رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم اسماء حميدة


 رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل التاسع والثلاثون 


في البداية، لم تدرك سارة تمامًا ما الذي يحدث.
كان رد فعل مارينا مبالغًا فيه كعادتها، أشبه بمشهد مسرحي رديء الإخراج، حيث تسقط البطلة على أرضٍ مستوية كما لو أن جاذبية الأرض اختارتها دون غيرها للانتقام.

راودت سارة الشكوك. شيء ما في السقوط بدا متعمّدًا، مُخططًا له بعناية... زاوية جسد مارينا، حتى ارتطامها بالأرض بدا محسوبًا كأنما أرادت أن تُظهر العالم وكأن سارة هي العاصفة التي تخلع الطمأنينة من بين أذرع ابنها.

كانت مارينا قاسية، ذلك النوع من القسوة الذي يتجمل بدموع مصطنعة ويخبّئ وراءه سكينًا مغطاة بابتسامة.

لكن حين رأتها سارة تتعثر، وتسحب الطفل معها إلى السقوط، تحرك جسدها كما لو أن الغريزة الأمومية تسكنها من جديد، حتى لو لم يكن ابنها... حتى لو كان ابن عدوتها.

اندفعت بجسدها كأنها تحاول القبض على الوقت، مصدّةً سقوطه بجسدها الواهن.

لم يكن طفلاً حديث الولادة، لكنه كان خفيفًا كذكرى، هشًّا كرماد حلمٍ قديم.

لكن سقوطها لم يكن رحيمًا، فقد ارتكز كامل ثقله على ذراعها المُثقل بالإبر والكدمات.
الذراع ذاته الذي حذّرها الطبيب من استخدامه، تحوّل إلى محرقة،

وانبعث الألم منه كنيران تأكل نخاعها ببطء.
ارتعش العالم من حولها، وتدحرج الكون ككرةٍ عملاقة، لكنها كانت تبتسم رغم كل شيء...
لأن عيني الطفل كانتا تنظران إليها بفضول

ثم هرول أحمد نحوهم، وجهه مشدود، عينيه كليلتين من المفاجأة.
لكن مارينا، وكأنها ممثلة تنتظر دورها على خشبة الاتهام، وقفت، ونفثت سمّها دون تردد:
"آنسة سارة، أعلم أنكِ تكرهينني، لكن كونور طفل! كيف تجرؤين على تعريضه للخطر؟!"

كلماتها كالخناجر.
العيون التي لم ترَ الحقيقة اكتفت بالعرض المسرحي.
مرة أخرى، تُتهم سارة في محكمة الظنون، دون محامٍ ولا شهود.

كان الألم في ذراعها أشبه بصفيرٍ دائم داخل رأسها، والعرق يتصبب منها كما لو كانت تحترق من الداخل.

لكن المفاجأة؟
أن أحمد لم يُهاجمها... لم ينطق بكلمة.
اقترب بهدوء ليحمل كونور، لكن الصغير تشبّث بسارة كما لو كانت مأواه الوحيد.
همهم الطفل بصوتٍ لم يُفهم، لكن ملامحه كانت تقول كل شيء.

حدق أحمد إليه، ثم إلى سارة، ثم عاد للطفل بنظرة باردة وأخذه من بين يديها وسرعان ما صمت كونور كأنه خاف من حضور والده.

حينها تدخلت مارينا، وانتزعت الطفل من ذراعي أحمد.
وفور

ملامستها له، انفجر في بكاء موجع.
"أحمد، لقد جلبته إليك بنفسِي... لم أكن أعلم أن الآنسة سارة ست..."
قاطعها أحمد بصوت خالٍ من أي عاطفة:
"سأعيدكما إلى المنزل."

أما سارة، فكانت لا تزال مُلقاة على الأرض، تنظر إلى السماء، تتنفس ببطء، وتفكر في كم العمر الذي تبقى لها.

أرادت النهوض، لكن جسدها لم يُطِعها.
كانت تشعر كأنها في الثمانين من عمرها، وكل عظمة فيها تئن، وكل عضلة تتمرد.

نظرت إليه برجاء خافت، وقالت بصوتٍ متقطع:
"أحمد... هلّا ساعدتني؟"

أدار وجهه نحوها للحظة، ثم بصوتٍ رمادي لا يحمل نبرة عطف ولا قسوة، قال:
"سأعود لاحقًا."

ورحل.

رحل كما يفعل الغرباء، يتركوننا على قارعة الألم بلا وداع.
تابعت سارة ظهره البارد وهو يبتعد، وارتسمت على شفتيها ابتسامة لا تنتمي للسعادة…
بل تنتمي للذين تعلّموا كيف يبتسمون في حضرة الخذلان.

يا له من رجل!
أيقونة الجفاء... يتقن الصمت حين يُطلب منه الرحمة.

في الأمس البعيد، كان يهرع نحو دموعها حتى لو علم أنها محض تمثيل. كان يتقن دور العاشق الذي يربّت على كذبها بحنان، فقط لأنه لم يحتمل رؤيتها تتألم—even لو كان الألم مزيفًا.

أما

الآن، فلم يعد يصدق حتى الألم الحقيقي. لم تعد صرخاتها تبلغه، ولا دموعها تخترق جدران قلبه. لم يكن الأمر عن ثقة أو شك؛ بل عن قلبٍ لم يعد لها فيه مكان.
برد وجهها، حين تساقطت أولى ندفات الثلج عليه كأن السماء تمارس طقس النسيان على جلدها. لامست وجهها بلطف قاتل، فاستحضرت مشهدًا مدفونًا في ذاكرة قديمة، يعود إلى زمنٍ كانت فيه امرأةً تُحب لأول مرة، حين كان أحمد يسير أمامها ببرودة جبلٍ لم تمسه الشمس.

كان يمضي بخطى ثابتة، منعزلًا في عالمه، وكأنها لا تسير خلفه.
وفي لحظة عبثية، قررت أن تلتوي... نعم، عمَدت أن تُلوي كاحلها.
جلست على الأرض، تتألم بصمتٍ تتقنه، وعدَّت في سرها... واحد، اثنان، ثلاثة...

وحين وصلت إلى الثلاثة، استدار فجأة وكأن شيئًا في قلبه نقر على جدار العقل.
رأته يهرع إليها، وملامحه مشوهة بالخوف، كأن الحياة هزّته من عناده.
كانت تلك أول مرة ترى الذعر يتسلل إلى وجهه. أول مرة تشعر أن شيئًا في صلابته يمكن أن ينهار من أجلها.

كمن يخشى فقدانها، فلفت ذراعيها حول عنقه هامسةً بخجل الطفلة:
"ربما في المرة القادمة... لا تمشِ بهذه السرعة."

كان ذلك في زمنٍ كانت فيه

كل تعثراتها مقصودة، فقط لترى إن كان سيعود.
واليوم، تعثرت حقًا... ولم يعد.

 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1