رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان والواحد والخمسون
أيقن ظافر أن الصبيين مختلفان رغم أنهما يحملان ملامح التوأم ذاته واحد بين يدي كوثر والآخر ينام
وتساؤل وحشي أخذ ينهش عقله
ماذا يعني ذلك
في عمق الليل حين كانت الرياح الباردة تصفر كأنها نحيب الأرواح وثلوج خفيفة تتساقط من السماء كدموع متجمدة وقف ظافر تحت شجرة ضخمة راسخة شاهدو على كل خيباته والغريب كيف لم يشعر بالبرد فالنار المشتعلة في صدره جعلت جسده عصيا على الصقيع.
اقترب حراسه يسلموه ملفا أسود اللون أثقل من حجمه بكثير إذ كان يختزن الإجابة عن نصف الأسئلة التي تقض مضجعه فتحه على عجل فانفجرت أمام عينيه صور وبيانات عن كوثر بعد مغادرتها البلاد امرأة عفيفة.. لم يذكر لها حبيب ناهيك عن أن تحمل وتلد!
إذن... كلا الطفلين لم يكونا منها.. كلاهما ينتمي إلى سيرين... صدمة جعلت عينيه تتسعان فإذا كان الأمر كذلك فلماذا كذبت ولماذا تركته يتخبط في بحر من الوهم
سحب سيجارة وأشعلها بارتعاشة ثم جذب نفسا عميقا... لم يكد الدخان
يتغلغل في صدره حتى انفجر سعالا عنيفا كأن صدره يرفض ما يحاول إدخاله إليه.
هرع السائق نحوه وصوته مذبذب من القلق
سيدي ظافر... هل ندخل السيارة
هز رأسه نافيا يقول بعينين زائغتين
لا بأس... دعني هنا.
كان يشعر أن البرد هو الشيء الوحيد القادر على إبقائه يقظا فالدفء سيقوده حتما إلى الجنون.
انغرست في ذاكرته كلمات نوح حين ذكر أن لقب أبيه كارم بينما الوثائق المدرسية أظهرت أن لقب زكريا التهامي... مفارقة غريبة كأن أحدهما ينتمي إلى شجرة مظلمة والآخر إلى غصن مجهول لم يتصور أبدا أن كارم وسيرين قد وزعا لقبيهما بين طفلين كما يقسم الإرث بين الأحياء.
لم يغف منذ يومين أو ثلاثة فقد سحبت منه نعمة النوم وبات عقله مثل غرفة ممتلئة بضباب خانق الأفكار تتزاحم فيها وتصطدم حتى فقد القدرة على ترتيبها.
كل ما أراده في تلك اللحظة أن يرى سيرين أن يمسك بها بيديه ويكبلها كي لا تفلت بعد الآن فكرة كهذه جعلت الدم يغلي في عروقه واحمرت عيناه كجمرتين أما
وجهه الوسيم فقد صار باهتا شاحبا وكأن الحياة تسربت منه قطرة قطرة.
كان الغد يحمل موعد عشاء عائلة نصران لقاء كان قد رفض حضوره غير أن والدته شادية أصرت عليه مؤكدة أن هناك أمرا جللا لا بد من معرفته لذا لم يجد مهربا سوى الرضوخ وترك أمر مراقبة كوثر وزكريا بين أيدي رجاله وعاد مثقل الرأس والروح إلى قصر نصران حيث تنتظره حقائق أثقل من الجدران الرخامية.
في أروقة قصر نصران المهيبة كان كل من يلمح ظافر يوقن أن شيئا في داخله قد انكسر. الرجل الذي عرف بدقته وصلابته وهيبته بدا فجأة أشعث الملامح مائلا إلى الفوضى وعلى وجهه ظلال لحية لم يألفها أحد من قبل كأن الليل تمدد على وجنتيه ورفض أن ينقشع.
خرجت خادمة من جناحه الخاص تحمل شيئا صغيرا في كفها لكن بريق عينيها المندهشتين فضح سر ما رأت وما إن التقت بأنظار سيدها حتى تجمدت في مكانها.
توقف ظافر فجأة وصوته ارتطم بجدران الرواق كالصاعقة
ما الذي تحملينه
ارتعشت الخادمة وارتمت على ركبتيها بخوف
ظاهر
سامحني يا سيدي لم أقصد... لقد عثرت عليه أثناء ترتيب السرير كان مختبئا تحت الوسادة يبدو أنه للسيدة تهامي
مدت يدها المرتجفة فكشف كفها عن خاتم ألماس بسيط التقطه ظافر ببطء وحين انعكس الضوء على سطحه المخدوش انفتح باب في ذاكرته لا سبيل لإغلاقه.
سبع سنوات مضت حين قدم الخاتم لسيرين تذكر كيف وقفت في المطبخ وحيدة والدموع تخضب وجنتيها بعدما لاحظت بروده ولا مبالاته يومها صرخت وصدى صوتها ما زال يجرح أذنيه
ظافر... هل تدرك أن كل شخص هنا يعاملني كما يحلو له! لم ينادني أحد يوما بزوجتك لم يشعرني أحد أنني سيدة هذا البيت... أي ذنب اقترفته!
طعم مرير اجتاح فمه كأن الخاتم قد تآمر مع الذاكرة ليحفر جرحا جديدا في قلبه شد قبضته عليه بقوة حتى كاد المعدن يغرس أنيابه في جلده.
رفع نظره إلى الخادمة وصوته خرج مبحوحا كريح محملة بالغبار
بأي اسم ناديتها قبل قليل
أطرقت الخادمة ثم همست بخوف
إنها... السيدة تهامي يا سيدي هكذا اعتاد الجميع مناداتها.
لمع اسمها كطعنة في صدره.
تهامي... لا أحد هنا اعترف بها يوما كالسيدة نصران لقد كانت محقة حين صرخت محقة حين بكت... ومحقة حين قررت الرحيل.
وقف ظافر متيبسا في مكانه كتمثال مهدد بالانهيار من الداخل وحالما شعرت الخادمة بحدة صمته انحنت وغادرت بخطوات مترددة تاركة خلفها هواء مشبعا بالثقل.
بقي وحده يحدق في الخاتم الصغير الذي تحول فجأة إلى كابوس يضغط على صدره شد قبضته عليه أكثر حتى سالت خيوط الدم من راحته تتقاطر ببطء على أرض الرخام البارد.
كان يعرف تماما أن سيرين لم تفقد هذا الخاتم لا... لقد تركته عمدا. تركته علامة حمراء تقول له بصوت لا يسمع
لن أعود... لقد انتهى الطريق بيننا.
عاود ظافر أدراجه يجلس في غرفته والستائر الثقيلة تغلق الطريق على ضوء القمر فلم يبق إلا أثر وهج أصفر
باهت يتسلل من المصابيح المعلقة في الجدران على الطاولة أمامه وضع الخاتم يلمع تحت الضوء وكأنه عين تراقبه في صمت.
أغمض عينيه فسمع همسا صوتا رخيما يذيب جمجمته من الداخل
ظافر
قفز من مكانه والتفت في كل اتجاه كان الصوت قريبا كأنه يتنفس عند أذنه أخذ قلبه يضرب في صدره بعنف وعرق بارد سال على عنقه.
مد يده إلى الخاتم يرفعه أمام عينيه وهو يرتجف.
سيرين همس باسمها كالمخبول.
وفجأة خيل إليه أن الظل الملقى على الحائط تمدد وأخذ هيئة امرأة قامة رشيقة شعر منسدل وابتسامة مائلة كالتي يعرفها جيدا تجمد في مكانه عيناه لا تجرؤان على الطرف إنها هي سيرين
لماذا تركتني قالها بصوت مخنوق كطفل يتوسل ضائعا.
ثم سمع ضحكة قصيرة تلك الضحكة التي كانت تذيب كبرياءه ذات يوم فاقترب
من الظل بخطى وئيدة كمن سلبت إرادته يمد يده كأنها ستخترق العالم لتلمسها لكنه اصطدم بالحائط البارد فارتد إلى الوراء لاهثا يجلس على الأرض دافنا وجهه بين كفيه والدم من يده التي أمسكت الخاتم ما زال يقطر على السجادة الحمراء.
لكن الصوت لم يتوقف صار أوضح أقرب وكأن سيرين واقفة خلفه مباشرة تهمس في أذنه
لن تنجو مني أبدا يا ظافر
حاول ظافر أن يلملم شتات روحه المبعثرة كأوراق عتيقة عصفت بها رياح الخوف وساق جسده المثقل بالندم نحو غرفة والدته شادية كان الممر طويلا على غير عادته خطواته تجر كأثقال من رصاص وما إن دفع الباب حتى انسكبت في أنفه رائحة مطهر لاذعة كأنها تعمد أن تمحو أثر الحياة من المكان أو ككفن شفاف يلتف حول كل ما بداخله.
عبر ببطء بين بعض الوجوه
المألوفة وجوه متعبة تحاول التظاهر بالتماسك بينما الحقيقة تتسرب من عيونهم الحمراء كدمع مؤجل.
ثم توقف الزمن للحظة حين وقعت عيناه على السرير المعدني البارد هناك جسد ممدد محاط بأنابيب وأسلاك يتنفس بآلات لا بقوة صدره.
جاسر التوأم الأصغر بخمس دقائق فقط خمس دقائق فصلت بينهما عند الميلاد لكنها الآن بدت كقرون من الفقد والخذلان.
اقترب ظافر وعيناه تطاردان تفاصيل ملامح أخيه الغائب الحاضر فقد ظن بل أيقن أنه لن يبصر وجه جاسر في هذه الحياة ثانية وها هو الآن أمامه جسد يحيا بفضل الأجهزة بينما الروح تائهة في برزخ لا يراه سواه أحس حينها أن قلبه يعتصر بين يديه وأن كلماته إن خرجت فلن تكن سوى صرخات حبيسة في حنجرة جافة يغمغم بقهر دون صوت
أو كان ينقصني ظهوره
في هذا الوقت تحديدا