رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والاربعون 246 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسادس والاربعون 

حين وقعت عينا ماهر على ملامح ظافر ارتجف قلبه لم يكن وجهه وجه رجل حي بل لوحة مشققة رسمتها يد العذاب بألوان من رماد وأرق وجفاف دموع لم تجد طريقها إلى الانهمار فلم يجد ماهر حيلة سوى أن يتدارك المشهد بكلمات تشبه الخيوط الباهتة التي تسند قلبا متداعيا 
سيد ظافر لا تدع القلق ينهش روحك لعل السيدة سيرين خرجت للتنزه مع نوح وسنعثر عليهما قريبا أعدك. 
كانت كذبة صغيرة بيضاء كثلج يذوب بمجرد أن تلمسه الشمس لكنها كانت كافية ليطفئ بها لهيب تلك اللحظة.
والأدهى أن ظافر ابتلعها كما يبتلع الغريق جرعة هواء ملوثة يقول بصوت متحشرج يزحف من بين أنقاض صدره 
أعلم أعلم أنها لن تتركني. 
غير أن عينيه فضحتا الخديعة حمرة محاصرة بالظلام وهالات سوداء رسمها السهر كوشم لا يمحى كأن الليل قرر أن يستوطن أسفل جفونه فاكتفى ماهر بهز رأسه صامتا متواطئا مع حزنه.
تقدم ظافر ببطء خطواته تثقلها الثلوج وكأن الأرض تأبى أن تتركه يمضي بدا معزولا كروح تساق في ممر لا عودة منه وبعد خطوات معدودة التفت إلى ماهر فجأة يقول بانكسار 
قالت إنها أخطأت في اختيار الرجل المناسب. 
ارتبك ماهر كطفل يحاول أن يفك رموز طلاسم غامضة 
ماذا تعني يا سيدي 
لكن ظافر لم يرد بل اكتفى بأن يفتح باب السيارة يختبئ في صمتها البارد ثم أخرج ورقة مطوية وكأنه يجرح نفسه بإعادة فتح الرسالة.
أعاد قراءة السطور الأولى وهي تسيل أمام عينيه كخنجر من كلمات 
كلانا يعرف أن لا حب بيننا فلماذا نزيد من وجع بعضنا أنت لم تحبني

يوما. لذلك لا أكرهك ولا ألومك. أعلم أنني اخترت الرجل الخطأ 
توقفت الكلمات عند جملة ارتجت لها روحه 
حصلت على الشخص الخطأ. 
اشتد قبضه على الورقة وانكمش حلقه معها حتى خيل إليه أنه يختنق بدمعة عالقة وفجأة في مرآة الذاكرة انشق له وجه آخر يشبهه حد التطابق لكنه كان أكثر رقة أكثر دفئا عيون تفيض بما لم يعرفه يوما من حنان.
تمتم بصوت مبحوح كمن يشكك في حدود الواقع 
كيف يكون هذا ممكنا 
في اللحظة ذاتها خرجت دينا من أبواب السجن كأفعى أطلق سراحها مؤقتا لا لبراءتها بل لأن الأدلة لم تكن كافية لتثبيت أنيابها في جسد الحقيقة.
ابتسمت بخبث وهي تلتقط أنفاسها من هواء الحرية وكأنها لم تسجن قط بل كانت تستعد لجولة جديدة من اللعب في الظل.
اقتربت منها لورا فسألتها دينا بحدة تشبه نصلا لامعا 
أين ظافر 
أطرقت لورا رأسها تتجنب عينيها كمن يواجه شيطانا يعرف مكره فأعادت دينا السؤال في صيغة تنضح بالاتهام والغرور 
ألم يكن هو من طلب منك أن تأتي وتنقذني 
لكن لورا لم ترد بل أشارت إلى الحقل الثلجي هناك تحت غطاء أبيض يبتلع كل الألوان استقرت مازيراتي رمادية فضية كوحش ميكانيكي يتربص نافذتها انخفضت ببطء لتكشف عن ملامح طارق.. وسامته صارمة كحد السكين.
انفرجت شفتا دينا عن ابتسامة متعجرفة واندفعت بخطوات مسرعة نحوه 
طارق! كنت أعلم أنك ستقلق علي! 
حاولت فتح الباب المجاور له لكنه ظل مغلقا بإحكام وطارق لم يحرك ساكنا بل خرج صوته جافا كالصقيع 
لا تسيئي الفهم لم أخرجك لإنقاذك.
 
تجمدت ابتسامتها لكن عينيها ظل فيهما بريق التحدي لم تهتز كباقي البشر بل رمقته بنظرة مشوبة بالترقب كأنها تحاول قراءة نواياه ومن ثم ابتعدت بضعة خطوات.
أكمل طارق وكلماته تتقطر مرارة وازدراء 
منذ زمن طويل وأنا أعلم أنك لم تكوني من أنقذني آنذاك هل تعلمين لماذا لم أبحث عنك قط 
ارتجفت أنفاس دينا ليس خوفا بل امتعاضا من أنه كشف لعبتها.
قال طارق بغلظة وهو يثبت عينيه في وجهها 
لأن ظافر يحبك ولم أشأ أن أعقد الأمور عليه. 
رفعت حاجبيها باستهزاء فاضح 
وفي هذه الحالة لماذا أنت 
قاطعها طارق وصوته أشبه بصفعة 
لأن الوقت قد حان لتصفية الحسابات وأنا لا أقتل فريستي مباشرة بل أستمتع بتعذيبها أولا. 
لم يتبدل وجه دينا وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة لكنها لم تستطع إنكار أن الخوف بدأ يتسلل بين
مسامها رغما عنها.
تابع طارق بنبرة تحمل خليطا من القسوة والسخرية 
ثم إنني لست متأكدا إن كان ظافر سيقبلك بعد كل ما اقترفت ولكنني أعرفه جيدا وإن كان يحبك بصدق فسوف تتعذبين أكثر بعد ما قاله نادر وأثبته بالأدلة في الحفل. 
تذكر طارق بوضوح 
تماما كما فعل مع تلك الشركة حين انتزعها أخيرا من مالكها لم يبن عليها مجدا بل دمرها حتى آخر حجر هو لا يترك شيئا إلا ويحوله رمادا. 
ثم فجأة اندفعت سيارته نحوها كوحش يزمجر. قفزت دينا على الثلج تتفاده فسقطت أرضا والثلج يتناثر حولها كقطع زجاج متناثرة لكن توقفت السيارة على بعد أنفاس قليلة منها يقول وجاء صوته صارم يلسع 
إن
لم ترغبي في الموت فارحلي. 
نهضت دينا بصعوبة كسيرة الهيئة لا لضعفها بل لأن كبرياءها جرح أخذت تركض بهلع لم تكن تركض نحو لورا كمن يبحث عن حماية بل كانت تهرب مؤقتا كأفعى تعرف أن الانسحاب اليوم يمنحها فرصة أخرى للانقضاض غدا.
ظل طارق يراقب خطوات دينا وهي تبتعد متعثرة في الثلج كذئب يترك فريسته تظن أنها نجت بينما لم يكن في الحقيقة سوى يؤجل الوليمة عينيه تتبعانها وفي داخله خطة شيطانية تتكون ببطء 
أن ياخذ كل شيء لا دفعة واحدة بل قطرةقطرة حتى تعيش حياتها تحت سيف خوف لا يصدأ خوف يحاصر أنفاسها حتى وهي وحدها في فراشها.
لقد خانته استغلته واعتقدت أنها أفلتت لكن الزمن عنده ليس إلا سكينا يعرف كيف يقطع ببطء.
حين عاد طارق إلى منزله التقط هاتفه بهدوء لا يخلو من المكر وضغط الرقم فجاءه صوت كوينتين على الطرف الآخر فألقى طارق كلماته بنبرة مدروسة متقنة الإيقاع 
كوينتين أيمكنك أن تطلب من ظافر أن يأتي إلى منزلي اليوم أريده أن يرى ابني. 
لم يكن الطلب بريئا كان أشبه بطعم ألقي بعناية في مياه عكرة. ففي ذهن طارق كان المشهد أوضح من وضوح النهار هو يعرف أن ظافر قد شاهد البث المباشر الذي ظهرت فيه دينا بالأمس ويعرف أن الدم يغلي في عروقه كبركان محبوس وكلما تصاعد الغضب تضاعف الشغف بمعرفة رد فعله.. لم يرد طارق أن يتلقى الخبر عبر الظلال أو التخمينات بل من فم ظافر نفسه أراد أن يقرأ عينيه أن يسمع صوته المرتجف إن كان ما يزال يحمل لتلك المرأة في صدره شيئا مهما كان ضئيلا. ابتسم طارق ابتسامة باهتة كمن
يلعب بالنار وهو متيقن أن اللهب سيحرق غيره أولا.


تعليقات