رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والاربعون 248 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والثامن والاربعون

لو لم تفضحها سيرين لما خطر في بال ظافر يوما أن دينا التي تظاهرت بالبطولة وادعت أنها أنقذت أمه لم تكن سوى امرأة بارعة في صناعة الأكاذيب جريئة إلى حد جعلها تقتحم حياته بقناع زائف.. 
فلولا انكشاف أمرها لبقي ظافر غارقا في وهم نسجته بخيوط من الخديعة ولما فكر للحظة أن يشكك في روايتها كان ظافر يظنها يوما طوق نجاة ألقته له الأقدار فإذا بها فخ محكم صمم ليقوده إلى التيه أما حياتها الشخصية فقد كانت بالنسبة له فراغا لا يستحق حتى أن يذكر فلم يعرها اهتماما ولا ألقى لها بالا ولم يهتم بما روت عن ماضيها مع نادر.
وحين اقتيدت دينا بعيدا دوى صوتها في الأرجاء كعواء مخلوق مسعور سلبت منه أنيابه كان صراخها خليطا من الهلع والجنون فأقنعة الشر لا تدوم طويلا حين تعريها الحقيقة.
وقف ماهر في الطابق الثاني متجمدا كتمثال لا روح فيه فهو لم يستوعب للآن أن دينا التي اعتاد أن يراها رقيقة الحضور يمكن أن تتحول إلى مسرح للفوضى

والهيستيريا.. كانت لحظة سقوط قناعها أشبه بمشهد أسطوري حيث تخلع الأستار عن وجه طالما تخفى خلف الابتسامة.
لقد رآها الآن كما لم يرها من قبل
امرأة عارية من الأقنعة مجردة من كل زينة متلبسة بخيانتها.
في هذه الأثناء كان زكريا ممددا فوق سريره الوثير في إحدى غرف قصر طارق يتعايش مع وطأة الملل كما يستسلم غريق لسطوة الموج جدران الغرفة الفخمة بدت له كسجن صامت يبتلع أنفاسه دون أن يمنحه حرية الانطلاق كان يعلم جيدا أن سيرين ونوح قد غادرا المدينة لكنه ظل رهينة رغبة طارق في الاحتفاظ به إلى حين فطارق لم يتخل قط عن لعب دور الأب كمن يستعير من الزمن لحظة أبوة مؤقتة يرضي بها غروره.
لكن زكريا في براءته الماكرة لم يجد بأسا أن يتركه يتذوق طعم تلك المسؤولية لبضعة أيام حتى وإن لم يكن لها جذر في الحقيقة.
وفجأة شق سكون القصر صوت ارتطام حاد كصفعة على وجه الليل مصدرها الطابق العلوي بينما في الأسفل كان طارق يتبادل أطراف الحديث مع كوينتين
في غرفة المعيشة حين ارتج المكان تبادلا نظرات حائرة لكن ارتباكهما لم يدم طويلا إذ تتابعت سلسلة من الانفجارات الصوتية كأنما الجدران نفسها تعلن تمردها.
ضيق كوينتين عينيه وارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة للسخرية وهو يغمغم
الأمور تفقد توازنها قليلا حين يدخل الأطفال إلى المعادلة.
رفع طارق كأسه ثم أنزله بحزم متأفف وهو يزمجر بحدة
إن لم يأت ظافر فلن أحتمل المكوث معك أكثر والآن يبدو أنني مضطر لتأديب مشاغب صغير كما ينبغي.
صعد بخطوات ثقيلة كمن يتهيأ لمواجهة عاصفة وحين فتح باب الغرفة انكشفت أمامه الفوضى
زكريا يتلاعب بكرة طائرة كأنها عالمه الخاص أما نوافذ الغرفة فقد انكسرت كزجاج لم يحتمل عبث القدر والخزف العائلي تحول إلى شظايا متناثرة تلمع على الأرض كأشلاء ذكريات.
قال طارق بصرامة تكاد تحرق الهواء
ماذا تظن نفسك فاعلا
لكن الكرة لم تمهله إذ ارتدت نحوه وضربت وجهه الوسيم في لحظة عبثية كطلقة مصوبة بدقة على غروره.
تظاهر
زكريا بدهشة مصطنعة وكأنه لم يره إلا لتوه ثم قال بابتسامة بريئة تنضح بالمشاكسة
آسف... لم أكن أقصد.
قبل أن ينفجر طارق غضبا أردف الصغير ببرود متعمد
ربما لا تعرف هذا لكن الأطفال في مثل عمري يملكون طاقة لا تهدأ.
قبض طارق على الكرة يلقي بها من النافذة المكسورة إلى الخارج لتختفي في العدم وبعد لحظة من الصمت المشحون صرخ بحدة تحمل وعيدا
صحيح أنني لم أكن أعلم ذلك... لكن ما أعلمه يقينا هو أنه إن تكرر الأمر مرة أخرى فلن أتردد في أن أضع يدي عليك.
رفع يده إلى وجهه الذي لسعته الضربة ودلكه بتأفف وفي داخله مرت خاطرة عابرة كبرق ساخر
لولا أن زكريا لم يتجاوز الخامسة لكان وجهه اليوم مشوها تتناثر فيه الكدمات كلوحة أفسدتها يد طفل مشاغب.
كان طارق يظن بسذاجة مغرورة أن ترويض صبي صغير مهما بلغ من الشغب أمر هين أشبه بتقويم غصن يافع قبل أن يشتد عوده غير أن هذا الوهم تلاشى سريعا وانكشف عجزه على مائدة العشاء إذ جلس زكريا أمام طبقه
يحرك معكرونة الطماطم بملعقته الصغيرة كمن يخط دوائر سحرية لاستدعاء الفوضى وفجأة انطلقت الصلصة الحمراء كدم فائر لتلطخ ثياب طارق ووجهه.
زمجر طارق وعيناه تتقدان نارا
أيها الوغد أنا سأ
لكن زكريا بهدوء لا يليق بعمره قاطعه بنبرة مثيرة للشفقة
أعلم ما تفكر فيه تريد أن تضربني. هيا افعلها إذن! ليس هذا ما يفعله الآباء لكنك تدعي أبوتي مع أننا لم نلتق إلا منذ فترة قصيرة.
كانت الكلمات كرصاص يخترق صدر طارق يخلخل توازنه فيما المربية القريبة تراقب المشهد بعينين يملؤهما تعاطف لم يحظ به قط.
غادر طارق المائدة وهو يختنق بالغضب صاعدا إلى الطابق العلوي
أكوام من الثلج المذاب غمرت ملابسه حتى تناثر الماء على الأرضية كما لو أن الشتاء انتقم منه سرا فصرخ بحدة
زكريااااااااااا.
ومن المدخل
انبعث صوت زكريا العذب متصنعا اللطف كملاك صغير يتخفى خلف شيطان
لقد وضعت رجل الثلج هناك خصيصا لك هل أعجبتك المفاجأة
اشتعلت عروق طارق وكاد أن ينقض عليه لكن الصبي انسحب راكضا إلى غرفته يغلق الباب وراءه وجلس على سريره يتظاهر بالهدوء يفتح كتابا ويقرأ ببراءة مزعومة كأن شيئا لم يكن.
مرت ساعة... وإذا بالصوت الطفولي يخترق الجدران
سيد طارق
أجاب طارق بضيق
ماذا الآن
لا أستطيع النوم.
إذن لا تنم.
هدأ الصمت قليلا لكنه ما لبث أن عاد يدق بابه في منتصف الليل بعناد لا يلين كمن يتعمد خنق أنفاسه
سيد طارق!
زمجر طارق من فراشه
ماذا بعد!
هل أنت نائم
نهض طارق يائسا يبحث عن غرفة أخرى يلوذ فيها مدركا أنه في معركة غير مكافئة فخصمه ليس مجرد طفل بل عقل صغير يتفوق عليه
بدهاء شيطاني.
أما زكريا فجلس في غرفته مبتسما شفتاه ترتعشان كمن يضبط ضحكة متوحشة وهمس لنفسه
لقد كان يوما مرضيا آخر...
كان يعلم أن ما ارتكبه ليس سوى سلسلة من الحماقات لكن مواجهة رجل مثل طارق منحت شغبه شرعية غامضة لذلك لم يشعر بجرم ولا بندم بل بانتشاء خفي كطفل وجد متعة في كسر القوانين.
في تلك الأثناء انفجرت فضائح دينا كبركان أعمى لا يفرق بين حجر وبشر فانكشفت أسرارها على الملأ وتحولت إلى حديث الشوارع والمجالس لم تقتصر النار على ثوبها وحدها بل امتد لهيبها ليطال ظافر أيضا غير أنه لم يملك ترف الالتفات إلى ما يقال الوقت عنده كان أثمن من أن يهدر في مطاردة صدى الشائعات.
قال ظافر بصرامة تشي ببروده الحديدي
راقب تحركات كوثر عن كثب.
أجاب ماهر بانحناءة
توحي بالولاء
كما تأمر سيدي.
كان ظافر في أعماقه يعلم أن كوثر هي الخيط الوحيد المتصل بسيرين وأنها إن سئلت مباشرة فإنها ستغلق أي مجال للحديث وتتركه يتخبط في فراغ بلا إجابة.
وحين عاد الليل الذي غلف بيته بغطاء كثيف من الصمت جلس وحيدا يحدق في الجدران التي بدت له كأشباح جامدة تتنصت على دقات قلبه المتعثرة ظل الصمت يتكاثر في صدره يتضخم حتى صار كتلة من الحجارة تجثم على ضلوعه.
حاول أن يصف ما يعتمل بداخله فلم يجد لغة تسعفه كان الشعور غامضا مزيجا من الوحدة الموحشة والانتظار القاتل قلبه عالق بين مطرقة الشوق وسندان الخيانة.
وفجأة انقطع سكون الليل برنين الهاتف رنين اخترق هدوء المكان كالخنجر فوثب ظافر إليه يلتقطه بيد ارتجفت قليلا كمن ينتظر رسالة من الغيب
قد تغير ملامح مصيره 
لكن هل ستأتي
 

تعليقات