رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثالث والاربعون
في تلك اللحظة المشحونة دوى صوت من بين الحاضرين يقطر استنكارا وقرفا
لو صح هذا الكلام فإن مستقبل دينا قد تحطم إلى غير رجعة.
على خشبة المسرح كانت دينا أشبه بوردة جف ماؤها فجأة تذبل أمام العيون ارتجفت ملامحها واهتز صوتها وهي تهمس لنفسها بأن نادر ينسف كل ما بنته حجرا فوق حجر وكل ما أنفقت عمرها في حياكته بخيوط الكذب البراقة.
صرخت في وجهه وعقلها يتهاوى كقصر من رمال ضربته عاصفة
أيها الوغد! كنت تستحق الخديعة ليتك تفنى! رجل عاجز وبلا مسؤولية مثلك لا يليق بي! أتدرك أن هذا الفيديو سيودي بي إلى الهاوية كيف كنت يوما حبيبتك يا لبصيرتي العمياء التي لم تحسن اختيار البشر!
سال الدمع على وجنتيها كسيل غاضب لكنها لم تتوقف عن اتهامه بل أخذت ترشق نادرا بكلماتها المسمومة وفي قلبها رعشة استغاثة تتجه نحو ظافر ونظراتها المبتلة تناشده أن ينقذها من الغرق.
ويا للمفارقة! بعض الحاضرين خلف الشاشات انطلت عليهم روايتها فظهرت تعليقات متعاطفة تبرر انهيارها
لو كنت مكانها لما اعترفت بحبيب كهذا أصلا.
إنه حقير لا يعقل أن ينتقم بهذا الشكل بعد الانفصال.
لكن الأغلبية ظلت أذكى من الوقوع في شراك دموعها إذ بدا واضحا
أن الحقيقة أثقل من كل تلاعبها فإن كان نادر صادقا فدينا ليست مجرد امرأة عابثة بل متورطة في شبكة من الجرائم والمؤامرات فكيف لمن ادعت الطهر وعاشت دور اليتيمة البريئة أن تحمل كل هذا القدر من الدهاء والخبث
بينما تتطاير الشكوك كالشرر حتى شقت صفارات الشرطة ضوضاء القاعة لتضع حدا للفوضى وألقت القبض على دينا ونادر معا وسحبا إلى سيارة الشرطة غير أن عينيها قبل أن تغلق الأبواب لم تزل تبحث عن ظافر كغريق يتشبث بقشة.
وبين هزيم الجموع وضجيج الأضواء بعثت له برسالة أخيرة كطعنة مغمسة بانتفاضة مستفزة
ظافر أنت مدين لي مرة أخرى.
فتح ظافر هاتفه داخل سيارته وقرأ كلماتها بملامح جامدة تخفي عاصفة تتأجج في صدره فغامت عيناه بالشرر وهو يتمتم
تدين لي!
لم يطل التفكير بل بصرامة باردة اتصل بقسم العلاقات العامة يصدر أوامره الصارمة
مهما حدث لا أريد أن تمس سمعة مجموعة نصران. افعلوا ما يلزم.
كان يدرك أن الحادثة لا تهدد الشركة فحسب بل تهدد وجوده كله فلطالما كانت دينا تعلن عن علاقتها به جهارا والآن وقد تسلل فيديو فاضح يربط اسمه باسمها صار الطين أعمق والعار أثقل.
في مقر الشركة جلس ماهر وجهه مسمر أمام شاشة تبث المشهد
الكارثي وأصابع يديه تتراقص على هاتفه وهو يحاول السيطرة على الوضع إذ أخذ يطلق تهديداته للصحف والقنوات وحذر من يتجاوز الخط الأحمر غير أن المعركة كانت أشد هذه المرة إذ كان البث قد انتشر كالنار في هشيم أغرق بالوقود عمدا فمن الواضح أن أحدهم أنفق ثروة طائلة ليتأكد من أن سقوط دينا لن يكون سقوطها وحدها بل سقوط ظافر أيضا.
في زاوية خافتة الإضاءة من إحدى الحانات كان كارم ويامن يتشاركان كأسين كأن الزمن قد جمع بينهما ليتأملا سقوطا لم يشهدا مثله من قبل.
ضحك يامن بخفوت وهو يقلب الكأس بين أصابعه
لقد مضى زمن طويل منذ رأيت ظافر يتهاوى هكذا المرة الأخيرة كانت بعد زواجه.
تجمدت ملامح كارم فالكلمة صفعت قلبه من الداخل وإذا به يتجرع رشفة طويلة من مشروبه ثم قال بصوت خافت مثقل بالمرارة
لا تذكر زواجه ثانية.
فهم يامن أنه وخز جرحا لم يلتئم بعد فالتزم الصمت غارقا في شرابه وخلف الزجاج العريض راحت رقائق الثلج تتراقص في الهواء تتساقط كأسراب بيضاء متعانقة ثم تتراكم حتى غلفت الشوارع برداء ناصع كأن المدينة دخلت في سبات أسطوري.
رفع يامن عينيه نحو النافذة وقال مبهورا
الثلج يزداد كثافة... كأن السماء قررت أن تغلق الطريق
بالبياض.
أما ظافر وفي مكان آخر كان يجلس صامتا محاصرا بعاصفة من داخله ورغم ثقل صدره وكآبته التي لا تفارقه منذ أيام إلا أن مشهد الثلج المتساقط بعنف أثار في داخله ذكرى صغيرة ابتسامة سيرين في الصباح وهي تهمس له عن حبها لرؤية الثلج.
ارتجف قلبه للحظة فمد يده إلى هاتفه قلبه يتساءل متلهفا قبل أصابعه عن سر الوحشة التي تنتابه كلما خفى ضوئها عنه فلم يجد منها رسالة خيل إليه
أنها مع نوح فكتب سريعا
الثلج يتساقط بكثافة ما رأيك أن نصنع رجل ثلج معا لاحقا
ابتسم بمرارة كم يبدو غريبا أن ظافر الذي طالما سخر من هذه الطقوس الطفولية يفكر الآن في بناء رجل ثلجي! لكنها سيرين وحدها قادرة على تبديل طبائعه وحدها تزرع الجنون في عقله والعاطفة في دمه.
مرت الدقائق ثقيلة ولم يأت ردها فاتسعت فجوة القلق في صدره حتى كاد يسمع صداها إذ صار هذا الشعور يطارده بشراسة منذ أيام يثقل أنفاسه ويضاعف اضطرابه وحين هم بالاتصال بها انطلق هاتفه برنين حاد.
كان الاتصال من قصر الغابة. ضغط زر الإجابة بارتباك فجاءه صوت مذعور من الطرف الآخر
سيدي ظافر... حدث أمر خطير السيدة تهامي... ونوح كلاهما مفقود.
توقف الزمن للحظة كأن الثلج الذي يغطي
الطرق قد جمد قلبه هو الآخر.