رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والثلاثون
لم تطأ قدما زكريا بوابة الروضة منذ يومين كاملين كأن الزمن قد توقف عند عتبته محبوسا بين جدران البيت حيث قرر طارق أن يعمل ويقضي وقته معه.
خارج تلك الجدران كان صخب كوثر يتردد بلا هوادة. طرقات متتالية على باب الصمت الذي شيده طارق من حوله. تجاهلها طويلا حتى إذا تسلل إلى أذنه تهديدها بذكر اسم الجد انكسر صمته واستسلم بل وفتح لها الطريق أخيرا وقبل على مضض أن يجرى اختبار الأبوة.
ما إن رأت زكريا
الأم التي تكاد تفقد فلذة كبدها ودموعها تنهمر بحرقة على وجنتيه
يا عزيزي يا بني الغالي! لا بد أنك كنت مذعورا بلا حمى!
زكريا ببراءة ممزوجة بوعي مبكر كان يدرك أن كوثر قد لا تجيد شيئا كما تجيد التمثيل ومع ذلك ابتسم وربت على كتفها بيديه الصغيرتين كمن يواسيها
أمي لا تبكي.
أما طارق وهو يراقب المشهد تاه للحظة بين الحقيقة والوهم فلم يستطع أن يقنع نفسه
بأن هذا الطفل ليس من صلبه حتى بعد الكلمات القاسية التي رمته بها كوثر في اتصالها الأخير لكن القانون لا يعرف العاطفة واختبار الأبوة يحتاج لأربعة أو خمسة أيام كي يفصح عن سره وإلى أن تحين النتيجة سيظل زكريا حبيس كنف طارق.
لكن كوثر لم تتراجع بل رفعت رأسها متحدية وقالت بصرامة مبللة بالدموع
طارق أوف بعهدك وإلا سأستدعي جدك وأقسم أنني سأطالبه العدالة.
كان في نبرة صوتها يقين بأنها تمسك بخيط ضعفه الوحيد فذلك الجد العجوز كان يحبها على نحو غامض وربما يقدس مكانتها في قلبه.
تنهد طارق في ضجر ولوح لها بيده كما لو يطرد صداعا ثقيلا
حسنا يمكنك الانصراف الآن.
عانقت كوثر زكريا للمرة الأخيرة كأنها تقسم له أن طارق لن يجرؤ على إيذائه ثم انسحبت لكنها ما إن عبرت الباب حتى سارعت بالاتصال بسيرين تضع بين يديها تفاصيل ما جرى.
حين وصل الخبر إلى سيرين أحاطها دفء غامض من
الارتياح كأنها تلتقط أنفاسها بعد ركض طويل والآن لم يتبق سوى خطوة واحدة انتظار الغد لحظة المغادرة المرتقبة.
من وراء ستارها السميك من الصمت لم تكن سيرين تدري أن ظافر قد بدأ ينسج لها مفاجأة تعيد ترتيب الفوضى في حياتهما بقد أقنع أحد المقربين منه بإعادة شراء قصر آل تهامي من دينا وأوكل لآخر مهمة إعادة بناء المقر الرئيسي لمجموعة تهامي كما كان ماهر قد نصحه من قبل لذا كان ينتظر اكتمال تلك الملامح الجديدة ليكشف لها عن هديته الكبرى. وفي داخله كانت صورة المستقبل تتشكل ببطء بيت يعج بالضحكات وأطفال جدد يولدون من رحمها وطمأنينة أخيرة يجدها بين ذراعيها ويمحيا معا الخمس سنوات التي مرت وهي بعيدة عنه مقررا أن يسامحها بل وسيتقبل نوح أيضا ويكن له أبا لكن... بينما كان قلبه ينسج الأمل بخيوط ناعمة كانت هي تحزم أمتعتها بصمت مهيأة للرحيل.
في غرفة النوم جلست سيرين
على طرف السرير وحقيبة صغيرة أمامها تضع فيها بعناية الدمى التي كان نوح وزكريا يعشقانها ولم تمس الهدايا التي أغرقها بها ظافر بل تركتها كما هي كأنما لم تكن تخصها يوما ومن ثم رفعت الهاتف واستدعت مساعدتها في الخارج وجاء صوتها حازم لكنه مبحوح من أثر السهر
كم المبلغ المتبقي في حساب الشركة الآن
جاءها الجواب سريعا فيه ذهول مكتوم
ثمانية مليارات دولار.
توقف الزمن للحظة داخل الغرفة بينما حدقت سيرين في الفراغ كأن الرقم صفعة باردة على وجهها ثم تمتمت بهدوء
حولي جميع الأموال إلى حساب ماثيو.
لم يكن القرار ماليا وحسب بل كان أشبه بقطع حبل سري يربطها بماض لم تعد تطيقه أرادت أن ترد المال لظافر نصفه لإسكات أي شكوى قد تخرج من فمه والنصف الآخر كتعويض عن استعارته التي ما زالت عالقة في ذاكرتها كسكين فهي ورأت أن ثمنه يجب أن يدفع بالكامل.
عندما اتصلت سيرين بماثيو
لماثيو انعقدت الدهشة في عينيه
سيرين... من أين جاءك كل هذا
ابتسمت ابتسامة قصيرة لكنها خاوية
إنه مشروع صغير سأحتاج مساعدتك مجددا في التحويل. لكن هذه المرة... اكتب اتفاقية واضحة أريدها أن تنص على إعادة كل ما قدمه ظافر لعائلة تهامي من هذه اللحظة لا دين بيني وبينه... لا مال لا هدايا لا ذكريات.
ارتبك ماثيو للحظة وأتى صوته متردد
لكن... هل سيوقع ظافر على ذلك
أجابته ببرود أشبه بالثلج
سواء وقع أم لم يفعل... هذا شأنه أنا لم أعد مدينة له بشيء.
تأملها ماثيو مليا وقد لاحظ أن نبرة صوتها تغيرت عن ذي قبل لم تعد تحمل أي أثر لتلك المرأة التي كانت تتهدج مشاعرها كلما ذكرت اسم ظافر لقد صار الحديث عنه عندها محض رواية تروى بغير انفعال.
حسنا... سأهتم بالأمر.
. متى أسلمه الاتفاقية
تأملت للحظة كأنها تزن الوقت بميزان حذر ثم قالت
بعد نصف شهر.
في ذهنها كانت هناك خطة أكبرسيتم تحويل المبلغ بعد أن تأخذ زكريا بعيدا معها لتقطع آخر خيط يربطها بظافر.
ابتسم ماثيو ابتسامة باهتة وهو يهز رأسه وكأنها تراه وأجاب باستسلام
على ما يرام.
في ذلك المساء المائل إلى الرماد كان النادي يعج بأصوات الكؤوس المتصادمة ورنين الضحكات التي يبتلعها دخان السيجار بينما جلس ظافر على رأس الطاولة يتوسط المكان كملك صامت يفرض حضوره بلا كلمة وإلى جواره جلس كوينتين يراقبه بعين لا تخلو من الفضول محاولا أن يخترق ستائر عقله الموصدة.
مد كوينتين يده بورقة أنيقة مطبوعة ثم وضعها أمامه قائلا وهو يبتسم ابتسامة جانبية
إن لم تخني الذاكرة
فهذا هو عقد قصر آل تهامي أليس كذلك
رفع ظافر نظره نحو الورقة وفي عينيه بريق باهت لم يفلح في إخفائه لكن صوته جاء ثابتا وهو يسأل
هل هناك مشكلة
ارتشف كوينتين شيئا من كأسه قبل أن يميل نحوه
بل المشكلة معك أنت يا صديقي لم نعد نراك بيننا كما اعتدنا. أخبرني هل السبب يعود إلى سيرين
انعكس الفضول في ملامح كونتين وهو يتأمل وجه ظافر فقد كانت هذه أول مرة يراه منغمسا في امرأة بهذا الشكل كأنها تمسك بخيوط روحه.
لم يستطع ظافر إلا أن يبتسم ابتسامة غامضة وقال بخفة
وعم تتحدث بالضبط
مال كوينتين إلى الخلف يضع ساقه اليسرى فوق اليمنى ثم همس كمن يلقي قنبلة صغيرة على الطاولة
دعني أروي لك ما هو أكثر إثارة طارق صديقك القديم لديه ابن الآن.
توقف ظافر عن الحركة
وللحظة حدق فيه بدهشة
ابن
ارتسمت على وجه كوينتين ابتسامة مراوغة وهو يجيب
بلى عمره أربع سنوات يذهب إلى روضة للأطفال تخيل حتى أنه حضر حفلة في منزلك مؤخرا ربما التقطته عيناك دون أن تدري.
لم يعلق ظافر بل اكتفى بأن نظر إلى ساعته ثم نهض قائلا بصوت حاسم
ينبغي أن أعود الآن ثمة أمور تنتظرني.
ترك كوينتين يراقبه من مكانه ساق على ساق وقال بخبث لا يخلو من اقتراح مبطن
ما رأيك أن نزور طارق وولده بعد أيام قليلة
لم يجب ظافر لا بالقبول ولا بالرفض بلبل ك السؤال معلقا في الهواء كغمامة ثقيلة لا يريد أن ينفخ فيها.
ولم يكد يغادر حتى دوى رنين هاتفه في جيبه ألقى نظرة على الشاشة فتجمد قليلا وإذا بها رسالة قصيرة مباغتة كتبت بحروف خرجت من غياهب الغياب
سأعود
قريبا هناك أمور لا بد أن نتحدث عنها.