رواية طوفان الدرة الفصل الرابع و الثلاثون
بمنزل جلال
وقفت خلود بمنتصف تلك الغرفة تعقد ذراعيها ببعضهما أمام صدرها، نظرتها ثابتة، صارمة،تزفر انفاسها كأنها تنتظر خوض معركة.
بنفس الوقت دخل جلال الى الغرفة بخطوات هادئة على غير عادته، كصأن ما به من بركان داخلي يحاول قمعه بالعقل... مع تلك المُتصلبة الرأس
توقف أمامها على مسافة قصيرة، يراقب تصلب ملامحها كأنها جدار لا يمكن اختراقه، بينما هي لم تحرك ساكنًا، سوى زفيرها الذي يتصاعد ببطء كأنه إعلان تحدٍ صامت... ضاقت بهما الغرفة ،اول كلمة ستُقال ستكون بمثابة الطلقة الأولى في معركة لا تحتمل الجِدال...
تنهدت تنظر بإحتقان،تتنفس بقوة،تنهد هو الآخر يشعر ببوادر شِجار قائلًا:
خير.
نظرت له بغضب قائله:
ايه اللى فى الصندوق ده.
نظر نحو الصندوق الورقي الكبير قائلًا:
ده فستان فرح واضح جدًا.
نظرت له باستهزاء قائلة:
تصدق اتفاجئت ومكنش عندي نظر.
ابتسم بينما هي شعرت بغيظ قائلة:
ومين اللى قالك تشترى فستان زفاف، بدون علمي، افرض ذوقه معجبنيش.
تفوه بحسم:
بس عاجبني، أنا العريس والفستان ذوقه عاجبني ... كفاية سيبتلك حق اختيار فستان الحنه براحتك، بس ميكونش مكشوف.
نظرت له بغضب قائلة:
مكشوف، شايفني بلبس مكشوف.
نظر لها قائلًا:
لاء، بس ممكن الشيطان يوزك.
نظرت له بغضب قائلة:انا مش عاجبني الفستان وفى دماغي ديزاين خاص، وكنت هتفق مع مصممة تعملها خاص ليا، وإنت حددت ميعاد الزفاف بعد اسبوعين وانا محتاجه وقت، الفستان ده رجعه تاني.
نظر لها قائلًا بمهاودة ظاهرية
والفستان ده هياخد قد ايه.
أجابته:
من أسبوعين لتلات اسابيع او يمكن أكتر.
نظر لها بدهشه وفهم هي تود تأجيل الزفاف، فتحدث بتجبُر:
الفرح خلال اسبوعين دعوات الفرح اطبعت خلاص، والفستان ذوقه راقي وشيك، مشي نفسك بيه ليلة وتعدي.
نظرت له بغضب ورفض
وكادت تتحدث لكن هو يتثائب بارهاق قائلًا:
بصي يا خلود انا فاهمك كويس، بلاش اعتراض لمجرد الاعتراض، لاحسن والله ألغي الزفاف...
توقف يتثائب فابتسمت بأمل سرعان ما خفتت بسمتها، شعرت بخجل... حين قال:
والله الغي الزفاف وأخدك حالا من ايدك لاوضتي وأتمم جوازنا ومحدش هيعترض، وبصراحة أنا نفسي ده يحصل بس بحترم رغبة عمي ومرات عمي وكمان امي قال ايه لازم نفرح.
ضربت الارض بغضب وغصبً امتثلت... وغادرت الغرفة، ضحك جلال يراقبها وهي تبتعد، وعيناه تلمعان بمزيج من الانتصار والمرح، وكأنه يعلم أن كل هذا الغضب ما هو إلا قناع يخفي ارتباكها.
❈-❈-❈
بعدما إنتهوا من تناول العشاء، جلسوا جميعًا بغرفة المعِيشة
تبسمت وجدان على تذمُر نوح من مشاغبة جود بالضغط على وجنتيه المكتنزتان، شعرت بغصة فى قلبها لوهلة، جود حقًا تخطت كبوتها مع حاتم وعادت تمرح برقتها وبرأتها التي لم تتغير،ربما نضجت لكن مازالت تحتفظ بخِصالها الرقيقة...
كذالك طوفان ضحك على تذمُر صغيره من مشاغبة جود،بينما درة تجلس فقط تنظر كأنها شاردة نظر نحوها طوفان غص قلبه... حين تقابلت نظراتهما... عمدًا
أخفضت درة بصرها سريعًا، تحاشيًا لعمق نظرته التي تثير في داخلها شوقٕ لا تريد الاعتراف به... تظاهرت بالانشغال بكوب الشاي أمامها، أصابعها تعبث بحافته في حركة بطيئة.
همّ طوفان بأن يتحدث مجددًا، لكن جود قطعت الصمت بضحكة عالية وهي تعيد شد وجنتي نوح، مما جعل الجميع يلتفت إليها للحظة، إلا طوفان... عينيه لم تفارقا درة...
بينما تحدثت وجدان بنهي ومزح:
بلاش تشاغبي نوح يا جود.. ده لسه قايم من دور مرض.
تبسمت جود وازادت في مشاغبته وهو يتذمر وهم يشعرون بسعادة، لكن غص قلب وجدان حين رأت نظرات طوفان نحو درة، خمنت أن هنالك شد بينهما... تنهدت بآسف...
حتى مر وقت تثائب نوح لاحظت درة ذلك فنهضت تقترب من وجدان قائلة:
نوح هينام... أنا كمان حاسة بإرهاق وهو واضح كده شبع من مشاغبة عمتو، هاخده واهو أنام ساعتين بدون إزعاج.
أبتسمت لها وجدان وهي تأخذه منها قائلة:
تصبحوا على خير.
-وأنتِ من أهل الخير هكذا رددن
وجدان وجود التي نهضت قائلة:
أنا كمان هروح أوضتي، أخلص تجهيز رسوماتي عشان تتغلف صخلاص المعرض بتاع المحافظة فاضل عليه أيام، بصراحه أول مره أشارك فى معرض فني ومتوترة أوي وعاوزه كل حاجه تبقي ممتازة.
تبسم لها طوفان بمدح قائلًا:
إنتِ موهوبة وبلاش التوتر ده، وإن شاء الله متأكد من إن لوحاتك هتنول مدح كبير.
إبتسمت له بإشراق وإمتنان قائلة بمرح:
شكرًا على المدح ده، بس الأهم رأي الجمهور وده مش متوقع، يلا تصبحوا على خير.
-وإنتِ من أهل الخير
قالها طوفان و وجدان التي نظرت لـ طوفان قائلة:
جود متحمسة أوي وفرحانه إنها هتشارك فى المعرض ده، حاسه بحماس، حاسه إنها رجعت تستعيد نفسها من تاني.
إبتسم طوفان قائلًا بموافقة:
جود طول عمرها بتحب الرسم ولما جلال قالي عالمعرض ده قولت له كلم جود تشارك فيه.. واضح إن الرسم هو اللى رجعها تاني تلاقي نفسها بعد تجربتتها مع حاتم...
توقف قليلًا ثم تنهد بآسف قائلًا بندم:
مكنش لازم أوافق على جوازها من حاتم.. و
قاطعته وجدان وهي تضع يدها على كتف طوفان قائلة:
كل شيء قدر بلاش تجلد نفسك، ويمكن التجربة دي فهمتها إن الدنيا مش وردي زي ما هي راسمة فى خيالها، الضربة اللى مش بتموت بتقوي يا طوفان، جود بعد التجربة دي حسيت إنها نضجت...يمكن صدمة قاسيه فى أول بس علمتها إزاي تسيطر على مشاعرها.
غص قلب طوقان مازال يشعر بالمسؤولية والخطا قائلًا:
بس جود مكنتش تستحق التجربة دي... ياريتنا ما كنا قولنا ليها على طلب حاتم وقتها.. وجعها كان كبير يا ماما... وأنا شُفت ده في عينيها.
ربّتت على كتفه برفق أكبر، قائلة بحنو:
وأنا شُفته كمان... بس جود قوية، وبتعرف تقوم، يمكن أكتر مننا إحنا الاتنين.. المهم إحنا كنا جنبها، لحد ما قلبها بدأ يطيب... بلاش إحساسك القاسي ده.
اومأ برأسه لها، لكن تفاجئ من سؤال وجدان:
إنت ودرة زعلانين.
نظر لها مُستغربً ثم أجابها بنفي:
لاء ليه.
نظرت له، تفهمه من نظرة عيناه مازال صغيرها التي كانت تفهم ما يدور بداخله قبل أن ينطق، ثم ابتسمت بخفة قائلة بتوضيح:
يمكن أنا غلطانه.. بس حاسة في حاجة مش مظبوطة بينكم... درة مسهمه كده وساكته.
ارتسمت على وجهه ابتسامة كادبه، قبل أن يحول بصره بعيدًا، وكأنه يخشى أن تفضحه عيناه... ثم نهد وحرك كتفيه بلا مبالاة مصطنعة، محاولًا إخفاء ما يجول في صدره:
لا، مفيش بينا حاجه... يمكن هي مرهقة من رجوعها تاني لممارسة الطب،بعد فترة أجازة فده أثر عليها فترة وهترجع تتعود.
ظلت تحدق فيه لدقيقة، تحويل نظره بعيد عنها دليل على صدق حدسها.... على يقين أن إجابته ليست صحيحة لكنها لن تضغط عليه وإن كان بينه وبين زوجته خلافُ الأفضل أن يظل بينهما حتى يجدان له حل...
تبسمت له بحنان ونهضت قائلة:
أنا كمان هقوم أنام، خالتك عندها متابعة بكرة وهروح معاها.
تبسم طوفان قائلًا:
بصراحة مرض خالتي فاجئني، إزاي قدرت تتحمل تخبي السنين دى كلها.
غص قلب وجدان تذكرت مُعاناة والدتها من نفس المرض الذي استمر معها لوقت طويل وطريقة معاملة والدها لها وقتها وإستخساره لعلاجها او بالأصح إستخساره لإحضار مجرد مُسكنات لها فمرض كوثر ليس وراثي، لكن هي خشيت أن تجد نفس المعاملة من زوجها ومن حولها يشعرون بثُقلها قائلة بتبرير:
أنا كمان إتفاجئت، بس هي كمان قالتلى مكنتش حابه تصعب على حد،لما نعرف إن عندها سوسة فى العضم" نخر العظام"، بس إحنا كمان غلطانين كان فى إشارات واضحة من جسمها إنها تعبانة، وإحنا طنشناها أو افتكرناها إرهاق عادي...
أخفضت وجدان نظرها وهي تتابع بصوت يحمل خليطًا من الحزن واللوم:
هي كانت بتقاوم لوحدها، وإحنا سايبينها تواجه الألم ده من غير ما نحس قد إيه موجوعه... حتى جبروتها وقسوتها كان ستار بتخفي وراه وجعها،خافت تبقي عبئ.
أومأ لها طوفان برأسه موافقًا، أغمضت وجدان عينيها كي تخفي دمعتها ثم تنهدت قائلة:
يلا إطلع لمراتك وأنا كمان هروح اوضتي أتوضا وأقرأ الوِرد بتاع كل ليلة وبعدها هنام...تصبح على خير.
قبل رأسها قائلًا:
وإنت من أهل الخير يا ماما.
تركها وتوجه نحو غرفته بينما هي نظرته فى أثره تزفر نفسها بغصة قائلة بتمني::
دايمًا متحمل فوق طاقتك يا طوفان...بس متأكدة درة بتحبك زي ما أنت بتحبها أكيد شوية زعل وهيرحوا مع الوقت.
...... ..... ....
قبل قليل دلفت درة الى الغرفة تشعر بوجع فى قلبها مازالت مواجهة تلك السخيفة روزان تطن برأسها أعادت فتح جرح قلبها من جديد بل زادته وجعًا هو لم يلتئم بعد،تعلم أنها مُخطئة فى مُعاقبة طوفان،هي الأخرى مسؤولة عن ذلك،لكن وجعها يتحكم كلما تخيلت طوفان يُبادل غيرها الغرام...ربما ليس بنفس الشغف الذي يمنحها إياه، لكن مجرد الفكرة كافية لتمزق أعصابها وتكسر شيئًا عميقًا بداخلها...
تقدمت نحو وضعت صغيرها على الفراش وجلست على طرف الفراش بثقل، كأن وزن قلبها أضعاف جسدها، وضعت كفيها على وجهها علها تحجب تلك الصور التي تتدفق في ذهنها بلا رحمة… صور طوفان وهو يبتسم لغيرها، يلمس يدًا ليست يدها، أو يهمس بكلمات كانت تظنها تخصها وحدها...
زفرت بعمق، كأنها تحاول دفع الهواء المحمّل بالمرارة خارج صدرها، لكن طيف روزان وكلماتها الوقحة ظل يلتف حول رأسها كأفعى، يضغط على جرحها المفتوح ويمنعه من الالتئام...حاولت درة أن تُقنع نفسها بأن ما قالته روزان مجرد استفزاز رخيص، لكن قلبها لم يصدق، عقلها لم يُسعفها، ووجعها كان أقوى من أي منطق.
رفعت رأسها نظرت في الفراغ أمامها، تشعر كأن ذكرياتها مع طوفان بين جدران الغرفة تتحول من دفء وطمأنينة إلى وخز مؤلم ينهش روحها...
كم مرة أخبرها أنها كل عالمها، وكم مرة وعدها أنه لن يخذلها…،كم كانت تغرق بين يديه وتنسجم معه من بضع كلمات ولمسات... واليوم... يكفي أن تشك للحظة في صدق وعده حتى تجد نفسها تغرق في بحر من الغيرة والخذلان.
وضعت يدها على قلبها كأنها تحاول تهدئته، لكنه يخفق بجنون، ليس خوفًا من فقدانه فقط، بل من فكرة أن يكون قد منح غيرها ما كانت تظنه حقًا حصريًا لها...
رغم ان الغرفة دافئة لكن تشعر بالبرد،مسدت على ذراعيها تبحث عن حماية من برد داخلي لا علاقة له بالطقس… برد سببه كلمات روزان وذكريات طوفان التي لم تعد كما كانت.
كادت تغرق فى دوامة من الصور المتداخلة، ملامحه حين كان يبتسم لها بعفوية، صوته وهو يهمس باسمها بنبرة خاصة، دفء حضنه الذي كان يومً ملاذها وحدها ، تلك الصور نفسها تنقلب إلى أشواك تمزق قلبها كلما تذكرت أن روزان سبقتها ونالت من مشاعره حتى لو كان ذلك...مجرد لحظات عابرة...
يكفي أن تتخيل عينيه تنظران لغيرها بنفس العمق الذي يذيبها، أو أن صوته يلين ليحتوي أخرى يحتويها، شعرت أن الهواء يُسحب من رئتيها.
يتساءل عقلها بمرارة:
هل كان حبهُا فى قلبه حصنًا منيعًا حقًا، أم أن باب قلبه كان مفتوحًا دائمًا لمن تجرؤ على العبور.
إختناق بدأت تشعر به، وضعت يدها تُدلك صدرها... ثم نهضت جذبت تلك القينية وضعتها بفمها تستنشق ذلك الرذاذ، بنفس الوقت، نظرت نحو باب الغرفة، حين سمعت صوت فتح الباب تجاهلت دخول طوفان الذي لوهلة خفق قلبه بقلق حين رأها تستنشق من تلك القنينة إقترب سريعًا وقف أمامها يشعر بقبضة خوف تعتصر قلبه، عينيه تتفحص ملامحها المتوترة وأنفاسها المتقطعة، مدّ يده يحاول إزاحة القنينة عن شفتيها برفق وهو يسأل بصوت مبحوح:
مالك يا درة إيه اللي حصلك
لكنها لم ترفع عينيها نحوه، وكأن حضوره في تلك اللحظة يزيد من ضيق صدرها، لا يخففه... وضعت القنينة جانبًا ببطء، ثم ابتعدت خطوة للخلف، تحاول أن تحافظ على المسافة بينهما، تلك المسافة التي أصبحت حاجزًا يحميها من هشاشتها أمامه.
شعر طوفان بوخز في صدره من برودها، لكنه قاوم اندفاعه لاحتضانها، واكتفى بالنظر في عينيها، باحثًا عن أي إجابة بين ظلال الغضب والخذلان التي تحيط بهما، وهمس بقلق أكبر:
درة أرجوكِ…
قاطعته برجفة صوت مكتومة:
أنا كويسة يمكن اكتشفت إن مش كل الوعود دايمًا صادقة... بلاش تقلق نفسك مع الوقت هنسي وهبقي كويسه.
شعر بوخز قوي فى قلبه، وكاد يضمها يؤكد لها أن قلبه سيبقى حصنها الحقيقي، لكنها ابتعدت خطوة للوراء، كأنها تضع مسافة لتمنع أي محاولة لاقتراب جديد...
ارتجفت أنفاسه وهو يراها تبتعد عنه، يعلم أنها تُخفي خلف ذلك التماسك الزائف جرحًا ما زال ينزف.
لم يقل شيئًا، اكتفى بمراقبتها وهي تحمل صغيرها،ثم توجهت به نحو مهده الصغير وضعته به نظرت له لحظات ثم دثرته،وبصمت ذهبت نحو حمام الغرفة بعد قليل خرجت ترتدي منامة قاتمة اللون وبصمت توجهت نحو الفراش وإستلقت عليه تُغمض عينيها،زفر طوفان نفسه يشتعل بداخلة برغبة في محو كل ما جعلها تفقد ثقتها في الأمان.
بعد لحظات تمدد جوارها على الفراش، بمجرد أن شعرت به، إستدارت تُعطيه ظهرها، غص قلبه وهو ينظر نحوها، نظر نحو سقف الغرفة والذكريات تعود له هو الآخر.
«بالعودة قبل عامين تقريبًا
صدمة أذهلت عقله من تلك الرسالة التى وصلت إليه للتو عبر هاتفه
عاد يقرأ نصها
"النهاردة كتب كتابي أنا ودرة فى القاهرة، كان نفسي تبقي الشاهد بس إنت فى المنيا هتتأخر على ما توصل، هبقي أبعتلك صور من كتب الكتاب"
-مستحيل
هكذا ضرب على مقود السيارة، هذا لن يحدث، بالتأكيد ذلك كذب من حسام لمجرد إثارة غضبه...
لكن عقله يعترض:
إتصل على درة اكيد حسام
حاول الإتصال على درة لكن فى البداية كان يُعطي أن الهاتف مشغولًا، تنهد حين رن لكن انتهت مدة الرنين دون رد من درة
ضرب مقود السيارة غاضبً يقول:
مستحيل درة توافق، حسام كداب
مستحيل درة تتخلى عني بالسهولة دي.
جذب الهاتف وقام بالإتصال على والد درة..الذي رد عليه،بإندفاع من طوفان سأله يود منه النفي،لكن
-عمي مُختار قولى إن حسام كداب،ودرة مستحيل توافق إنها ترتبط بيه.
أجابه مُختار بما عصف بقلبه:
للآسف حاولت مع درة لكن هي مصممة،حتى إنها وافق على عرض حسام إنهم يكتبوا الكتاب النهاردة.
تحدث برجاء:
بحاول اتصل عليها مش بترد عليا، لو هي جانبك اديهالى أكلمها.
رد مختار بآسف:
أنا مش فى الشقة يا طوفان.
أطبقت الصمت لحظات على طوفان، كأن الكلمات علقت في حلقه، عيناه تجولان بلا تركيز وكأنه يبحث عن مخرج وسط الضباب الذي لا يغمُر الطريق فقط بل يغمُر عقله.
شد على هاتفه حتى كاد يحطمه بين أصابعه، زم شفتيه وهو يضغط على أسنانه، صوته خرج متحشرجًا:
مش هسيبها تعمل كده، حتى لو اضطرّيت أروح القاهرة دلوقتي.
قطع الاتصال قبل أن يرد مختار، وأدار محرك السيارة بعنف، وعيناه تعكسان خليطًا من الغضب والخوف، قلبه يصرخ:
درة... إزاي توافق... أكيد حسام وسوس لها فى دماغها... دلوقتي إتأكدت إن اللى وصل لها الفيديو هو حسام،
ضرب المقود بقوة قائلًا:
حقير مُستغل.
انطلق على الطريق كالسهم، وسط ذلك المطر الذي يُعتم الروؤية... محرك السيارة يعلو صوته مع كل ضغطة غاضبة على دواسة البنزين، وعقله مشغول فقط بفكرة واحدة،أن يصل قبل ما يفوت الأوان...
بعد ساعات أصدرت السيارة صوت صرير حين أوقفها أمام تلك البِناية
ترجل سريعًا خطواته تتلاحق، وكل خطوة تشعل في صدره مزيدًا من النار...
لكن توقف لحظات مصدومً أسفل غزارة المطر حين رأي حسام يمسك يد درة يخرجان من مصعد تلك البِناية...
مازال عقله وقلبه يتمني أن يكون وصل قبل عقد القران، لكن نظر له حسام بشماته وضم يد درة قائلًا:
مش تبارك لينا، كتبنا الكتاب وبالمناسبة دي أنا ودرة خارجين نحتفل.
شعر وكأن المطر لم يعد ماءً، بل سهامًا باردة تنغرز في صدره، تجمد في مكانه عاجزًا عن الحراك، تتلاطم بداخله رغبة في الانقضاض على حسام، ورغبة أخرى في أن يصرخ بدرة لتستفيق...
لكنها لم تنظر إليه حتى، وكأن بينهما جدارًا شفافًا لا يمكن اختراقه...
ابتسم حسام باستهزاء، شد يدها أكثر نحو الخارج، فيما كانت هي تتجنب النظر إليه، ملامحها جامدة، أو ربما تحاول إخفاء شيء خلف ذلك الجمود...
انقبض قلبه، شعر بمرارة الهزيمة تُطبق على أنفاسه، لم يسمع سوى دوي المطر وصوت قلبه وهو يتكسر قطعةً قطعة...
رفع رأسه أخيرًا، بعينين تحترقان، وقال بصوتٍ مبحوح:
– مبروك...
لكن تلك الكلمة خرجت منه كطعنة، وكأنها أغلقت الباب الأخير الذي كان يربطه بها..
استدار ببطء، خطواته ثقيلة، كل خطوة تشبه طعنة تنغرس فى قلبه
المطر يتساقط بغزارة، يلتصق بقميصه، يلسع وجهه، لكنه لم يرفعه ليحتمي، وكأن الألم الخارجي هو ما يحتاجه الآن ليغطي على ما يشتعل بداخله...
عقله يصرخ
كيف إستطاعت فعل ذلك
وقلبه، يتشبث بأمل
توقف فجأة، يضغط كفيه بقوة حتى إبيضت مفاصله، وعيناه تنظر نحو تلك السيارة التي إنطلقت... وعقله يستوعب صوت حسام وهو يقول "كتبنا الكتاب" يعيد دق المسامير في صدره.
رفع عينيه للسماء المظلمة، زفر بمرارة، ثم أسرع في خطواته كأن الهروب هو الحل الوحيد لئلا ينهار في منتصف الطريق...
دخل سيارته وأغلق الباب خلفه بعنف، كأن ضوضاء المطر بالخارج لم تكن كافية لإسكات العاصفة التي بداخله.
أسند جبهته على المقود، أنفاسه متقطعة،
مد يده ليمسح قطرات المطر، لكن أصابعه اصطدمت بدمعة ساخنة، لم يعرف متى سقطت.
أخرج هاتفه، فتح صورها، يمرر بإبهامه على ملامحها وكأنه يلمسها حقًا، ثم فجأة قذف الهاتف بعيدًا ليرتطم بالباب الآخر للسيارة يسقط صامتًا.
دفن وجهه بين كفيه، صوت حسام وضحكته الشامتة يجلدان روحه بلا رحمة، وصورتها وهي تمسك بيده تُذيب ما تبقى من كبريائه...
همس بصوت مبحوح، وكأنه يخاطب نفسه أكثر منها:
ليه يا درة ليه... كنتِ حياتي كلها…
وفي تلك اللحظة، لم يعرف إن كان الغضب هو الذي يسيطر عليه، أم الحزن… أم كليهما في وقت واحد.
بنفس الوقت دوى صوت هاتفه... رأي إضاءة الشاشة، جذب الهاتف، نظر له... أراد إغلاق رنين الهاتف يكفي تلك الضوضاء القاتلة برأسه، لكن بالخطأ ضغط على ذر الرد، غصبً قام بالرد، صدفة أو قدر ينساق به دون أن يدري كيف.
بعد قليل بأحد المطاعم دلف بثيابه المُبلتة، نظر بالمكان حتى وجد روزان تجلس خلف إحد الطاولات... ذهب نحوها، إستعجبت من هيئته، فسرت ذلك بانه سار أسفل المطر بالخارج...
تحدثا معًا ببعض الاعمال، لاحظت أن السيجارة لا تنطفي بيده قبل أن تنتهي يُشعل أخرى، مدت يدها وضعتها فوق يده، كانت باردة، رفع رأسه ونظر لها عيناها كانت مثل وهج نار، وهو يشعر بالتجمُد داخليًا، ظل ينظر لعيناها وهي تتغنج وتتمني فقط تلك النظرة منذ أن تعرفت عليه...
كلمات حسام تتردد برأسه ونظرة الشماته تتراقص أمامه
جلمة نطقها بتسرع دون مشاعر
تتجوزيني يا روزان.
رفعت رأسها تنظر له مشدوهه مصدومة، لكن صدمت حين كاد يتردد ويعدل عن ذلك، تبسمت له، رأي صورة درة ويدها بيد حسام...
بنفس الوقت تفوهت روزان:
موافقة.
صدم طوفان واراد أن ترفض هي فقال:
تتجوزيني عُرفي.
صمتت للحظات، فكرت ظن أنها قد ترفض لكن صدم حين قالت:
موافقة يا طوفان.
بعد قليل كان الإثنين بغرفة مكتبه بالمقر الخاص بشركته بالقاهرة يوقعان ورقتان مفادهما زواج عرفي تم بينهما...
لحظات وندم على ذلك
بينما روزان كل ما يهمها ورقة تضم اسمها مع طوفان، بالتأكيد تلك الورقة العُرفية لن تظل لوقت، ستتحول الى رسمية وشرعية، نهضت بجرآة تقترب منه حتى أنها جلست على ساقيه حاولت تقبيله، لكن هو…شعر بنفور حاد، كأن برودة غريبة تجمدت في عروقه، يداه تلقائيًا أمسكت بكتفيها وأبعدها عنه بقوة، عينيه تلمعان بغضب مكتوم.
قائلًا بصوت حاد خافت:
روزان… إحنا فى الشركة.
ارتسمت على وجهها ابتسامة مائلة، مزيج بين التحدي والتصميم على الوصول لقلبه، ثم مالت للخلف وهي تمسد على الورقة الموضوعة على المكتب:
وفيها ايه ما إحنا إتجوزنا.
عاد بالمقعد للخلف، غصبً نهضت من فوق ساقيه، نهض هو الآخر واقفً، متجاهلًا كلماتها، وأخذ يبتعد نحو النافذة، نظر إلى أضواء القاهرة التي تلمع في البعيد، وقلبه يصرخ داخله يلومه:
إيه اللي انت ورطت نفسك فيه وورطها معاها..
قطع أفكاره حين شعر بيديها تتسلل على صدره تضمه من الخلف تضمه بحميمية تضع رأسها فوق ظهره تحاول إغواؤه، لكنه كان مثل الطقس بارد بل الطقس مُمطر وهو جاف.
لم يستطع لمسها، وابعد يديها عنها تقدم خطوة ظل واقفًا مكانه، يراقب قطرات المطر التي بدأت تتساقط خلف الزجاج، تتسابق على الملمس الشفاف وكأنها تحاول الهرب من سماء مثقلة بالغيوم… تمامًا كما يريد هو الهرب من هذا المأزق.
أغمض عينيه، يتذكر وجه درة، ضحكتها، وحتى نظرتها الغاضبة منه… كيف كانت تنفذ إلى روحه بلا استئذان، بعكس روزان التي تحاول اقتحامه بالقوة.
مد يده إلى جيبه، أخرج سيجارة وأشعلها، لعل الدخان يخفف من وطأة الضيق في صدره، لكنه اكتشف أن الثقل باقٍ، وأن الورقة التي وقّعها اليوم ليست مجرد حبر على ورق، بل قيدًا جديدًا حول عنقه...
انفلتت منه همسة أشبه باعتراف مُر:
دي غلطة هتدفع تمنها غالي يا طوفان.
عودة»
بالفعل دفع الثمن غالي درة رغم أنها جواره على الفراش لكن بعيدة عن روحه، كأن بينهما جدارًا من صمت وجفاء لا تُجدي معه أي محاولة اقتراب...
التفت نحوها في على ذلك الضوء الخافت ، تُعطيه ظهرها أنفاسها تبدوا هادئة لكن نبضه هو كان فوضويًا...
مد يده بتردد ليلمس شعرها، لكنه أوقف نفسه في منتصف الطريق، وكأن بين أصابعه وخصلاتها نارًا ستحرقه إن اقترب...
كل ما كان يراه أمامه هو ظل روزان وهي تبتسم بانتصار، وصوت قلمه وهو يوقع تلك الورقة المشؤومة.
ابتلع غصته.. وحسم أمر قلبه المُشتاق، إقترب من درة ورفع يده يضمها، يضع وجهه بين خصلات شعرها هامسً بعشق:
درة.
تزلزل كيانها هي تشتاق أليه، اغمضت عيناها بقوة هي الأخرى تلوم نفسها، تُبرر لـ طوقان، أليست هي من تسرعت وواقفت على الزواج من حسام، تلك الليلة كانت تبكي على خطأ أفسد قلبها، منظر طوفان وهو يقف أسفل المياة مازال برأسها، ربما ظن أنها لم تنظر إليه، لكنها نظرت له لتعلم أنها كسرت الأمل بداخله ذلك اليوم...، لكن هي الاخرى انكسر شيئًا بداخلها لم تستطع إصلاحه حتى الآن... قضت ليلتها
دموعها تختلط بحرارة أنفاسها،
لكن الآن إحساس ذراعيه حولها يعيدها للحظة ، قبل أن تتبعثر بين القرارات الخاطئة.
هو بدوره أحكم ضمها، وكأنه يحاول أن يطرد من بينهما كل الصور القديمة، كل الأسماء التي دخلت حياتهما وعبثت بمصيرهما
❈-❈-
بداخل قاعة كبيرة، كانت لوحاتها مصفوفة على جدارن تلك القاعة العريقة التابعة لإحد الجامعات....
رغم التوتر الذي يعصف بها، ابتسمت برقة وهي تراقب العيون تتجه نحو رسوماتها المعلّقة على جدران القاعة.... تسلل إلى وجنتيها خجل دافئ حين التقطت أذنها صوت أحدهم يمدح موهبتها وإتقانها للرسم، وكأن كلماته كانت لمسة تقدير تلامس قلبها قبل أن تصل إلى مسامعها... خفضت بصرها قليلًا، تخفي ارتباكها خلف ابتسامة هادئة، بينما قلبها ينبض بإيقاع مختلف، مزيج من الفخر والدهشة... لم تعتد أن تكون مركز الاهتمام، لكن في تلك اللحظة شعرت وكأن عالمها الصغير انفتح على اتساعه، وصارت ألوان لوحاتها هي من تتحدث بالنيابة عنها.
اقترب منها بخطوات واثقة، رجل يحمل ملامح هادئة وابتسامة ودودة، توقف أمامها ناظرًا إلى إحدى اللوحات قبل أن يلتفت إليها قائلًا:
مشوفتش رسام يجيد أسر الضوء داخل ألوانه بالدقة… لوحتك كأنها بتتنفس.
شعرت بحرارة كلماته تتسلل إلى قلبها، رفعت عينيها نحوه بتردد وهمست:
أنا برسم اللى بحس بيه مش اللى بشوفه.
ارتسمت على وجهه نظرة إعجاب صامتة، وكأنها دعوة لحديث أطول، حديث ربما يترك في حياتها أثرًا يشبه أثر ألوانها على تلك اللوحات .....تحدث بمدح:
إلاحساس... إنتِ عندك احساس فني فى إختيار الالوان مع مضمون اللوحة، مزيج مُتجانش يشد العين تتمتع بجمال اللوحة.
ابتسمت برقة، لكن سُرعان ما عبثت ملامحها حين إستدارت بوجهها ورات حاتم يقترب منها بعيون مُسلطة عليها، لا تعرف مغزى نظراته لها لكنها إبتلعت ريقها …تشجعت بابتسامة متماسكة، تخفي خلفها ارتباكًا مفاجئًا، وكأن حضور حاتم قلب موازين اللحظة...
اقترب حتى أصبح على بُعد خطوة منها، عينيه لا تفارق ملامحها سُرعان ما إهتز كيانه من تجاهُل جود له وإندماجها برقة ورُقي فى الحديث مع ذلك الشخص... شعور بالغِيرة يعصف بصدره من مجرد بسمتها لذلك الشخص الذي لا يعلم هاويته... ظل مُراقبًا لها وهي تتنقل من صورة لأخري تستمع لمدح ذلك الشخص... بلحظة تبدلت ملامحه الى الغضب ولم يستطع التحمُل حين تلامست يدها مع يد الآخر تقدم بخطوات حادة، كأن الأرض تضيق تحت قدميه، خرج صوته منخفضًا لكنه مشحون بالتحذير:
جود…
توقفت عن الحديث، رفعت رأسها نحوه بدهشة،وكبرياء... بينما كانت يدها ما تزال عالقة بين يدي الآخر، لمحت في عينيه عاصفة مشاعر لم ترها سابقًا لم يستطع عقلها تفسيرها....ربما فقط مجرد تملُك واهي منه... لكن بالحقيقة كانت
غيرة جامحة وغضب مكتوم، امتزجت مع ملامحه الصارمة... برد فعل دون تفكير
سحب يدها منه دون تردد، وكأن مجرد لمستها لغيره كان خطيئة... جذبها، غضبً سارت معه حتى لا تلفت انتباة من بالقاعة... حتى تجنبا فى أحد الجوانب
سحبت يدها من يده بغضب رمشت سريعًا، تبحث عن رد يوازن بين برود الحذر وسخافة الموقف، لكن الكلمات علقت في حلقها، فاكتفت بالقول بهدوء:
إنت إيه اللى جابك هنا... أظن محدش وجه لك دعوة حضور للمعرض.
تسلل الصمت بينهما لحظة، لا يقطعه إلا وقع أنفاسها المتسارعة.
ساد بينهما صمت قصير، لكنه لم يكن صمتًا جافًا؛ بل ذلك النوع الذي يترك مجالًا للأنفاس أن تتلاقى والعيون أن تقول ما تعجز عنه الكلمات... أشار بيده نحو مخرج القاعة مبتسمًا:
ممكن أعزمك على عصير فريش، عارف إنك مش من هواة القهوة.
نظرت له باستهزاء، فماذا يعرف عنها، تحدثت برفض:
لاء وإتفضل امشي من هنا، أنا أساسً معرفش ايه جابك.
رغم غصة قلبه لكن تمسك بالثبات ومد يده بورقة ملفوفه بشكل اسطواني، قائلًا:
الصورة دي لازم تكون بين لوحات المعرض.
غصبً اخذت تلك الورقة فتحتها سُرعان ما تهكمت على نفسها، تلك الصورة ذكرتها بـ جود الحالمة التي دثرتها، عاصفة الخذلان.
بلا تقكير مزقت الورقة، دون حديث تركته وسارت خطوات ثم توقفت تبتسم لذلك الذي يقترب منها مادحً.. بسمتها لذلك السمج مثل اعصار هادر.