رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والاربعون 249 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والتاسع والاربعون

كانت شادية تمسك بالهاتف بقبضة متوترة وصوتها يقطر غضبا يتردد في جنبات القصر
لم أتخيل يوما أن دينا قد تنحدر إلى هذه الوقاحة إنها لا تستحق حتى المقارنة بسيرين على الأقل سيرين بقيت بيننا ثلاث سنوات كاملة لم تحدث خلالها أي عاصفة إما ترعى عائلة نصران أو تنزوي في وحدتها بصمت بالكاد عرفت رجالا وكانت تعيش كظل وديع في هذا المكان.
أصغى ظافر طويلا صبره يغلي في داخله ثم تكلم بنبرة ثابتة لكنها مثقلة بالأسى
أمي اكتشفت للتو أن دينا لم تكن هي من أنقذك في ذلك اليوم.
ارتجف صوت شادية من وقع المفاجأة
إذن من كانت
أجاب وعيناه تشتعلان بوميض خافت
لقد كانت سيرين.
بدأ يسرد ما عرفه كمن يفرغ صدره من ثقل طال حمله كانت كلماته كسهام تصيب قلب شادية بالارتباك وهي جالسة في قصر نصران تكاد أنفاسها تتقطع.
لكن لماذا لم تخبرنا سيرين بشيء بهذه الأهمية سألت بارتباك يتماوج في صوتها.
رد ظافر باندفاع يحاول أن يخفي خلفه جرحا عميقا
ربما ظنت أن الأمر تافه أو لم تدرك منذ البداية أن دينا سرقت مكانها.
ساد الصمت فجأة في حين أن أطبقت شادية على أنفاسها وحدقت في صورتين موضوعتين على الطاولة أمامها وجه دينا ووجه سيرين تسلل إليها شعور بالذنب كالخنجر طاعنا قلبها حين تذكرت قسوتها الماضية تجاه سيرين.
قالت بصوت خفيض يترنح بين الحنين والندم
يجب عليك أن تدعوها إلى هنا لتناول العشاء غدا.
أجاب ظافر بكلمتين كانتا أثقل من إلحاحها كأن روحه انطفأت معهما
لقد رحلت.
ارتعش صوت شادية
رحلت! وأين ذهبت
هز رأسه بمرارة كأنها

تراه يفرك جبينه بأطراف أصابعه
لا أعلم وسأغلق الهاتف الآن إن لم يكن هناك ما يضيف شيئا.
لم يحتمل قلبه أن يواصل الحديث عن غيابها فالجرح يفيض كلما نطق باسمها.
أنهى المكالمة ملقيا الهاتف إلى جواره على الأريكة بإهمال وأسند رأسه إلى يديه يضغط صدغيه براحتيه كمن يحاول أن يعصر من جمجمته الألم ومن ثم رفع بصره نحو النافذة فإذا بالثلج ينهمر بغزارة لا تنتهي يغطي الأرض بهدوء عنيف وكأن الكون بأسره يشاركه وحدته ويخفي خطاها بعيدا عنه.
أما شادية فقد كانت على وشك أن تبوح له بسر جاسر لكنها ابتلعت الكلمات بعد أن أدركت أن الوقت لم يحن وأن الليل لن يحتمل ثقل الحقيقة بعد.
أمضى ظافر ليلته على عتبة الأرق يتقلب بين ذكريات تتشابك كسكاكين صدئة عاجزا عن النوم أسيرا لوحشة تسكن خلف ضلوعه وتفتت قلبه.
في صباح اليوم التالي لم يذهب ظافر إلى مكتبه لم يكن في داخله متسع للأعمال أو الحسابات كل ما يملكه من وقت ووعي انسكب في رحلة بحث عقيمة عن سيرين.
جاب الأزقة والطرقات بعينين لا تعرفان السكون كمن يطارد طيفا يتبخر كلما اقترب منه ومع ذلك لم يعثر لها على أثر كأن الأرض ابتلعتها أو ذابت في صمت المدينة.
وفي تلك الأثناء ورد إليه تقرير من رجاله الذين كانوا يتعقبون خطوات كارم
لقد عاد إلى أثينا.
تجمد صوته في صدره وشعر بقلق يتنامى داخله مثل حشرة تنهش في جدار روحه يستمع بملامح
جامدة بينما في الأعماق تتقاذفه العواصف.
في الأيام الأخيرة بدا هادئا للعيان ساكنا كبحيرة صافية لكن وحده يعرف أن تحت هذا السطح الراكد تهيج

أمواج هادرة من الهوس تدفعه كل لحظة إلى حافة الجنون.
لقد هربت سيرين مجددا لكن هذه المرة تحت أنظاره أمام عينيه! تلك الحقيقة كانت كطعنة مباغتة تذكره بعجزه وتزيد عطشه إليها.
ظل يستعيد كلمات الرسالة التي
تركتها له يقرأها في ذاكرته عشرات المرات يبحث في بين السطور عن مفتاح غامض لكنه لم يجد جوابا الكلمات بقيت رموزا مغلقة وصوتها ظل يتردد داخله كصدى بعيد يرفض أن يتلاشى.
جلس في وحدته يتساءل أكانت تلك الرسالة وداعا نهائيا أم دعوة خفية لمطاردة جديدة لم يكن يعرف لكن قلبه كان يصرخ
إنها لم تنته بعد.
مر أسبوع ثقيل تجرع فيه طارق مرارة الانتظار قطرة قطرة حتى جاء اليوم الذي حمل إليه الحقيقة إذ تلقى نتائج اختبار الأبوة وما إن وقعت عيناه على الحكم القاطع بعدم وجود أي صلة دم تربطه بزكريا حتى شعر بقلبه يسحق بين كفين غليظتين خيبة أمل لم يجد لها تفسيرا منطقيا شيئا ما في داخله كان يصر على أن ذاك الطفل يمتد بجذوره إلى روحه حتى وإن أنكرت الجينات ذلك.
ألقى نظرة طويلة على زكريا الجالس بجواره منغمسا في اللعب على الحاسوب بعفوية طفل لا يدرك كم العواصف التي تقتلع رجلا ناضجا من أعماقه تساءل طارق في نفسه بدهشة
إن لم يكن من لحمي ودمي فلماذا أشعر نحوه بهذا القدر من الألفة كأنني أعرفه منذ قرون
رفع زكريا رأسه قليلا كأنه يقرأ أفكاره وقال بصوت هادئ بعد أن أنهى كوب الحليب الذي سكبه له طارق بيديه
سيد طارق أعتذر إن كنت قد سببت لك إزعاجا في الأيام الماضية.
غاص طارق في عينيه الداكنتين ليجد فيهما انعكاسا
لوجه مألوف وجه ظل يطارده من الماضي
لماذا أشعر كلما نظرت إليك أنك تشبه شخصا أعرفه أكثر فأكثر
تقلصت حدقتا زكريا للحظة ومضى الصمت بينهما كبرق خاطف ثم أعاد نظراته إلى شاشة الحاسوب وكأن شيئا لم يكن ومن ثم تمتم ببرود
الناس كثيرون يا سيدي والأوجه تتشابه.
أشاح طارق بوجهه وهو يبتلع شكوكه لكنه لم يستطع كبح صوته من الانفلات
إذن أخبرني لماذا عبثت معي منذ البداية ما الذي كنت تريده
كانت أصابع الصغير تواصل النقر على لوحة المفاتيح بإيقاع ثابت وصوته يخرج بجمود مريب أشبه بجليد يطفو فوق بحيرة مظلمة
لا أدري عما تتحدث.
حينها ارتجف طارق كأن خيطا خفيا في ذاكرته انقطع فجأة ليسمح بانبثاق صورة قديمة صورة ظافر في صغره وهو يتصرف بنفس البرود بنفس التعالي المتخفي تحت جدار صلب من اللامبالاة فطارق قد عاش معه طفولته ورغم السنين الطويلة لم يستطع أن ينسى ذلك الوجه المتغطرس الذي كان ظافر يحمله كوسام وها هو الآن يراه يتجسد في طفل غريب زكريا ورغم يقينه الذي بدأ يتسلل إلى قلبه كالماء البارد لم يجرؤ على مصارحة ظافر بما رآه فقد خشي أن يفتح بابا جديدا من سوء الفهم بابا قد لا يستطيع أحد إغلاقه.
وفي مكان آخر كانت كوثر تظن أن مطاردة ظافر ستتوقف أخيرا وأن أسبوعا من الغياب كفيل بأن ينسيه أمرها لكن الحقيقة كانت أبعد من ذلك بكثير فبمجرد أن وطئت قدماها عتبة قصر طارق كانت العيون التي تراقبها تسرع بإبلاغ سيدها إذ جاءها اتصال من سيرين بصوت متوتر يخفي وراءه قلقا دفينا
كوثر أحتاجك أن تذهبي فورا لإحضار زكريا.
كأن
الخيوط بدأت تلتف من جديد لتصنع شبكة قدر لا مفر منه.


تعليقات