رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل الاربعون
عدّت... عدّت وهي تعدّ أنفاسها مثل من يعد خطوات من أحبّه وهو يبتعد. واحد، اثنان، ثلاثة... حتى اختفى ظله تمامًا، واستقر باب السيارة خلفه بإحكام كأنه يغلق العالم عليها.
لم يلتفت.
كانت لا تزال مُلقاة على الأرض، كما تُلقى الدُمى بعد أن ينتهي الأطفال من اللعب بها. لا أحد يذكرها. لا أحد يمد لها يدًا.
جسدها، الهشّ أصلًا، صار كهيكلٍ زجاجي بعد جلسات العلاج الطويلة. حتى السقوط البسيط أصبح كأنه ارتطام شجرة بجدار، يهز الروح ويبعثر الداخل.
لم يبقَ أحد. برنت رحل مع أحمد. السيدة بيرجس، صوتها الدافئ، اختفى مع انطفاء الضوء خلف الباب. صارت وحيدة... في بيتٍ كان يومًا بيتها، وأصبح الآن كالغريب عنها، كمنزل مسكون بأشباح الذكريات.
الثلج يتساقط، لا كشاعرية مشهدٍ سينمائي، بل كصفعة بيضاء على وجه الحياة. والريح... كأنها تصفر في أذنيها لتُذكّرها بأنها هنا وحدها، مجمدة، لا أحد يسمع.
همست لنفسها، بصوتٍ أقرب للرجاء:
"ليساعدني أحد، فقط أحد..."
كانت الحقيبة هناك، على بُعد ذراعين، لكنها كانت تبدو كأنها في كوكبٍ آخر. يدها ترتجف، قلبها يخفق في بطء، أنفاسها تُسرق من فمها دون إذن حتى تمكنت من إخراج هاتفها واتصلت بإحدى سيارات الأجرة.
راقبت رقاقات الثلج وهي
تسقط في بطء جليل، كما لو كانت السماء تُلقي بتعزيتها.
كانت تحصيها... واحدة بعد الأخرى، كأن العدّ طريقٌ للنجاة:
٨٨٥... ٨٨٦...
والدموع تسير على وجنتيها في انسجام مع كل ندفة تسقط.
وعندما بلغت الرقم ١٠٣٨، استعادت شيئًا من قوتها.
رفعت جسدها بيد واحدة، كتلك الطفلة التي تتعلم المشي من جديد.
أخيراً نهضت.
عند السيارة، كانت شفتاها مزرقتين، وأنفها بلون الورود الذابلة. ذراعها التي حملت بها كونور صارت مُتيبسة كأنها تحجّرت من الألم، فاعتمدت على الأخرى لتتنفس، لتعيش.
نظر إليها السائق بدهشة وشفقة، وقال بقلق خافت:
"آنسة... الجو قارس. هل تذهبين إلى المستشفى وحدكِ؟ الوقت متأخر... عليكِ أن تكوني حذرة. أنتِ سيدة جميلة، وهناك أخبار كثيرة عن فتيات مثلكِ يختفين في مثل هذه الليالي."
كانت تضع يدها قرب فتحة المدفأة، تمتص دفئها كما تمتص الأرض المطر.
تأملت الطريق من خلف زجاج السيارة، والمنظر يتبدّل مثل شرائح حلمٍ مبتور.
ابتسمت... تلك الابتسامة التي تشبه شقًا في جدار مهجور وقالت بصوتٍ خافت:
"لا تقلق، يا سيدي... عائلتي ستكون معي قريبًا."
لكن الحقيقة، أن لا عائلة كانت تنتظرها.
ولا دفء سوى ذلك المصطنع داخل السيارة.
ولا أحد، غير نفسها، يتتبع أثرها في هذا العالم
الواسع...
سوى الألم.
لحسن الحظ، كان الوقت قد أزف، وانتهى باسل من نوبة عمله. سارة، التي بدت كمن يسند ظهره إلى جدار زجاجي على وشك الانهيار، كانت تنتظر الطبيب المناوب… لم تكن تتوقع أن ترى وجهًا من ماضيها يُطلّ عليها كفجوة ضوء من شقوق الذاكرة.
انفتح الباب... ودخل باسل.
كان يضع معطفه الأبيض كدرعٍ لا يُخفي عنه شيئًا. رأسه منحنٍ قليلاً، ونظارته الفضيّة تستقر على أرنبة أنفه كحارس نائم. غير أن وجهه، رغم وقاره، بدا وكأنه خرج من لوحة كلاسيكية، نُسجت تفاصيلها بعناية.
لم تكن تعلم أنه المناوب هذه الليلة. ومجرد التفكير في التراجع الآن بدا كأنها تهرب من قَدرٍ كانت تتجنّبه طويلًا.
رفع باسل رأسه، وعيناه تلمعان بدهشة مفاجئة. للحظة، بدا وكأنه رأى طيفًا، لا امرأةً من لحمٍ ووجع. لكن تلك الدهشة تحولت سريعًا إلى قلقٍ صريح.
تقدّم منها بسرعة، وصوته المرتبك يحمل طبقة من خوفٍ مألوف:
"سارة... هل هناك خطب ما؟"
كانت بردانة، لكن ليس من الجو. يداها متيبّستان كأن الدم جفّ فيهما، وذراعها التي حملت بها الصبي في الصباح، تنبض الآن بالألم كأنها صرخة مؤجلة.
قالت بصوتٍ خفيضٍ، مقطوع الأنفاس:
"ذراعي... تؤلمني يا باسل."
ما إن سمع ذلك، حتى شُدّت ملامحه. انحنى نحوها كمن يسابق
الخطر. نظر إلى ذراعها، إلى ذلك المنفذ الطبي الذي خُطّت حوله الحكايات والأمل. ثم قال بصوتٍ منخفض مشحون:
"أسرعي... دعيني أراه. هذا الأمر خطير. إذا ارتخى المنفذ، قد يُسبّب انقباضًا في عضلة القلب. الأمر ليس بسيطًا يا سارة، أنتِ في خطر حقيقي!"
لم يكن هذا من النوع الذي يُستهان به. سارة كانت دائمًا دقيقة في التعامل مع جسدها، لكن اليوم... لم تكن تُفكر، كانت فقط تتحمّل.
فحص باسل ذراعها بعناية، يتنقل بأنامله كما يتنقّل الرسام فوق لوحة مهددة بالتمزق. تنفّس أخيرًا براحة حين وجد كل شيء سليمًا.
تنهد، وتمتم كأنما يعتذر لعقله عن السيناريو الأسوأ.
لكن قبل أن يستقرّ الصمت، جاء صوتها كنسمةٍ ساخنة تهبّ على جليدٍ هشّ:
"باسل... ساعدني على إخراجه."
رفع عينيه نحوها ببطء.
"إخراجه؟ سارة، لا يزال أمامكِ جولات... العلاج الكيميائي لم ينتهِ بعد—"
قاطعته نظرتها. لم يكن في صوتها تحدٍ، بل شيء أعمق… شيء يُشبه الاعتراف الأخير:
"انتهيت منهم... انتهيت تمامًا."
لم تُعلن يأسًا، بل حرية.
حرية امرأة قرّرت أن تتحكّم بما تبقّى من جسدها، ولو كان معدود الأيام.
قرّرت أن تتوقّف عن المراهنة، وأن تكتب بنفسها خاتمة الصفحة الأخيرة.