رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثامن والعشرون

كان فهمها له يشبه محاولتها التقاط الريح بكفيها يتبدل مزاجه كما يتبدل لون البحر في عاصفة... صفاء في لحظة وجنون في اللحظة التي تليها. أصبح رجلا لا يمكن التنبؤ بخطاه كأنه يعيش في قلب إعصار لا يعرف له مخرجا.
هو من طلب الطلاق وبغرابة جارحة كان ينفجر غضبا كلما ذكرت الكلمة كأنها صفعة على جرح لم يندمل. تراه فقد صوابه بعد موت أخته أم أن الجنون تسلل إليه خلسة كمرض خفي بل لعل خلله ليس نفسيا فحسب... ربما يعاني من الانقطاع المبكر! همست لنفسها بسخرية دامعة ثم أردفت داخليا يا له من رجل تغلي عروقه بهرمونات لم يعرف لها اسما الطب بعد.
اغتسل أحمد وخرج تاركا وراءه صمتا كثيفا لا يخترقه سوى نبضات قلبها الواهن. لم يقل شيئا لم يودع حتى عطره لم يترك أثرا كأن وجوده انمحى مع صوت الباب وهو يغلق ببرود آلي. أما هي فاستلقت على السرير

كزهرة فقدت ماءها تدير له ظهرها كأنها تود أن تقصي روحه كما أقصى هو دفئها.
كانت تشعر أن جسدها يذبل بهدوء كشمعة تنهي رقصة النور الأخيرة فلم تبد مقاومة ولم تطلب شيئا.
الشيء الوحيد الذي ظل على حاله كجدار لم تفلح فيه رياح التغيير هو طيبة السيدة بيرجيس. كانت تقف في المطبخ كقديسة تكرس حياتها لتسكين آلام الآخرين ومريولها المبقع بالدقيق يشبه وشاح وفاء لا تخلعه.
قالت بصوت دافئ كحساء الشتاء
لقد أعددت لك حساء دجاج مغذ سيدتي أحمد... أتمنى أن يريحك قليلا.
ابتسمت سارة ابتسامة ناعمة كحافة السكين وقالت بهدوء لا يخلو من تناقض غريب
شكرا لك... هلا أعددت لي حساء سمك أيضا سيدة بيرجيس
رفعت السيدة بيرجيس حاجبا بدهشة خفية لكنها أجابت بود معتاد
كما تشائين يا سيدتي.
ثم نظرت من النافذة إلى الخارج حيث كانت الثلوج تكسو الفناء ككفن أبيض لا
تشوبه شائبة وقالت
هناك الكثير من الثلج اليوم... ألم تفكري في اللعب به أتذكرين كيف كنت تضحكين بصوت عال وأنت تتقاذفين الكرات مع السيد أحمد ألا تظنين أن القليل من اللهو سيصلح ما بينكما
أجابت سارة ببرود أشبه بصقيع داخلي
لا... لن أخرج. سأكتفي بقيلولة.
غادرت السيدة بيرجيس الغرفة ببطء يشبه خطواتها حين تمر على شفير القلق. كان في سلوك سارة ما لا يطمئن. فمنذ متى تحب السمك لقد كانت تكرهه كما تكره النفاق. ومنذ متى أصبحت أسيرة للسرير وهي التي كانت لا تهدأ كفراشة تعانق الضوء
سألت نفسها وقد تلبسها ظن عابر
لعلها غاضبة من السيد أحمد تحاول عقابه بصمت متعمد...
لكن سارة لم تكن تلعب. كانت تختبئ من الحياة كما يختبئ الجنين في ظلمة الرحم تطلب الأمان لا المكايدة.
ومع مرور الأيام خف توهج الألم في عروقها كما يبهت الجمر تحت الرماد. كانت
تتناول طعامها بانتظام فامتلأ جسدها بالبروتين والحديد وعاد الدم يتدفق في عروقها كأنه يستعد للقتال من جديد.
كان أحمد يعود إلى المنزل كل ليلة يمشي في البيت كغريب يستعير السقف دون أن ينتمي إليه. لا كلمة لا لمسة لا عين تلتقي بالأخرى. ينامان متجاورين... يفصل بينهما وطن من الجليد وفرشة باردة أكبر من وحدتهما.
لم تكن تفهمه. كان كمن يحمل سرا كبيرا على لسانه ولا يجرؤ على البوح.
ومع مرور الوقت استعادت بعضا من قوتها المفقودة. وفي أحد الأيام حين لاح النهار من خلف الغيوم حدقت في السماء وقالت لنفسها
لن يعود الآن... لا تزال الشمس تحكم عرش السماء.
وغادرت غرفة النوم ببطء كأنها تعود من منفى داخلي طويل. سارت نحو مكتبه للمرة الأولى وتوقفت أمام جهاز الحاسوب. مدت يدها وأدخلت كلمة السر.
وفي تلك اللحظة نادت السيدة بيرجيس من بعيد بصوت
مفعم بالدهشة والقلق
السيدة
أحمد!
كأن الزمن انكمش فجأة داخل صدرها... دهشة غريبة احتلت ملامح سارة وارتجفت خلاياها كمن لمس سلكا كهربائيا في ليل مظلم. لم تتوقع أن تنقلب الأدوار بهذا الشكل ولم تكن مستعدة لهذه الهدنة الخفية التي مدتها لها السيدة بيرجيس من دون سبب واضح... سوى طيبة صافية تشبه تلك الأرواح القديمة التي لم تفسدها الحياة بعد.
كانت الأيام القليلة الماضية شبيهة بمرآة مشروخة تعكس الواقع مشوها غير أن سارة لم تكن معزولة تماما عن العالم. لقد منحتها السيدة بيرجيس هاتفها كأنها تمد لها حبلا سريا من العزلة إلى الحياة. وهكذا بقيت سارة على تواصل بالعالم الخارجي لكن لي من خلف الستار لم يعلم بعد عن رحيل جودي. وهذا الجهل الغامض كان نارا في صدرها يدفعها دفعا نحو المجهول إلى مكتب أحمد حيث
تحتشد الأسرار كما يحتشد الغبار على رفوف الماضي.
وحين اقتربت خطوات السيدة بيرجيس من خلفها تسارعت نبضات سارة كطبول تقرع في ليلة معركة. ظنت أن انكشاف أمرها صار وشيكا وأن خطتها ستنهار كقلعة من الرمل على شاطئ الريبة.
لكن وقبل أن يسرق الخوف صوتها قالت السيدة بيرجيس بنبرة ناعمة كشال من صوف الشتاء
لقد غير القفل يا سيدتي أحمد... ستحتاجين إلى بصمة إصبعك. دعيني أساعدك.
ثم مسحت يديها بمئزرها المغبر برائحة الطعام والحنان وأخذت يد سارة برفق يشبه حضن أم تلبس ابنتها القفازات في يوم ثلجي وضغطت بإصبعها على حساس الباب... فانفتح.
ظلت سارة صامتة فالعجز عن الكلام كان أقل ما يقال عن ذهولها. هل تجهل السيدة بيرجيس أن ما تفعله الآن قد يفتح بوابة على جحيم بالنسبة لها سارة وأحمد
مجرد زوجين متخاصمين كطفلين نزعا عن بعضهما لعبة وتخاصما. لم تكن تعلم شيئا عن الحمم التي تغلي تحت سطح الابتسامات المزيفة.
قالت سارة بصوت خافت
شكرا لك...
ردت السيدة بيرجيس بهدوء وهي تدير ظهرها
لا حاجة للشكر يا سيدتي... سأعود إلى المطبخ.
دخلت سارة المكتب كأنها تخطو داخل ذاكرة لم تعد تخصها. كان كل شيء على حاله الترتيب ذاته الرائحة ذاتها تلك الرتابة المحكمة التي يحبها أحمد كأنه يخاف الفوضى لأنها تذكره بحقيقته.
هي تعرف هذا المكان كما تعرف تفاصيل جسدها... تعرف مواضع كل ورقة وكل درج وكل سر دفنه عن العالم.
وبسرعة مشوبة بالارتباك عثرت على الخزنة تلك الكتلة الحديدية التي تخفي خلفها ما لا يقال. فتحتها فوجدت ألبوم صور قديم ألعابا صغيرة من زمن نسي فيه العالم كيف يكون
الطفل بريئا ووثائق كثيرة مكتوب على أحدها سبب الوفاة.
لكن قبل كل ذلك... كان على سارة أن تدخل كلمة المرور.
اقتربت من اللوحة الرقمية وكأن أصابعها تتردد في النقر ثم قالت في سرها بسخرية مرة
بالتأكيد قد غيرها... صارت مارينا هي الوطن وأنا لا أساوي ظل ذاكرة.
لكنها بتحد غامض أدخلت تاريخ ميلادها.
وفجأة... لم ترفض الخزنة الرقم بل استجابت له كما تستجيب زهرة نائمة لأول قطرة مطر.
انفرج الباب ببطء ومعه انفرج شيء في صدرها كأنها تشهق من تحت الماء لأول مرة.
راحت تنقب بين الملفات تبحث بعينيها المرتجفتين عن جملة واحدة... وتوقفت عند ورقة كتب في أعلاها
تقرير سبب الوفاة.
لكن ما كادت تمسك بها وتبدأ بقراءة السطور الأولى حتى شق الهواء صوت بارد كالسكاكين
هل تخليت عن التظاهر باللطف
هل وصلت إلى السرقة أخيرا
 
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1