رواية بيت البنات الفصل الثالث والثلاثون بقلم أمل صالح
يتحرك في ممر المشفى يحمل بين يديه كيسًا بلاستيكيًا يحوي داخله بعض من الطعام الذي تم إعداده لأجل ابنة عمه قاصدًا بوجهته غرفة ذلك الذي حدّثه الطبيب عنه وأخبره عن مدى احتياجه للكثير من العناصر الغذائية والرعاية الخاصة بعد كمية الدمـ.ـاء التي فقدها بالإضافة لأمر استئصاله لإحدى كليتيه، كما أكد على ضرورة إحضار الأدوية التي ستساعد على تمام شفائه.
لا تربطهم أيُ علاقةٍ تُرغمه على إحضار هذا الطعام إليه، بل والله وإن جئنا للحق فإنه يبغضه ولا يطيق النظر بوجهه بعد تلك المواقف المعدودة التي جمعتهما سويًا، ولكنه مضطر آسفًا لفعل ما يفعل حتى لا يُثقل ميزانه بذنب ذلك العاجز الذي لا حول له ولا قوة، يترقب أن يظهر له أي قريبٍ يتولى أمره ليحرره من تلك المسؤولية التي يحملها فوق عاتقه والتي تجبره أن يتحرك هكذا في طرقات المشفى كي يُطعمه!
وصل مَجد أخيرًا لغرفة عُمر بعد أن قطع المسافة من غرفة نرمين – التي جاءتها والدته شهيرة بالطعام – إلى غرفة عُمر الذي وجده والحمد لله مستيقظًا، يتحدث مع الطبيب ويسأله ما إن زاره أيُ أحد، كوالده مثلًا؟؟؟
وما كان من الطبيب سوى أن نفى محبطًا المسكين الذي توهم لبعض الوقت أن والده وأخيرًا لان له وأذاب الجليد الذي يحتبس خلفه قلبه رافضًا أن يبثه أي مشاعر، إنه متأكد مليون بالمئة أن أمر إصابته بالطعـ.ـن ووجوده بالمشفى قد زُف لوالده فور حدوثه، يعلم أنه ربما الآن مراقب، ولكنه كذلك متيقن أن والده لن يتخذ أي خطوة ليعينه على ما هو فيه؛ كَـ أن يزوره مثلًا، أو أن يتولى تكلفة علاجه ومبيته بالمشفى، وأقل واجب أن يعطف عليه بالطعام وألا يتركه مُلقى في سرير المشفى هكذا كاليتامى! فقط يكتفي بالمشاهدة عن بُعد، وكل هذا لأجل حوار تافه دار بينهما انتهى بتحدي، وليثبت له صحة حديثه ويفوز هو بذاك التحدي السخيف تجرد من حقوقه كأب.
انتشله من غياهب شروده صوت الطبيب الذي أخذ يتحدث وهو يذكر له المرتين اللاتين دخل بهما أحد الغرفة، المرة الأولى فتاة شابة والمرة الثانية شاب طويل يرتدي نظارات طبية وذو شعر كثيف أسود وكان المعني بالوصف هو مَجد.
وتوقفت حواسه عن العمل على ذكر تلك الفتاة الشابة تلك، لمع بصيص أمل في عقله وهو يخمن يدعو الله أن يصيب تخمينه أن تلك الفتاة هي بسملة، والله وبالله وتالله لن يشغل له بالًا بوالده أو بحياته المأسوية أو حتى بتلك الطعـ.ـنة التي تلقاها والذي قرر منذ فتح عينيه أن يذيق ذلك الملعون أيمن والذي كان يظنه صديقًا نفس الألم، والله سيكفيه أن يعلم أنه ولجت الغرفة وجلست بجانبه ولو لثواني.
وما كاد عُمر يستفسر بلهفة عن هوية تلك الفتاة حتى تفاجئ بمن يقف على أعتاب غرفته؛ مَجد! ذلك الثور الهائج الذي كادت نيران غضبه تلتهمه ذات يوم ليلقى حتفه بين يديه، سبحان مَن نجاه!
ولج مَجد يراقب الصدمة المتراقصة في عينيّ عُمر ببسمة صغيرة لم تصل إلى عينيه، يتلذذ برؤية ذلك الخوف الذي اعتراه ولم يغفل عن انتفاضة جسده بفزع عندما نطق: السلام عليكم..
رد الطبيب السلام وهو يرفع وجهه عن الورقة في يده قبل أن يبتسم وهو ينظر إلى عمر ويده تشير على مَجد: أيوة هو ده أبو نضارات وشعر أسود اللي لسة كنت بقولك عليه..
“بُني..”
رمقه الطبيب بعدم فهم فاقترب مَجد من الطاولة الصغيرة المجاورة للفراش وترك كيس الطعام فوقها وهو يكرر موضحًا المعنى المبهم خلف كلمتِه بجدية: شعري لونه بُني مش أسود..
ضحك الطبيب وهو يحرك يده في الهواء بمعنى “لا فارق”، في حين لم تتزحزح نظرات عُمر عن مَجد، يحركها حيث يتحرك، يحاول تصديق ما يرى وما قيل له.
رفع مَجد حاجبه يرميه بنظرات متهكمة؛ ما هذه المبالغة برد الفعل؟؟ هل هو وحش جائع سيلتهمه أو ما شابه؟!
ولكن بالنسبة لشخصٍ مدلل كعُمر – أو كان كذلك – فما تلاقاه على يد مَجد أو أيمن الذي طعـ.ـنه ليس بالهين، شخص عاش عمرًا يأمر ويتأمر ويأخذ ما يشير إليه بإشارة من إصبعه، يتحرك بالسيارة التي يقودها سائق خاص، مدلل حوفظ عليه وكأنه بللورة رقيقة مجرد لمسها سيخدشها!!
الكثير والكثير من الأسئلة تتراقص داخل عينيه التي لم يتمكن من التحكم بها فظلت متسعة جاحظة بشكل أثار ريبة الطبيب الذي وزع نظراته بينهما وهو لا يفقه شيئًا.
“وحاول مايجيش على الجرح ماية خصوصًا الكام يوم دول لأنه لسة مالتئمش، ومع المراهم والانتظام أهم حاجة خلال أسبوعين إن شاء الله هيبقى أحسن كتير، والورقة مكتوب فيه معاد كل دوا وفي حاجات هتتكرر لو خلصت، والحركة ياريت تبقى للضرورة وعلى القد عشان زي ما قولت الجرح لسة مفتوح. ”
كان الطبيب يتحدث وكأنهما آذان صاغية وكل واحد منهما بالأساس في فقاعته الخاصة، وما انتشلهما منها سوى صوت الطبيب وهو يقول.
“عن إذنكم.”
وأخيرًا تركهما الطبيب بعد أن وضع الورقة التي خطى بها العلاج الذي من المفترض أن يتجرعه عُمر فوق الطاولة، وما إن تيقن مَجد أنهما بمفردهما حتى فتح فمه على وشك إخباره أنه هنا بسبب ظن الطبيب أنه أخوه ليس إلا وأن هذه مجرد شفقة ورغبة في عدم الشعور بالذنب تجاهه..
لكن سبقه عمر بالحديث فخرجت الكلمات من فِيهه متبعثرة ضاللةً طريقها الصحيح: أنا والله ماعملتش حاجة، و … وبسملة معرفش إيه جابها هنا والله، أنا أصلًا طلبت إيدها من أبوها ومستني يرد عليا، مكلمتهاش من وقـ…
قاطع مَجد حديثه وهو يرفع حاجبه يكرر من بعده وكأن أذنه قد أخطأت السمع: طلبت إيدها؟؟
سارع عُمر بالإجابة يحرك رأسه بالإيجاب يؤكد له صدق حديثه بـ: آه والله إسأل أبوها حتى، أنا مستني موافقتها والله عشان أجيب بابا وآجي..
رفع مَجد سبابته وأعاد نظراته الطبية – التي لا يرتديها إلا عندما تُرهق الليالي عيناه كما حدث بالأيام الماضية – للخلف، يحرك رأسه وهو يثني شجاعته بإعجاب مصطنع وبلكنة ساخرة: وجريء كمان اسم الله عليك!
وما كان خلف تلك السخرية غير بركان غضبٍ جامح لو ما لجمه لتناثرت نيرانه وأحرقت الماثل أمامه على الفور.
نظر إليه عُمر بطرف عينيه، لاحظ احمرار أذنيه وبياض كفيه اللذين يشبكهما معًا فوق قدميه، هل سينفجر؟؟
وفي تلك اللحظة ومع اشتعال الأجواء وتوترها، لم يسعفه لسانه في قول أي شيء إلا مِن..
“عايز أروح الحمام..”
“نعم يا أخويا؟؟”
فكرر والأمر يزداد سوءًا وهو يحاول ترك الفراش..
“سندني للحمام بسرعة!”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انفلتت شهقة من بين شفتي هايدي فكتمت صوتها بكفيها معًا وهي تنظر لهذا المشهد بأعين جاحظة جحوظ الموت، تنفي برأسها وقلبها يكاد يهرع من بين ضلوعها هلعًا لما تراه.
ارتعش جسدها وتسمرت في مكانها على تلك الهيئة، أصوات الصراخ من حولها لا تخترق أذنها وكأنها في عالمٍ آخر، غاب وعيها عن الحاضر وسرقها لأيام مضت، منذ تسع سنوات..
بيت كبير أشبه بالقصور، شاهق الارتفاع، كل إنش به يصرخ بالثراء، تحيط به خُضرة الطبيعة النابضة بالحياة التي تبعث بالنفس الراحة والطمأنينة، ولكن أصوات الاستغاثة ورائحة الظلم المنبعثة منه قتلـ.ـت تلك الراحة.
أصوات طفولية، بدلًا من أن ترتفع باللعب واللهو ارتفعت بالاستنجادِ، طلبِ الرحمةِ … و “ماما !”
بإحدى غرف هذا البيت، وقف بزيه الأبيض الخاص بالنوم، يحمل بين يديه سوطًا، يُستخدم لتُحَث بها البهائم والحيوانات على التقدم والحركة، يرفع يديه عاليًا ويهبط بها عليها؛ طفلة صغيرة لم تتخطى الثالثة عشر.
وجهها متورم، شفاها تنزف، جسدها يصرخ بآهاتٍ مناوبة عن لسانها، دمُـ.ـها منثور في المكان حولها ويغطي يديه القذرة، تئن وجعًا بصمت بعد دقائق استمر بها بضربها، ترجت، اعتذرت، قبلت قدميه، وآخر ما فعلت هو أن استغاثت بمن لا وجود لها: يا ماما..
ولا حياة لمن تنادي.
أرهقه ضربها، يأس من صمتها وفكّر .. هل ماتت تلك الصغيرة اللعينة ؟؟
ألقى بالسوط أرضًا وركلها في معدتها قبل أن يخرج من الغرفة ليصرخ بجميع مَن بالمكان والعرق يهبط من جبينه: تبقى واحدة تجادلني يا روح أمك منك ليها ويبقى عليها الدور لحد ما تحصلوا بنت الـ** اللي جوة دي..
وغفل هو عن تلك التي رأت وشهدت كلَ ما حدث، بدايةً من جرّه للمسكينة حتى الغرفة وحتى آخر ركلة دفعها بها، خلف ستار الغرفة التي دخلتها قبله بدقائق، شاهدت الصغيرة هايدي صاحبة الخمسة عشر عامًا هذا المتوحش وهو يتعـ.ـدى بالضرب على صديقتها بالمكان هنا، صديقتها، زوجته القاصر ودُرتها..
“هايدي!”
ومن ظلمة ما كانت واقعة به كان هو فجرها وبصيص الأمل الذي انتشلها وجذبها لأرض الواقع ليكون وجهُه أولَ ما أبصرت؛ “عادل”..
أما هو، ما إن وقعت عينه عليها من تحت ورأى حالتَها هرول بإتجاهها متجاهلًا كل ما يحدث بالأسفل، وقف يناديها محاولًا صرف انتباهها عن ذلك المنظر ولكنها بدت غير واعية.
أمسك بها من ذراعيها وأخذ يحركها بعنف وقد لاحظ للتو شحوب وجهها، وفورًا استشعر برودة جسدها الغير طبيعية أسفل كفيه ليدرك أنها ليست بخير، ليست بخير أبدًا.
وأخيرًا انتبهت إليه، يرميها بنظرات مليئة بالذعر ولسانه لا يتوقف عن منادتها بتوجس حتى انتبهت إليه، أشارت للمنظر خلفه بالأسفل ولم تنطق ببنت شفة، حاولت الحديث ولم تستطع..
شكر عادل ربَه وهو يدفعها برفق الداخل يشفق عليها وقد ظن أن هذا الخوف ليس إلا بسبب فزعها من المنظر: ادخلي دلوقتي يا هايدي، ادخلي وأنا هكلم ناصر…
كانت تستجيب لدفعاته وهي تنظر إليه وحولها بتيه، وأخيرًا انحلت عُقدة لسانها فقالت وعينها تذرف الدمع بلتقائية: ماتت؟؟ موتها؟!
وقف على أعتاب الباب بعد أن تأكد أنها بالداخل وحاول الحديث بصوت متزن مُطمئن قدر المستطاع: لأ متخافيش هي كويسة، خليكِ هنا ومتخرجيش دلوقتي..
جذب الباب معه ثم هبط السلالم بسرعة وصوت صفارات الإنذار الخاصة بعربة الإسعاف تندو شيئًا فشيء حتى بات صوتها واضحًا قريبًا جِدًا.
أفسحوا الطريق للمُسعفين الذين هرولوا فوق الدرج حتى وصلوا لمكان الجريمة، حملوا تلك التي لا شيء يصدر منها يوحي بأنها ماتزال على قيد الحياة وتحركوا بنفس السرعة للخارج.
بدأ الجمع حولهم من الناس ينفض، تاركين همساتٍ ولمزاتٍ، تعليقات لازعة ونظرات ثاقبة فضولية، منها المتشفية والمُشفقة الحزينة والمتسائلة، تُرى هل ذلك الذكر الذي لم يرتفع صوتُه إلا وهو يصرخ بوجه زوجته هو الذي فعل بها هذا؟؟ أم أنها تلك الأفعى والدته التي لم تفوت يومًا فرصة لبخ سمَها بعقول أولادها؟؟
ومع اختفاء صوت سيارة الإسعاف ارتفع صوتٌ آخر، صوت مشابه كثيرًا، بعث الخوفَ في قلب إيمان، صوت صفارات ينذر بالوعيد؛ صوت سيارات الشرطة.
وقع بصرها على ابنها “سيد” الذي ظل جالسًا ينظر أمامه بفراغ، وبسرعة انخفضت تجذبه بعنف في محاولة بائسة لإيقافه وإيقاظه من غفلتِه: فـوق! فوق يا متنيل على عينك وعين اللي جابتَك أنت.
نظرت ليديه الملطخة وملابسه التي امتصت دماءها ثم عادت لتنظر لعينيه المضطربة وهي تبكي بخوف وصوت يهتز هلعًا: انزل الدار تحت بسرعة، انزل على ما أشوف هنهبب إيه..
بدى وكأنه وعى توًا، اتسعت عيناه بدهشة وهو يتحدث بسخرية منبعها الأساسي رهبةً احتلت قلبَه: أنتِ خايفة كدا ليه يامّا؟؟ هتفوق وهتيجي تبوس ايدي زي ما كانت لسة بتعمل عشان ما أطلقهاش..
صفعته إيمان صارخة وهي تحركه بعنف: اسكت، اسكت خالص! وديت نفسك في داهية وودتنا معاك.
دفعته ليهبط لشقتها بالأسفل ووقفت هي تلطم خدها مغمغة ببضعة كلمات غير مفهومة وهي لا تعرف كي تُنقذ هذا القاتـ.ـل وتنظف يده الملوثة من هذا الجرم.
متى وكيف ورجال الشرطة الآن أسفل منزلهم ؟؟
في البيت المجاور لبيتهم، منزل عائلة سعيد الزهراني؛ والد عصام وعادل وزوج دعاء الراحل، صدح صوتها بالمكان بصوت مجلجل معترض: هو لعب عيال يا نوسة؟؟ يعني إيه يعني مفيش خطوبة؟؟ وفجأة كدا ؟؟ ما البت كانت موافقة وماشيين في الموضوع سمنة على عسل!
زفرت “نوسة” شقيقة “دعاء” ووالدة روفيدة التي كان من المقرر أن يتم خطبتها لعصام إبن دعاء، ولكن جاءت فجأة تفض الأمر وتلغيه دون أسباب واضحة؛ مما تسبب بإشتعال دعاء غضبًا.
“قولتلك العيال مش متزفتين عايزين بعض، في كلام بعدها دي، واندهي ابنك واسأليه بدل ما أنتِ قاعدة تهبهبي في وشي كدا.”
رفعت دعاء حاجبها وهي تتساءل بسخرية وحدة تضع يمينها في خصرها: وهي فين اللي مش عايزاه دي بقى، جَت لحد عندي وقالت موافقة على أساس إيه؟؟ إيه الدلع الماسخ ده ؟
قلبت نوسة عينيها وازداد حنقها وهي لا تعلم حقًا سبب اصرار أختها على إتمام هذه الزيجة! ولعنت إبنتها التي وضعتها في هذا الموقف سرًا تغمغم متوعدة لها قبل أن تجيب بنفاذ صبر: سميه زي ما تسميه، الإتنين ملهمش نصيب سوا…
وتابعت بغيظ: بعدين الإتنين لسة متهببين فاسخين خطوبتهم سوا من ما يكملش شهر، الناس تقول إيه لما يتخطبوا لبعض على طول كدا، مدورينها سوا؟؟
“يختي ما اللي يقول يقول! أنتِ مالِك أنتِ ومال الناس وكلامهم؟!”
وتصاعدت دهشة نوسة وهي لا تجد تفسيرًا لكل تعليل وتبرير تلقيه شقيقتها، وكأن هذا الزواج يحمل خلفه كنزًا لها!!
وقفت نوسة وتجاهلت الرد عن هذه التساؤلات وهي تختتم الحديث هذه المرة دون نقاط تتابعية: أنا ماشية يا دعاء، اللي مكتوبله حاجة هياخدها ياختي وربك قادر..
وقفت بسرعة تفر هاربة من المكان قبل أن تدفع دعاء بخيط الحديث لبدايته، وعندئذ لن ينتهي هذا الحوار أبدًا، وتركت خلفها دعاء تكاد تتميز من الغيظ وهي تراقبها تغادر شقتها بأعين مشتعلة.
وهي مَن ظنت أنها أخيرًا استطاعت الحصول على الكنة الأولى أسفل كنفها؛ حيث لا معارضة أو مجابهة، فقط “نعم” و”كما تريدين”، والآن تدمر سقف أحلامها فوق رأسها.
دقائق مرت وهي في مكانها تحترق بصمت، حتى أبصرته يغلق باب المنزل الذي دخل منه توًا، ثواني وامتلء المكان برائحة السيجار الذي تحتضنه شفتاه.
رفع عصام يده اليمنى والتقطه بين سبابته والوسطى مُلقيًا السلام: السلام عليكم، قاعدة كدا ليه يامّا..
لوت شفتيها لأعلى وهي تشعر برغبة عارمة في ضربه حتى يمتلئ جسده بالخدوش والندبات، وخلف تلك الرغبة التي لم تتمكن من تنفيذها خرج صوتها مكبوتًا بالحنق: وأنت خليت فيها سلام يا اللي يتحش وسطَك أنت…
عج المكان بصوتها الصارخ ولم تعد قادرة على الصمود والسيطرة على غضبها أكثر من ذلك: تعالى اترزع وفهمني قبل ما أقوم أنا..
وما إن خرج ذلك الصوت منها ألقى السيجارة أرضًا بجزع وجبانة يدهسه بحذائه الذي كاد يخلعه للتو وهو يقترب ولا علم له بسبب هذا الغضب..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• بعد مرور أسبوع..
أسبوع بأيامه السبع مرّ على الجميع، مر بالبعض كالدهر وبالبعض الآخر كالبرق، وهُنا في منزل السيد منصور والد ولاء طليقة مصطفى، يجلس وهي بالمثل أمامه، تفرك كفيها معًا وهي تنظر للأرض تارة ولكفها تارة أخرى، نظرت إلى كل شيء وكل إنش بالمكان إلا وجهه!
وهو أمامها يتلذذ ويستمتع برؤية حيائها وخجلها مبتسمًا، وكأنها مرتها الأولى التي تلتقي فيها برجل! بل وللعجب هذا الرجل لم يكن سوى زوجها السابق الذي أنجبت منه طفلتها الأولى!!
كبت مصطفى ضحكة كادت تنفلت من بين شفتيه وهو يراها تنظر لحذائه للمرة المليون وواحد بدلًا من أن ترفع وجهها لتنظر إليه، تحمحم يجذب انتباهها الذي لم ينصرف ثانية واحدة عنه بالأساس قبل أن يقول: والدِك سامحلنا بربع ساعة بس يا ولاء، عدى منهم عشرة بالفعل..
ابتلعت ريقها وهي ترفع وجهها لتُفاجئه أكثر حُمرة خديها، ضحك بخفة وهو ينفي برأسه مُعلقًا: فكرتيني بيوم الرؤية الشرعية…
ابتسمت بحنين وذكرى هذا اليوم يلوح أمام عينيها بكل تفاصيله وكأنه كان البارحة وليس منذ سنين، نظر إليها مرة أخرى وتحدث: المفروض إن إحنا قاعدين القعدة دي عشان لو هنتفق على حاجة…
وأضاف وهو يبتسم بسعادة يشوبها الحزن: عشان أكتب عليكِ … تاني.
ولم يخفى عنها ذلك الحزن الذي ظهر جليًا في آخر كلماته، ابتلعت غصة كانت تخنقها وكادت تتحرر في صوتها وهي ترد عليه متحاشية النظر إليه: مفيش حاجة عايزة أقولها، أو … أو أتفق عليها.
“بس أنا عندي.”
رفعت رأسها، تبادلت الأعين الحوار بنظراتِها،
هي .. حائرة، وهو .. مُعاتبة.
حركت رأسها حركة خفيفة تُبدي بها عدم فهمها المغزى من كلماته فلم يبخل عليها بالتوضيح فقال: أنا مش عايز أفتح في أي حاجة قديمة بس مش عارف يا ولاء، مش قادر أستوعب لحد دلوقتي مُبررك لطلب الطلاق اللي خلانا بُعاد كدا طول السنين دي…
وتنهد متوقفًا للحظة يرفض الاسترسال في هذا الأمر وتحديدًا في هذه اللحظة وهو يخبرها بما جاء لأجله من الأساس مزيحًا فكرة معاتبتها عن رأسه يؤجلها إلى أجل قريب: مش عايزِك تسيبي نفسِك لدماغِك تسوحك وأنا موجود، لما تأزم معاكِ أوي تعالي اتكلمي معايا وبلاش تفكري أنتِ في حلول من وجهة نظرِك صح في حين إنها ممكن تدمرنا…
لاحظ بطرف عينيه يدها التي صارت حمراء بشكل مبالغ فيه جراء فركها لكفيها معًا كعادة سيئة لها عندما تتوتر، فزفر يعض شفتيه موبخًا نفسه على تلك اللهجة الخشنة التي ختم بها دون عمد منه: أنا آسف…
وقال مردفًا وهو يوزع نظراته بين وجهها المنكس أرضًا وكفوفها التي تكاد تقتلع جلدها بين يديها: ممكن تسيبي ايدِك ؟؟
توقفت بالفعل ولم تحيد بنظرها عن الأرض وكأنها عاشت عمرَها تحلق فوق السماء ولا علم لها بماهية الأرض!
فابتسم مصطفى برضا لامتثالها لطلبه وهو يضيف ملينًا نبرته وبلطف يليق بالرقيقة الهاشة التي تقبع أمامه: شاركيني يا ولاء، هي دي الحياة ببساطة اللي إحنا محتاجينها، شاركيني كل حاجة، الفرح والزعل والعصبية .. والخوف!
أخيرًا تكرمت السيدة ولاء ونظرت إليه وقد وصلها ما يرمي إليه، واسترسل هو: خايفة؟ تعالي قوليلي إنِك خايفة من كذا، وساعتها صدقيني هتلاقي خوفِك راح وهتبصي للي كنتِ خايفة منه بمنظور تاني، زي يوم ما عرفتِ إنِك حامل.
ابتسم في آخر جملة فابتسمت هي الأخرى بتلقائية وهي تتذكر كيف احتواها واحتوى الموقف بهذا اليوم، كيف جعلها تبتسم بسعادة بعد أن كانت تبكي خوفًا..
عقد مصطفى أصابع كفيه معًا أمامه وهو مازال جالسًا: يمكن دي الحاجة الوحيدة اللي كنت جاي عشانها، مش عشان نقعد ونتعرف من الأول ولا عشان آخد رأيك في رجعونا…
ووقف بعد أن التقط متعلقاته من الطاولة الصغيرة التي تتوسط جلستهما وهو يُنهي يضعها بجيوب بنطاله: أنا كلامي كله خلصته من أيام مع والدك، مستنيكِ كمان يومين يا ولاء…
وقفت أمامه بعد أن انتهى فنظر داخل عينيها مؤكدًا بصوتٍ قوي جعلها مضطربة: في بيتنا.
وكانت جملة من كلمتين فقط جعلت ذلك المسكين قلبَها يتراقص على أنغامها وهو ينبض بحماس وحيوية وكأنه كان ميتًا قبل ذلك.
تركها في مكانها على هذا الوضع وتحرك خارج تلك المساحة التي تركهما بها والدها منصور ووالدتها سلوى واللذان جلسا بالغرفة المقابلة لهما يتابعان هذا الحوار الذي لم يصلهما منه إلا همسا بفضول شديد.
وقف منصور والدها ما إن رأى إقبال مصطفى عليهما والذي قال وهو يقف أمامه يهندم أطراف قميصه الأسود السُفلية بجدية لا تشبه الرقة والحنان الذي كان يحدثها به، خشونة تليق به وبمكانته: تمام يا أستاذ منصور، على معادنا إن شاء الله، ووسام هتفضل في البيت مع أمي واخواتي لحد ما نخلص وولاء ترجع بيتها تاني..
صافحه منصور مبتسمًا لتقديره لإبنته ثم خرج مصطفىٰ من المكان بأكمله، يهبط السلالم متحركًا صوب سيارته ليباشر عملَه، يدندن بسعادة والبسمة لم تهجر ثغره، بينما طبول البهجة تُطرب قلبَه بألحانها جاعلة إياه يرقص بحبور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في المستشفى، ذلك المكان الذي اتخذته العائلة مسكناً ودارًا لهم؛ يتناوبون للمبيت فيه ليوفوا ابنتهم المريضة حقها ويوفروا لها الرعاية كاملة حتى يتم شفاؤها على خير وتستعيد عافيتها.
كانت جنى قد باتت ليلتها بالغرفة مع نرمين التي تحسنت صحتها بنسبة لا بأس بها، رفقة والدتها السيدة وجيهة والتي كانت تقف في هذه اللحظة أمام نافذة الغرفة تهاتف زوجها توفيق: يا توفيق أقف في حتة فيها شبكة بدل الغلوشة اللي بسمعها دي!
وصلها الصوت أخيرًا – وبعد صراع – واضحًا فأعادت على مسامعه ما لم يصله منذ قليل بصوتٍ عالٍ: بقولك أنا مستنية شهيرة أنا والبنات هنا، بسنت قامت الصبح بدري خليت سامر يروحها تروق البيت وتعمل أي حاجة في الأكل على ما أروحلها عشان هترجع تيجي تاني مع شهيرة….
وصلها الحديث من جانبه فاعتلىٰ الضيق وجهها وهي تقول بصوتٍ يشوبه الحزن على سؤاله: جَت مفيش خمس دقايق هي وناصر جوزها ومِشوا على طول، ربنا يصلح ليها حالها ويبعد عنها شر حماتها واللي زيها.
وكانت ندى ابنتها البكر المعنية بهذه الكلمات، حيث مرت الليلة الماضية لتطمئن على أوضاع العائلة وحال ابنة عمها مع زوجها المهموم ناصر، ولم يطيلا الجلوس بسبب تلك المعضلة التي تمر بها عائلته..
وخلف السيدة وجيهة وفوق فراش نرمين، كانت بسملة كعادتها عند المجيء تلتصق بها فوق الفراش تأخذ راحتها وكأنها هي صاحبة العلة وليست تلك التي تجاورها..
وما إن اقتحم دعاء والدتها لندى أذنيها حتى أخذت تتأفأف وتقلب عينيها بحنق وهي ترجو أن تدرك والدتها أنها تملتك ثلاثة أخريات غير ندى!
مالها لا ترى سوى ندى وكأنها لم تنجب إلا هي؟؟ وكم كان هذا مؤلمًا لها رغم أنها لم تفصح يومًا عن هذا، أن ترى اهتمامًا مبالغ فيه يقدم على طبق من ذهب لشقيقتها بينما هي وباقي أخواتها لم ينلهم سوى لقيمات هذا الإهتمام.
تخفي آلامَها وأحزانَها ببراعة خلف برودٍ وقسوة لا يعرفان طريقًا لقلبِها، وكيف تُظهر عكس ذلك وهي العنيدة، القاسية، سليطة اللسان المتبجحة بشهادة الجميع؟؟
أتذهب وتخبرهم أنها تفتقد هذا الإهتمام للحد الذي دفعها للبحث عنه بالخارج؟؟ أتبوح بخبايا قلبها وروحها وتصيح بهم أنها بحاجة لتجرع الحنان كؤوسًا؟؟
والله أبدًا لن تفعل، خسئت ألف مرة قبل أن ينطق لسانها بهذا، ستحتفظ بكل ألم وكمد يؤرقها بينها وبين ربها إلى أجل مجهول، وإلى أن يحين موعده ستسلك دربًا جديدًا تنتوي به توبة لله عز وجل عما اقترفته بحقه وبحقها، تدعوه أن يغفر لها ويكفر عنها خطاياها.
وبينما هي شاردة في كل هذا أتتها لكزة شديدة من نرمين بجانبها، انتفضت بخفة وقد أدركت للتو أنها كانت تسبح في بحورها الخاصة التي ازدادت زيارتها إليها بالآوان الأخيرة بشكل لفت انتباه الجميع من حولها.
أخذت نفسًا عميقًا وابتلعت غصة مريرة كانت عالقة بحلقها وهي ترمش بأهدابها مرات متتالية تمنع بهذا هطول دمعة واحدة حتى من مقلتيها التي كادت تغدر بها توًا.
نظرت بسملة بغيظ إلى نرمين وتحدثت بفظاظة وهي تدفعها لليسار بجسدها: ما توسعي شوية يا نرمين يا حبيبتي مش عارفة أخد راحتي في أم ده سرير!
اتسعت حدقتي نرمين ترميها بنظرات مندهشة، مستنكرة غير مصدقة لم تبالي لها بسملة وهي تحاول بإصرار على النوم بوضعية مُريحة لا تلقي بالًا للمريضة صاحبة الفراش.
ولولا أن نرمين لم تستعد بعد قدرتها على تحريك لسانها والحديث كما قبل الحادث لكانت أسمعتها من الهجاء بيوتًا، ولم تبخل عليها وجيهة بتحقيق هذه الرغبة؛ تركت الهاتف بعد أن أنهت المكالمة مع زوجها ورمقت ابنتها بغيظ توبخها وهي تقترب منها: أنتِ الـ.ـدم واقف عندِك يابت أنتِ ولا إيه؟؟ ما تقومي وسيبي البت ترتاح!
أضافت وجيهة وهي تشير على نرمين التي كتمت ضحكاتها بصعوبة على هذا الحوار الذي يبدأ في كل مرة تبيت فيه بسملة معها ولا ينتهي أبدًا: اليوم اللي بتباتِ فيه يا شيخة بيبقى هَم، لا البت بتنام ولا اللي بايتين معاكِ بيناموا، شغالة لوك لوك لوك طول الليل وتيجي الصبح وإحنا ماشين عايزة تفرشي وتنامي؟ يا بجاحتِك!
لوت بسملة شفتيها بحنق ونظرت لنرمين التي كانت تهتز بخفة بجانبها بسبب كتمها ضحكاتها بتوعد قبل أن تنفض غطاء الفراش الخفيف عنها وهي تهندم عبائتها السوداء وتعدل من وضعية حجابها: خلاص يا ماما كفاية تقطيم في اللي جابوني! هتنيل أستنى برة على ما تخلصي وتصحي جنى اللي في سابع نومة دي.
وانطلقت كالسهم للخارج تغمغم بما لم يصل لهم، بينما فوق مقعد حديدي صغير بالقرب من الفراش، كانت تتكوم هي فوقه تضم قدميها لجسدها مسندة رأسها فوقهما.
ابتسمت جنى بسخرية على تلك الجملة التي تصف بها بسملة نومها العميق، وهي التي لم تتذوق طعم النوم براحة منذ أسابيع، منذ ذلك اليوم الذي وردهم به مقتـ.ـل الصغيرة خلود ابنة ندى، تقسم بالله أن شمسها لم تشرق من بعد هذا اليوم وها هي محتجزة في ظلام دامس لا تعلم له بداية أو نهاية، تفقد في كل لحظة إنشًا من ذاتها إلى أن صارت مجهولة … حتى لنفسِها.
“جنى!”
نادت والدتها فأجابت ولم تحرك شعرة واحدة ودون حتى أن تفتح عينيها: صاحية يا ماما..
خارج الغرفة، جلست بسملة فوق واحد من المقاعد المرتصة تنظر للردهة أمامها والتي تنتهي بغرفته ونفوسها لا تتركها وشأنها؛ فهذه الأمارة بالسوء تشجعها لتذهب وتراه وتطمئن عليه وعلى جرحه، بينما اللوامة تهبط فوقها بسوط الذنوب التي كان هو جزءًا منها، وبينهما كانت هي حائرة مترددة.
إلى أن أضاء مصباح بعقلها بنور وهاج، يحمل بين كفه راية يلوح بها عاليًا، راية خطت هي كلماتها؛ “وَعدُكِ لِربكِ!”، أغفلتِ بهذا السرعة عن الواحد الأحد الذي كنتِ تضرعين إليه في صلواتِك منذ أيام؟؟ أنسيتِ ما عاهدتي الله عليه؟؟
أخفضت رأسها بسرعة وبتلقائية استغفرت ربها عن هذه الأفكار التي كانت تراودها، ولم تكن تعلم أن مَن شغل عقلها ومن ظنت أنه طريح الفراش كان قد غادر المشفى منذ أيام بتصريح من الطبيب.
ومرت دقائق قبل أن تبصر بسملة اقتراب طارق ابن عمها حامد منها بخطوات متعجلة، وقف أمامها معتذرًا: معلش يا بسملة كنت مشغول في كام حاجة في الشغل وسهيت خالص عنكم..
ابتسمت متحدثة وهي ترفع عنه الحرج: روق يا عم في إيه، جنى لسة نايمة وماما بترتب الحتة وبتلم حاجتنا، وكمان مامتك وبسنت لسة ماوصلوش، اقعد اقعد..
زفر طارق براحة وهو يجلس فوق المقعد المجاور لخاصتها يتنفس العداء قبل أن يتسائل بتعب وإرهاق: هي هتخرج امتى من المستشفى يا بسملة، الدكاترة مقالوش حاجة يعني؟
نفت ترفع كتفيها عاليًا بجهل: معنديش فكرة يا طارق، الدكتور آخر مرة سألناه قال إن هنا أأمن ليها من البيت…
وأضافت مؤكدة باستحسان: وهو عنده حق بصراحة، كل شوية ممرضة داخلة وواحدة طالعة وفي عز ما إحنا بنبقى نايمين، ربنا يجازيهم خير يارب، يعني حتى لو نرمين بدأت تبقى كويسة شوية فمعتقدش إحنا هنقدر نوفرلها الرعاية اللي متوفرالها هنا..
قالت آخر جملة بمزاح فأومأ لها طارق بصمت وعاد لينظر أمامه وما هي إلا ثواني حتى أبصر إقبال والدته عليهما يسير سامر شقيقه بجوارها وعلى الناحية الأخرى تسير محبوبته الرقيقة بخطوات صغيرة متمهلة لا تليق سوى بها.
توقفوا أمامهما فارتمى سامر فوق المقعد المجاور لبسملة من الجانب الآخر، يغمض عينيه منهكًا من فرط التعب وفرط ما مروا به طوال هذا الأسبوع؛ فخلال الأيام المنصرمة عاد الرجال لأعمالِهم وحياتهم، بالإضافة لأمر الاعتناء بنرمين وضرورة وجود أحد الرجال بالمكان حول النسوة فشكّل كلُ هذا ضغطًا على الجميع.
وعلى وجه الخصوص هو، فوالده لا يتوقف عن سحبه خلفه أينما ذهب ليزيده من أعباء ما يمر به عبئًا آخر، أولًا عمله الذي تنتهي عنه طاقته المدخرة و ركضه بين المشفى والمنزل لأجل بنات عمه وزوجته ووالدته، ثم والده الذي كلما أراد أن يقضي له أحدهم أمرًا لم يجد سواه بوجهه وكأنه يعاقبه على مجهول لا يعلمه أحد!
نظرت إليه بسملة بتعجب لهذه الحالة فوجدته فجأة يفتح عينه يستدير إليها بسرعة وبشكل أفزعها وجعلها تنتفض للخلف بخفة، وقبل أن تهبط فوقه بلسانها الحاد تسمعه من الكلمات أبشعها صدمها بصراخه ولهجته الغاضبة: ما هو عنده طارق ومَجد أهو، اشمعنا أنا؟!
طالعته بأعين متسعة بدهشة وهي لا تفهم مقصده وكذلك كان حال الجميع، بينما عاد سامر لوضعه يغمض عينيه يضم الحقيبة التي أحضرتها والدتها لصدره يتمتم بكلمات مغتاظة لم تصل إليهم.
ولم يهتم أحد في الحقيقة، ليس جديدًا عليهم أفعاله غريبة الأطوار.
خرجت وجيهة من الغرفة تلحق بها جنى فاعتدل طارق يسألها بجدية: عاملة ايه دلوقتي يا جنى؟؟ روحتِ لدكتور؟؟
ابتسمت إليه بامتنان لسؤاله وأجابت: الحمد لله .. بخير يا طارق..
وابتلعت ريقها تحاول استرسال حديثها دون تقطع: أنا بحثت على جوجل .. في كذا موقع طبي نـ … نصح بحاجات معينة…
وكررت حركتها السابقة وكأن هذا ما يعاونها على المتابعة: طبقتها والحمد لله .. نوعًا ما بقيت .. بقيت أحسن.
انتهت ولم يعلق أحد رغم أن قولها لهذه الجمل الصغيرة استغرق وقتًا، ولكن لم يرد أي منهم إحراجها.
أعقب سامر متهكمًا بينما يرفع أحد حاجبيه: ما شاء الله، بقينا بناخد الاستشارة والعلاج من جوجل!
“سامر!”
كان صوت والدته المحذر فنظر إليها قائلًا بجدية وصوت شديد تحت وطأة غضبه: داخلين على الشهر وهي كدا لسة بتأتأ في الكلام، ومش هاين عليها تروح تكشف وتشوف مالها بدل ما يحصل مضاعفات!
وتصاعد سخطه والغضب ينهش ملامحه بشكل لم يروه من قبل ليتفجر صوته كالبركان: إحنا ناقصين يا أمي؟! العيلة كلها مدمرة وغرقانين في مشاكل من ساسنا لراسنا، مابنلحقش نفوق من مصيبة نلاقي واحدة تاني هابة في وشنا، محدش فينا هيستحمل لو حصل حاجة تاني!
وكان محقًا في كل حرف، ولكن هي مَن تُصر على عدم الذهاب للطبيب، ترفض وبقوة وكأن الموت ينتظرها هناك، تخشى ألمًا جديدًا سيضاف لآلامها التي لا تنتهي.
صمت الجميع ولم يعلق أحد على ما قال، نظرت جنى لوالدتها وقالت بهدوء: أنا هروح المكتب..
وبعدها لم يبصر أي من الواقفين إلا ظهرها وهي تتحرك بخطوات واسعة، تنهد طارق ووقف يحمل الأكياس التي تركتها ينظر لزوجة عمه وبسملة: يلا عشان تروحوا.
وهكذا انفض هذا الجمع برحيلهم وولوج شهيرة وبسنت لنرمين بينما وقف سامر يمسح وجهه بعنف ثم ركل المقعد بقدمه قبل أن يتحرك مغادرًا المشفى عائدًا لعمله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
“ايه اللي بتقوليه ده ياست أنتِ؟؟”
كانت هذه جملة القاضي الحادة المستنكرة لما تهذي به هذه السيدة أمامه، والتي كانت نفسها أم نورة زوجة المجرم الذي يدعى سيد، وقفت في نهاية الجلسة وقبل النطق بالحكم، أمام القاضي ومستشاريه تعلن وبكل قسوة وتجبر أنها تتنازل عن حق ابنتها، كررت مرة أخرى دون أن تهتز بها شعر واحدة تنعي ابنتها التي تصارع الحياة في هذا الوقت: أنا بتنازل عن حق بنتي يا سيادة القاضي…
وأضافت تحرك كفيها وهي تشرح له ببساطة وكأن ما تقول قد يستوعبه عقل بشري: أصل عادي يعني، واحد ومراته وحصل بينهم مشكلة زي أي اتنين متجوزين، اتعصب ومَد ايده عليها عادي..
هي تقول وتقول وتزيدهم من الشعر بيوتًا وهم يستمعون بعدم تصديق لهذا الشيطان بهيئة إنسان، تتكلم وكأن مَن استحل ذلك الحقير سيد دمائها ليست ابنتها، تتكلم وكأن الحق ما تقول، والأكثر دهشة أنها تتكلم بقوة وبوجه خالٍ من أي شعور، أي أم تلك التي ترفض حق ابنتها؟!!
تعطي زوج ابنتها الماثل خلف القضبان الحق بأن يكيل لابنتها ما يشاء، ترفع بطاقةً خضراء في موافقة صريحة بأن ينهش بها كيفما يشاء.
افضت كل ما كان بجعبتها بشكل متسلسل وفي حديث مرتب كان واضحًا وضوح الشمس كم عانت هذه المسكينة وهي تخطط له قبل المجيء.
ولم تكن تعلم أن هذا التنازل لن يسقط الدعوة عن الجاني الحقير، ليس جنحًا بسيطًا لينتهي بالصلح وإصدار حكم البراءة وإنما جنحًا جسيميًا كان سيؤدي لوفاتها؛ لذا فلا حق لوالدتها أو حتى لها بالتنازل وإنما هو حق عام للمجتمع سيدفعه هذا المجرم الوضيع مهما طال وقوفها بهذا الشكل وهو تعيد وتزيد بالتنازل.
القاعة مكتظة بالناس، وجوه متوترة واعين شاخصة، يجلس هو خلف القضبان مكبل اليدين، شاحب الوجه والهمسات تتردد بين الحاضرين عن فعلته الشنيعة، وعن ما قالته هذه السيدة للتو.
القاضي ومستاشريه يستمعون إليها حتى انتهت، فالتقط القاضي الأوراق المتعلقة بالقضية كاملة بين يديه يرتبها بهدوء أثار ترقب جميع مَن بقاعة المحكمة قبل أن ينطق بصوت جهوري لا يلقي بالًا للتي تزعم أنها والدتها والتي قاطعت الجلسة منذ قليل:
“بعد الاطلاع على أوراق الدعوى، وسماع أقوال الشهود، وتقرير الطب الشرعي الذي أثبت إصابة المجني عليها بكسر في ضلعين نتج عنه ضعف دائم في الحركة، بالإضافة لكسر بالأنف وتشوه دائم في الوجه وهي إصابات تُعد عاهة مستديمة وفقًا للمادة 240 من قانون العقوبات…
وحيث إن الثابت من الأوراق أن المتهم ـ وهو زوج المجني عليها ـ قد اعتدى عليها اعتداءً عنيفًا مستخدمًا سكينًا، الأمر الذي يكشف عن نية إيقاع أكبر قدر من الاذى بالمجني عليها، ويُعد ظرفًا مشددًا للعقوبة.
ولما كان المتهم قد استغل رابطة الزوجية التي كان يفترض أن تكون موطن أمان، فإذا به يحولها إلى وسيلة اعتداء، فإن المحكمة ترى أن فعله يستحق العقاب الرادع.
لذلك حكمت المحكمة حضورياً بمعاقبة المتهم بالسجن المشدد لمدة ثماني سنوات، عما أُسند إليه من تهمة إحداث عاهة مستديمة بالمجني عليها.”
ارتج المكان بهمهمة مكتومة، يتبادل الحاضرون النظرات بين دهشة وغضب، شهقت إيمان والدته تبكي وتصرخ معترضة هذا الظلم في نظرها، تلطم خديها وصوت صراخها قد غطا على جميع الأصوات داخل قاعة المحكمة.
وفي الصف الذي يقبع خلفها أخفض ناصر رأسه يرفض النظر لوجه أخيه سيد الذي جحظت عيناه وعقله لا يفهم ما قيل، يتمسك بالقضبان الحديدية التي تأسره خلفه وهو ينظر لوجوه عائلته بتشوش، أما من أحد سيخلصه من هذا؟؟ هل هذه هي النهاية حقا؟!!
نفى ناصر وهو لازال ينظر أرضًا وتلك المرات التي حذر به شقيقه الأكبر بعدم التمادي تمر أمام عينيه، لقد طالته تلك النيران التي كان يحاوط زوجته بها، ابتلعته وأخذت تنهش بجسده بينما لفظت زوجته ببعض الحروق.
شعر ناصر فجأة بيدٍ تتلمس كفه، اغمض عينيه أكثر فهبطت دمعة غادرة من احديهما وهو يعلم هوية صاحب هذه اليد، ومن سيكون غير غاليته ندى؟؟
مَن كبتت دموع حزنها على ما يمر به زوجها وأخذت تطالعه بعجز، تدعو الله أن يهونها عليه وعلى المسكينة هايدي الذي تلقت الحكم كمن تلقى طعنة بقلبه أفقدته الباقي من عمره، فظلت ثابتة في مكانها كالصنم، تدور عينها في المكان بتيه وحيرة.
وفي المشفى التي تقبع بها نورة، جسدٌ ساكن فوق الفراش، قلبٌ ينبض ولا ينبض، دليل حي على أن الله منحها عمرًا جديدًا بعد أن أنقذها من براثين زوجها، يضخ الدماء ليُعلم الحاضرين أنها هنا على قيد الحياة وفي نفس ذات اللحظة يرفع راية بيضاء في شارة واضحة أنه اكتفى من الحياة الدنيا.
كانت تطالع السقف بأعين تذرف الدمع بصمت، لا تستطيع أن تحرك عظمة واحدة بجسدها، الألم يغرز أنيابه بكل إنش بها، صارت مشلولة بجسد يأن وجعًا، يالا السخرية!
وصلها الحكم الذي نطق به القاضي، اتسعت عيناها للحظات لا تصدق، ومن ثم … أغمضتها لتفيض، تبكي بقوة وبعنف، تصرخ بأعلى صوتها بشكل جعل الأطباء يهرولون صوبها ليعالجوا علتها.
ولم يكونوا يعلموا أنها تبكي فرحًا، تصرخ لتُخرج آهاتًا كبتتها لسنين، وجعًا اكتتمته لحين غير معلوم، تبكي وكأنها لم تتذوق العدل يومًا.
ولكنه العادل الرحيم، يمهل ولا يهمل … يمهل ولا يهمل.
وأسدل الستار اليوم على الحياة القاسية التي كانت تقضيها المسكينة نورة رفقة الخسيس سيد، سنوات من عمرها مضت وهي تخشى هذه اللحظة لما ستلقاه من عائلتها والمجتمع، وكلمات والدتها التي حفظتها حتى باتت ترددها كلما تشاجر معها يرن صداها في أذنها، عن كَم التُهم التي ستُرمى بها وهي تسير بلقب “مطلقة” وألسنة الناس اللاذعة التي لن تتركها وشأنها، أنه لن يقبل بها يومًا رجلٌ وقد سبق ومسها غيرُه، والكثير والكثير مما مُلئ به عقلها حتى فاض وقد كانت المسكينة صغيرة لا تعي شيئًا، سمعًا وطاعًا لهم حتى وإن كان بذلك موتها.
صفحات ملطخة مُزقت اليوم لتُفتح أخرى بيضاء ناصعة لا يعكرها نطفة، صفحات جديدة ستخطو هي بها كل ما تريد بأناملها، بدون سيد ووالدته وبدون أن ينطق المجتمع ببنت شفة، وكيف وقد نالها شره حتى طال روحها؟! من سيتجرأ ويخوض بعرضها أو شرفها؟؟
وما استطاعت نورة سوى أن تحرك لسانها بصعوبة لتقول:
“الحمد لله…”
وها نحن – بالوصول لهذه النقطة – نتخذ دروبًا جديدة نسير فيها بقصتنا، دروبًا تنتهي بنقطة “النهاية” لنا ونقاط “يُتبع” لهم. ♡
يتبع…♡
#بيت_البنات
#بقلم_أمل_صالح
قلبي يا قلبي،
إزيك يا قارئ أمولة العسول القمور؟
يارب تكون بخير. 🫂❤️
ممكن أطلب منكم طلب؟؟
من كل اللي وصلوا لهنا وبيقروا الكلام ده دلوقتي أنا محتاجاكم كلكم تجابوا.
(أمرًا وليس فضلًا 🤨)
إيه رأيكم في السرد، شايفين إن في تغيير عن بداية القصة، خصوصا لو في حد بدأ الرواية قريب ووصل لحد هنا، هل شايف في تغيير ولو آه تغيير للأحسن؟؟
وبعد السرد ايه رأيكم في الأحداث وتسلسلها، شايفين الرتم بطيء ولا سريع ولا كويس؟ (مش هغير حاجة عامة بس بحب اسمع الاراء وكذا. 😇)
توقعاتكم للي جاي، لسة في مصايب ولا….؟
عُمر وراه إيه هو وأبوه؟؟
بسبوسة وطريقها الجديد،
هل ليها طريق مع مَجد أصلا؟
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم