رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الرابع والثلاثون
لم يكن بوسعهما الفرار من الحقيقة إلى الأبد...
فالزمن مهما تظاهر بالهدوء ينسج حتمياته بخيوط لا ترى ويقود القلوب إلى مفترقات لا عودة منها.
لهذا السبب قرر أحمد الرحيل.
لا بصراخ ولا حتى بلوم... بل بصمت يشبه صفحة طويت من كتاب لا يجرؤ أحد على إعادة فتحه.
أما سارة فقد اختارت النهاية التي لم يتوقعها أحد.
نظرت إلى برنت وابتسامة خافتة ترتسم على شفتيها كأنها تخفي خلفها ألف قرار وألف ندم وقالت برقة لا تخلو من ثقل
أخبر السيد أحمد... أنني عدلت عن فكرة الطلاق.
رمش برنت كأن عقله يحتاج لحظة كي يستوعب المعنى.
لم يكن هذا ما توقعه. لم يكن هذا ما أراده أحد ولا ما خطط له الجميع.
في البداية كان أحمد هو من يصر على الفراق.
ثم جاءت سارة تطلب بنفسها الخلاص.
والآن حين أصبح الطلاق قاب قوسين أو أدنى تميل هي فجأة في الاتجاه المعاكس.
أي رقصة هذه التي يرقصها قلباهما
وأي حب هذا الذي لا يعلن اسمه بل يتوارى خلف قرارات متناقضة
لو كان كيلفن هنا لكان قد أطلق تنهيدة ساخرة أو ألقى بتعليق ساخط
لكن برنت كان سكونه جزءا من زيه الرسمي.
اكتفى بالقول بصوت خال من الانفعال
أنا آسف سيدتي سارة... لا أملك الصلاحية للفصل في هذا القرار. أرجو أن ترافقيني.
هزت رأسها بتفهم صامت ثم أجابت برقة
لن أصعب الأمر... فلنمض.
كانت مستعدة.
لفت الوشاح حول عنقها كما لو أنها تحضر روحها لوداع هادئ.
تبعت خطوات برنت خارج العتبة كأنها تسير نحو مسرح لم تجرب تمثيله من قبل لكنها تحفظ نهايته جيدا.
كانت هذه المرة مختلفة...
لا احتجاجات. لا
مشاحنات. لا شيء سوى الهدوء.
وكأن الكون ذاته قرر أن يسكت ضجيجه احتراما لهذه اللحظة.
حتى العاصفة الثلجية تلك التي بعثرت الأشجار منذ أيام قررت أن تنسحب بهدوء
وتسللت الشمس أخيرا من خلف الغيم كأنها تبارك القرار بصمت دافئ.
لكن الشمس لم تكن كافية...
فالهواء لا يزال قارسا والثلج الذي تكدس كذاكرة مؤجلة بدأ يذوب ببطء.
من الأغصان العالية تساقطت قطرات ناعمة
كأنها دموع أشجار تودع فصلا من عمرها...
وتنتظر النضج في الصقيع.
حين وصلت سارة إلى القاعة كان الفراغ يعزف نشيده الأبدي ولا أحد في المكان سوى أحمد جالسا على مقعد خشبي كأنه نحت ليحتمل أوزار الصمت.
كان منكفئا قليلا ظهره منحني كأن الأيام أثقلته وراح يفرك صدغيه بإيقاع بطيء يشبه الندم.
عيناه نصف مغمضتين لا لأن النوم يزوره بل لأنه فر منه منذ زمن تاركا خلفه أرقا مشتعلا لا يهدأ.
اقتربت سارة على أطراف قدميها كأنها تخشى أن توقظ حزنه إن أحدثت صوتا.
رائحة خفيفة من الكحول لفحت أنفها كأنها تفضح خيانته الصامتة لعاداته القديمة.
كان أحمد فيما مضى يدين للعقل بصفائه لا يرتكن لزجاجة ولا يغوي روحه بنسيان مصطنع.
أما الآن فقد بات يسكب الليل في جوفه على أمل أن يطفئ شيئا لا يطفأ.
وفجأة ومن دون كلمة أو تحذير انحنت يدان صغيرتان على صدغيه...
دفء خفيف ثم ضغط مألوف ثم رائحة كريم يدين كانت تملأ حياته قديما.
فتح عينيه ببطء كأن الحياة عادت إليه من غيبوبة طويلة وقال بصوت أجش تغلفه الحيرة والامتنان
أنت هنا...
لم تجب سارة بل همهمت فقط كأن الكلمات لن تفي بالغرض.
لم
يحتج أحدهما إلى تفسير فقد كان الماضي حاضرا بكامله بين أطراف أصابعها.
ظلت تدلك صدغيه بصمت حنون كما اعتادت أن تفعل حين ينهكه التعب.
في تلك اللحظة اختلطت الأصوات المجهدة تحت جلد أحمد وخفتت كطفل يخبئ رأسه في حضن أمه بعد بكاء طويل.
لكن الزمن لا يرحم الجسد ولا العلاج يمهل اليدين.
بعد دقائق بدأت سارة تشعر بوخز في أصابعها يداها لم تعودا كما كانتا وقوتها تسربت من تحت جلدها منذ بدأت الحرب الكيميائية.
لم تعد قادرة على رفع ذراعيها كما ينبغي كأنها استهلكت سنوات من حياتها
أخرج أحمد شيئا من حقيبته الجلدية السوداء ووضعه أمامها بهدوء مشوب بالحسم وكأنه يضع بين يديها نهاية مغلفة بورق رسمي.
راجعت اتفاقية الطلاق. إن كان لديك أي اعتراض... فوقعي.
امتدت يد سارة المرتجفة نحوه التقطت الورق كما تلتقط وردة من تحت رماد.
نظرت إليه إلى تلك الأوراق التي خطتها يد القانون ببرود وكانت هي من صاغت المسودة الأولى سابقا بسيطة مقتضبة... كل ما أرادته حينها كان تعويضا بقيمة عشرة ملايين دولار لا أكثر لا أقل.
لكن ما بين يديها الآن كان شيئا آخر.
صفحات ممتلئة بشروط لم تطلبها وأرقام لا تشبه الواقع.
مليار دولار.
مبلغ خرافي تتخلله أصول ملموسة فلل تطل على البحار سيارات لا تعرف الطريق الترابي عقارات في مدن تحلم بالحياة.
ضحكت سارة بخفة كأنها تضحك من شخص أحبها أكثر مما يجب ثم قرر الرحيل متأنقا.
أنت كريم حقا سيد أحمد . قالتها بابتسامة لم تصل لعينيها.
لم يلتفت أحمد إلى ملامحها بل خفض رأسه لينظر إلى ساعته كمن يهرب إلى الزمن.
هذا ما تستحقينه.
كانت كلماته ناعمة لكنها خرجت كأنها خدشت من روحه.
لم تكن سارة بحاجة لتخمين ما مر به طوال الليل لكن ملامحه كانت كافية رجل عقد العزم على الانفصال لا لأن الحب غادره بل لأن الجراح أرهقته أكثر من احتمال البقاء.
أحمد لم يكن قاسيا كما ظنت نفسها ذات يوم...
كان أرق قلبا مما تقدر على وصفه وأخطر ما فيه أنه أحبها حتى قرر أن يبتعد.
تناولت القلم بثبات لا لترسم توقيعا بل لتمحو ما فاض عن حاجتها.
شطبت على البنود... سطرا تلو الآخر ثم دفعت الأوراق نحوه.
شكرا لاهتمامك سيد أحمد . كما قلت أريد فقط عشرة ملايين. أعطيتني خمسة... فماذا عن الباقي
تجعد جبين أحمد عبوس خفيف واحتقان خلف النظرة.
سارة ألا تدركين ما هو في مصلحتك
لكنها قابلته بابتسامة كانت أكثر قسوة من أي عتاب
لم أعتد الرفاهية وأعوامي الأخيرة رغم صعوبتها كانت مرضية بما يكفي...
لا أطفال يربطونني بهذه الجدران ولا ثروات ستعوضني عما خسرته. لا أريد أكثر مما طلبت.
كان على وشك أن يرد أن يلقي شيئا من منطقه المعتاد
لكنها سبقته انحنت على الطاولة لمست أطرافها كما لو كانت تبحث عن توازن في قلب العالم واقتربت ببطء منه حتى لم يعد بين وجهيهما سوى صدق قديم.
قالت بصوت رخيم محفوف بالهدوء
عشرة ملايين... ولدي شرط آخر.
في عينيه السوداوين رأت انعكاس ابتسامتها تراقص فيها شيء لم تعرف إن كان نورا أم غبارا.
رفع حاجبه بتساؤل كأنه يعلم أن طلبها لن يكون عاديا.
ما هو
تشكلت على شفتيها ابتسامة غامضة كأنها تخفي خلفها نداء استغاثة ثم قالت برقة توشك أن تبكي
الليل
أريدك أن تؤازرني لثلاثة أشهر فقط...
لا زوجا ولا عدوا فقط ك شخص كنت أحبه يوما.