رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس والثلاثون 36 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل السادس والثلاثون


بعد أن أحصت سارة الأيام القليلة المتبقية من رزنامة عمرها، أيامًا لا تُقاس بالوقت بل بنبض القلب، قررت—لأول مرة منذ زمن—أن تحتال على الموت بابتسامة...
فكّرت أن العام القادم، إن قُدّر لها أن تبلغه، يجب ألا يبدأ وحده.

مدّت إصبعها الصغير كأنها تمد حبلاً خفيًا عبر الزمن، وقالت بهمسٍ طفولي لا يخلو من التحدي:

**"اتفقنا."**

كان أحمد ينظر إليها بدهشة لا تشبه دهشة العاشق، بل أقرب لدهشة رجل نجا من حادث لكنه لم يدرك بعد أن الحياة منحتْه فرصة جديدة.

أما مارينا، فكانت تمسح الهواء حول أحمد كأنها تمحو آثار سارة، وتموء باسمه وكأنها تحاول استعادته بنبرة لا تحمل سوى الغيرة:

**"أحمد..."**

لكنه لم يلتفت. لم يكن لها، ولم يكن لنفسه. كان لذكرىٍ قديمة تسكن إصبع سارة.

وببطء... كمن يوقّع ميثاقًا غير قابل للنقض، مدّ إصبعه، وشبكه بإصبعها:

**"لا تراجع."**

هكذا، وببساطة ساحقة، توصّلا إلى اتفاق.

سيبقى معها شهرًا... شهرًا فقط، لكنها كانت تراه أكثر من كل الأعوام التي مضت.

كان هذا هو الحل الوحيد الذي استطاعت سارة ابتكاره... مخرجًا ضيّقًا من متاهة الحب والألم.
أن تمنحه حريته بعد أن يُعيد إليها طيف الأمان، ولو مؤقتًا.

جاء صوت مارينا من الخلف، مشدودًا ومُتلبّسًا بالاستعطاف:

**"أحمد، لا أطلب الطلاق فورًا... فقط، فكّر في طفلينا..."

**
طفلينا...

الكلمة كانت كالضربة، وقعت في معدة سارة لا في أذنها.
نظرت إلى مارينا، تلك المرأة التي اعتادت اللعب بنار الدلال والشكوى.
همست لنفسها:

**"سأذهب إلى الحمام."**

كانت تهرب... لكنها تهرب بكرامة.
فأحمد، بكل ما يملكه من سحر، لم يكن بارعًا في اختيار من يُبقيهم إلى جواره.
مارينا لم تكن فقط جارته... بل كانت مرآةً لعماه العاطفي.

وفي الطريق إلى الحمام، تساءلت سارة:
**"أمِن الممكن أن يكون ضحية هذا النوع من السلوك؟
الرجال لا يرفضون امرأةً مشاغبة، أليس كذلك؟"**

تذكّرت كيف كانت في السابق تخجل وتغازله بخفة،
وكيف كان—كل مرة—يُمسك القمر بيد، والنجوم بالأخرى، ويهديها لها دون تردد.

شهر واحد...

نعم، منحها شهرًا... لكنها كانت تعلم أن فيه يُمكنها أن تعيد صياغة التاريخ.

دخلت الحمّام، وجلست القرفصاء كمن يودع جسده، لا فقط الطعام الذي في جوفه.
ثم...

**تقيأت وجعها.**

ظنّت أن معدتها قد هدأت... لكنها كانت واهمة.
وكان الدم هو الشاهد.

بقعة حمراء، طازجة، صريحة...
كأن الحياة وضعت توقيعها الأخير على ورقة الخروج من الجسد.

ارتجف قلبها.
شعرت ببردٍ يتسلّل إلى نخاعها، لا يُشبه برد الشتاء بل يشبه أنفاس النهاية.

**"لا بأس..."**
قالتها في صمتٍ جاف، وأجبرت نفسها على النهوض، كأنها تُصالح الحزن وتُوقّع معه معاهدة استسلام.

لكن، وقبل

أن تصل إلى الباب، شعرت بشيءٍ يشدّ طرف معطفها.
نظرت إلى أسفل...

طفل صغير، لا يتجاوز بضع سنوات، يُشبه أحمد كأنّه نسخته المصغّرة،
كان يقف هناك، يمسك بحافة المعطف بيدٍ صغيرة، والأخرى تستند على الحوض.
لعابه يسيل ببراءة، يتمتم بكلمات غير مفهومة...
لكن بينها، نطق بكلمة كادت تهدم جدارها:

**"ماما..."**

تجمّدت.

كان من المفترض أن تكرهه... فهو ثمرة حبٍ آخر، من امرأةٍ لا تشبهها في شيء.

لكنه كان طفلًا...
وكان قلبها، رغم الألم، لا يزال قلب أم.

وللحظة، شعرت سارة وكأن الكون كلّه أُعيد ترتيبه،
كأن ملامح طفلتها التي رحلت استعارت هذا الجسد لتُربّت على قلبها قبل أن تغيب تمامًا.

نزلت سارة ببطء، كأن شيئًا هشًّا في قلبها يُوشك أن ينكسر إن أسرعت، ثم مالت تُلامس بطرف إصبعها أنف الصغير برقةٍ شقية، وهمست بلهجة تمزج الحنان بالسخرية:

**"أيها المشاغب الصغير... إيّاك أن تُشبه والدك حين تكبر. من الأفضل أن تمنح المرأة التي تحبّها العالم بأسره، وتُقدّس الأرض التي تمشي فوقها."**

كادت الكلمة أن تُكمل جملتها، لولا أن الطفل، وقد لمع بريق الضحكة في عينيه، مدّ ذراعيه نحوها بعفوية مدهشة، وقال بصوتٍ نقيّ:

**"احمليني!"**

تراجعت سارة قليلاً، وعبست محاولةً أن تبدو مخيفة:

**"أنا امرأة شريرة، هل علمت؟ قد أختطفك وأبيعك! ألا ترتعد من الخوف؟"**

لكن الصغير

لم يخشَ شيئًا... ضحك كما لو أن قلبه لا يعرف سوى النقاء. وكأنّ العالم ما زال عنده مكانًا آمِنًا يُشبه صدر الأم.
وفي لمح البصر، اندفعت مربيته نحوه بعربة الأطفال، وجهها متوتر كأنها تطارد لحظة فرّت من قانون النظام، وقالت بصوت لاهث:

**"يا إلهي! لقد أفزعتني! ما الذي أتى بك إلى حمّام السيّدات؟"**

ثم... ما إن وقعت عيناها على سارة، حتى تحوّلت ملامحها إلى ما يُشبه الذنب، وسحبت الصبي بسرعة كأنها تُعيد ملكًا إلى قصره. ظلّ كونور يضحك للحظة، ثم انعكس الضوء في عينيه إلى ألمٍ خافت، وقال بصوت مخنوق:

**"ماما... احمليني!"**

شهقت المربية، ومالت عليه تُصحّح الأمر كمن يخشى من وهمٍ يتشكّل أمامه:

**"أيها السيّد الصغير... لا تُنادِها بذلك. إنها ليست والدتك."**

ثم حملته، وركضت به كما لو أنها تُبعده عن شيءٍ غامض، شيءٍ أكبر من قدرتها على الشرح.

أما سارة... فوقفت هناك، تتبع بعينيها ملامح الطفل الذي بدا كنسخة مصغّرة من ماضٍ خذلها.
**يده الصغيرة كانت لا تزال تلوّح لها، وكأنها آخر خيط يربطها بالحبّ الذي لم يكتمل.
صوته يهمس، متهدّجًا، بلحنٍ داخلي مألوف: "أنتِ كل شيء... يا أمي."**

وفي تلك اللحظة، شعرت سارة وكأن قلبها يُنتزع من بين ضلوعها، لا صرخة، لا صوت، فقط دموع تسيل في صمتٍ يُشبه الانقراض.

عند باب الحمام، وقفت كتمثال من رخامٍ بارد.
كانت

ملامحها شاحبة، عيناها مُطفأتين كأن النار التي كانت فيهما انطفأت للأبد.
وعندما وجدها برنت، لم يتكلّم...

كان وجهها يتحدث نيابةً عنها.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1