رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثاني والثلاثون
كانت ليا لأحمد كـ جيف بالنسبة لسارة؛
صلة الروح التي لا تذبل، والجرح الذي لا يندمل.
انحنى أحمد على ركبةٍ واحدة، كمن يتهيأ للاعتراف على مذبحٍ سرّي،
ومدّ يديه نحو وجهها كمن يمسك بزهرةٍ ذابلة ويخشى أن تتفتت بين أصابعه.
صوته كان غريبًا، ليس كعادته.
"لن أخفي عنكِ شيئًا بعد الآن، يا سارة... لقد انتهى زمن التجميل والزيف."
ارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ لا تشبه الدفء،
ابتسامةٌ متشققة، كأنها خرجت من قناعٍ يتداعى.
ثم همس، وصوته يئنّ كجُرحٍ مفتوح:
"كنتِ كل شيء بالنسبة لي... كل شيء.
أحببتكِ حتى الهوس، حتى الفقد، حتى اللاعودة.
لكن، وكلما زاد حبي لكِ... كلما تذكرت أنكِ ابنة جيف الوحيدة،
زاد كرهي لكِ... الآن."
شعرت سارة بأن دمها ينسحب من أطرافها ببطء، كمن تبتلعه هاوية غير مرئية.
رغم ابتسامته، كان هناك جليدٌ ينمو في عينيه،
قشعريرة زحفت كعنكبوتٍ على عمودها الفقري.
صوتها خرج مكسورًا، كأنها تخشى أن تُكمل سؤالها:
"في ذلك اليوم... حين سقطنا أنا ومارينا في الماء...
هل أنقذتها أولًا عن عمد؟
هل أردت أن يدفع ابننا ثمن حياة ابن أختك؟"
رمش أحمد ببطء، ثم تمتم كأنه يُلقي حكمًا:
"نعم...
العين بالعين."
تساقطت دموعها كأن السماء انفجرت داخلها،
وأمسكت بياقة قميصه بكلتي يديها، كمن يُمسك بالهاوية
حتى لا يسقط.
"أحمد... هل جننت؟
طفلنا لم يحظَ حتى بفرصة أن يرى العالم!
أي ذنب اقترفه ليكون كبش فداءٍ لحربٍ لم يخترها؟
كانت بريئة! كانت..."
قاطعها بابتسامةٍ شيطانية، ميل في الرأس، وانكسار في المعنى:
"وهل كان طفل أختي مذنبًا؟
أليست البراءة ذاتها التي تتحدثين عنها... سُرقت منها أيضًا؟"
نظرت إليه، تبحث عن ظلّ ذلك الرجل الذي أحبته ذات يوم.
لكن ما رأته كان شبحًا... شبح رجلٍ لم يعد يسكنه إلا السواد.
تمتمت بصوتٍ مرتجف:
"أحمد... أنا أفهم كيف أن فقدان أختك قد كسر شيئًا في داخلك، لكن—"
صرخ فجأة، كأن جدارًا انهار داخله:
"أنتِ لا تفهمين!
لا أحد يستطيع أن يُلامس ما يعتصرني من الداخل!
ليا... ولدت قبل أوانها، وكان قلبها صغيرًا وضعيفًا...
لكنها كانت قلب عائلتنا!
كنزنا. أملنا.
ثم جاء والدك، ومزّق كل شيء... تركها تموت بطريقة لا تليق حتى بالغرباء!"
توقّف لوهلة، ونظر إليها نظرة فيها كل الشتات،
ثم مدّ يده ببطء... يمرر أصابعه المرتجفة لا بحنان، بل بحزنٍ تائه.
"لن تفهمي أبدًا...
لن تعرفي أبدًا كيف هو الشعور، حين تُزيحين الغطاء الأبيض عن وجهٍ كنتَ تحبه منذ الطفولة...
وتجديه ساكنًا، ميتًا، مُشوّه الذكرى.
في تلك اللحظة، تمنّيتُ لو لم أجدها أصلًا...
تمنّيت أن تظل مفقودة،
أن أعيش على أملٍ
كاذب،
خيرٌ من أن أراها تُعيد تعريف كلمة "المأساة"."
سكت... لكنه لم يصمت.
فكل خلجةٍ في ملامحه كانت تصرخ.
وسارة؟
كانت ترى الآن ما وراء قسوة أحمد... ترى حطام رجلٍ لم يُدفن مع أخته... بل دفن فيها.
فتحت سارة فمها كمن يوشك على النُطق باعترافٍ مُزلزل، لكن الكلمات خانتها.
لا عذر يكفي، لا لغة تسع ما في قلبها،
حتى الاعتذار بات مبتذلًا،
فكيف تعتذر لميتةٍ صعدت روحها وفي عينيها سؤالٌ لم يُجب؟
آنذاك فقط، اتّضح المشهد في عقلها كصورةٍ التُقطت أخيرًا بعد طول تشويش.
نظرات أحمد التي كانت تحرقها...
ثوراته، كلماته الجارحة، تذبذبه ما بين الحنان والانتقام،
كلّها لم تكن كراهيةً لها، بل صراعًا مع شبحٍ يُشبهها في الدم والاسم.
أراد أن يُثبت أنه ليس مثل جيف.
قاتل داخله أن يولد من جديد، أن يرفض إرث الوحوش، أن يُحبّها رغم كل شيء.
لكن الأدلة... كانت أبلغ من العاطفة.
والحقيقة، كعادتِها، لا ترحم.
لقد حاول.
قاتل من أجلها.
لكن قلبه ظل يئنّ بصوت ليا،
وصورة الجثة ما زالت تقف بينه وبين السكينة.
سارة، التي لم تعد تبحث عن منطق،
بل عن مأوى…
جثت على الأرض كما تجثو طفلةٌ أنهكها الضياع.
أمسكت بياقة قميصه، اقتربت منه،
كأنها تحاول أن تُعيد تركيب هذا الرجل الذي تهشّم على مرأى من عينيها.
همست بصوتٍ مُرتعش،
لكنه عميق كجرحٍ لا يندمل:
"أحمد… أعلم أنك تتألم…
أنا أيضًا فقدت كل شيء.
عائلتي أفلست، وطفلي لم يُولد، وأبي يُصارع الغيبوبة على سريرٍ لا حياة فيه.
أرجوك… ألا يمكننا أن نُطفئ هذا الحريق بيننا؟
أن نتوقف عن تمزيق بعضنا البعض؟"
لم تتحدث إليه بهذه الطريقة منذ زمن.
كانت كلماتها كأصابع ترتجف وهي تلمس جرحًا مفتوحًا.
كانت كلمستها الدافئة أول ضوء يتسلل إلى جدران أحمد المعتمة منذ سنوات.
ارتجف.
كأن صوتها اخترق كل دفاعاته،
كأن صمته القديم انهار دفعة واحدة تحت وطأة ذلك الرجاء المبلل بالدموع.
كان قلبه يُشبه زجاجًا صدئًا تحاول يدٌ حانية تلميعه،
لكن الغبار كان أعمق من أن يُزال بسهولة.
لم تكن تعرف ما يدور في رأسه،
لكنها انتظرت…
انتظرت الردّ الذي قد يُعيد رسم ملامحهما كـ"نحن" بعد أن تكسّر الضمير إلى "أنا" و"أنت".
مرّت لحظاتٍ صامتة كأنها عمر،
ثم رفع أحمد رأسه ببطء،
عيناه محمرّتان، كأن الدموع تقف على الحافة تنتظر إذنًا بالسقوط.
لامس خدها... تلك الأصابع التي عرفتها يومًا عاشقة،
لكنها الآن خشنةٌ، كأنها مرّت على ألف جدارٍ من الندم.
قال بصوتٍ مبحوح، عميق، كأن كل سنوات عمره نطقت به:
"سارة…
ستسددين دين والدك…
لي."