رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الثامن والثلاثون
**"حسنًا."**
جاء ردّه أخيرًا، مبللًا بالاستسلام، كأنّه غصنٌ خائر في مهبّ عاصفة.
لأول مرة منذ أكثر من عام، خفّ التوتر بينهما، واستسلم كلاهما للهدنة... تلك الهدنة الهشّة، التي لا تحمل نصرًا ولا هزيمة، بل شيئًا غامضًا بينهما... يشبه الحب حين يتنكّر في هيئة التعب.
لم تنبس سارة ببنت شفة، لكنها التفتت حوله كأنها تعانق ذكرى... ليس هو، بل الرجل الذي كانه ذات يوم.
لم يتحرك أحمد كثيرًا. فقط إصبعه ارتجف، كأنه يهمس بشيء لم يُقال، ثم هدأ واستقر على جانب جسده، كأن لا قوة تبقّت.
تحركت السيارة في هدوء، تسير كأنها تشقّ طريقها داخل حلمٍ مبلل بالشتاء.
طلب أحمد من كيلفن، بصوته الآلي، أن يُوصل السيدة إلى المنزل. لم يُضِف حرفًا.
لكنه لم يعلم أن المنزل الذي اختارته روح سارة لم يكن منزله.
بل اختارت أن تعود إلى آخر من بقي لها... إلى والدها، الممدد هناك، لا يعي شيئًا، لا يُبصر سوى عتمته.
وصلت إلى المستشفى، وكان جيف قد نُقل إلى جناحٍ عادي، فقد فقدت حالته طابع الخطر، لكن بقي الغياب ذاته، الغياب الصارخ.
لم تُرسل أحدًا مكانها. هذه المرة، أرادت أن تفعل كل شيء بنفسها.
سارة... تلك التي كانت تُخاطب المرايا أكثر مما تُخاطب العالم، أمسكت بوعاء ماء دافئ بيديها الهشّتين، ومضت.
بللت قطعة قماش صغيرة وبدأت تمسح بها وجهه ببطء.
الأب الذي لم
يكن له منافس في قلبها... الآن وجهه شاحب كضوء القمر، وصمته يصرخ.
همست وكأنها تخشى أن توقظ ذنوبه:
**"أبي... عرفت سرك. كم تمنيت أن أكون مخطئة، أن تنهض وتقول لي إنني ضللت الطريق... أن تبتسم لي وتقول إن جودي ما زالت حيّة، وإنك لم تترك خلفك نساءً مثقلات بالحطام."**
كانت تتمتم، والدمع يسرق الدفء من عينيها:
**"أبي... أنا أُصارع سرطان المعدة. أحمد لا يعلم، ولن يعلم. هذا أفضل له.
لو قدّمت له حياتي قربانًا... هل سيتخلى عن كراهيته؟ هل سيغفر؟"**
كانت تتنفس وكأن كل كلمة تُخرجها تُسقط من عمرها أيامًا:
**"لقد اعتنيتَ بي كأجمل ما يكون. مهما كان ماضيك قاتمًا... سأراك دومًا كأبي. لن أنكر حنانك. لكني سأُحاول إصلاح ما انكسر على يديك... ربما تُخفف عنك الغيبوبة عبئها حين أفعل."**
صمتت لحظة، ثم رفعت عينيها إلى سقف الغرفة، كأنها تخاطب شيئًا أسمى:
**"أعلم أنّك لم تكن لتسمح لي بأن أُحِبّه لو كنت حاضرًا، لكن... ما جدوى الإنكار؟
لقد وقعتُ في حبّه منذ ثماني سنوات.
ولا يهم إن بقي لي شهرٌ واحد فقط.
أنا مستعدّة أن أحترق معه... أن أُتمّ رحلتي على حافة قلبه، ثم أختفي."**
غرقت سارة في أفكارها كمن يسير حافيًا على زجاج الذكريات،
جلست بجانب سرير والدها، تُحدثه دون وعي، تنفّس عن غضبها، ضعفها، ارتباكها.
كانت تعلم أن أيامها تُشبه شمعةً في غرفة مُغلقة...
تتآكل في صمت.
وكل ما تبقّى لها، أن تترك شيئًا طيبًا خلفها.
أن تغفر ما استطاعت... وتُحِبّ، رغم كل شيء.
عادت سارة إلى منزل أحمد بعد الظهيرة، وكان الشتاء قد بدأ يُلقي بظلاله الثقيلة على المدينة، كأن العالم يتحضّر لنومٍ طويل.
رغم تعبها، كانت خطواتها واثقة... تعرف أنها عائدة إلى بيت ليس بيتها، لكنها كانت تحمل بداخله آخر ما تبقى من ضوء.
كان أحمد رجلاً لا يُجيد التراجع، كلماته ليست جسرًا يُبنى من رمل، بل وعدٌ محفورٌ في صخر.
وحين وصلت، لم يكن هو في المنزل. لكن مارينا...
مارينا كانت هناك، تنتظر كمن ينتظر انفجار بركانٍ قديم.
وقفت عند الشرفة كتمثال من الغضب، عيناها تشتعلان كجمرة، وقد خلعت عنها قناعها الأملس، لتكشف عن وجهٍ مملوء بالتهديد.
بدا صوتها كصفعة:
**"أتظنين أنه سيعود إليكِ راكضًا؟ استسلمي، سارة. لقد خسرْتِ."**
لكن سارة لم تغضب، بل اكتفت بأن حدّقت إليها بصمتٍ يشبه صلاةً طويلة، ثم قالت بنبرة خافتة... لكنها تحمل ثقل العالم:
**"مارينا، هل تحبين أحمد؟"**
ارتبكت مارينا، تلعثمت اللحظة على لسانها. لم تكن مستعدة لهذا السؤال.
تراجعت خطوة إلى الخلف وكأنها تلقت طعنة غير متوقعة، ثم تمتمت، محاولةً استعادة اتزانها:
**"لقد قررت الزواج به منذ أكثر من عشر سنوات. أنا من عرفته قبلك."**
ابتسمت سارة بسخرية حزينة، تلك الابتسامة التي تعرف
كيف تهزم من يقف أمامها دون ضجيج، وقالت بهدوء:
**"وأنا أعلم... أنك لن تنتصري."**
رفعت وجهها نحو السماء الملبدة، وشهقت رائحة الثلج.
**"لا أعرف إن كنتِ ستُصدّقينني، لكنني لم أُرِد يومًا أن أكون عدوّتكِ... حتى هذه اللحظة."**
كانت كلماتها كأنها خُرِجت من روحٍ تتهيأ للوداع، لا للقتال.
**"أنا لا أريد سوى شهر. شهرٌ واحد، ثم أرحل. لن أبقى بعدها... ولن أعود."**
ضحكت مارينا بتهكّم، وقالت بنبرة مشبعة بالاحتقار:
**"أتظنيني طفلة؟ أنتِ..."**
لكن صوتًا صغيرًا، هشًا كأنّه خرج من قلب السماء، قطع حديثها:
**"ماما!"**
استدار الجميع فجأة، ليجدوا في الثلج مخلوقًا صغيرًا، كتلة دفء تمشي بثياب دبٍّ صغيرة.
كان كونور، ابن أحمد، يركض بخطى متعثّرة، يترنح بين الثلوج ثم يسقط، فيزحف كمن يستعجل العالم.
زحف نحو سارة، بعينين واسعتين يشعّ منهما الفرح.
قلبها تساقط دفعة واحدة، مثل أوراق الخريف حين يُدركها الشتاء.
سبقت مارينا بخطوة، ورفعت جسده الصغير إلى صدرها كما لو كانت ترفع قطعة من قلبها الممزق.
لفّ ذراعيه حول عنقها، وضحك، وكأنّ قلبه وجد مكانه.
لكن مارينا انتزعه منها، حركت ذراعه بقسوة كي تُبعده، فانفجر الطفل بالبكاء.
تجمّدت الدنيا.
أمسكته سارة مجددًا، تحاول تهدئته، وعيناها تغرقان في دموع لا تريد أن تسقط.
كانت هناك، واقفةً وسط الثلج، تحمل طفلاً
ليس من رحمها، لكن من وجعها.
كان هذا المشهد كأنّ الحياة تبتسم لها ثم تسحب بساطها في اللحظة نفسها.