
ظافر... لقد عرفنا بعضنا منذ الطفولة أليس كذلك
ظن هو أن سؤالها ليس سوى ارتباك ناجم عن صدمة ليلة الأمس فجلس القرفصاء أمامها أن أبداه من قبل
بالتأكيد... نعرف بعضنا منذ أكثر من عقد.
عندها انهمرت
الدموع من عينيها كأنها تنزف وجع السنين ثم همست وهي ترتجف
نعم... لقد مر أكثر من عقد...
كيف استطاعت أن تخلط بينه وبين آخر كيف ضلت بوصلتها كل هذه السنوات
من بعي كان ماهر يتابع المشهد بصمت فهو لم يعتد أن يرى ظافر بهذا القدر من الرقة لا مع شادية ولا مع أي امرأة سبقتها إلى حياته فالمشهد بالنسبة له كان اكتشافا مربكا لرجل اعتاد أن يراه صلبا كالحجر.
أما ظافر فبقي عاجزا عن فهم بكاء سيرين المفاجئ لكنه مد يده ليمسح دموعها بخفة وقال بابتسامة تخفي قلقه
أنا بخير حقا حساسية تافهة كهذه لن تقتلني.
لكنها كانت تسمع صوته وتستحضر صوتا آخر أقدم من أكثر من عقد مضى... حين أصيب في طفولتهما وقال لها يومها
أنا السبب في قلقك علي يا سيرين... صدقيني لا يؤلمني شيء سأكون بخير قريبا.
الآن بدا مختلفا كأنه رجل آخر يرتدي وجهه ذاته صوته كلماته حتى روحه... كل شيء يوحي باختلاف مبهم.
شعرت أنها تخدع نفسها بقبول ما تراه. شخصياتهم مختلفة تماما ومع ذلك... لم تنتبه لذلك طوال هذه السنوات بل إنها آثرت أن تبرر المسافة التي نشأت بينهما حين بدأ بمواعدة دينا وظنت أن قلبه ببساطة لم يعد يحبها كما كان.
لكن الحقيقة كانت أكثر إيلاما إذ شعرت
بوخزة مريرة في حلقها تحبس صرخة لم تولد بعد كل شيء بداخلها كان يقول هذا ليس ذاك.
ربت ظافر على ظهرها ببطء كأن أنامله تبحث عن لغة صامتة تهدئ ارتجاف روحها. لم يكن يعرف كيف يواسيها لكن دموعها كانت تحدث في داخله شرخا غريبا فكلما انحدرت قطرة على وجنتها شعر بثقل في صدره لا يعرف من أين جاء.
طال صمتها الباكي حتى بدأ يرتخي شيئا فشيئا وبدأت أنفاسها تعود إلى إيقاع أهدأ عندها فقط أيقنت سيرين أن عليها أن تقرر مصيرها سواء رأت فيه من تظنه أو ظنت أنه شخص آخر فالخيط بينهما أوشك أن ينقطع ولن يكون لهما مستقبل يجمعهما.
اقترب صوته الدافئ وهو يمد يده إليها
هل أنت جائعة هيا نتناول شيئا من الطعام أولا... وبعدها سأصطحبك إلى مكان مختلف.
ترددت لحظة ثم تركت يدها تقع بين أصابعه ومن ثم جلست معه على الإفطار بصمت متردد وبعد الانتهاء باغتها انحناءة جذعه حين حملها إلى حيث لم تتوقع كان المشهد أمامها مستعارا من حلم طفولتها
موقع مألوف من رسومات رسامها الكرتوني المفضل لكن المدهش أن السماء قد نثرت فوقه أزهار الكرز الوردية متفتحة رغم أن الفصول كانت تعلن الخريف.
شهقت سيرين غير مصدقة عينيها إذ بدا المكان كلوحة خيالية قد انبثقت
من الورق وصارت واقعا نابضا.
ابتسم ظافر وقال وهو يتركها على العتبة
سأنتظرك في الخارج.
أومأت برأسها ودخلت كانت تتجول بين أركان المكان كطفلة تعيد اكتشاف أحلامها وكل زاوية تذكرها بمشهد رأته يوما على الورق ومن بعيد ظل ظافر يراقب انعكاسها ثم أخرج هاتفه خلسة يلتقط صورة لصورتها الظلية وحين
ثبتت على شاشته باغتته دهشة كأن هذا الظل يعرفه من زمن أبعد من الذاكرة.
في داخله تمسك بوهم صغير إن منحها السعادة هذا اليوم لعل الليل يجمعهما على ما هو أعمق لكن حين حل المساء أطفأت سيرين كل أمله ببرود صوتها
أنا مرهقة... أريد أن أخلد للنوم مبكرا.
لم يلح عليها فقد كان يعرف أنها قضت الليلة الماضية تلتهم نفسها باللوم فأخفى إحباطه في صدره ثم جذبها بين ذراعيه كأنه يخفيها من العالم وتمتم قرب أذنها بنبرة مترددة
غدا... بعد عودتنا إلى أين تريدين أن نذهب
تظاهرت سيرين بالنوم وأغلقت عينيها كأنها لم تسمع بينما قلبها يتلو قرارا مرا
بعد أن تفاجئ دينا غدا ستختفي إلى الأبد.
حل الليل وغلبه النوم وهو يمسك بها كمن يتشبث بآخر أوطانه لكن الأحلام لم تنصفه إذ رأى سيرين تختفي بين أزقة بلا نهاية وظل يجري خلفها بلا جدوى صارخا باسمها حتى
بح صوته ومع ذلك... لم يعثر عليها.