رواية بيت البنات الفصل الثاني والثلاثون بقلم أمل صالح
توفيق وحامد وولده سامر، كانوا ثلاثتهم في طريقهم للعودة للمشفى، أسند سامر رأسه على زجاج السيارة التي يقودها عمه توفيق في هذه اللحظة بعد أن قطع حامد بها نصف المسافة بسرعة كادت تودي بحياتهم وقد كان غضبه خلال هذا الوقت يعميه عن أي شيء فرفض توفيق أن يكمل القيادة وتبادلوا المقاعد ليقود هو.
تنهد بتعب بعد ذلك اليوم الطويل والحوار الذي استمر لساعاتٍ بين أبيه وعميه، وإن صح التعبير فلم يكن سوى شجارٍ خرج منه عمه سلطان بتذكار بسيط على وجهه من والده حامد.
ظل الطريق بأكمله يتذمر بينه وبين نفسه ولا بال له بكل هذه الأمور المتعلقة بعمه سلطان، فما شأنه هو وزواج عمه على زوجته بخارج البلاد وإنجابه لولد صغير؟؟ ولماذا أصر والده أن يأخذه هو دونًا عن بقية أخواته وهو الأصغر بينهم؟
أخرج سامر هاتفه ونظر للساعة التي تخطت منتصف الليل بساعة ونصف وعاد ليزفر حانقًا وهو يتمنى أن تصل السيارة بهم للمشفى ليراها ويطمئن عليها ويريح قلبه المتلهف لتحقيق هذه الأمنية، ابنة عمه وحبيبة عينيه؛ الرقيقة “بسنت”.
فمنذ بداية تلك الأحداث المروعة ووقوعها في الشارع عقب رؤيتها لجسد نرمين التي قفزت – كما يظنون – وهي في حالة إعياء قوية، أصبحت باهتة، شاحبٌ وجهها، يعلوه اصفرار كأنها عاشت ألف سهرٍ في ليلة واحدة.
تعبها وكل ما يخصها يؤرقه وبشدة ولكن ما باليد حيلة، يتابعها مُقيد اليدين ولم تنَلها منه سوى دعواتِه أن تستعيد عافيتها وينتهي كل هذا ليعود ويُفاتح عمه في أمر زواجه منها ثم يجذبها من يديها ويحتفظ بها بين أسوار ذراعيه وعندئذ لن يُخرجها من بين أحضانه أبدًا، تلك الرقيقة التي لا يليق بها سوى الرقة، ما بال الحزن والألم متحالفين ضدها لا يشغلان بالًا برقتِها ؟!
وقد كان ذلك العاشق الولهان يبتسم بدون إرادة وبغير وعي وهو يرسم صورة لهما في عش الزوجية حيث لا وجود لكل هذه الأحداث الموجعة، حتى استفاق على صوت توفيق وهو يعاتب أخاه على ما فعله طوال اليوم فابتسم سامر وهو يتذكر ما حدث.
*************
كانوا الثلاثة قد وصلوا للمكان الذي سيلتقوا فيه بسلطان، ظلوا واقفين بإنتظاره قرابة الربع ساعة حتى هاتفه حامد ليهدر به غاضبًا: ورب الكعبة يا سلطان لو ما جبت بعضَك وجيت حالًا لأفضحك يا ** في الحتة هنا، خليهم يشوفوا الـ** اللي قاعد عند الست اللي اتجوزها من ورا مراته ورامي بنته في المستشفى…
أغمض سامر عينيه بقوة عقب سباب والده لتلك الكلمات البذيئة والتي تعبر حدود ثغره لأول مرة ثم رفع سبابته يحركها بأذنه وهو يهمس: ايه اللي ودانا بتسمعه ده بس يارب…
وبجانب حامد تنهد توفيق يآسًا مستغفرًا ربه لتلك الكلمات السيئة التي نطق بها أخوه قبل أن يصله صوت صراخ سلطان من الهاتف: رامي بنتي؟؟ مش بنتي دي اللي أنتم رفضتوا تخلوني أشوفها ولا أنتوا تعملوا العملة وتعملوا من بنها.
اقترب توفيق من حامد بسرعة يحاول أن يأخذ الهاتف من بين يديه التي تقبض عليه بقوة ولكن قبل أن تصل يده للهاتف انتفض حامد بغضب يعود للخلف رافضًا أن يأخذه توفيق: والـ** ما صدق ولا إيه، بدل ما تكسر الدنيا عشان تشوفها خدت بعضك وروَّحت وياريتك روّحت بيتك، النطع اللي أبويا مخلفه طلع قاعد عند مراته، اخلص يا ** أنت انزل عشان ماطلعش أنا..
عقد سامر حاجبيه بضيق واقترب من والده بعد أن رآه يزيد ويعيد في السباب ليهمس له وهو يحتفظ بالأدب في نبرته: خلاص يا بابا، الناس بتبص علينا.
– اسكت!
عاد أدراجه ليستند على السيارة التي جاءوا بها للخلف فرمقه توفيق مومئًا له برأسه كي لا يحزن فبادله تلك النظرات ببسمة وهزة صغيرة من رأسه يخبره بها أنه بخير، في حين اقترب توفيق من حامد الذي كان قد أغلق المكالمة بوجه أخيه ليزفر بغضب وهو يمسح وجهه بعنف شديد بينما يردد:
“استغفر الله العظيم واتوب إليه، أستغفر الله.”
ابتسم سامر بغباء وبلاهة وهو يرمق والده الذي نأى عنهما يستغفر ربه فنطق بتلقائية وهو يحرك يده بالهواء نافيًا: لأ لأ، أنت الحاجات اللي أنت قولتها دي محتاجة صلاة توبة وعشرين سنة قيام ليلة ودعوة ٤٠٠ غريب!
رفع حامد وجهه وألقى ذلك المسكين بسهام عينيه القاتلة فتحمحم سامر ينظر أرضًا بسرعة متجنبًا تلك النظرات قبل أن تصيبه وتحرقه في مكانه، في حين حاول توفيق بصعوبة ردع تلك البسمة التي تجاهد لترتسم على شفتيه بسبب كلمات سامر وهو يقترب من أخيه: مكنش ليه لزوم كل ده يا حامد، هو طالما بعتلنا العنوان وسابنا نجيله يبقى أكيد هيقابلنا، وممكن دلوقتي بسبب اللي حصل ده يعند وما ينزلش.
ومن جديد اعتلت حُمرة الغضب وجه حامد وكأن الدم يثور في عروقه وهو يهدر بإنفعال: يبقى **، لو عمل كدا يبقى ** وأديني قاعدله هنا للصبح، يشرف بسلامته ورب الكعبة لمروحه بيته بإعاقة.
وبالمقابل صاح توفيق بغيظ ولم يعد قادرًا على تحمل كل هذا الكلمات التي يلقيها أخوه وهو غير مهتمٍ لتلك النظرات المصوبة عليهم من المارة أو لوجود إبنه الذي كان يرى والده مثالًا رائعًا للأب الخلوق والذي كان عيبه الوحيد هو غضبه..
“لأ يا حامد كفاية، كفاية بجد القرف اللي عمال تطلعه من بُقك من ساعة ما وقفنا ده، أنت في إيه بجد؟!! إيه كمية الشتايم والألفاظ اللي عمال تتغنى بيها دي!”
وصمت لبرهة قبل أن يسترسل بنبرة أقل علوًا من السابقة ولكنها ظلت ممتزجة بالحدة والحزم: امسك نفسك شوية وإهدىٰ، إحنا مش جايين نموت بعض إحنا جايين نتهبب نشوف حل لأخوك ولو هتتعامل بالأسلوب ده صدقني يبقى مَجيتنا ملهاش لازمة.
التهب صدر حامد متأججًا بالغضب وثارت الدماء بعروقه كالبركان وهو يجاهد لسانه الذي كاد ينفلت بلعنة واكتفى بإيماءة برأسه ليست موافقة لحديث توفيق وإنما مغتاظة متوعدة.
ظل الثلاثة واقفين بإنتظار أن يطل عليهم سلطان ويتكرم عليهم بحضوره، حتى مرت عشر دقائق أخرى فأخذ حامد يستغفر بصوتٍ عالٍ في لافتة واضحة أنه لن يصمد طويلًا.
حتى وجدوه أخيرًا يقترب منهم، بوجهٍ عابس متجهم وبصوتٍ خشن وبفظاظة تحدث: أديني جيت عشان أشوف البهوات عايزين إيه تاني مني، بعد ما منعوني من بنتي ورفضوا يدخلوني بيت أبويا الله يرحمه.
ويبدو أن هذا لم يُعجب حامد الذي انطلق صوبه كالصاروخ يجذبه من ثيابه ليجره جرًا صوب السيارة، فتح الباب ودفعه للداخل تحت مقاومة سلطان واعتراضه: بقولك سيبني، أنت مفكر نفسك مين عشان تعمل الـ..
بتر حديثه عقب صفع حامد للباب وتحركه للجهة الأخرى في حين ركض توفيق تجاههم يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مظهرهم الذي لطخه أخوه بأفعاله.
وخلال تلك المعركة القصيرة التي اختفى صوتها داخل السيارة بعد أن صعد توفيق بالخلف وأغلق الباب خلفه كان سامر يلقي بالبسمات في وجوه المارة الذين يطالعون ما يفعله هؤلاء الرجال بغرابة وقلق من شراسة ذلك الثائر بينهم
“بيلعبوا حلّق مفيش حاجة تستدعي القلق.”
*************
عاد سامر لحاضره يطالع والده الذي أخذ يبرر سبب غضبه، يخبر عمه كم هو حزين لما آلت إليه الأمور؛ فهذه زوجته لسلطان صارت ساحرة تفعل ما لا يرضي الله ولا يرضى إنسانًا، تحقد على هذا وذاك حتى وصل بها الأمر أن تقوم بإيذاء العائلة، وانتهى بها الأمر أن يتلبسها جني، وتلك المسكينة نرمين ابنتهما وقعت ضحية لأفعال الإثنين، عاشت ست سنوات دون والدها ومع والدتها التي حاولت قتلـ.ـها في غياب عقلها فانتهى بها الأمر في المشفى، فاقدة النطق تعاني من مشاكل نفسية وجسدية، ترفض لقاء والدها ووالدتها بل وتخافها أيضًا.
أخذ سامر نفسًا طويلًا وعاد ليسند رأسه وينظر للطريق بجانبه من النافذة، يتمنى لو أن كل ما يعيشونه الآن هو مجرد كابوس، كابوس طويل سينتهي عما قريب ليعودوا كما كانوا؛ “آل الهلالي” الحصن المنيع، شجرة باسقة، جذورها متينة في الأرض، وأغصانها متشابكة في السماء، لا تعبث بها الرياح وإن اشتدت.
صف توفيق السيارة فاستفاق من شروده ليكون أول من يهبط من السيارة، تحرك في طرقات المشفى قاصدًا الغرفة التي تقبع بها نرمين يتمنى أن تكون لازالت موجودة – رغم استحالة الأمنية – ليراها.
وجد طارق يجلس بالخارج فوق أحد المقاعد المرتصة أمام غرف المرضى، يريح رأسه للخلف ويغمض عينيه، لا يعرف إن كان نائمًا أو فقط يستريح فاقترب منه مناديًا: طارق.
فتح عينه فتكلم سامر وهو يشير لباب الغرفة التي توجد بها نرمين: مين اللي جوة مع نرمين؟
زفر طارق بتعب وهو يعود للوضعية السابقة مجيبًا: جنى ومرات عمك وجيهة.
“بس؟!”
فتح طارق عين واحدة وهو يطالعه بعدم فهم فوضح لها سامر: فين بسملة وبسنت وندى، روحوا ؟؟
“آه روحوا،
اقعد بقى وبطل فرك!”
اكفهر وجه سامر وهو يأخذ المقعد المجاور لأخيه وثواني وأقبل عليهم توفيق وحامد ومَجد الذي التقى بهما في الخارج بعد أن تولى الأمر في البيت وعاد ليبقى مع مَن سيبقوا من الرجال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هجرتُ بعضَ أحبتي طوعًا لأنني
رأيتُ قلوبَهم تهوى فراقي
نعم أشتاق،
ولكن وضعت كرامتي فوق اشتياقي
وأرغب في وصلهم دومًا
ولكن طريق الذل لا تهواه ساقي
عذرًا يا قلبي،
فكرامتي فوق اشتياقي. ♡
ابتسمت السيدة دعاء والدة عادل عقب جملته التي ألقاها بوجهها بسعادة وهي تقترب منه متسائلة بفضول: مين؟ ها ها مين؟؟
رفع عادل أكتافه يجيبها ببساطة وكأنه ليس المعني بالأمر بنبرة خالية من أي شعور: شوفي أنتِ بقى، شوفيلي عروسة تكون بنت ناس ومحترمة، أنا نويت أكمل نص ديني ويادوب أصلا أنا بقيت على مشارف الـ30 أهو.
كان يتحدث وقلبه يصرخ به أن يتوقف، يخبره أن هناك من أسرت قلبه وأنه ليس بحاجة لأخرى، إنها هنا بالجوار، محبوبته القاسية والغير مراعية التي جعلته يصل لنقطة خطيرة وقرار صعب.
“ودي أعملها إزاي دي يا قلب أمك، بقولك الخطوبة الخميس اللي متل بكرة، أشوفلك عروسة ونخطبها في أسبوع؟!!”
كانت تتحدث والدته بعدم فهم لذلك الطلب، ظنت في بداية الأمر أنه وجد مَن سرقت قلبه وأنه مثلًا تحدث لأهلها وتبقى فقط تلك الزيارة الرسمية ولكن ذلك الأبله ابنها يريد فتاة خلال أسبوع!
وكأنها ستشتريها من محل الدُمى!
تنهد بحنق وهو يقف وقد اختنق حتى لم يعد قادرًا على استرسال الحديث في هذا الأمر: معرفش يامّا بقى دي أمور حريم وأنتِ تعرفي تظبطيها بشطارتِك بقى.
والتفت بسرعة قبل أن يزداد الأمر سوءًا وتفتضح عيناه اللامعة سرَه، فوقفت دعاء بسرعة لاففة جلبابها أسفل إبطها وهي تلحق به بسرعة وهي شبه تركض في شكل مضحك حتى ولجت خلفه قبل أن يغلق الباب: استنى يالا! هو الكلام ده بيتقال كدا، لأ أنا أحب أفهم كل حاجة من طَق طَق لسلام عليكم..
نظر لها بيأس فوجدها تتجه لسريره وهي تشير بجدية كبيرة له أن يتبعها وكأنها مديره في العمل أو ما شابه!!
ابتسم بصدق على تصرفات والدته الطفولية ولحق بها بعد أن أغلق باب غرفته حتى استقر على فراشه أمامها، وبعد اصرار وضغط كبير استطاعت السيدة دعاء أن تجعله يقص عليها كل شيء، كل شيء حقًا، وكأن ذلك المسكين كان بانتظار هذه اللحظة التي سيلقي بها كل ما بجعبته وما يجوش بصدره، ورغم هذا لم يشعر بالراحة، بل ازداد الأمر سوءًا مع تلك الرغبة الملحة بالبكاء التي راودته.
“بقى ده اللي مخليك قالب وشك من الصبح ومعكنن على روحك، هايدي مين دي اللي عامل في روحك كدا عشانها، لا هي ولا عشرة غيرها يقلبوا مزاجك كدا أنت سامع، هجوزك ست ستها وعايزاك تدخل صوابعك في عينها كدا.”
كانت تصرخ بغضب أمٍ عاد لها طفلها من الروضة بجرح في وجهه جعلته يبكي طوال اليوم حتى عاد إليها، ابتسم عادل بهمٍ وحاول الرد عليها ولكنه لم يستطع بفضل تلك الغصة بحلقه، ابتلعها ونظر لوالدته التي انتهت ليختتم هو بينما يضرب فوق قلبه ضربات صغيرة بصوت متألم مختنق بحق وعيون لامعة: بس حبيتها يامّا … أعمل إيه؟؟ حبيتها هي.
وكم تألمت دعاء لسماع صوت صغيرها المختنق ورؤية تلك الطبقة من الدموع التي تلمع داخل عينيه والتي كان يحارب كي يمنعها من الهبوط، لا تعرف بماذا تواسيه أو تخفف عنه، صاحت بغضب وهي تلوح بيدها في الهواء: لأ تفوق لنفسَك يا حبيبي، أديك لسة قايلي إنَك حاولت معاها مرة واتنين وعشرة، غيرَك كان طفش من زمان…
ونظرت إليه وهي تسترسل بحزن: أنا مش عارفة يا حباية عيني أنت عامل في روحك كدا ليه! هي يعني أول ولا آخر واحدة على الأرض، دانت ١٠٠ واحدة تتمنى ضُفرك.
“بس أنا عايزها هي!”
عقب على كلماتها بصدق وقد تناسى أنه منذ دقائق فقط كان يطلب منها أن تجد له عروس ليتزوج بها، تناسى أنه اتخذ قراره بالإبتعاد عنها ومعاقبتها بهجره لها ولكن كيف وذلك الأحمق الذي يضخ بيساره يأبى هذا القرار؟! كيف وعيناه تنبض بالعشق لرؤياها فتبدأ بإطلاق سهام الحب المتتبعة؟؟
تابع عادل وهو يحاول أن يجعل والدته تفهم وضع هايدي مبررًا: هي مش رفضاني عشان سبب معين فيا هي رافضة أي حد، بسبب عبد الحميد اللي أمها جوزتهولها زمان، أنا معرفش تفاصيل….
وشرد في اللاشيء وهو يُكمل متذكرًا لمحات من الماضي: بس فاكر لما كنت بشوفها وهي لسة عيلة، جاية بتجري على أول الشارع حافية وهي منهارة من العياط، فاكر وأنا قاعد هنا في البيت وسامع صوت صويتها وخبطها على باب بيتهم وهي بتستنجد أمها…
نظر لوالدته مردفًا: من غير ما أعرف تفاصيل أنا عارف الراجل ده عمل فيها إيه وكان نفسي أعوضها عن كل اللي شافته وأنسيها خوفها، كان نفسي تبص للحياة بنظرة تانية….
أخذ نفسًا طويلًا مخفضًا رأسه: بس مليش نصيب فيها، الحمد لله.
رفعت دعاء وجهه لينظر إليها ثم قالت بحدة واصرار: ولا تزعل نفسك هجوزك سِت ستها، واحدة كدا تنسيك هايدي وعشرة غيرها..
صمت ولم يرد على والدته، لم يعلم كيف يخبرها أنها بقلبِه بجميع نساء العالمين، كيف يخبرها أنه مهما رأى من فتيات لا يريد غيرها، لا أنثى سواها ستملئ عينيه، حتى وإن وجد غيرَها كيف سيتعايش معها وقلبه وعقله مع قاسيته!
تنهد ولم ينطق ببنت شفة تاركًا والدته تتحدث عن فتيات الحارة وقريباتها اللاتي جمالهن لا يُضاهي جمال تلك الهايدي شيئًا، وكأن حديثك يا أمي سيقنعني أن هناك مَن هي أجمل من حبيبتي!
وها هو مَن كان يتغنى بالكرامة والكبرياء في غرفته منذ دقائق يضع كل هذا أسفل قدميه، صافعًا عقله، ضاممًا قلبه، يتغنى بحبها الذي لن يموت يومًا
فإذا دخل الحب قلبًا
هان الكبرياء
وضاعت ملامح العزة
في سبيل اللقاء
نترك الكرامة على أعتاب الهوى
فمن أحب صدقًا
لا يقيس بالعطاء جزاء.
وفي الجوار حيث تجلس تلك التي سرقت لُبَه بمنزل شقيقها ناصر، كانت هايدي تتحدث في الهاتف مع شقيقها بصوت هادئ ولازال أثر البكاء واضحًا بصوتها جراء ما حدث صباحًا من طرد والدتها لها ورفضها أن تأخذ أي من متعلقاتِها معللة أنه من أموالها وإن أرادت شيئًا فلتطلبه من أخيها الحبيب!
“نِزلِت من الصبح من ساعة ما كلِمتَك، معرفش بقى مش بترد ليه يا ناصر.”
أجابت على سؤال أخيها وهي تجاهد كي لا تُظهر أمر بكائها بينما على الجانب الآخر زفر ناصر قلِقًا: طب والعمل، أنا برن عليها من ساعة ما رجعت من الشغل ومش بترد، والساعة واحدة ونص أهي!
مسحت أنفها بمنديلٍ بيدها واقترحت: جرب رن على أبوها أو حد من ولاد عمها.
” رنيت على عم توفيق من ساعة كدا رفض المكالمة….”
زفر مرة أخرى: ربنا يسترها، أنتِ محتاجة حاجة عندِك؟؟ أمورِك تمام؟
ابتعلت هايدي غصة بحلقها مع اندفاع الدموع فجأة لعينيها وكم تألمت وهي تستمتع لذلك الصوت الصاخب بداخلها وهو يصرخ بها أن تخبره بالحقيقة، أن تقص عليه ما حدث اليوم وكيف طُردت من منزلها، ومِن مَن؟ والدتها.!
هبط الدمع من عينيها بصمت متحشرج لم يخفى على ناصر الذي انتبه لصمتها الطويل قبل أن تجيبه كاذبة: لأ، الحمد لله كويسة.
تنهد ناصر على الجانب الآخر بتعب وقد شعر بوخزاتٍ مؤلمة في قلبه، فها هو يجلس في بلد بعيد عن عائلته مكبل اليدين، عاجز على مواساة أخته والتصدي لمن يلحق بها الأذى ولو كانت والدته، لا يدري ما حال زوجته وما آلت إليه الأمور مع عائلتها.
“مالك يا هايدي، أمك عملتلك إيه؟”
قال بصوتٍ مثقل بهموم الدنيا بأكملها، بنبرة هادئة لم تخلو من الحنان وهذا بالتحديد ما انتظرته، انتظرت هذه اللهجة وهذه النبرة التي يُحدثها بها لتفيض عينُها بالدموع وتنفجر في البكاء وكم كانت ترجو أن يكون أخوها بجانبها في هذه اللحظة لتندثر بين أحضانه فيمحو كل هذا الألم والحزن الذي تشعر به بتربيتة من يده فوق رأسها.
“خلاص يا هايدي عشان خاطري، خلاص بالله عليكِ أنا مايهونش عليا دمعة واحدة من عينيكِ.”
ولم تزيدها كلماته سوى بكاء، تحدثت بكلام متهدج وقد كان حديثها منثورًا بين شهقاتٍ ودموع: طردتني يا أبيه، قالتلي كلام صعب أوي قدام نورة مرات أخوك، شوفت … شوفت الشماتة في عيونها وهي بتسمع أمي بتهزق فيا وبتطردني من بيتي…
وعادت لتبكي بكاءًا مريرًا، يتقطع معه صوتها وتتبعثر كلماتها وهي تستأنف متسائلة بصوت مبحوح وقلبٍ منكسر كأنه ينوح على أطلال نفسه: هو أنا عملتلها إيه، والله .. والله كنت نازلة بس آخد هدوم لنفسي…
يستمع إليها بقلبٍ لا يقل ألمًا عن قلبها، هذه أمها يا عالم، هذه أمها وتفعل معها هكذا؟؟ ماذا تنتظر من الغرباء أن يفعلوا بها إذن؟!
اختنق صدره وشعوره بالعجز يزداد ولم يكن بيديه إلا أن تحدث بصوتٍ ينبض بالكمد: حقك على قلبي وعيني والله يا هايدي، حقك عليا … ياريت كنت أنا مكانك ولا حد يقولك نص كلمة يا حبيبة عيني..
نظرت هايدي حولها وتابعت تبوح بما تشعر به منذ الصباح: أنا قاعدة لوحدي يا ناصر، أنا خايفة يا أبيه.
تُزيده ضعفًا ووهنًا وعجزًا بكلماته، لا يدري كيف يهون عليها وهو مَن يريد أن يهون عليه أحد!
انتهت المكالمة بينهما فتركت هايدي الهاتف جوارها وأراحت جسدها فوق الفراش تستسلم للنوم الذي باغتها تُريح عقلها من الألم الذي يسكنه بسبب بكائها وتريحه كذلك من التفكير الذي لا يجدي نفعًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يومٌ جديد، نهض الصباح من رحم الليل، ليُعلن بدء حكاية يوم جديد، وفي بيت شريف القاضي – رحمه الله – وداخل مطبخ الشقة على وجه التحديد التقطت السيدة رضوى والدة مصطفى وعثمان وجهاد طبقين من فوق رخام المطبخ تلتفت مناولة إياهما لإبنتها وأصغر مَن أنجبت جهاد والتي تحركت بهما بدورها للخارج حيث طاولة الطعام.
وضعت طبقي البطاطس المحمرة فوق الطاولة ونظرت لعثمان الذي كان ينظر للأطباق بحماس وتحدثت محذرة بينما تلوح بسبابتها في الهواء: إيدك متتحطش في الأطباق يا عثمان غير لما نتجمع كلنا.
تجاهل عثمان كلماتها ووضع يده بأحد الأطباق ملتقطًا كمية لا بأس بها يسلي نفسه بها حتى اكتمال الطاولة فصرخت جهاد وهي تشتكيه لأمها: يا مــامـا.
خرج مصطفى من المرحاض يجفف يديه بمنشفة موضوعة فوق كتفه وهو يتحرك ناحيتهم متحدثًا بضيق وحديثه موجه لطبيبهم: ما تبطل رخامة ياض أنت.
سحب مقعدًا مجاور لعثمان وجلس فوقه يستمع لرد عثمان المتذمر: وأنا هببت إيه أنا دلوقتي؟! يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم!
اقتربت رضوى منهما تحمل بعض الأطباق وخلفها جهاد بالمثل لازالت تشتكي: ولما نيجي ناكل نلاقي سي عثمان مخلص الأكل، صح؟؟
وبرقت عيناها بفزع وهي تشير للطبق الذي التهم نصفه تقريبًا: شوفي شوفي!
“بألف هنا على قلبك يا حبيبي، بس خف شوية أنت عايش في البيت تلاتة غيرَك.”
ابتسم لوالدته مطيعًا ثم اشاح بنظره عنها لشقيقته لتنمحي بسمته الصادقة لأخرى صفراء وذلك قبل أن يلتفوا أربعتهم حول الطعام ليشرعوا في تناوله وأثناء ذلك تحدثت رضوى: يعني مش هينفع أجي أزورها، دانا والله قلبي بيتقطع عليها.
نفى عثمان برأسه يجيبها بجدية وهو يجذب قنينة المياه: لأ يا ماما بلاش، أنا حتى معدتش هروح تاني، هم كفاية اللي هم فيه ولسة البنت أصلًا مش بكامل عافيتها دي لسة فايقة من يومين ولا أنا ولا أنتِ نقربلهم حاجة عشان تروحي تزوريها…
“وجنى”
تسائلت رضوى وهي تنظر إليه بينما أحد حاجبيها مرفوع، فتنهد عثمان مبتسمًا وهو يترك ما بيده من طعام: تقريبًا كدا مليش نصيب مع جنى يا ماما، مش عارف الصراحة بس أنا لما شوفت موقفها مع الست اللي بنتها ماتت في المستشفى وبعدين موقفها في القسم مع الشاب اللي ضربته بجرأة بدون ما يرمش ليها جفن وخوفها وجريها على عيلتها وإهمالها لنفسها عشانهم حسيت بشدة غريبة ليها…
ورفع نظره لوالدته التي كانت تتابع البسمة التي كان يحكي بها ليستكمل وهو يبرأ نفسه من أي إثم: رغم إني والله يا ماما ما رفعت عيني وبصيت ليها بشكل مش كويس، والله كل اللي بحكيه ده وأنا مفيش مرة بصيت لملامحها وسرحت أو أطلت النظر ليها…
وأخفض بصره ينظر للقيمات الخبز التي أمامه عابثًا بها يقول معترفًا ببعض الخجل: مش هنكر إني وقفت معاها مرتين لوحدنا…
ورفع رأسه من جديد وهو يقسم لوالدته التي نال منها الدهر ما نال كي تحسن تربيته هو وأخوته: بس والله المرتين كانوا في أماكن عامة يا ماما، مرة في قصاد القسم والتانية قصاد المستشفى، كان حوالينا ناس و…
قطع حديثه ينظر للأطباق: مكنش كلام لحاجة زي ما الدين بيقول، كنت بحاول أبرر ليها جملتي المتخلفة اللي قولتها أو أبين ليها إني مش وحش بالشكل اللي هي متخيلاه، فعشان ماقعش في أي حاجة تانية كدا أنا قررت أبعد عن العيلة كلها ولو ليا نصيب فيها ربنا يجعلها ليا.
ورفع بصره بتردد لوالدته التي أشارت للأكل وقالت ببسمة لم تصل لعينها: كمل أكل يا عثمان.
أومأ وعاد ليأكل، كان يتحدث كطفل صغير عَاد من المدرسة وأخذ يدور حول والدته بتوتر وهو يحاول إخبارها بأنه عصى أمرها اليوم وتخلف عن حضور باقي اليوم الدراسي ليفر هاربًا ينتوي اللعب مع رفقاء السوء الذين حذرته منهم.
ومن حوله كان مصطفى شقيقه الأكبر وكذلك جهاد ينصتون للحوار الدائر بينهما بصمت وهم يتصنعون الانغشال بالطعام أمامهم حتى انتهوا وقاموا جميعًا لينفض هذا المجلس.
دقائق ونادت رضوى عليه من غرفتها تطالبه بكوبٍ من الماء، كان في هذا الوقت ينتقي ملابسه التي سيذهب بها اليوم للعمل وما إن فعلت حتى تحرك فورًا يلبي نداءها وفي قرارة نفسه يعلم أنها ليست مجرد مُطالبة بكوب ماء.
طرق الباب ودخل يناولها إياها وصدق حدسه عندما أشارت إليه على الفراش أمامها فجلس ورأها تضع الكوب جانبها ولم ترتشف منه ولو القليل..
وكان أول ما قالت رضوى هو: بعد كدا لما تحب تتكلم في حاجة تخصك معايا ماتتكلمش قدام أخواتك، استنى لما تقعد معايا وقولي اللي عايز تقوله.
“حاضر.”
ولم تتوقف عن هذا بل اردفت وهي تسترسل الحديث الذي سبق وفتحه منذ قليل معاتبة إياه: الجملة اللي قولتها غلط، وقوفك مع جنى غلط، محاولتك انك تقرب منها عشان تفهمها قصدك غلط، أنا واخدة الموضوع سبهللة من البداية على ما أشوف هتوصل لإيه، راكبة العبط و مستنياك تيجي تقولي إنك غلطت يا عثمان..
ربتت على قدمه بحنو وبإبتسامة صغيرة نبست: أنا واثقة فيك يا عثمان، مش محتاجة تقعد تحلفلي إن مكنش قصدك وإن نيتك كانت كويسة وعارفة إن غصب عنك وعفوية منك بس أنت لازم تشد نفسك أكتر..
رفع رأسه ينظر إليه بجهل لمقصدها من آخر جملة فلم تبخل عليه بالتوضيح وهي تواصل: من لما اتقدمت ووصلك الرفض كان لازم تبعد عن سكتها تمامًا، وزي ما قولت لو ليك نصيب معاها ربنا هيوقعها في طريقك ويوقعك في طريقها، واتعود قبل ما لسانك يخرج كلمة فكر فيها مليون مرة ما تبررش بإنك كنت متعصب أنت قولت جملة ما تخرجش بتلقائية كدا إلا إذا كنت متعود تقولها على طول..
انفرجت شفتيه وكاد يقسم برب الكعبة أنه ليس كذلك وأنه يومًا لم تخرج هكذا كلمات من فمه ولكنها استوقفته: أنا متأكدة مليون في المية إنك مش كدا؛ ذلة لسان، ومحدش معصوم من الغلط بس الشاطر اللي يلحق نفسه من الغلط ده مش يعوم فيه.
ولا تعلم رضوى لماذا تذكرت فجأة زوجها الراحل شريف فالتمعت عينها بالدموع وهي تنهي الحوار بصوتٍ مختنق: مش عايزة بعد التعب اللي تعبته ده كله معاك أنت واخواتك يجي حد يقول عليكم أي حاجة يا عثمان!
توسعت عيناه دهشةً وهو يقترب تلك المسافة بينهما يعانق والدته ماسحًا فوق ذراعها بحنان كان لها كل الفضل أن يمتلكه هو من بين أولادها الثلاث: ما عاش ولا كان اللي يتكلم في حقنا نص كلمة يا ماما، أنتِ مفيش حد يقدر يعمل اللي عملتيه والله، ياريت كل الأمهات زيك يا حبيبتي.
بكت رضوى بين أذرع إبنها وهي لا تدري حقًا سبب بكائها بهذا الشكل ولما فجأة ألحت عينُها بالبكاء وفاضت ،وكأنها قضت أعوامَها الماضية لا يرمش لها جفن؟!!
ولم يشتكي ذلك الذي يحاوطها و يخفيها خلف ذراعيه تاركًا لها حرية الاختيار بالبقاء هكذا مدى الحياة أو الإبتعاد عن أحضانه وقتما تشاء.
وبالخارج في صالة الشقة، كان مصطفى يتحدث لأحدهم بالهاتف الموضوع فوق أذنِه، يبلل شفتيه بتوتر بينما يقبض بكف يده الفارغ على جهاز التحكم بالتلفاز حتى كاد يحطمه، الضابط مصطفى شريف القاضي! مَن تهتز لإسمه القلوب وترتجف الأبدان يتحدث بكل هذا القلق؟!
“في المعاد اللي حضرتك تشوفه يا أستاذ منصور، أنا هستنى مكالمة حضرتَك بس ياريت ولاء متعرفش حاجة بخصوص الموضوع ده ولا تتكلم قصاد مدام سلوى برضو.”
أنهى المحادثة وترك الهاتف جواره زافرًا بقوة،
يا ألله!
ما بك يا قلبي؟؟ لتهدأ قليلًا!!
عما قريب ستنالها .. عما قريب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بيت آل هلالي، أمام شقة حامد بالتحديد، خرج طارق الذي أمره والده أمس هو وسامر بالعودة ليبقيا بالبيت حتى يُريحا جسدَيهما وكي لا تبقى النساء وحدها بينما سيبيت ليلته هو وتوفيق ومَجد، خلفه خرج سامر تتبعه شهيرة والدته التي أولتهما ظهرها لتغلق الباب بالمفتاح بإحكام قبل أن تلتفت إليهما قائلة: هطلع بسرعة أطل على بنات عمكم توفيق وأطمن على بسملة بالمرة.
وتحركت ناحية السلالم المؤدية للطابق التالي حيث شقة توفيق فلحق بها سامر الذي عقد حاجبيه بعدم فهم يسألها متجاهلًا طارق الذي هبط هو لينتظرهما بالحديقة الأمامية.
“بسملة؟ مالها بسملة؟؟”
أجابته شهيرة وقد تغلف صوتُها بالحزنِ وهي تقص عليه ما حدث الليلة الماضية…
اعتدلت بسملة في جلستها وعاونتها ندى في ذلك وهي تحمد الله على إستيقاظ تلك التي لا تعي شيئًا ولا تدرك سبب هذا الجمع من حولها؛ لماذا يتنفس مَجد بهذا العنف بينما يرميها بتلك النظرة الثاقبة؟؟ ولما تبكي تؤامها هكذا؟؟ وعلامَ تحمد ندى ربها بكثرة؟؟
وضعت كفيها فوق الأرض وأراحت ظهرها على الفراش وهي لازالت تفترش الأرض وكررت سؤالها من جديد وذاكرتها لا تسعفها في هذه اللحظة على تذكر ما حدث بالدقائق الماضية.
“في إيه؟؟ مالكم؟؟ أنت بتبصلي كدا ليه وأنتِ يا بسنت مين اللي خلاكِ تعيطي كدا وأنا أقطعه.”
قالت الجملة الأخيرة بحدة واندفاع قوي لا يلائم ضعفها في الوقت الحالي فهز ذلك الواقف رأسه يآسًا وتنهد يخفف على قلبه وطاة ما مروا به منذ دقائق لكي تنتظم دقاته.
نظر إليها وهي تهدر بملامح منقبضة وتحدث هو ولازال يقف كفيه فوق بداية فخذه جاذبًا انتباهها بغلظة صوته: أنتِ اللي في إيه؟؟ فهمينا إيه اللي بيحصل؟؟ وإيه اللي قَلَبك على الأرض كدا؟
ابتسمت بسملة ابتسامة واسعة لا تليق بأي شكلٍ من الأشكال بموقفها في هذا الوقت وهي تجيبه: كنت نازلة أشرب من البحر..
وعقب تلك الجملة وبسرعة لم يستوعبها أيٌ من الواقفين اختفت تلك البسمة وتحدثت بفظاظة رغم التعب الذي لم يخفى عليهم والذي ارتسم على وجهها بوضوح: أكيد أغمى عليا بعد الصلاة، أنا أصلًا دماغي مصدع..
ابتسم مَجد وهو يستمع إليها بعدم تصديق ولم يستطع ردع تلك الجملة والتي خرجت منه فور توقفها: أنتِ بتتكلمي ببساطة كدا ليه وكأنك بيغمى عليكِ اتنين وخميس؟؟
حاولت بسملة الوقوف عن الأرض بعدما بدأت تشعر بالتنميل في أنحاء قدمها فعاونتها في ذلك ندى وبسنت التي أعقبت على حديث مَجد بجدية لم يصدقها وبصوت متحشرج جراء بكائها: متقلقش يا مَجد، هي فعلًا بيغمى عليها كتير وغالبًا محتاجة جلسة أكسجين…
كانت بسنت تتحدث وبداخلها تعلم يقينًا أن شقيقتها لم تصل إلى هذا الوضع إلا من انهيار أو ضغط فاق تحملها، بينما ندى ترهف السمع وتصغي لما قالت أختها الصغيرة بغصة آلمت حشاها؛ هل هي غريبة الآن وسط أخواتها؟؟ كيف لا علم لها بمثل هكذا أمر؟! يا إلهي! هل سحبني موجُ الحياة إلى أعماق بحرها حتى صرتُ بعيدة لهذه الدرجة عن شاطئها؟؟
تنهدت وقد أخرجها من غمرة شرودها صوت مَجد وهو يخبرهم أنه سيُحضر جهاز الأكسجين من شقتهم وسيصعد لهم مرة أخرى ثم تركهم وغادر.
فجلسن ثلاثتهن كل واحدة غارقة في عالمِها الخاص، فهذه ندى تحاول فتح فمها وتحريك لسانها لتستفسر عن حالة بسملة التي يزعمونها لكنها لا تعلم كيف تفعل وهي لم تكن يومًا بهذا القرب منهما لتسأل..
وبسنت التي أخذ عقلها يعمل جاهدًا على الوصول لما جعل بسملة تصل لهذه الحالة ورغم عدم وضوح النقطة التي جعلتها هكذا إلا أنها كانت متيقنة أن السبب واحد؛ عُمر.
أما عن الأخيرة، وضعت رأسها فوق الوسادة وأغمضت عينَها وهي تحارب عقلها الذي يأبى ترك سيفه رافضًا أن تستلم للنوم يخدشها بذكرى الماضي حتى صارت كلها ندبات، تُرى ما هي خطوتك التالية يا بسملة ؟؟
مرة أخرى بالحاضر، ختمت شهيرة سردها لما حدث أمس بـ: نزل اخد جهاز الأكسجين وقالي إنها تعبت فجأة ومافهمتش منه حاجة وبعدها عدى عليا وهو راجعلهم المستشفى.
توقفا أمام باب شقة توفيق فقرع سامر الجرس ووقفا ينتظران أن يُفتح لهما، ويا حظ سامر أنها هي مَن فتحت لهما، انفرجت أساريره والتمعت عيناه بلمعة خاصة وهو يهمس بصوتٍ لم يصل حتى لوالدته التي تقف جواره: بسنت!
“إزيك يا طنط، تعالي اتفضلي.”
عانقت بسنت شهيرة وفتحت لهما الباب سامحةً لهم بالدخول فولجت شهيرة أولًا تسأل عن حال بسملة بينما وقف سامر أمامها متسائلًا: عاملة ايه يا بسنت؟؟ كويسة؟؟
“الحمد لله بخير، تعالى يا سامر ادخل.”
ولم يخفى عليه صوتها ولا شحوب وجهها، فدلف خلف والدته وأغلقت هي الباب من خلفهما قبل أن تدلهما للصالون حيث وجدوا بسملة تقوم بأخذ جلسة الأكسجين التي رفضت أخذها مساء أمس.
وفي غرفة ندى، كانت تتحدث لزوجها بالهاتف وهي تحاول طمئنته أنها بخير لم يمسسها ضر لا هي أو عائلتها.
“والله يا ناصر كويسة، أقسم بالله ما في حاجة، أنا زي ما قولتلك تلفوني فصل وماعرفتش غير الصبح وأول حاجة عملتها حطيته في الشاحن ورنيت عليك.”
“وعم توفيق؟؟ برن عليه بيكنسل.”
“هتلاقيك رنيت لما كان مع عمي سلطان، متقلقش والله أنا كويسة.”
وصلتها تنهديته من على الجانب الآخر ثم صوته الرخيم الهادئ كنسيم الفجر الذي يلامس الروح بلطف: قلبي وقع يا ندى وأنا مش عارف أوصل ليكِ أو لحد من عيلتِك، خضيتيني عليكِ.
ابتسمت لكلماته الحنونة الذي لم يفوت يومًا فرصة ليغرقها بها، تحمد الله سرًا في كل سجدة على امتلاكها هذا الرجل.
“حقك عليا غصب عني والله، طمني عليك أنت كويس؟”
“سمعت صوتِك بقيت كويس، الحمد لله أنا كويس طول ما أنتِ كدا.”
“الله يخليك ليا يا ناصر ومايحرمني منك.”
ضحك على تلك الدعوات بخفة وأومأ وكأنها تراه: ماشي، سكتيني بدعوات ستي وستِك دي سكتيني.
صمتت بخجل ولا تعلم كيف تخبره أنها تعني كل دعوة ولم تقصد أبدًا ما وصل له أو أنها تصمته كما قال، ولم يزد هو عليها الأمر فغيّر مجرى الحديث فورًا يطلب منها برقة: لو عرفتِ تبقي تروحي تشوفي هايدي لو محتاجة حاجـ..
قاطعته فلم يُكمل طلبه: أنا لسة كنت هقفل معاك وأروحلها يا ناصر من غير ما تقول، أنا شايلة همها والله لتقع تحت ايد امك وهي متعصبة منها..
ابتسم ناصر وشكرها قبل أن تنتهي المكالمة بينهما بعد أن أخبرها أنه سيحاول الإعتذار والعودة قبل موعد اجازته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي تلك الناحية التي قصدها ناصر بحديثه، فتحت تلك التي كانت تسرق من النوم أجزاءًا عينها، وكأن لا حق لها أن تنام كما ينام البشر فكلما غاصت بالنوم لم تكمل دقائق لتفتح عيناها بفزع على كابوس في منامها.
اعتلى وجه هايدي الضيق وتلك الأصوات المزعجة تخترق أذنيها، أصوات صراخ وتكسير و ….أصوات صراخ؟؟!!! في بيتهم!
اعتدلت بسرعة تهرول خارج الغرفة وقد تبين لها هوية صاحب ذلك الصوت الصارخ والذي لم تكن سوى والدتِها إيمان.
فتحت باب الشقة وهبطت بعض السلالم خيفة أن ينالها أي شيء وهي تنظر من أسفل الحاجز الذي ينساب بمحازاة الدرج حتى رأت ذلك المشهد الذي زلزل كيانها واهتز له قلبها.
الكثير والكثير من جيران حارتهم مجتعون أمام شقة أخيها سيد، منهم مَن يشاهد ويركض ومنهم مَن أخذ يصرخ كحال بعض النساء ومنهم مَن كان يبحث عنها.!
والدتها تصرخ وتلطم خدها مولولة ولسانها لا يتوقف عن ترديد “يالهوي” ومن أمامها على الأرض يجلس أخوها الأكبر سيد الذي يهز جسد زوجته الغارقة بالدمـ.ـاء صارخًا بها: قومي بقولك! اسكتي ياما دي بتمثل وعايشة الدور، هتقوم دلوقتي…