رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخمسون 250 بقلم اسماء حميدة


  رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والخمسون 

تنفست كوثر بارتياح ثقيل حين رأت زكريا يخطو نحوها بحيوية داخل قصر طارق وكأن حملا من الصخور قد أزيح عن صدرها ثم دون أن تمنح طارق فرصة للنطق أو التفكير ألقت بكلماتها بحدة واضحة
أنت مدين لي بتعويض.
لم يبد على طارق أي ارتباك بل مد يده وأخرج دفتر شيكاته ثم وقع بسرعة هادئة يناولها الورقة الممهورة بتوقيعه وقال بعينين ساكنتين كبحر يخفي تحته زوبعة
أنا لست رجلا مجنونا أو ظالما ما دمت تطلبين حقك.
رمق طارق الثنائي الأم وطفلها المزعوم فوشمت على قلبه خيبة مباغتة كطيف مر سريعا ثم ترك جرحا خفيا لم يدر لم خالجه شعور بالخذلان وبالرغم من أن زكريا مشاكسا حاد الذكاء لكن طارق أحب تلك اللمعة في عيني الصبي كما لو أنها تخبئ وعدا بمستقبل مختلف.
تلتقط الشيك وأخفت ارتجافة أصابعها فالمال وإن لم يكن عصا سحرية سيمنحها بعض الخلاص من جحيم واقعها الذي فرضه عليها أبيها وأيضا السبب طارق.. ابتسمت كوثر ببرود متكلف وقالت
سأجنبك ثقل الامتنان إذا وداعا يا طارق لعل طرقنا لا تتقاطع مرة أخرى.
ثم أمسكت زكريا وقادته نحو سيارة أجرة صفراء تنتظر عند البوابة جلسا معا هي كظل شاحب وهو كوميض صغير يحاول أن يخفي ارتباكه خلف نافذة السيارة لكنهما لم يلحظا العيون التي كانت ترمقهما

كالسهام من داخل سيارة سوداء رابضة في الظل حيث يجلس ظافر... عيناه تتقدان بالصدمة وكأنهما التقطتا طيفا عاد من الماضي وإلى جواره كان ماهر يتأمل المشهد قبل أن يقطب حاجبيه فجأة ويقول بصوت مشوب بالدهشة
أليس هذا... نوح!
ظل ظافر صامتا للحظة وأجاب ببطء أشبه بصفير ريح تخترق جدارا صدئا
اتبعهما... أما أنا فسأذهب إلى طارق.
هز ماهر رأسه بجدية
أمرك سيدي.
ثم انطلقت السيارة السوداء تتعقب الضوء الأصفر الباهت لسيارة الأجرة بينما انكمش العالم في صدر ظافر كعاصفة حبلى بالمفاجآت.
كان طارق يظن أن ظافر ما يزال غارقا في دوامة الرأي العام يطارد خيوط العاصفة الإلكترونية التي أثارتها الألسن من خلف الشاشات لذلك لم يتوقع للحظة أن يظهر ظافر على عتبة بابه متشحا بهالة من الصمت أثقل من الحديد.
رفع طارق في محاولة لتخفيف ثقل اللحظة ثم قال بابتسامة محايدة
ظافر لا تشغل بالك أليست كذلك 
الطفل ذاك الذي أخذته كوثر هل كان معك طوال هذه الأيام
رفع طارق يمينه يحك أنفه بخجل فضح ارتباكه وهمس كمن يفتش عن مهرب بين كلماته
كان هذا مجرد سوء فهم.
جلس ثم انطلق يشرح بلسان متلعثم كيف التقى بالطفل زكريا 
في ذهن ظافر كانت قطع الأحجية تتراص على مهل خط زمني يتشكل ووجوه تتبدل وتفاصيل
تخرج من مخابئها ثم أشرق أمامه الإدراك كبرق مباغت
الطفل الذي رآه بأم عينيه لم يكن نوحا ذاك الذي ظل يعيش في قصر الغابة طوال الوقت! لكن كيف يكون الشبه بين الطفلين متطابقا إلى هذا الحد!
انعقد حاجبا ظافر والغموض الذي يسكن داخله ازداد اتساعا كهاوية تنفتح دون قاع.
هل تقصد أن اسمه زكريا وهو ابن كوثر سأل ظافر بنبرة باردة.
نعم. أجاب طارق محني الرأس.
في لحظة خاطفة انتصب ظافر واقفا كمن لدغه عقرب وبدا مستعدا للرحيل دون التفات.
تجمدت الدهشة في عيني طارق فسأله
ما الأمر
لكن ظافر لم يمنحه سوى جملة كالرصاصة
إياك أن تدع دينا تخدعك لم تنقذك يوما ولم تكن بطلتك كما توهمت.
ثم استدار وغادر مسرعا تاركا خلفه صدى كلماته يرن في جدران القاعة.
ظل طارق واقفا في مكانه كتمثال ضربته صاعقة لقد كان يعرف ذلك لكنه لم يملك الجرأة على مواجهتها ولا اتقاء لغضب ظافروالآن ها هو يسمع من ظافر ما بدد أوهامه ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة لا حياة فيها ثم أمسك بالهاتف وضغط الرقم ببطء محسوب.
أين دينا الآن سأل بصوت حاد.
أجابه الصوت على الطرف الآخر
يبدو أن ظافر أرسلها إلى مستشفى للأمراض العقلية.
مستشفى للأمراض العقلية! ترددت الكلمات في رأسه كضحكة مجنونة.
تقلصت شفتاه إلى ابتسامة أشبه 
مناسب
نعم هذا مكانها الملائم. فلتذق مرارة العزلة قليلا ولتظل هناك ما شاء القدر.
بعد أن عادت كوثر إلى شقتها المستأجرة نظرت حولها إلى المكان الضيق الذي بالكاد يتسع لأنفاسهما.. الجدران الصامتة تشهد على ضيق العيش بعد طرد والدها والهواء المحبوس يذكرها بمرارة واقعها.
التفت زكريا إليها وصوته يحمل من الجدية ما لا يليق بطفل في عمره
كوثر... إن كنت بحاجة إلى المال فيمكنك أن تخبريني.
تجمدت للحظة وحدقت فيه بدهشة صامتة إذ لم تعتد أن تسمع مثل هذه الكلمات من صبي صغير ثم بابتسامة خفيفة تحاول أن تكسر ثقل اللحظة و لكنه تراجع بخطوة سريعة فزادها ذلك ابتساما ومن ثم قالت بنبرة تحمل ظلا من السخرية ومرارة الذكريات
زاك... آخر من حدثني بمثل هذه اللغة لم يكن سوى يحاول استغلالي لكنني أعلم أنك لست مثل أولئك الأوغاد.
صمتت قليلا ثم أضافت بنبرة مكسوة بالتمني
وحين تكبر... اشتر لي بيتا كبيرا حسنا
أدرك زكريا أنها لم تكن تؤمن حقا بوعده فهي تعتقد أنه لا يزال مجرد طفل محاصرا بعجزه أمام هذا العالم ومع ذلك ابتسم وأجابها بثقة طفولية
بالتأكيد.
وفي داخله قد قرر أن يمنحها تلك الليلة بعض المال على الرغم من صغر سنه.
لم يكن يعلم أنها في الوقت نفسه تفكر كيف سترسله إلى بيت سيرين دون أن تدرك
أن منزلها البسيط صار بالفعل تحت المراقبة.


تعليقات