رواية لاجلها الفصل الخامس والثلاثون
تحمل في قلبها صخبًا صامتًا،
تتأرجح بين حنينٍ يأبى أن يخبو،
وخوفٍ يتربّص بكل خطوة نحو الغد.
لا تُشبه الضعف، وإن بدت هشة،
صلبة، لكن في أعماقها وهنٌ لا يراه أحد،
وجراحٌ تختبئ خلف ابتسامةٍ رقيقة.
تتوق أن تمنح وتُمنح،
أن تجد في حضن الأيام ما يضمد وجعها،
لكنها ما زالت تخشى الخيبة،
وتهاب أن يخذلها الطريق مرة أخرى.
ومع ذلك، تظل روحها متقدة،
تتشبث بخيطٍ من نور،
وتؤمن أن الغد يحمل لها عزاءً جميلاً،
وربما بدايةً طال انتظارها.
#اعتماد
المراجعة والخاطرة الروعة من المبدعة القمر/ بطوط او سنا الفردوس
الفصل الخامس والثلاثون
رائحة المرأة التي تسللت بين ثنايا أنفاسها، كأن عطر الخزامى قد أحيى روحها بذكريات أيام سعيدة مضت، محفورة في الذاكرة. لكن في داخلها، وفي جزء بعيد وعميق، حزن تجذَّر مع كثرة الأحداث البائسة التي مرت بها حتى أنستها كل ما هو جميل، ليتجدد الآن مع شعور الدفء والحنو في غمرة المرأة ذات القوام الصغير، والتي طبع العمر أثره عليها حتى بدت سمينة بعض الشيء. تجاعيد وجهها قد اتخذت مكانها حتى كادت معالم صورتها القديمة تختفي، لكنها ما زالت تحتفظ بقدر كبير من الشبه مع والدتها الراحلة. ما أجمل العثور على شيء يربطنا بالماضي الجميل.
ـ وحشتيني يا خالتي، وحشتيني قوي قوي.
ـ توّك ما افتكري يا مزيونة؟! هانت عليكي خالتك يا بت؟ هانت عليكي ريحة أمك يا بت؟ تسمعي كلام الواطي... وتقاطعي خالتك بالسنين كده من غير سبب يا بت؟
كانت المرأة تردد وقبضتها على ظهر مزيونة، تلكزها لكزات خفيفة نابعة من عتابها ووجعها على ما فات من سنوات الفرقة بينهما بلا مبرر. أما الأخرى فكانت مقدِّرة، تتقبل منها بصدر رحب.
نزعت نفسها من حضن خالتها الحنون، لتقابل عينيها بعيني المرأة، ووجهها الذي أغرقته الدموع، تخاطبها بحزن شق قلب من كان واقفًا يتابع من خلفهما بصمت:
ـ والله لو عليا، ما كنت جاطعتك يوم واحد. بس أنا كنت تحت حكم القوي، اللي كان مانعني من الهوا حتى ما أتنفسه. يأمر ويتأمَّر على كيفه، وأنا ما ليش غير الطاعة، عشان أربي بتي اللي طلعت بيها من الدنيا يا خالتي.
ـ الله يجازيه بعمله، الله يجازيه... بس إحنا ما حدش فينا عرف إمتى اتطلقتي ولا إمتى اتجوّزتي ال...
وتوقفت المرأة، توجه أبصارها نحو حمزة، ثم أردفت بامتنان:
ـ بس شكلك المرة دي نجيتي صح يا بت، هو ده... هو ده اللي يليق لك يا مزيونة.
تبسمت لإطرائها، تتابع اقتراب زوجها من المرأة كي يتحدث معها بلباقته المعهودة:
ـ والله إنتِ اللي زينة، وكلامك حلو يا خالتي. يا ريتني عرفتك من زمان. سبحان الله، هو النصيب اللي جابني لمزيونة عشان أتعرف بيكي يا بنت الأصول.
انشرحت أسارير المرأة، حتى احتلت محياها ابتسامة ما أروعها. راحت تقارن برأسها الفرق الشاسع بين ذاك القديم المتجهم الجاهل، وهذا الوسيم اللبق الذي يليق بابنة أختها الجميلة الرقيقة، الوردة التي اقتُطفت قبل أوانها، حتى ذبلت وكادت تنتهي، لولا عناية الله الذي قدّر لها الحياة لتربي ابنتها، ثم يأتيها العوض الجميل في الأخير.
وبرد فعل عفوي منها، فتحت له ذراعيها تدعوه:
ـ طب تعالى... تعالى اما أبوسك في خدك. إنت زيك زي ولدي كده. ولا هتستكبر وتقول دي مرة كبيرة وعتخرف؟
ضحك بصخب أثار دهشة زوجته، فاقترب بجرأة نحو المرأة، يميل برأسه حتى يمكّنها من وضع قبلة على وجنته، مرددًا:
ـ والله وإنتِ زيك زي أمي فعلًا.
فضحكت المرأة هي الأخرى بصخب، توجه الحديث لابنة شقيقتها:
ـ والله وطمّنتي قلبي عليكي يا بنت أختي. خلاص... بعد ما شوفت عوض ربنا ليكي، إن شاء الله يتمّمها كمان بالذرية الصالحة.
تجمّدت مزيونة عند الأخيرة، تطالع فرحة زوجها وتضرعه رافعًا يده إلى السماء:
ـ إن شاء الله يا حجة مرزوقة، ادعيلنا من قلبك يقرب البعيد. ده أنا هموت عليها دي والله.
ـ يا حبيبي بعد الشر عليك. ما انتو لسه صغيرين، والعمر قدامكم تخلفوا بالدستة كمان.
ـ ووه دستة مرة واحدة؟! طب قولي تلاتة ولا أربعة. والله ساعتها نبوس إيدينا وش وضهر، وربنا يعينّا على تربيتهم. لا هي بالكترة أياك!
أردف الكلمات بعفويته، فلم ينتبه إلى زوجته إلا مؤخرًا، وقد اعتلت تعابيرها غلالة حزن تكتمه داخلها. فرغم الشوط الكبير الذي قطعه معها طوال الأيام ليستعيد ثقتها بنفسها، إلا أن هناك عقدًا متجذّرة لا يظن حلها إلا بصعوبة شديدة...
وفجأة، دوى صوت فتح الباب ثم دخول أحدهم إلى الشقة، فكان ذلك المصاب برأسه التي ما زالت ملتفة بالرباطات الطبية: حسّان.
والذي وما إن شرعت والدته في مخاطبته للترحيب بالزائرين، حتى فاجأها مناديًا باسم ابنة خالته، فور أن التقطتها أبصاره:
ـ إيه ده؟! مزيونة؟ وعندنا في بيتنا كمان؟
صاح به حمزة من البداية، ينبهه حتى لا يكررها فيضطر لضربه، ويضع نفسه ويضعه في موقف لا يُحسدان عليه:
ـ وجوزها معاها! وزّع بصرك كويس. إحنا جايين ضيوف للحجة النهارده في بيتها يا مستر حسّان.
سمع منه الآخر، ليرمقه بامتعاض وقد تذكّر ضربة الرأس التي ما زالت تؤلمه حتى الآن، فردّ بحنق:
ـ يا أهلا بيكم... أنا ما كنتش واخد بالي صراحة. أصلي افتكرت إن بنت خالتي جاية عندنا لوحدها.
توجّه في الأخيرة نحو مزيونة، فجعل الدماء تسري في عروق الآخر، يضغط على قبضته بصعوبة حتى لا يضربه مرة أخرى. لكنه كان يعلم أنه عليه أن ينسحب بها من هذا المنزل الآن على الفور. فإن تأخر دقيقتين لا يضمن نفسه أمام هذا الاستفزاز المتعمد...
ـ نستأذنِك بقى يا حجة... عشان نمشي. أصل ورانا سفر، ويدوب نلحق طريقنا.
........................
داخل منزل حماد القناوي
اجتمع جميع أفراد الأسرة على طاولة الطعام لتناول وجبة الغداء، تترأسهم حسنية التي وزّعت اهتمامها كعادتها على باقي الأفراد، بالإضافة إلى مشاركتها في الأحاديث الدائرة بين معاذ وشقيقه خليفة في هذا الوقت:
ـ عيال اعمامك من امبارح مصدعيني، لحد دلوك محدش فيهم مصدق اللي عملتوا في عيلة الواد الواطي اللي اسمه محمود في القعدة امبارح... إيه الإبداع ده يا باشا! ده إنت غسلتهم غسل...
ـ يا عم مش للدرجة دي.
ـ مش للدرجة دي كيف بس يا خليفة؟ إنت خليت الرجالة يكلموا نفسهم بعد ما سوّدت وشوشهم قدام كبارات البلد، وبعدها غصب عنهم قبلوا بالتعويض اللي إنت فرضته عليهم!
تدخلت حسنية:
ـ يستاهلوا... عشان رجالة على قلة رجالة، رجالة بالأسم بس. عايزين يتشطروا على البِت الغلبانة وأخواتها، وياكلوا حقهم وكمان يصالحوهم على قليل الأصل! ده بدل ما يقدّروا إنهم ولايا ومالهمش سند. يعني الأولى إنهم يجيبوا لهم حقهم وينصروهم على الغلطان.
ـ الكلام ده للي يفهم بس ياما. الدنيا دلوك ماشية بالعكس: معاك عيلة وفلوس، يبقى اعمل ما بدالك... مدام هتلاقي اللي يلمّ وراك.
عقّب خليفة على قول والدته، فأضافت بحنكتها:
ـ لكن طول ما فيها اللي زيك وزي إخواتك، يبقى ما تشيلش هم... الدنيا بخير.
قابل خليفة إطراءها بامتنان شديد، يطبع قبلة على كفها المجعد:
ـ عشان تربية رجالة... وأم كمان بمية راجل يا ست الكل.
تبسمت له برضا تام، ثم سرعان ما تذكرت ما تود الحديث عنه:
ـ صحيح يا ولدي، بقالي كام يوم عايزة أسألك وملاقياش فرصة... مش ناوي بقى ترد بِت عمك؟ أنا شايفة إنها طوّلت في بيت أبوها، رغم إن الغلط راكبها من ساسها لراسها.
تبدل مزاجه فجأة، حتى ترك اللقمة التي كاد ان يضعها في فمه، ورد باهتمام:
ـ حد منهم فتح معاكي السيرة صح؟
لم تُنكر حسنية وهي توجه أبصارها نحو معاذ وزوجته اللذين التزما الصمت وكأن الأمر لا يعنيهما، تبتغي منهما المساعدة والدعم في إقناعه:
ـ مش عيب يا ولدي لما حد يكلمني؟ الناس باصة على العمار.
ـ عمار مع هالة يا أمه!
هتف بها، يزيح الكرسي الذي كان جالسًا عليه إلى الخلف بعنف، ليندفع واقفًا متابعًا بثورة:
ـ كان من الواجب تفكّر هي الأول في ده. مش أنا اللي أفضل طول الوقت عاصر على نفسي لمونة ومتحمل لاجل العيال، وهي ولا على بالها! تغلط وأنا أمسح وأعدي! ليه؟ مش أنا بني آدم؟ هييجي عليا وقت وأنفجر! كتر التساهل معاها خلاها تزيد... لحد ما بجتش شايفاني راجل أصلًا جدامها!
وتحرك تاركًا المنزل بأكمله، لتنظر في أثره حسنية بذهول عاصف، حتى التفتت نحو ابنها الأصغر وزوجته الصامتة منذ بداية الحديث عن رجوع هالة:
ـ هو ماله خليفة؟ دي أول مرة يقلب القلبة السودة دي! ولدي ما كانش كده واصل!
عقّب معاذ بلهجة حادة لأول مرة تسمعها:
ـ أديك قلتيها بنفسك... إن ولدك ما كانش كده. ده لو جبل ما كانش اتحمل عمايلها. الله يجازيها بقي... هي السبب.
قال الأخيرة وقد التفت نحو زوجته، التي بدا عليها التأييد الكامل لما تفوه به، وكأن بينهما حديثًا مفهومًا لا تعرفه حسنية.
....................
في منزل عائلة هالة
كانت هالة قد اتخذت الطابق الثاني مسكنًا لها، بأمر من والدها الذي زهد منها وملّ، ولم يعد له طاقة على الجدال معها أو حتى رؤيتها وهي تحرق دمه كل مرة يتحدث إليها. فمهما حاول أن يذكرها أو ينصحها لتتعظ مما حدث، يجدها تدافع عن نفسها وكأنها المظلومة التي يتجنى عليها الجميع، ولا أحد يشعر بها.
في هذا الوقت، كانت تتحدث مع إحدى نساء البلدة عبر الهاتف، ويدها الأخرى تمشّط شعر ابنتها الصغيرة التي كانت محجوزة بين قدميها:
ـ اتعدلي يا بِت بدل ما أعدلك! خليني أسرحلك شعرك الزفت ده. والله لو ما اتعدلتي لأطلّع غلبي كله فيكي!
صرختها القوية أزعجت محادثتها عبر الهاتف، حتى عبّرت لها المرأة، لتصيح هالة بها هي الأخرى:
ـ يا سِتي وإنتِ مالك؟ أصرخ ولا ألمّ الدنيا كلها عليّا حتى؟ كملي... قوليلي حصل إيه تاني في الجلسة الزفت دي اللي بتحكي عنها؟ ... إيه؟! وكمان حكموا بتعويض 250 ألف جنيه يعني ربع مليون؟! بقى عرف يمشي كلامه على الرجالة ويجبرهم يدفعوا لها! ليه؟ هو كاسر دراع البرنسيسة؟! ... خلاص يا أم حميد، فهمت، فهمت... اقفلي السكة الله يرضى عنك، أنا على آخري.
وما إن أنهت المكالمة حتى ألقت بالهاتف على الفراش، ثم رفعت ابنتها من على حجرها، تنهض عن التخت الذي كانت جالسة متربعة عليه. أخذت تهتز حول نفسها بحركة عصبية، وكأنها تبحث عن شيء تطوله كي تفرغ فيه غضبها، وهي تغمغم بغيظ:
ـ وه يا خليفة! كل ده يطلع منك؟ بتجمع كبارات البلد وتعمل جلسة عرفية تعادي بيها عيلة بحالها لاجل عيون الست اعتماد؟! أمال لو ناعمة أو فيها ريحة الأنوثة زي باقي الحريم... كنت عملت إيه؟!
ماشي يا خليفة... إنت والست اعتماد... شكلي كنت غفلانة عنكم، لكن أنا دلوك صحيت وفتحت عيوني كويس!
ـ شعري يا ماما، مش هتلفّيلي التوكة الأخيرة؟
جاء صوت صغيرتها لينتشلها من غمرة أفكارها السوداء، فرمتها بنظرة ملتهبة بشرار عينيها، تفزَعها بصيحتها:
ـ ماشي يا ختي، ماشي يا محروسة! ما أنا جاعدة لكم خدامة! وأبوكم الباشا قاعد يتسرمح مع الحريم! يعني أحوش عنه روان عشان تطلعلي المقندلة دي؟ والله عال... فاضياله أنا... فاضياله!
............
داخل منزل اعتماد
كانت اعتماد في هذا الوقت ترتدي إحدى الكنزات بمساعدة شقيقتها الصغرى رغد، بعد أن تحمّمت بحرص حتى لا تؤذي ذراعها الذي ما زال لم يشفَ بعد من الكسور التي ألمّت به.
ـ بس يا ست رغد، كفاية خلاص، لحد كده تعبتك من الصبح معايا.
ردّت عليها رغد وهي تحاول في الكُم الأخير:
ـ تتعبك راحة يا أحلى اعتماد في الدنيا. هو أنا أطول أساعد الباشا وهو بيلبس هدومه؟ دي حتى من أسهل المهمات... يا ريت كل التعب زي كده.
فعقّبت إعتماد علي قولها مبتسمة:
ـ بقيتي بلوة مسيحة يا ست رغد، وأنا اللي كنت فاكرّاكي قطة مغمضة.
ـ ما هي القطة كممان بتفتح يااا أختي... ولا إيه؟ يا أبيض... يا حلو إنت.
قالت الأخيرة بمغزى واضح، عن الفرق الشاسع بين وجه اعتماد الخمري المائل للسمار نتيجة التعرض المباشر للشمس وقلة الإهتمام، وبين ما ظهر من الجزء الأعلى في جسد شقيقتها، حيث برزت بشرتها البيضاء في ذراعيها وكتفيها، حتى جعلت اعتماد تنفجر ضاحكة من قلبها، وترد على جرأتها، فتتبادلان المزاح والمرح... إلى أن توقّف كل ذلك مع دخول شقيقتهن الثالثة روضة بوجه عابس غاضب، والسبب طبعًا معروف.
ـ ممالك يا روضة؟ داخلة علينا زي اللي اددلق منها طبيخها...
وجّهت رغد السؤال بطريقتها المتلعثمة، فجاء رد الأخرى بجفاء، وكأنها تبحث عمّن تصب غضبها به:
ـ نعم يا ست رغد؟ اتريقي عليّا إنت كمان؟ ما هو ده اللي ناقص!
ارتبكت رغد من فظاظتها، تكاد الكلمات تُحبس في حلقها، فتولت اعتماد الرد بدلًا عنها:
ـ في إيه يا بِت؟ هي أختك جالت إيه عشان تهبي فيها كده؟ الهزار العادي بقى في نظرك مقلته؟ ما تجيبي من الآخر وقولي السبب الحقيقي ورا قلبتك العفشة دي علينا.
ليست غبية حتى لا تفهمها. وتفهم السبب الحقيقي خلف هذا العبوس الواضح... لقد عاد هذا الملعون ليلعب برأسها مرة أخرى. وهذا ستتأكد منه بنفسها حين تقرّ بلسانها...
البداية المعروفة طبعًا: مسكنة واضحة لاستجلاب العاطفة.
ـ إنتِ كمان يا خيتي بتيجي عليّا؟ مش حملالي كلمة؟ أنا عارفة من الأول إني ماليش داخله وسطيكم. إنتوا الاتنين إيد واحدة، وأنا الغريبة بينكم، حتى وإن كنت أختكم من دم واحد...
قالت عبارتها بنبرة باكية، محاولة الهروب برد الفعل المعتاد لتثير فيهن شعور الذنب. لكن اعتماد كانت لها بالمرصاد، لتوقفها قبل أن تترك الغرفة، صارخة بها:
ـ اقفي عندك يا بِت! ارجعي هنا! حطي عينك في عيني! إحنا مش هُبَل ولا دقة عصافير عشان ما نفهمش غرضك من التمثيلية الهبلة دي إيه.
التفتت إليهما بوجه محتقن، صدرها يعلو ويهبط بغِلّ لا يخفى على شقيقتها التي تعرفها أكثر من نفسها. هيئتها تلك توحي أن هذه المرة قد شُحنت ضد شقيقاتها بالكامل.
ـ نعم يا خيتي... يا حبيبتي... بتندهيني ليه؟
ضاقت حدقتا اعتماد وهي تتمعن النظر فيها، تستشف الغِلّ الواضح بطريقة ردها، لتثور قائلة:
ـ ما تجيبي من الآخر يا ست البرنسيسة! وقولي إن ريما رجعت لعادتها القديمة... فتحتي التلفون للمحروس ورخيتي ودنك له من تاني! قلبك على إخواتك بإيه المرة دي؟ قالك إن أختك المفترية صلّطت خليفة ولد القناوي، يعمل قعدة عليه وعلى أهله ويفرض عليهم أكتر من ربع مليون جنيه من غير وجه حق؟
قالك إن ذنبه الوحيد إنه عايز يرجّعك إنت وبتك؟ وإن كل اللي حصل ده ظلم؟ وإنك أنتِ أول واحدة جايه عليه بسكوتك على اللي بيتعمل فيه؟
صمتها المخزي كان أكبر دليل على صحة ما تنبأت به اعتماد، لتجأر بها:
ـ ما تنطجي! خرصتي ليه؟ القطة كلت لسانك؟ ولا مكسوفة تقري إن ده فعلًا اللي قاله؟ ما عرفتيش تردي عليه وتوجفيه عند حده؟ تقولي له إنه شرّع في قتل أختك! ولولا عناية ربنا، لكنت من الأموات دلوك!
ـ بس... هو ما كانش قصده! زقّك بس... إنتِ اللي فلّتي من يده، واتكحرتي على النزلة اللي تحت الجسر...
صاحت بها روضة باندفاع، دون أن تقصد، تثبت عليها البيّنة. الأمر الذي جعل الاثنتين تناظرانها بصمت أبلغ من الكلمات. لكن روح العناد داخلها دفعتها إلى محاولة إثبات صحة موقفها:
ـ مالكم بتبصولي كده كأني عملت مصيبة؟ أنا بس سمعت منه وفهمت... يعني مش حاجة عيب ولا حرام! ده لساته جوزي وأنا على ذمته.
تدخلت رغد، وقد استفزها دفاع روضة المستميت عن المخطئ في حق شقيقتها:
ـ حتى لو ككان مش قصده فعلاً ياروضة، برضه لازم يتعاقب! عشان يعرف إن الله حق وما يكرّرهاش تاني. ططب لو ـ لا قدر الله ـ أختك كانت راحت فيها؟ كان هيقول برضه "مش قصدي"؟ ولا إنتِ كنتي هتقبليها؟
رغم تلعثمها في الحديث، إلا أن كلماتها أصابت هدفها بدقة، لتشعر روضة بالحرج الشديد... فصاحت بها معنّفة:
حد طلب منك إنتِ كمان تدخلي؟ هي شايلة ومعبّية عشان اللي حصل لها، إنما إنتِ إيه يخصّك؟ بتحشري نفسك في اللي ما لكِش فيه ليه؟
لم تنتظر رغد منها كلمة أخرى حتى لا تزيد في تجريحها بالحديث، فطريقتها المتلعثمة لن تمكّنها من الرد جيدًا، وربما تتسبب في السخرية منها كما يحدث دائمًا معها في المواقف اليومية.
سحبت قدميها وغادرت الغرفة على الفور، فاشتعل غضب اعتماد لتتصدى لتلك المشحونة على أخواتها:
ـ عاجبك اللي عملتيه ده يا زفت الطين؟ بتيجي على أختك الغلبانة، اللي بتجمع الكلمتين بالعافية! قصدك تقللي منها عشان عارفاها مش هترد عليكي؟ كل ده عشان مين؟ عشان المحروس اللي بيبيع ويشتري فيكي، وعمره ما نصَفِك مرة واحدة حتى!
ـ لكنه برضه في الآخر اسمه جوزي وأبو بتي، واللي مسيري هرجع له... بعد ما يسدّدلك الربع مليون اللي أخدتيهم عليه شرط هو وناسه، أنتِ والمحروس اللي اسمه خليفة. ولا همّك ظروفه، ولا همّ كانوا هيتصرّفوا إزاي فيهم؟ لكن ربنا موجود.
ـ فعلاً... ربنا موجود.
ردّت اعتماد من خلفها بخيبة أمل متوقعة منها، ويأس من إصلاحها. تناولت حقيبتها بيدها السليمة ورفعتها على كتفها، ثم تحرّكت لتغادر هي أيضًا، لكن روضة لم تدعها تمضي دون أن تذكرها بما تحاول دائمًا نسيانه:
ـ الغلبانة اللي إنتِ بتقولي عليها دي... مسيرها تتجوز. رغم العيب اللي فيها لكنها مرغوبة، زي ما إنتِ شايفة من العرسان اللي رايحة جاية تطلبها. بكرة بقى لما تلاقيها عايشة ومتهننة... ساعتها بس هتفتكري إنها كانت السبب في طلاقك.
تجمّدت اعتماد في مكانها، أغمضت عينيها بألم شديد، بعدما غرست بحماقتها السكين في قلب جرحها. وما أصعب أن يأتيك الجرح من أقرب ما لك! لكنها سرعان ما تمالكت بأسها، ثم واجهتها بقوة:
ـ عمري... عمري يا روضة ما هندم إني اتخلّيت عن حياتي عشان أحمي أختي، حتى لو هي اتجوزت وعاشت حياتها واتهنّت وشافت الحلو كله اللي أنا ما شفتوش. يكفيني إني أوصلها للمرحلة دي، وما آخدش حسرتها لو كان حصل لها حاجة لا قدّر الله.
توقفت برهة تلتقط أنفاسها، ثم واصلت بنبرة موبّخة:
ـ برضه على الأقل هي ملهاش ذنب في كل اللي جرى معايا. إنما إنتِ... زقّيتيني المر من كيعاني، مع إنك كبيرة وعاقلة وفاهمة. يبجى مين الأحق إني أشيل همّه؟ هي ولا إنتِ؟
......
عاد عرفان من الخارج، ليجد باب شقّة مزيونة سابقاً مَفتوحًا على مِصراعيه، والتي يتخذها حاليًا مسكنًا له. كان أولاده يمرحون داخلها، وصوت جلبة يأتي من الداخل أنبأه بوجود زوجته أيضًا.
خطا بأقدامه حتى وصل إلى غرفة النوم، فوجدها تضع اللمسات الأخيرة، ترش المعطّر بعد أن انتهت من تنظيفها وتلميعها جيدًا.
التفتت إليه تخاطبه بسعادة:
ـ إنت جيت يا عرفان؟ حمد الله على سلامتك. بص بقى يا سيدي، زي ما إنت شايف أنا خلصت كل حاجة: غسلت الهدوم وكويتها وعطّرتها زي ما عطّرت الشقّة اللي نضفتها ولمّعتها. حتي طُلّ بعينك على باقي الأوض، وانت تعرف بنفسك.
جلس على طرف الفراش، يعقّب ساخرًا:
ـ مصدّقك... مش محتاج أطل ولا أتعب نفسي، أنا أصلًا جاي مهدود حيلي. على العموم، تشكري يا ستي.
ـ تشكرني كده حاف!
تمتمت بها، ثم اقتربت تجلس بجواره على الفراش، مرقّقة من لهجتها وكأنها تنتهج نهجًا جديدًا في التعامل معه بعد تلك الفترة العصيبة الماضية:
ـ أنا مش بقولك كده عشان تشكرني أو تقدرني، أنا بقول لك إني بعمل كده عشان أرضيك. رغم إن ربنا العالم إن الشقّة دي تقيلة على قلبي زي الحجر، وأنا شامّة ريحتها في كل ركن فيها. لكن كله علشانك يهون، ويكفي إنها غارت عشان نبص لنفسنا بقى.
فهم مغزى ما تقصده، فتبسّم بخبث معلّقًا:
ـ قصدك يعني بجوازها من واحد تاني غيري إن الحكاية خلصت، ومدام مفيش أمل في رجوعها ليا تاني، يبقى أبص للي في يدي، ونرجع أنا وإنتِ سمنة على عسل من تاني.
أومأت تهز رأسها بلهفة وحماس اعتلى ملامحها، تنتظر استجابة منه ما دامت قد قدّمت له بالسبت وطلبتها صراحة، رغم كل ما حدث وفعله بها من تجنٍّ وإهانات وضرب مبرّح على أبسط الأسباب.
أما هو فقد زمّ شفتيه، وضاقت عيناه، وبأطراف أصابعه أخذ يشدّ شعيرات شاربه الكثيفة، متصنّعًا تفكيرًا متعمّقًا وهو ينظر إليها بصمت زاد من حيرتها. فلِمَ هذا التفكير أصلًا؟
قطع الصمت أخيرًا بقوله:
ـ بصراحة... كلامك معقول. ومدام خلاص الموضوع خلص، يبقى زي ما هي شافت نفسها أنا كمان أشوف نفسي. ومنها كمان أردّ كرامتي.
التقطت الكلمة لتشدّد عليها بلهفة:
ـ أيوه يا عرفان، أيوه! عشان تثبت لها وتثبت للناس كلها إنها غارت في داهية وما عادش تهمك، وإنك خلاص اكتفيت باللي معاك: مرتك الأصيلة وعيالك اللي يشرحوا القلب.
هزّ رأسه بنفي غير مفهوم يعارضها:
ـ لا يا صفا... مش هو ده اللي هيرد كرامتي. اللي يرد كرامتي لازم يبقى حاجة كبيرة والناس كلها تشهد عليها. إنما جوازي منك مين شايفه أصلًا؟
ـ قصدك إيه!
سألته بعدم تصديق، فجاءها الرد على الفور:
ـ قصدي أتجوز تاني... واحدة أصغر وأحلى منها ومنك. بنت بنوت، ويا ريت كمان لو تبقى في عمر ليلى بتي. يا سلام! أهي دي تبقى الضربة الصح.
شهقة عالية خرجت من حلقها، ضربت بكف يدها على صدرها، تصيح به:
ـ يا مُري! إيه اللي إنت بتقوله ده يا عرفان؟ أنت واعي لكلامك ده، ولا عامل نفسك بتهزر؟
ـ ولا عامل نفسي بهزر ولا حاجة.
ردّدها ساخرًا، ثم تابع بما زاد قهرها:
ـ لا يا ستي، ما بهزرش. من النهارده هدور على بنت البنوت اللي تليق بواحد زيي. معايا فلوس تسد عين الشمس، والصحة اللهم بارك مش محتاجة أقولك عليها أصلاً.
صرخت ردًّا على ما تعتبره هذيانًا:
ـ والله ما يحصل، ولو على موتي! ليه هي سايبة؟ ده أنا ما قبلتش بيها وهي الضرّة اللي سبقاني، هرضي إنك تجيبها عليّا؟! ده أنا كنت...
ـ هتعملي عمل المرّة دي وتوقفي حالي بالربط؟ ولا تجيبيلها مرض بالشلل؟
قاطعها بحدّة، وقد احمرّت عيناه متوعّدًا:
ـ يعني مش بعيد أسيّح دمك زي الدبيحة تحت رجل الدجّال اللي هتروحي له. بعد طبعًا ما أرمي اليمين عليكي. أنا مش هسيبك تغوري وإنتِ على ذمتي...
توقفت أمامه بعجز، لا هي قادرة على صدّه ولا ردعه بما يستحق. بعد أن بالغ في إذلالها وإهانتها، ها هو الآن ينزع عنها جميع أسلحتها، يتمادى في ظلمه وتهديده بالزواج من أخرى.
فلم تشعر بالكلمات وهي تنساب من بين شفتيها حتى تسببت في ضحكه دون أن تدري:
ـ ربنا هيحاسبك على ظلمك... خليك فاكر، الظلم ظلمات في الآخرة.
قهقه ضاحكًا وهو يضرب كفًّا بكف، مردّدًا خلفها:
ـ دلوك بقى ظلم لما جه عليكي؟ إنما الأول لما كان على كيفك كان آخر حلاوة! أما عجايب دي يا ولاد....
......................
وصلت إلى الصيدلية الأقرب إليها في وسط البلدة التي تعج بالحياة والصخب من البشر والمراكز الحيوية كالمنشآت الحكومية أو المحلات بمختلف أنواعها، لتلبية احتياجات أهل البلدة.
دفعت الباب الزجاجي الثقيل لتلج إلى داخلها، موجِّهة أبصارها نحو الفتاة التي كانت منكفئة على جهاز الحاسوب أمامها، تلقي إليها التحيّة كي تلفت انتباهها:
ـ مساء الخير يا دكتورة شيمو.
رفعت الفتاة أبصارها إليها تضحك وهي تبادلها التحية بمصافحة:
ـ ما حدش بيناديني بأسم الدلع ده غيرك، دكتور وشيمو مع بعض... بحب الميكس بتاعك.
تبسمت إليها اعتماد، تبادلها المزاح:
ـ ما أنا خايفة أندهلك باسمك حاف، أبخس حقك بعد سنين التعب اللي تعبتيها على ما وصلتي للقب العزيز. وفي نفس الوقت مش مقتنعة... يعني واحدة بحجمك الصغنن ده ما يتقلهاش غير شيمو.
قهقهت الفتاة بصوتها الرفيع الذي يثير تسلية اعتماد في كل مرة تأتي إليها وتتحدث معها، ومع ذلك فالفتاة أبدًا لا ترفع التكليف:
ـ الألقاب مع كل الناس يا أبلة اعتماد... إلا إنتِ. وحدك بس اللي يحقلك تقولي "شيمو مشمش" اللي أنتِ تحبيه. تأمري أمر.
ردت اعتماد بامتنان شديد للفتاة المتواضعة:
ـ حبيبتي، الأمر لله. كنت عايزة بس أعيد العلاج ده... أصله ناقص مني زي ما إنتِ عارفة، ولسه المدة مطوّلة على ما أفك التجبيرة.
رحبت الفتاة وهي تتناول منها الورقة المدون بها أسماء العلاج، تخاطبها بدعم:
ـ ألف سلامة على الجميل المكسر، إن شاء الله يا رب يكون قريب. الكسر يلم وتخفي. أنا هشوف المتوفر دلوقتي، واللي مش موجود هقول لك عليه.
ابتعدت عنها تدور على أرفف الأدوية كي تجد ما تحتاجه. فوقعت أبصار اعتماد دون أن تدري على يدها التي كانت تتلاعب بها على اللوح الزجاجي أثناء انتظار الطبيبة، فتذكرت ما نوهت عنه شقيقتها الصغرى وهي تبدل لها ملابسها. ولأول مرة منذ فترة طويلة شردت بذاك الجزء الأنثوي... الاهتمام بمظهرها وبشرتها. ألهذه الدرجة بات الفرق واضحًا؟
وضعت فجأة عبوات الأدوية التي جاءت لطلبها على اللوح الزجاجي أمامها لتنتبه إلى الطبيبة وهي تحدّثها عن المواعيد وأسعارها، فتجاهلت كل ما كانت تهذي به الطبيبة لتسألها باهتمام، رافعة ظهر كفها أمام وجهها:
ـ شايفة قدامك الفرق بين الاتنين؟ الفرق ما بينهم واضح قوي ولا عادي وطبيعي؟
تبسمت الفتاة التي تركت أمر الأدوية لتجيبها بوضوح:
ـ بصراحة الفرق واضح جدًا، البشرة اسمرت يجي أربع أو خمس درجات عن الإيد، وده أكيد بفعل الشمس.
ـ أربع خمس درجات!
رددت اعتماد بما يشبه الصدمة، تدافع مبررة:
ـ وافرَضي سبع درجات حتى، ماله يعني؟ أنا نفسي بحب السمار، هو السمار عيب؟
عارضتها الطبيبة بلطف:
ـ لا يا حبيبتي طبعًا، ده السمار عليكي أحلى من البياض. بس إحنا بنتكلم عن الاهتمام. البشرة لازم لها حماية من أضرار الشمس المؤذية، واللي منها مثلًا إنها ممكن تعجز بدري وتظهر عليها التجاعيد. طب ليه وإحنا في إيدنا نحميها بحاجات زي الكريمات؟ حتى لو في أنواع غالية منها، برضه الغالي تمنه فيه.
عبست اعتماد عند الأخيرة، تردد برفض:
ـ وأنا مالي يا أختي بالغالي؟ هي خلاص المسؤوليات اللي عليا خلصت؟ عشان أخصص فلوسي للكريمات والدلع الفاضي ده؟ ده شغل شركات التجميل الفاضية، عايزة تكسب فلوس على قفا الستات الهايفة وخلاص.
دب الحماس في قلب فتاة الصيدلة، فهتفت بدفاعية:
ـ ما شاء الله يا أبلة اعتماد! إحنا هايفين؟ بس المنتجات الهايفة دي اللي بتخلي الستات منوّرة زي البدر. أنا هجيب لك الكريم بتاعي تجربيه كام يوم، وإنتِ تشوفي الفرق بنفسك. ثواني... الشنطة قاعدة في المخزن جوه، هروح أجيبه وارجع لك هوا...
زفرت اعتماد في إثرها بضيق وحرج، لكن سرعان ما انشغلت مرة أخرى في تلك المعضلة التي ظهرت فجأة لها اليوم.
وبدون تفكير، وجدت نفسها تسند الهاتف على مجموعة الأدوية، لتفتح الكاميرا أمامها، ثم رفعت كفها السليمة بجوار وجهها مرة أخرى لترى فرق الدرجات الذي نوهت عنه الطبيبة وشقيقتها قبلها. تحدث نفسها غير منتبهة لمن دلف خلفها من الباب الزجاجي وتوقف يشاهد الوجه الجديد لأبلة اعتماد الطفلة:
ـ يا لهوي عليا... دول فعلًا مكدبوش. طول الفترة دي وأنا ببص في المراية وبظبط التحجيبة من غير ما أخد بالي بالتغييرات اللي حصلت على بشرتي دي؟ يا ترى فيه تجاعيد كمان ولا لأ؟
أثناء تأملها الشديد، انتبهت لظل رجل من الخلف، فالتفتت إليه بإجفال. فكانت الصدمة حين وجدته أمامها يتبسم بملء فمه:
ـ آسف لو قاطعتك عن تركيزك.
أطرقت بخجل شديد، تلعن حظها الذي جعلها تتغافل في تلك الساعة لتتصرف بتلك الحماقة أمامه. فخرج صوتها بصعوبة وبدون تركيز:
ـ لا... ما تشغلش نفسك يعني... آآآ... أنا بس كنت بدوّر على حباية في وشي وبصراحة مش عارفة مكانها فين؟
ـ مش عارفة مكانها فين؟
ردد خلفها، يكتم الضحكة بصعوبة حتى لا يزيد من حرجها. فتغاضى، على غير إرادته، بترك هذا الحديث المسلي معها والتحول إلى الجدية مردفًا:
ـ ماشي يا ستي. على العموم، أنا دخلت هنا بالصدفة، ولما شوفتك قلت بالمرة أسلم عليك وأسألك عن دراعك. عامل إيه دلوك؟ لسه حاسة بألم؟
نفت سريعًا بهز رأسها:
ـ لااا، الحمد لله، أنا تحسنت كتير قوي عن الأول. صحيح... أنا كان نفسي أتصل بك وأبلغك شكري على اللي عملته امبارح في جلسة كبار البلد مع محمود وعيلته. ده جميل لا يمكن أنساه أبدًا، من ضمن الجَمايل الكتير منك.
عارضها بنبرة دافئة:
ـ ولا جمايل ولا أي حاجة. ده شيء عادي خالص على فكرة. أنا عملت اللي يعمله أي راجل حر. وصاحبك ملزوم هو وعيلته دول إنه ينفذ بعد ما كسفتهم قدام الناس اللي تفهم. ما عادش ليهم عين يرفعوها عشان يجادلوا أو يستنطعوا.
ـ فعلًا هم كانوا عايزين نوقف لهم، بس إنت اللي عملته مش أي راجل يعمله، عشان كده ما تقوليش ما فيش جميل.
ـ خلاص، اضربيها في التليفونين ونبجى خالصين.
قالها بابتسامة رائقة جعلتها تبادله إياها على حرج، حتى قطعت عليهما اللحظة الجميلة هتاف شيماء، طبيبة الصيدلية:
ـ لقيت الكريم أهو، عشان ما يبقالكيش حجة تاني. هتاخديه يعني هتاخديه.
علّق خليفة من جانبه بلهجة أثارت فضول الفتاة، التي توقفت عن الهتاف فور أن انتبهت إليه:
ـ هو إيه اللي "هتاخديه يعني هتاخديه"؟! إنتِ بتوزّعي الكريمات عافية يا شيماء؟
تلجلجت الفتاة بارتباك:
ـ لا أصل يعني... دي حاجة كده لترطيب البشرة.
وبرد فعل عفوي سمعه منها، فالتفت خليفة نحو اعتماد التي تناولت العبوة سريعًا، وضعتها في الكيس البلاستيكي مع العلاج، ثم استأذنت قبل أن تعطيه الفرصة ليستفسر:
ـ عن إذنكم.
وهرولت سريعًا من أمامه غير عابئة حتى بذراعها الملفوفة بالضمادات، فتبعها بعينيه غير داري بالابتسامة التي ارتسمت على محيّاه، وهو يراقبها تعدو الشارع بخفة وأناقة، وكأن الرزانة والعقل قد خُلقا لها وحدها.
.....................
داخل السيارة التي كانت تقلهما في طريق العودة إلى البلدة، إلى العالم الواقعي بعد أيام من السحر والجمال قضياها معًا، تطورت العلاقة بينهما وتكسّرت حواجز، وربما تم القضاء فيها على الكثير من العقد... ولكن تبقى أيضًا الكثير.
كما يرى أمامه الآن وهو يقود بفكر منشغل بتلك التي كانت جالسة بجواره، ناظرة إلى الخارج من نافذة السيارة بعقل شارد. يعلم أن جزءًا كبيرًا منها قد احتلته الهواجس القديمة عن الإنجاب والأطفال. فكيف يجد الحل لتلك المعضلة؟ لا يعلم... ليس أمامه إلا الصبر.
تنهد وفتح حديثًا معها حتى يعيدها إليه ولو قليلًا:
ـ خالتك طيبة قوي، واللي يشوفها يعرف إن في صلة تجمع ما بينكم. رغم إن الشبه مختلف شوية، بس يمكن... يمكن عشان روحها حلوة وطيبة زيك. عكس ولدها الحمار...
سمعت الأخيرة، فضحكت من قلبها بصوت عالٍ. فزوجها ذو العقل الصغير ما زال يكن الضغينة لهذا المسكين بعد أن ضربه وخلف في رأسه إصابة:
ـ حمزة، إنت عقلك صغير بجد؟! لحد دلوك دمك ما بردش من حسان؟ ولا هديت حتى بعد ما ضربته؟
انفعل يرد عليها:
ـ ويعني هو بيتوب؟! أديكي شفتي بنفسك النهارده، كان هيخليني أسوي جريمة وأنا في بيتهم. مجرد ما دخل حرق دمي. الله يجازيه، عنده موهبة غريبة في استفزاز الناس. يلا بقى... خلينا في اللي إحنا فيه.
سألته باستفهام:
ـ وهو إيه اللي إحنا فيه؟
أجابها بحماس:
ـ رجوعنا البلد يا روحي. أوعى تفتكري إن أيام العسل خلاص خلصت وانتهت. لا، أنا لا يمكن أعديها من غير ما أكررها حتى كل كام يوم. بس المرة دي الواد هيبجى معانا عزول.
تنهد في الأخيرة، فالتقطت منه توبيخًا حانقًا على الكلمة التي تلفظ بها:
ـ ما تقولش كده يا حمزة. ريان ده ابني، يعني مش حد غريب عليك عشان تقول الكلمة دي. ده عوض ربنا عليا، عشان يبقى معايا الواد والبت نعمة ورضا.
رغم ارتياحه لقولها هذا الذي شرح قلبه من الداخل وجعل سعادته تكتمل تقريبًا بها، إلا أن ذلك الجزء الذي يتمناه لن يتخلى عنه أبدًا. لذلك لا مانع من التلميح:
ـ حبيبتي ونِعِم بالله، ده بالظبط شعوري ناحية ليلى برضه. زي ما كرّمني بالواد كرّمني بالبت. بس كمان العيل اللي هياجي مني ومنك، ده هيبقى له وضع تاني ومكانة خاصة في قلبي. آه يا مزيونة... لو يحصل، ادعي معايا وقولي آمين.
لم ترد ببنت شفة، وظلت فقط تطالعه بجمود. فعاد يشدد عليها مرة أخرى:
ـ ما تدعي معايا يا مزيونة، وقولي آمين...
ـ كريييم!
قالتها تواصل بحدة:
ـ ربنا كريم ينولك اللي إنت بتتمناه.
وصمتت، تلتفت ناظرة إلى الخارج عبر نافذة السيارة من جوارها. ليتمتم خلفها بمرح:
ـ الله... كريم وآمين. يا رب ارزقني بتوأم وأسميهم بنفس الاسمين.
عادت تلتفت إليه برأسها بذهول شديد، غير مستوعبة ما يتحدث به. فهل تتركه مع أحلامه؟
أما هو، فقد صمّم أن يأخذ الأمر بجدية:
ـ والله لا يحصل، إن شاء الله هيحصل.