رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والسابع والاربعون
حين يختار إنسان أن يرحل فلن تعود الأرض بأسرها قادرة على استدعائه. هكذا أدرك ظافر ووعى أن الغائب إذا قرر الانسحاب فلن يعيده بحث ولا رجاء لكن هذه المرة كان الأمر مختلفا لم يكن انفجارا أو انهيارا صاخبا بل سكون غريب يلفه من الداخل هدوء مريب كبحيرة تخفي تحت سطحها لا تحصى.
تبع ماهر سيده إلى القصر يراقبه في صمت يلتهمه القلق حتى وصلا إلى غرفة سيرين.
فتح ظافر الباب وإذا بالمكان ساكن كأنه زمن متجمد فوجد الهدايا كما تركت أكوام من صناديق مزينة بشرائط لم تمس تنتظر يدا ربما لن تأتي.
تقدم ظافر إلى الداخل خطواته موزونة كطقس مقدس يجلس أمام الصناديق وبدأ يفتحها واحدة تلو الأخرى بلا كلمة بلا انفعال كراهب يفتح كتابا محظورا فكان في كل قطعة مفارقة دامية
فساتين كلاسيكية طالما رغبت بها سيرين إكسسوارات تحمل توقيع بيوت أزياء عالمية عطور مختارة بعناية كأنه قضى عمرا كاملا في ملاحقة ما يسعدها.
قال وهو يفتح آخر صندوق وكأنه يحدث نفسه
ماهر اطلب من أحدهم ترتيب هذه الأشياء جيدا فعندما تعود سيرين يجب أن تراها دفعة واحدة.
رد ماهر صوته يختنق
أوامرك سيدي.
واستدعى
بسرعة أحد العاملين المؤقتين فيما كان قلبه يتلوى من المشهد وبينما كانت الهدايا تفتح واحدة تلو الأخرى قال ظافر بنبرة هادئة كأنها قادمة من عمق بئر
كيف يسير العمل في مجموعة تهامي
أجاب ماهر
بقي شهران على الانتهاء يا سيدي.
نظر إليه ظافر وعيناه بلا بريق
هل سينتهون منها قبل أن تعود سيرين
أومأ ماهر برأسه سريعا مأخوذا ببرود سيده وهو لا يفهم كيف يواجه كل ذلك العدم بهذا الجمود.
وفي تلك اللحظة جاء صوت من الأسفل صدى خطوات يعلو على السلالم ومن ثم ظهر مدير محل الجواهر يحمل بيديه صندوقا أسود ضخما وعندما رأى ظافر انحنى وقال بحماسة مهنية
سيد ظافر بناء على طلبكم قمنا بصنع مئة خاتم خطبة.. هل ترغبون أن تأتي السيدة نصران لتختار بنفسها
السيدة نصران
تجمد الزمن لوهلة كلمة ارتطمت بجدار وعي ظافر لكن سرعان ما أجاب ببرود يشبه صليل الحديد
اتركهم هنا حين تعود سيرين ستختار بنفسها.
مفهوم سيدي.
أشار المدير لرجاله فتأكدوا من تخزين الخواتم بدقة قبل أن يغادروا.
وقف ماهر مذهولا وقلب سيده ينزف صمتا إذ أدرك ماهر للتو أن ظافر هو من طلب خاتم خطبة لسيرين مع أنه يوم زواجهما كان
ماهر نفسه قد اختار الخاتم بعشوائية مستعجلة الآن كان سيده يعيد ترتيب الطقوس يريد إصلاح ماض مهترئ بحاضر ينهار.
لم يحتمل ماهر أكثر وانفلتت منه الكلمات
سيدي السيدة تهامي لا تستحق هذا اللطف!
التفت ظافر إليه بنظرة باردة
ألم أعلمك ألا تتدخل فيما لا يعنيك
خفض ماهر رأسه ليتلقى صاعقة أخرى حين اقترب منه ظافر وقال بهدوء قاتل
إن كان لديك وقت فراغ كبير للعي فافتح هذه الهدايا ورتبها.
أجل سيدي. أجاب ماهر وصوته
خرج ظافر من الغرفة والظل يثقل خطاه رن الهاتف فجأة فقفز قلبه كطفل ينتظر خبرا موعودا للحظة أيقن أنها هي سيرين. لكن الاسم الذي ارتسم على الشاشة كان كوينتين.
ظافر طارق يريدنا أن نزوره اليوم لنرى ابنه.
صوته بدا بعيدا بلا حياة كأنه صادر من بئر عميق إذ أجابه ببرود صلد
أنا مشغول.
ثم أغلق الخط بعنف كمن يقطع حبل النجاة بيديه لا شيء في الوجود كان يعنيه سوى خبر يقوده إليها هي وحدها سيرين. أما البشر جميعا فلا رغبة له في رؤيتهم ولا حتى احتمال وجودهم لكن القدر لم يمهله كثيرا وإذا بزائرة غير مرغوب فيها زلت إلى القصر دينا كانت ملامحها مشدودة وفي
عينيها قلق فاضح تخشى انكشاف المزيد من أسرارها القميئة فألقت اسمه بنداء مرتجف
ظافر!
رفع رأسه إليها ببرود قاتل كأنه يتذكر شبحا لا شخصيا متعجبا كيف تجرؤ على الحضور
جلس بثبات على الأريكة عيونه غائمة بجمود زجاجي ومن ثم قال ببطء غامض يحمل سخرية خفية
ماذا تريدين مني هذه المرة
اعتقدت دينا أن جهله لا يزال حاجزا يحجب الحقيقة عنه فانهمرت دموعها تستدعي شفقة ضائعة
ظافر أنا آسفة كدت أتحطم وصلت إلى حافة الجنون انمحى من ذهني لهذا لم
لم يرف لظافر جفن بل أشار لحارسه بحركة مقتضبة
عقب ظافر وصوته أشبه بمشرط بارد
كنت هناك لكنك لم تكوني بطلة بل كنت تعانين من مرض آخر
ارتسمت ابتسامة هادئة على ثغر ظافر لكنها كانت أشرس من كل غضب في حين أن انهارت دينا حتى أنها هوت على الأرض تتمتم برجاء يائس
ظافر أرجوك اسمعني نعم أنا من أنقذت السيدة شادية لكن سيرين هي من تبرعت بالدم في ذلك الوقت
لم يسمح لها بأن تكمل بل قاطعها بحسم فاصل كمن يغلق بابا على هاوية
كفاك يبدو أنك حقا تعانين اضطرابا يستحق العلاج.
ثم التفت ببرود للجندي الواقف في الظل وصوته يقطر أمرا
لا رجعة فيه
خذها إلى مستشفى لعلهم يجدون لها علاجا.